الخطاب ٨

المسيح الصَّبِيّ وسط الْمُعَلِّمِين

"٤١ وَكَانَ أَبَوَاهُ يَذْهَبَانِ كُلَّ سَنَةٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ. ٤٢ وَلَمَّا كَانَتْ لَهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ كَعَادَةِ الْعِيدِ. ٤٣ وَبَعْدَمَا أَكْمَلُوا الأَيَّامَ بَقِيَ عِنْدَ رُجُوعِهِمَا الصَّبِيُّ يَسُوعُ فِي أُورُشَلِيمَ، وَيُوسُفُ وَأُمُّهُ لَمْ يَعْلَمَا. ٤٤ وَإِذْ ظَنَّاهُ بَيْنَ الرُّفْقَةِ، ذَهَبَا مَسِيرَةَ يَوْمٍ، وَكَانَا يَطْلُبَانِهِ بَيْنَ الأَقْرِبَاءِ وَالْمَعَارِفِ. ٤٥ وَلَمَّا لَمْ يَجِدَاهُ رَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ يَطْلُبَانِهِ.٤٦ وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَجَدَاهُ فِي الْهَيْكَلِ، جَالِسًا فِي وَسْطِ الْمُعَلِّمِينَ، يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ. ٤٧ وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوهُ بُهِتُوا مِنْ فَهْمِهِ وَأَجْوِبَتِهِ. ٤٨ فَلَمَّا أَبْصَرَاهُ انْدَهَشَا. وَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ:«يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هكَذَا؟ هُوَذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!»٤٩ فَقَالَ لَهُمَا:«لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟».٥٠ فَلَمْ يَفْهَمَا الْكَلاَمَ الَّذِي قَالَهُ لَهُمَا.٥١ ثُمَّ نَزَلَ مَعَهُمَا وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ وَكَانَ خَاضِعًا لَهُمَا. وَكَانَتْ أُمُّهُ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذِهِ الأُمُورِ فِي قَلْبِهَا.٥٢ وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ وَالْقَامَةِ وَالنِّعْمَةِ، عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ" (لوقا ٢: ٤١- ٥٢).

لم يكن أمراً يسرّ الله أن يعطينا الكثير من المعلومات فيما يتعلق بالحياة الأرضية لابنه الحبيب، كإنسان هنا على الأرض. حاول كُتّابٌ غير مُلهَمين أن يملأوا هذه الفترة بتأليف قصص تخيلية عن طفولة وشباب وبلوغ يسوع. هناك أساطير غريبة تُحكى عن أنه ذهب إلى الهند وهو شاب وهناك تتلمذ على يد أحد معلّمي اليوغا الهندوس، وتعلّم فن الشفاء وهكذا أمور. ولكننا متأكدين بأنه ما من شي من هذا صحيح. لقد عاش ربنا يسوع حياة عادية كصبي، ينمو ويترعرع في بيت يهودي جميل حيث تُحترم كلمة الله وتُقدّر وتُحب.

وخلال فترة حياته كشاب عمل في النجارة مع يوسف، أبيه الذي رعاه وربّاه، وبما أن يوسف يختفي من المشهد بعد برهة قصيرة ولا يعود يظهر من جديد، فإننا نُضطر للاستنتاج أنه مات بالتأكيد بينما كان الرب يسوع شاباً فتياً. وهذا ما جعل يسوع رأس العائلة، فيُعنى بوالدته وإخوته وأخواته الصغار، إذ يخبرنا الكتاب المقدس عن إخوته وأخواته. إن الله لا يسعى أبداً لإرضاء الفضول الصرف.

نود أن نعلم المزيد عن تلك السنوات المحتجبة من حياة يسوع في الناصرة. نود أن نعرف أكثر عن الأيام الأولى عن حياة ربنا المبارك. ما نعلمه هو أنه كان طفلاً مطيعاً لوالديه، وأن قلبه كان منفتحاً دائماً إلى صوت الله، أبيه. وفي المقاطع هنا نجد تسليط بعض الضوء على عادات تلك العائلة يساعدنا على فهم طبيعة هذه الحياة التي كانت تعيشها تلك العائلة. كان أبواه يذهبون إلى أورشليم كل عام بمناسبة عيد الفصح. قبل سنين كثيرة، كان الله قد أمر في الناموس بأن يصعد كل شعبه إلى المكان الذي ثبّت اسمه من عام إلى عام، وأن يحفظوا الفصح، وكان في ذهنه أن كل عيد فصح يكون درساً للأبناء.

وتتذكروا أنه عندما كان الأولاد يسألون: "ما الذي تعنيه بهذه الأشياء؟" كان الأهل يخبروا كيف أن آباؤهم كانوا عبيداً في أرض مصر، وكيف أن الله حرّرهم وأخرجهم من بيت العبودية. كان على الآباء أن يشرحوا معنى حمل الفصح لأولادهم لكي يفهموا أنه صورة عن الفداء.

ربما يفكر المرء بربنا المبارك كمجرد طفل يأخذ مكانه في المجتمع كصبي يهودي في ذلك البيت، ينظر في عيني والدته العزيزة ويقول: "ما الذي تعنيه بهذه الأشياء؟" وعندها، وإذ يمضي يوسف في الشرح، كان يسوع يعرف أكثر منه بكثير عن معنى شعائر الفصح. لقد كان يعلم أنه هو حمل الفصح الحقيقي. لقد نزل من السماء ليقدم حياته فدية عن كثيرين. وكان يعلم أن دم حمل الفصح يرمز إلى دمه الثمين ذاته الذي سيُراق قريباً لأجل فداء العالم، ولكن ربما كل هذه المعرفة لم تخطر على باله وهو طفل، إذ نعلم أن يسوع كَانَ يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ وَالْقَامَةِ وَالنِّعْمَةِ، عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ. إن سر تجسده يفوق إدراكنا. كابنٍ سرمدي لله نسمعه يقول للآب: "أَنْ أَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا إِلهِي سُرِرْتُ، وَشَرِيعَتُكَ فِي وَسَطِ أَحْشَائِي" (مز ٨: ٤٠). لقد غادر طوعياً عرش المجد وانحدر إلى زريبة بيت لحم. بالطبع كان يعرف، كإله، كل الأشياء، ومع ذلك فقد اختار كإنسان أن ينمو في الحكمة بينما ينمو في القامة. إن هذا لسر. لا نستطيع أن نفهم كيف أمكنه، وهو الحكمة الأزلية، أن يتعلّم من كلمة الله. عندما نعود أدراجنا إلى النبي أشعياء، نسمعه يقول: "يُوقِظُ كُلَّ صَبَاحٍ يُوقِظُ لِي أُذُناً لأَسْمَعَ كَالْمُتَعَلِّمِينَ" (أش ٥٠: ٤). لقد ترعرع ربنا يسوع، كطفل صغير، ودرس كلمة الله. وتغذى فيما بعد على كلمة الله. لقد كانت هي مسرته وفرحه دائماً وأبداً. كل تلك الظروف المختلفة كان يدركها في قلبه لأنه كان يعلم أنه ذاك الذي جاء ليحقق كل رمز في الناموس.

إنه لأمر رائع أن نتأمل في تلك العائلة المحببة وهي تتجه نحو أورشليم عاماً بعد عام، وأن نتأمل في ذلك الطفل يسوع يتمشى إلى جانبهم، أو تحمله أمه على ذراعيها وهي تمتطي حماراً.

فيما بعد، وعندما بلغ الثانية عشرة من عمره، كان لتلك الزيارة إلى أورشليم مغزى خاص بالنَّسَبة له. عندما بلغ الثانية عشرة صعدوا معه إلى أورشليم بحسب عادة إجراء العيد. لقد كانت عُرفاً في إسرائيل، أنه عندما يبلغ طفل سن الثانية عشرة، على أهله أن يحضروه إلى الهيكل، وهناك كان يمرّ بطقوس معينة تُشبه التثبيت الذي تمارسه بعض كنائسنا. من ذلك الوقت فصاعداً صار يُعترف به على أنه ابن الناموس. ما كان يُفترض في الطفل أن يتحمل مسؤوليته الذاتية إلى أن يبلغ الثانية عشر. كانت المسؤولية تقع على والديه إلى أن يصل إلى ذلك السن، ولكن عندما يبلغ الثانية عشرة كان يتوجب عليه أن يتحمل مسؤوليته بنفسه، والآن يُفرض عليه أن يكون مطيعاً لله وأن يحفظ شريعته ويطلب رضاه. وهكذا فإن ربنا يسوع وهو في الثانية عشرة من العمر أخذ مكانته كابن للشريعة. لقد كان إسرائيلياً حقيقياً وقد جاء ليُكمل كل ما جاء في ناموس موسى بحسب مشيئة الله.

حدث شيء في هذه المناسبة يمكن أن يكون درساً جدياً مفيداً جداً لنا. عندما انتهى الاحتفال بعيد الفصح وكان الناس يغادرون كل في طريقه إلى دياره، فإن عائلة يسوع والعديد من أصدقائهم وأقربائهم مرّوا عبر بوابات المدينة وأخذوا الطريق نحو الشمال. لم يستعلم يوسف وأمه عما إذا كان الصبي يسوع معهم. لقد اعتبروا ذلك أمراً مُسلّماً به. ما من أحد قال لهم شيئاً عندما غادروا، ولم يكن تحت المسؤولية ليُضطر ليغادر معهم. كان هناك شيء آخر في قلبه وفكره قد أعلنه له الله أبوه بشكل قاطع محدد. لقد أخذوا طريق الشمال، وتابعوا رحلة يوم كامل مفترضين أنه في صحبتهم. وفيما بعد، وعندما وصلوا إلى المخيم لقضاء الليل، طلبوه في كل مكان ولم يكن هناك.

غالباً ما كان صديقنا، جيبسي سميث، يقدّم عظة رائعة جداً حول موضوع "المسيح الضائع"، ويشرح كيف أنه كان ممكناً جداً أن يُسلّموا بأن يسوع كان معهم، بينما هو ليس كذلك. ليس من الصحيح أبداً أن الرب يسوع المسيح يترك أولئك الذين خلّصهم بنعمته. وليس صحيحاً أبداً، بعد أن يكون قد تعهّد بأي أحد بلطفه المحب، أن يتخلى عنه فيما بعد. ولكنه أمر صحيح، وللأسف، أن المسيحيين يأخذون الأمر مسلّماً به أنهم في شركة معه بينما هم انحرفوا عملياً عنه في قلبهم. إنهم لا يتمتعون بحضوره، وبالكاد يدركون خسارتهم. أتساءل إذا ما كان هناك بعض منّا هنا اليوم قد مرّ بتلك الخبرة. إنه لأمر سهل أن نستمر في شكل خارجي سطحي من التدين وألا نكون فعلاً نشعر بحضور المسيح. ربما نجلس إلى مائدة الرب ونقدّم الخدمات للرب، ومع ذلك لا يكون لنا الإحساس بحضور الرب بيننا، وربما نستمر، يوماً بعد يوم، في التفكير بأن كل شيء على ما يرام في حين أن الأمور ليست كذلك في الواقع، بل هي تسير بشكل خاطئ لأننا لسنا على اتصال مع الرب. إننا لا نتمتع بالشركة مع الرب. وهكذا فقد جرى مع هذه الجماعة، الذين انتبهوا في النهاية إلى أنهم أضاعوا الطفل بشكل أو بآخر. فأخذوا طريق العودة الطويل إلى أورشليم، وهم يسألون أصدقاءهم بلا شك إذا ما كانوا قد رأوه. وعندما وصلوا إلى المدينة بعد مضي ثلاث أيام، وجدوه أخيراً في الهيكل. لا بد أن يفكر المرء أنه كان ينبغي عليهم أن يذهبوا إلى هناك من البداية. فقد كان ذلك بيت أبيه. إذ هناك أقرّ بولائه للرب الإله، لأن ذاك الشخص الذي تكرّس لاسمه كان عزيزاً جداً على قلبه الفتي.

عندما جاء أبواه وجداه يجلس وسط المعلّمين، يسمع لهم ويسألهم أسئلة بآن معاً. والآن لاحظوا ما يلي: ليس هناك من دليل على نضج مبكّر مفرط وليس يسوع بطفل وقح. فهو لا يجلس وسط المعلّمين معلّماً إياهم، ولا يترك مكانه كطفل ليحاول أن يعلّم هؤلاء الناس الطاعنين في السنّ. لديه كل العلامات التي تدل على طفل متواضع. إنه يصغي إليهم، ويسمع ما يقوله الشيوخ، ويطرح عليهم أسئلة. ومن الواضح أنهم هم أيضاً كانوا يطرحون عليه أسئلة. وعندما كانوا يفعلون ذلك كان يجيب عليهم بتواضع وبشكل رائع كان يثير دهشتهم.

نقرأ: "وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَجَدَاهُ فِي الْهَيْكَلِ، جَالِسًا فِي وَسْطِ الْمُعَلِّمِينَ، يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ. وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوهُ بُهِتُوا مِنْ فَهْمِهِ وَأَجْوِبَتِهِ". لم يعرفوا أن هذا الطفل كان "عَلَى الْكُلِّ إِلَهاً مُبَارَكاً إِلَى الأَبَدِ"، الذي اتخذ بشريتنا ليحقق كل ما كُتب عنه في الناموس. لم يدركوا أن المسيا الذي طالما انتظروه كان هناك في وسطهم. قالوا: "لم نرَ طفلاً كهذا من قبل. يبدو أنه يعرف الله معرفة لصيقة. إنه يعرف الكتابات المقدسة أيضاً- وليس فقط نص الناموس، بل أيضاً معناه الروحي". ولذلك راح ينظر أحدهم إلى الآخر في دهشة وهم يسمعون أسئلته ويصغون إلى أجوبته.

في هذه الحادثة كما في كثير غيرها أعطى الرب يسوع مثلاً للشبيبة يجب أن يحتذوا به. لقد ترك لنا مثالاً عن إنسان كان يجول صانعاً الخير. وبالتالي فعندما كان يُشتم لم يكن يرد ذلك بالمثل. ولدينا مثال عنه كطفل، يمكن للأطفال أن يتبعوه إذا ما أرادوا أن يعرفوا إلههم وأباهم ويتبعوا يسوع على نفس الخطى. أيها الشباب، دعوني أؤكد على أهمية أن تلائموا أنفسكم مع كلمة الله المباركة. ما تتعلمونه من هذا السفر المبارك في طفولتكم سوف يبقى معكم طوال السنين. لقد برهن البعض منا على ذلك. لقد اتخذنا منه رجل مشورة لنا في أيامنا الأولى عندما قرأناه مراراً وتكراراً، وكم كان يعني الكثير لنا طوال تلك السنين. في محاولتكم للحصول على الثقافة والتآلف مع الأحداث في عصرنا الحالي لا تُسلّموا أنفسكم إلى كتب أخرى فتهملون كلمة الله. تغذّوا على كلمة الله. اسعوا لتأخذوا منها كل يوم زاداً لنفوسكم. لا تكتفوا بقراءة أصحاح في جلسة وحدة، بل تأملوا وأنتم تقرأون، واطلبوا إلى الله أن يفتح أذهانكم وفكركم بالروح القدس، وإذ تتغذون هكذا على الكلمة، فإنكم أنتم أيضاً ستتقدمون فِي الْحِكْمَةِ وَالْقَامَةِ وَالنِّعْمَةِ، عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ. ويوماً ما ستكونون قادرين على أن تدهشوا أولئك الذين لا يعرفون أسرار الرب، برصانتكم وهدوء نفوسكم ورباطة جأشكم وسط كل النزاع في الأرض، إذ تتكلون على كلمة الله الحيّة.

جاءت مريم ويوسف إلى الهيكل وهناك وجدا يسوع، يسوع الطفل يجلس وسط المعلّمين، مبدياً اهتماماً بالغاً وهم يتناقشون في أمور الكتب المقدسة، وعندما رأياه انذهلا وقالت أمه له: "يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هكَذَا؟ هُوَذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ". لا يمكننا لومها على ما يبدو تأنيباً في كلماتها. لم يكن يوماً ما عاصياً لهما. لقد كان كاملاً مثالياً في كل طرقه. وربما كانت هذه أول مرة يحدث فيها أمر يربكها خلال تربيتها ورعايتها لهذا الطفل القدوس. تتكلم مريم عن يوسف كأبيه لأنه أخذ مكانة الأب، ولكن كان الله أباه الحقيقي عملياً. "فَقَالَ لَهُمَا:«لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟»". "هل قلتُ يوماً شيئاً يُسوّغ أن تفقدوا إيمانكم بي؟ ألم تستطيعوا أن تثقوا بي؟ ألم تستطيعوا الاتكال على أني أقوم بالأمور على شكل صائب؟" أتساءل إذا لم يكن ذلك تذكيراً لهم بذلك السر العظيم منذ اثنتي عشرة سنة، عندما صارت، وهي العذراء، أماً لابن ليس له والد بشري. لقد كانت تعلم أنه كان ابن الله. وكانت تعلم أن ولاءه الأول هو لله الآب. لماذا لم تفهم؟ هناك تأنيب خفيف هنا ربما يبدو غير لطيف إذا لم نفهم من كان يسوع. لقد كان هو الإله والإنسان معاً في أقنوم واحد مجيد. نقرأ في الآية ٥٠: "فَلَمْ يَفْهَمَا الْكَلاَمَ الَّذِي قَالَهُ لَهُمَا". لقد كان أمراً يفوق إدراكهما تماماً.

ثم لدينا الجزء الثاني من حياة الرب، إلى الوقت الذي بدأ فيه رسالته العلنية، نجده أمامنا في آيتين فقط. هاتان الآيتان هما فقط ما ارتضى الله أن يخبرنا بهما عن السنين المحتجبة التي عاشها يسوع قبل أن ينطلق في إعلان مسيانيته. "ثُمَّ نَزَلَ مَعَهُمَا وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ وَكَانَ خَاضِعًا لَهُمَا". وهنا أيضاً، يا له من مثل عظيم يقدّمه الرب للمسيحيين الشبّان في كل العصور. يا لكثرة التمرد الذي نجده اليوم. كلمة الله قالت: "أَيُّهَا الأَوْلاَدُ، أَطِيعُوا وَالِدِيكُمْ فِي الرَّبِّ لأَنَّ هَذَا حَقٌّ" (أف ٦: ١). وهي أول وصية تترافق بوعد. على الأبناء أن يكرموا والديهم رغم نهم أحياناً لا يبدون مستحقين للتكريم، ولكن الأولاد عليهم على الأقل أن يحاولوا أن يغطوا إخفاقات والديهم وأن يقدّموا لهم التكريم قدر المستطاع، ولكن كم يهين الأولاد آباءهم اليوم! كم من احتقار هناك! كم من عصيان أيضاً! في أيام القِدَم كان القول: "أَيُّهَا الأَوْلاَدُ، أَطِيعُوا وَالِدِيكُمْ". أما الآن فيسود القول: "أَيُّهَا الوالدين، أَطِيعُوا أولادكم". كنتُ في منزلٍ قبل فترة وجيزة وكانت الجماعة هناك يستعدون للخروج في نزهة قصيرة. كانت الأم في الأسفل في السيارة، وكانت الابنة تنادي الأب في الأعلى. أعتقد أنها شعرت بضرورة أن تعتذر مني، وقالت: "آمل ألا تسيء فهمي، ولكن كما تعرف، لقد أمضيت وقتاً مريعاً في تدريب والدي على إطاعة ما يُطلب منه". هذه مجرد صورة عن هذا الزمان. بدلاً من أن يفعل الأولاد ما يُطلب منهم، إنهم يسعون إجبار الوالدين على إطاعتهم. ولكن كم يختلف عن هذا ذلك المثل الذي يقدّمه ربنا المبارك، هذا الشاب القدوس الذي يترعرع هناك في الناصرة. كَانَ خَاضِعًا لَهُمَا. وَيخبرنا الإنجيل أن أُمَّهُ كَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذِهِ الأُمُورِ فِي قَلْبِهَا. لقد كانت تتفكر ملياً، يوماً بعد يوم، وهي تلاحظ تطور هذا الطفل الرائع، وأيضاً وهي تفكّر برسالة الملاك عن الولادة العجائبية وببعض الأشياء التي حدثت وبانت منذ ذلك الحين. لقد كانت تحاول أن تحدّق النظر إلى المستقبل، متسائلة عما سيؤول إليه مصير هذا الكائن الرائع العجيب، هذا الذي شاء الله أن يكون تحت عنايتها ورعايتها.

الآية الأخيرة تُظهر لنا نهاية ما يكشفه الكتاب المقدس فيما يتعلق بالسنين الأولى للرب يسوع: "وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ وَالْقَامَةِ وَالنِّعْمَةِ، عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ". وفي كل هذا هو مثال لنا. إن كنا نريد أن ننمو في النعمة كما ننمو في العمر فإننا نحتاج لأن نتغذى على كلمة الله وأن نمضي وقتاً طويلاً في الشركة مع أبينا السماوي بالصلاة والتأمل. في عب ٥: ١١- ١٤ يتأسف كاتب الرسالة على الحقيقة المحزنة في أن كثيرين من أبناء لله يحرزون تقدماً بطيئاً في حياتهم الروحية. فبعد سنين من الاعتراف المسيحي لا يزالون أطفالاً في المسيح، عاجزين عن تمثّل واستيعاب الحقائق الروحية العميقة في الكتاب المقدس، ومن هنا تظهر حاجتهم إلى أن يتغذوا على لبن الكلمة. يتكلم بولس على نحو مشابه إلى المؤمنين في كورنثوس (١ كور ٣: ١، ٢). أحد الأدلة على الطفولة الروحية هي الميل إلى النزاع والشجار على أسئلة مبتذلة، وابتاع قادة بشر بدلاً من الخضوع إلى إرشادات الروح القدس. الأطفال يميلون إلى أن يكونوا مشاكسين وعاندين. بعض المسيحيين يُظهرون نفس المواصفات الصبيانية الطفولية. أولئك الذين يسيرون مع الرب، وينمون في النعمة وفي معرفة المسيح يصبحون بشكل مضطرد على مثال معلّمهم. وفي هذا، كما في كل شيء آخر يتعلق بالحياة والتقوى، كان لنا الرب كإنسان على الأرض مثالاً فيه. رغم أن يسوع كان ابن الله المتجسد، مع ذلك فقد كان في شبابه في البيت في الناصرة "يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ" بينما كان ينمو في القامة، وكان الناس يتعجبون من النعمة التي كانت تتبدى في طرقه المقدسة.