الخطاب ٣٧

سر التجسد

"٢١وَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ تَهَلَّلَ يَسُوعُ بِالرُّوحِ وَقَالَ: «أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هَذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ. نَعَمْ أَيُّهَا الآبُ لأَنْ هَكَذَا صَارَتِ الْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ». ٢٢وَﭐلْتَفَتَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ: «كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي. وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ مَنْ هُوَ الاِبْنُ إِلاَّ الآبُ وَلاَ مَنْ هُوَ الآبُ إِلاَّ الاِبْنُ وَمَنْ أَرَادَ الاِبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ». ٢٣وَﭐلْتَفَتَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ عَلَى انْفِرَادٍ وَقَالَ: «طُوبَى لِلْعُيُونِ الَّتِي تَنْظُرُ مَا تَنْظُرُونَهُ ٢٤لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِيَاءَ كَثِيرِينَ وَمُلُوكاً أَرَادُوا أَنْ يَنْظُرُوا مَا أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَلَمْ يَنْظُرُوا وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَمْ يَسْمَعُوا»" (لوقا ١٠: ٢١- ٢٤).

من اللافت أن ربنا، ومباشرة بعد أن يعلن المصير المشؤوم لتلك المدن التي أنجز فيها أعماله المقتدرة، أن ربنا المبارك قد تهلل بالروح. لو كان الرب يتكل على ظروف بشرية ودنيوية لمسرته، كما نفعل نحن غالباً، لكان قد أُحبط واكتأب عندما أدرك كم هم قلائل أولئك الذين بدا وكأنهم قلبهم قد تأثر برسالته، وأولئك الذين هم على استعداد ليقبلوه كمسيا. ولكن بدلاً من أن يحبط ويثبّط بسبب برودة الإنسان ولا مبالاته، أظهر حقيقة الكلمة بشكل أثمن ما يكون. بقلب متهلل رفع بصره إلى الآب الذي كان على شركة متواصلة معه لا تنقطع، وقال: "«أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ، رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ. نَعَمْ أَيُّهَا الآبُ، لأَنْ هكَذَا صَارَتِ الْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ»". لقد كان قانعاً بأن هدف الله كان يجب تحقيقه رغم رفض البشر وعداوتهم. أولئك الذين كانوا يُعتبرون مع رفقائهم من بين الحكماء والمتعقلين، أخفقوا في معرفة المسيا عندما جاء في نعمة متواضعة، رغم أنهم اعترفوا بأنهم كانوا ينتظرونه. مظهر الرب لم يكن أبداً كما كانوا يتوقعون. لقد كانوا ينتظرون ملكاً عظيماً ومقتدراً؛ كانوا ينتظرون ذاك الذي سيطرد الرومان من أرض فلسطين، ويجمع بني إسرائيل من جديد ويؤسس ملكوت، متربعاً على عرش داود. ولكن بدلاً من ذلك، سار بينهم إنسانٌ متواضع قانع بأن يحيا في فقر واضح، بدون مكان سكن محدد له، يجول هنا وهناك معلناً محبة الله للخطاة والبؤساء، ومعلناً أنه قد جاء ليقدم حياته فدية عن كثيرين. لم يكن هذا أبداً نوع المسيا الذي كان ينتظره هؤلاء الحكماء والمتعقلون. ولذلك فقد أُعميت عيونهم، وأُغلقت آذانهم عنه. الأمور الثمينة القيمة التي أعلنها بدت حماقة لهم. من جهة أخرى كان هناك أولئك الذين في إسرائيل، أولئك الذين إذا ما قارناهم مع حكماء ومتعقّلوا اليهود، كانوا أطفالاً في المعرفة والفطنة. ولكن لهؤلاء البسطاء أُعلن الابن، وتعلّموا أن يتّكلوا عليه ورأوا فيه الموعود الذي كان الشعب ينتظره منذ زمن طويل. وكان هذا كله بالتوافق مع هدف الله في النعمة؛ والرب يسوع كان راضخاً كليةً لمشيئة أبيه في هذا وفي كل جانب آخر.

في الآية التالية، والتي نجدها أيضاً في إنجيل متى، نجد أمامنا، وبطريقة مذهلة، سرّ التجسد. قال يسوع: "«كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي. وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ مَنْ هُوَ الابْنُ إِلاَّ الآبُ، وَلاَ مَنْ هُوَ الآبُ إِلاَّ الابْنُ، وَمَنْ أَرَادَ الابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ»". يا للتوبيخ الذي تقدمه هذه الكلمات لأولئك اللاهوتيين الذين يصرون على محاولة أن يشرحوا كل تفصيل في وحدة الطبيعتين البشرية والإلهية في المسيح. صحيح أننا نستند على ما أُعلن في الكتابات المقدسة، ولكن عندما نحاول أن نذهب إلى ما وراء الكتابات المقدسة، فإننا نكون تقريباً على يقين بأننا سنسقط في الخطأ؛ لأن الأمر صحيح اليوم كما كان عندما تكلم يسوع أولاً تلك الكلمات التي تقول: "لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ مَنْ هُوَ الابْنُ إِلاَّ الآبُ". اتّحاد طبيعة البشرية والإلهية، في شخص واحد، هو أمر وراء فهمنا واستيعابنا. نعلم من الكتابات المقدسة أن ربنا المبارك كان الله الإنسان من الأزل، أقنوماً واحداً من الثالوث القدوس الذي لا يمكن وصفه. نعلم أنه جاء من المجد الذي كان له مع الآب قبل إنشاء العالم، وتنازل في نعمة ليولد في العالم من أم يهودية. يصر الكتاب المقدس على حقيقة أن الأم كانت عذراء. لم يكن له أب بشري، ولذلك فلعله يمكننا أن نقول أنه كان ابن الله بمعنيين: كان الابن الأزلي، ذاك الذي كان مع الآب قبل إنشاء العالم، وكان ابن الله كإنسان عندما وُلد على الأرض. ولكن فيه نرى اللاهوت والناسوت متحدان في شخص واحد مبارك معبود. شرح ذلك أمر مستحيل. الإيمان يقتبل ذلك لأنه معلن بكلمة الله.

لاحظوا الفرق بين التصريح الذي قدمه أولاً بما يتعلق بنفسه، والتصريح الثاني الذي يتعلق بالآب. يخبرنا الرب يسوع أنه ما من أحد يعرف الآب إلا الابن. ولكنه يضيف في الحال قائلاً، "وَمَنْ أَرَادَ الابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ". لقد جاء ربنا نفسه ليعلن الاب، الذي بمعزل عن الابن وإعلانه، ما كان ليمكن أبداً أن يُعرف. إن الخليقة بالطبع تحمل شهادة على قدرته السرمدية وألوهيته، كما تعلّمنا في الأصحاح الأول من رومية، ولكن المسيح نفسه هو الذي عرّفنا اسم الآب.

كان هذا أحد الأمور التي كانت محتجبة حتى الآن والتي أعلنها الرب يسوع. في تثنية ٢٩: ٢٩، نقرأ: "السَّرَائِرُ لِلرَّبِّ إِلهِنَا وَالمُعْلنَاتُ لنَا وَلِبَنِينَا إِلى الأَبَدِ لِنَعْمَل بِجَمِيعِ كَلِمَاتِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ". ويقول أشعياء: "مُنْذُ الأَزَلِ لَمْ يَسْمَعُوا وَلَمْ يُصْغُوا. لَمْ تَرَ عَيْنٌ إِلَهاً غَيْرَكَ يَصْنَعُ لِمَنْ يَنْتَظِرُهُ". هذا هو النص الذس يستشهد به الرسول بولس في ١ كور ٢: ٩. ولكنه يضيف قائلاً: "أَعْلَنَهُ اللهُ لَنَا نَحْنُ بِرُوحِهِ. لأَنَّ الرُّوحَ يَفْحَصُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَعْمَاقَ اللهِ". حقائق عجيبة كثيرة كانت محتجبة في الأزمان القديمة، منذ مجيء ربنا المبارك، أُعلنت لخاصته. بعض هذه الأشياء أعلنها هو نفسه بنما كان على الأرض؛ وأشياء أخرى كُشفت بالروح القدس بعد صعوده إلى السماء. وعلى ضوء هذه الإعلانات الجديدة للحقائق الإلهية التي جاء ليعطيها، تلكم الرب يوسع عندما التفت إلى تلاميذه وقال لهم على حدا أنه ما كان ليكلم العالم بهذه، بل ليكلمهم هم فقط: "«طُوبَى لِلْعُيُونِ الَّتِي تَنْظُرُ مَا تَنْظُرُونَهُ! لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِيَاءَ كَثِيرِينَ وَمُلُوكًا أَرَادُوا أَنْ يَنْظُرُوا مَا أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَلَمْ يَنْظُرُوا، وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَمْ يَسْمَعُوا»".

إنه لامتياز في غاية الأهمية والقيمة بالفعل أن نكون موضع ثقة الله وأن يُسمح لنا بأن نشارك في أسراره. نعلم كم يُسر الأصدقاء على الأرض بمشاركة أسرار بعضهم البعض والتي لا يقولونها للغرباء؛ وهكذا فإن الرب يسوع نظر إلى تلاميذه كأحباء له، وكان يسره أن يعلن لهم تلك الأمور الثمينة المتعلقة بالأبوة الإلهية، والتدبير الرائع الذي أعده لخلاص الهالكين الضالين، ولحفظ خاصته.

إنه امتياز لنا اليوم أن ندخل إلى هذه الأمور التي كانت سرية حتى الآن وأن نتمتع بها، ولقد كانت الآن بالإيمان. لسنا في حاجة إلى رؤى أو إعلانات جديدة لكي نفهمها ونقدّرها. إننا نكتشفها ونحن ندرس كلمة الله بروح اتّكال وصلاة على الروح القدس الذي أوحى بكتابتها.

أتذكرُ جيداً عندما كنت مسيحياً ملتزماً بالكشافة، أني ذهبت إلى البيت في أحد المرات في إجازة. كانت أمر وزوجها يعيشان في جنوب كاليفورنيا في مزرعة فيها زيتون وتين، في مكان كان يُدعى آنذاك مونتي فيستا، والآن تُعرف باسم صنلاند. قابلتُ أروع خادم للمسيح عرفته وكان اسمه أندريه فراسر. كان غالباً ما يُدعى "أبَفْرَاس الإيرلندي". لقد كان يعاني من داء السل، وكان قد جاء من إيرلندا، على أمل أن يجد راحة وشفاء من هذا المرض الفظيع؛ ولكنه لا يزال مريضاً ولم يتبقى له في هذه الحياة سوى بضعة أشهر لكي ينتقل إلى السماء. نصب زوج أمي خيمة له في البستان، وكان يمكث هناك عندما أخذوني لرؤيته. عرّفتني أمي عليه. أمضيت بضعة ساعات هي أثمن ما يمكن في حياتي وأنا أصغي إلى نصحه الحصيف اللطيف وشرحه لي كلمة الله من شفاه هذا الإنسان المحتضر العزيز، وهو ينتقل من نص كتابي إلى آخر ويعلمني بحقائق كتابية ما كنت أعرفها أبداً. وسألته أخيراً: "يا سيد فراسر، من أين تعلّمت كل هذا؟ هل لك أن تقترح علي بعض الكتب أو المراجع التي يمكن أن أقرأها والتي يمكن أن تجعل هذه الأمور واضحة لي؟" فأجاب: "يا أخي الصغير العزيز، لقد تعلّمت هذه الأشياء وأنا راكع على ركبتي على الأرض الموحلة في كوخ صغير من القش في شمال إيرلندا وأنا أدرس كلمة الله بعناية. يمكنك أن تقرأ عدة كتب وغالباً ما تجد أشياء ظريفة ومساعدة فيها، ولكنك لن تتعلّم حقيقة الله بنفس الطريقة أو نفس الكمال إذا ما ركعت على ركبتيك أمام كتاب مقدس مفتوح". عندما غادرت شعرت أني كنت في حضرة الرب، إذ أصغيت إلى من تعلّم على يد الله.

ما نحتاج إليه جميعاً هو أن نأخذ مكانة الأطفال الرضع، الذين كشف الله لهم أسراره. إنه يُسرّ بأن يشبع جوعنا بالأشياء الجيدة، ولكنه يرسل الأغنياء فارغين. إن أتينا إليه وقد فرّغنا أنفسنا وذواتنا واتكلنا عليه ليغذينا، فإننا سنجد، بدراسة متمعنة مليئة بالإيمان للكتاب المقدس وفي اتكال على الروح القدس، أن تلك الأشياء الرائعة ستصبح معروفة لنا والتي ما كنا لنعرفها لولا ذلك. الوقت الذي نمضيه في تأمل الكلمة في موقف صلاة سيؤتي بفائدة كبيرة بطريقة تقودنا إلى معرفة المسيح وحقّه.