الخطاب ٢٨

ربُّ الرِّياحِ والأمواج

"٢٢وَفِي أَحَدِ الأَيَّامِ دَخَلَ سَفِينَةً هُوَ وَتَلاَمِيذُهُ فَقَالَ لَهُمْ: «لِنَعْبُرْ إِلَى عَبْرِ الْبُحَيْرَةِ». فَأَقْلَعُوا. ٢٣وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ نَامَ. فَنَزَلَ نَوْءُ رِيحٍ فِي الْبُحَيْرَةِ وَكَانُوا يَمْتَلِئُونَ مَاءً وَصَارُوا فِي خَطَرٍ. ٢٤فَتَقَدَّمُوا وَأَيْقَظُوهُ قَائِلِينَ: «يَا مُعَلِّمُ يَا مُعَلِّمُ إِنَّنَا نَهْلِكُ!». فَقَامَ وَانْتَهَرَ الرِّيحَ وَتَمَوُّجَ الْمَاءِ فَانْتَهَيَا وَصَارَ هُدُوءٌ. ٢٥ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «أَيْنَ إِيمَانُكُمْ؟» فَخَافُوا وَتَعَجَّبُوا قَائِلِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ: «مَنْ هُوَ هَذَا؟ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ الرِّيَاحَ أَيْضًا وَالْمَاءَ فَتُطِيعُهُ!»" (لو ٨: ٢٢- ٢٥).

قبل أن يمضي الرب قال لتلاميذه: "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَالأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضًا، وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا، لأَنِّي مَاضٍ إِلَى أَبِي". كثيرون فهموا من هذه الكلمات أننا كمسيحيين سنستطيع أن نقوم بعجائب أعظم من التي فعلها هو. لو كان هذا ما قصده، لكانت القرون التي مضت بعد قوله ذاك قد برهنت أن كلماته قد أخفقت. بالنسبة إلى أمور الطبيعة لم تكن هناك أية معجزة أعظم من تلك التي صنعها يسوع عندما كان هنا على الأرض.

لطالما تدخل الله، بالنعمة، وشفى أناساً مرضى، ولطالما تجاوب مع صلوات الإيمان وبارك الناس بأعماله، ولكن لم نعرف بأي حدث يُضاهي ما نقرأه في الإنجيل هنا.

إن أعظم معجزة صنعها ربنا من حيث العالم الطبيعي كانت هذه، عندما وقف في تلك السفينة وأمر الرياح بأن تتوقف والأمواج بأن تهدأ. لقد أظهر قوته كرب على كل الخليقة بطريقة لم يتفوق بها عليه أحد ولم يقم أحد بها على الإطلاق. وأعظم معجزة قام بها من ناحية الجسد البشري كانت إقامة لعازر. الطفلة الصغيرة، ابنة يايرس كانت بالكاد أغلقت عينيها عندما جاء يسوع وأيقظها؛ وابن أرملة نايين كان قد مات للتو وكان جسده يُحمل إلى القبر؛ أما لعازر فقد كان قد مضت أربعة أيام على موته وبدأ التحلل والفساد في جسده، عندما جاء الرب إلى ذلك القبر، وتجاوباً مع أمره، خرج لعازر حيّاً. كانت تلك أعظم معجزة ليسوع قد أنجزها على الإطلاق فيما يتعلق بالجسد البشري.

لم يحدث أبداً أن أحداً هدّأ الأمواج كما فعل يسوع؛ ما من أحد آخر أقام إلى الحياة من كان قد مات لأربعة أيام. وبالتأكيد، فإن ربنا عندئذ لم يقصد بذلك الكلام أن يقول أن علينا أن نقوم بمعجزات مثله، أو أعظم مما صنع هو عندما كان على هذه الأرض. لا بد أنه كان يقصد بذلك الكلام عن العالم الروحي الذي سيثمر العمل فيه أكثر مما أنجز المخلّص عندما كان هنا على الأرض. ما من أحد جاء إلى يسوع طالباً الشفاء الجسدي وعاد خائباً. لقد فتح عيني الأعمى؛ وفتح أذني الأصم؛ وحرّر لسان الأبكم؛ وطهّر البرص؛ وجعل الأعرج يثب كالغزال؛ وقدّم الخبز في البرية لآلاف الناس؛ وفي أشكال أخرى عديدة أظهر قوته المقتدرة، التي تشهد لمزاعمه المسيانية. ولكن الأمر المذهل هو، وبعد كل الأعمال المعجزية تلك وأقواله، قليلون جداً هم الذين قبلوه بإيمان واعترفوا به على أنه المسيّا واتّكلوا عليه مخلّصاً لهم. بعد تلك السنوات الثلاث ونصف من خدمته الرائعة، نقرأ أن وبضعة مئات فقط برهنوا على إيمانٍ شخصيٍ به. عندما قام من بين الأموات كان هناك حوالي خمسمئة مؤمن تجمعوا حوله، ورأوا بأنفسهم أنه قام إلى الحياة من جديد. أين كان البقية الذين سمعوه يكرز، ورأوا معجزاته وهو يجول عبر اليهودية، والجليل، والسامرة، وبيرية، يكرز ويعلّم، ويشفي المرضى؟ لا بد أنه كن هناك أفراد هنا وهناك آمنوا به ولم يكونوا مع الحشد الذي التقى به في النهاية، ولكن قلّة في إسرائيل نسبياً اعترفت بما يقول وكرّسوا أنفسهم بشكل قاطع له، باقتباله فادياً لهم. ولكن دعونا نفكّر فيما حدث ذلك الحين: في يوم الخمسين قبِل ثلاثة آلاف الرسالة واعتمدوا باسمه؛ وبعد بضعة أيام، يخبرنا الإنجيل، أن عدد هؤلاء الذين آمنوا به صار حوالي خمسة آلاف؛ ثم، ومع مرور الأشهر والسنين، أعداد هائلة من اليهود، وفيما بعد من الأمم (اليونانيين)، قبِلت شهادة الإنجيل وخلصوا بنعمته التي لا نظير لها. ومنذ ذلك الحين فصاعداً وعبر العصور، جاء ملايين إلى معرفته. خلال ثلاثة قرون بعد انطلاق الاثني عشر الأول إلى الكرازة، تدمّرت عملياً الوثنية في الإمبراطورية الرومانية. لا أقصد أن الناس في كل مكان صاروا مسيحيين، بل أن المسيحية قد صارت ديناً سائداً، واختفت الوثنية تقريباً من كل أرجاء الأرض المحيطة بالبحر المتوسط. وكانت حياة بعض الناس إظهاراً مذهلاً لحقيقة كلمات ربنا: "يَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا، لأَنِّي مَاضٍ إِلَى أَبِي".

دعونا نتأمل بعناية هذه الرواية الرائعة التي تُظهر سلطان ربنا على الطبيعة. إنها حقيقة واقعية، وهي أيضاً مثل رائع، وصورة جميلة، وهي تُظهر أمامنا قوة مخلّصنا على التحرير حتى وسط أصعب الظروف وأكثرها شدّة.

لدينا قبل كل شيء هدف إلهي محدد هنا في الآية ٢٢. لم يكن ربنا يتصرف عرضياً أو كيفما اتفق. "فِي أَحَدِ الأَيَّامِ دَخَلَ (يسوع) سَفِينَةً هُوَ وَتَلاَمِيذُهُ، فَقَالَ لَهُمْ: «لِنَعْبُرْ إِلَى عَبْرِ الْبُحَيْرَةِ». فَأَقْلَعُوا". لاحظوا القول: "لِنَعْبُرْ". لقد كان يعرف ما سيفعله بعد قليل؛ كان قد وضع مخططاته، وكان ماضياً إلى الجانب الآخر من البحيرة ليقوم بالخدمة هناك، وكان يأخذ تلاميذه معه. يا له من أمر موحٍ! لسنا نعلم بالمخاطر والصعوبات التي سنواجهها وأية صخور مخفية ومخاطر محجوبة أمامنا ونحن نمضي في الحياة، ولكننا نعرف مخلّصنا، ويمكننا أن نكون على يقين بأنه سيحقق هدفه وسينقلنا سالمين إلى الضفة الأخرى.

في كلمات الآيات الختامية من الأصحاح الثامن الرائع في رسالة رومية، نجد أن كل مؤمن يمكن أن يقول: "إِنِّي مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ وَلاَ مَلاَئِكَةَ وَلاَ رُؤَسَاءَ وَلاَ قُوَّاتِ وَلاَ أُمُورَ حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً وَلاَ عُلْوَ وَلاَ عُمْقَ وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى تَقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا".

محبته لن تجد إشباعاً لها حتى يصير كل خاصته مع الرب نفسه في المجد. ولذلك ينبغي على كل مسيحي أن يكون قادراً على القول: "أعرف بمن آمنت وأنا على قناعة بأنه قادر على أن يحفظني حتى ذلك اليوم". إنه لأمرٌ عظيم أن نتّكل على وعود الله ونثق بها، وأن نعرف أن من بدأ عَمَلاً صَالِحًا سيُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.

لقد مضى إلى بيت الآب، ومع ذلك فإنه يقيم معنا بقوة الروح القدس. وسيقودنا خلال كل الظروف المحيرة المربكة في رحلة حياتنا إلى أن نصل بأمان إلى الضفة الأخرى.

أتذكر السنوات الأولى من خبرتي المسيحية عندما عرفت أن الرب كان معي في تلك الأوقات، ولكني لم أعرف أنه كان سيبقى معي إلى الأبد. كنت لأرهب ما سيحدث ويمكن أن يفصلني، وربما إلى الأبد، عن محبة الله. شعرت أحياناً مثل ذلك الرجل الإيرلندي الذي اهتدى، والذي طرأت في ذهنه في أحد الأيام تلك الفكرة الرهيبة: "لنفترض أني وقعت في الخطيئة وخسرت كل شيء". لقد شعر بأنه يود لو لم يكن قد اهتدى على الإطلاق. قرأ الواعظ في الكنيسة في أحد الأيام النص الذي يقول: "إِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ مَعَ الْمَسِيحِ فَاطْلُبُوا مَا فَوْقُ، حَيْثُ الْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ اللهِ. اهْتَمُّوا بِمَا فَوْقُ لاَ بِمَا عَلَى الأَرْضِ، لأَنَّكُمْ قَدْ مُتُّمْ وَحَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ الْمَسِيحِ فِي اللهِ". لقد نسي بات لوهلة أين كان، وهتف: "المجد لله! من سمع برجل يغرق ورأسه عالياً جداً فوق الماء!" وهكذا يمكننا أن نسبّح الله على كل دليل على محبته وعنايته، عالمين أنه سيُعنى بنا دائماً وإلى الأبد.

لاحظوا، بالدرجة الثانية، هدوء وسكون وصفاء الرب. لقد كان في حالة سلام تام وسط العاصفة. تلك العاصفة التي أحدثت كل ذلك الاضطراب والشدة لتلاميذه وملأت نفوسهم بالرعب، لم تزعج قلبه ولا بأدنى درجة. لقد كان الرب يعرف أن إبليس، رئيس سلطان الهواء، قد أحدث تلك العاصفة سعياً منه لإهلاك يسوع قبل أن يستطيع المضي إلى الصليب وينجز عمل الفداء، ولكن ما كان هناك إمكانية لمخططات العدو أن تتحقق أبداً. فنعلم أنه "فِيمَا هُمْ سَائِرُونَ نَامَ (يسوع). فَنَزَلَ نَوْءُ رِيحٍ فِي الْبُحَيْرَةِ، وَكَانُوا يَمْتَلِئُونَ مَاءً وَصَارُوا فِي خَطَرٍ". الرياح الغاضبة والعاصفة العنيفة بدتا وكأنهما ستحطّمان القارب الصغير، ومع ذلك كان ربنا المبارك هناك في نومٍ عميق. ويخبرنا مرقس أنه كان نائماً على وسادة. وأتوقع أن امرأة محبة لطيفة، تباركت بخدمته، هي من صنعت له تلك الوسادة وأعطتها له. على كل حال، كان الرب نائماً هناك بدون أي انزعاج؛ ما من قلق أو خوف من أي نوع كان ليمكن أن ينتاب نفس يسوع لأنه كان يعرف أن كل الطبيعة كانت خاضعة له، وكإنسان هنا على الأرض، كان ينعم بشكل تام وكلّي بالاستقرار لأنه كان خاضعاً كلّياً لمشيئة الآب. ليتنا نستطيع أن نشعر بذلك السكون والسلام الذي كان يميز شخص يسوع! لعله يمكننا ذلك إذا ما انتبهنا إلى كلماته وهو يقول: "لاَ تَهْتَمُّوا بِشَيْءٍ، بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِالصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ مَعَ الشُّكْرِ، لِتُعْلَمْ طِلْبَاتُكُمْ لَدَى اللهِ. وَسَلاَمُ اللهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْلٍ يَحْفَظُ قُلُوبَكُمْ وَأَفْكَارَكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ".