الخطاب ٥٨

الخضوع للمسيح

"١وَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: «لاَ يُمْكِنُ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَ الْعَثَرَاتُ وَلَكِنْ وَيْلٌ لِلَّذِي تَأْتِي بِوَاسِطَتِهِ! ٢خَيْرٌ لَهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحىً وَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ مِنْ أَنْ يُعْثِرَ أَحَدَ هَؤُلاَءِ الصِّغَارِ. ٣اِحْتَرِزُوا لأَنْفُسِكُمْ. وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَوَبِّخْهُ وَإِنْ تَابَ فَاغْفِرْ لَهُ. ٤وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ وَرَجَعَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ قَائِلاً: أَنَا تَائِبٌ فَاغْفِرْ لَهُ». ٥فَقَالَ الرُّسُلُ لِلرَّبِّ: «زِدْ إِيمَانَنَا». ٦فَقَالَ الرَّبُّ: «لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهَذِهِ الْجُمَّيْزَةِ انْقَلِعِي وَانْغَرِسِي فِي الْبَحْرِ فَتُطِيعُكُمْ. ٧«وَمَنْ مِنْكُمْ لَهُ عَبْدٌ يَحْرُثُ أَوْ يَرْعَى يَقُولُ لَهُ إِذَا دَخَلَ مِنَ الْحَقْلِ: تَقَدَّمْ سَرِيعاً وَاتَّكِئْ. ٨بَلْ أَلاَ يَقُولُ لَهُ: أَعْدِدْ مَا أَتَعَشَّى بِهِ وَتَمَنْطَقْ وَاخْدِمْنِي حَتَّى آكُلَ وَأَشْرَبَ وَبَعْدَ ذَلِكَ تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ أَنْتَ. ٩فَهَلْ لِذَلِكَ الْعَبْدِ فَضْلٌ لأَنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ؟ لاَ أَظُنُّ. ١٠كَذَلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً مَتَى فَعَلْتُمْ كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَقُولُوا: إِنَّنَا عَبِيدٌ بَطَّالُونَ. لأَنَّنَا إِنَّمَا عَمِلْنَا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْنَا»" (لوقا ١٧: ١- ١٠).

أعطانا ربنا المبارك مقداراً كبيراً من التعليم العملي في الأناجيل الأربعة. وهذا شيء لن نصل إلى ما وراءه أبداً طالما نحن هنا في هذا العالم. كل ما هو روحي في الكتاب المقدس هو لأجلنا. هناك أمور معينة، كما نعلم، لها تطبيق تدبيري خاص؛ ولكن كل الحقائق الروحية والأخلاقية تنطبق على جميع العصور والأزمنة. علينا كمسيحيين أن نرجع مراراً وتكراراً إلى التعليم الذي أعطانا إياه يسوع في الأناجيل لكي نتعلم كيف نسلك ونرضي الله ونحن عابرون في هذا العالم.

يتكلّم (يسوع) هنا عن أربعة مواضيع مختلفة. أولاً، يعطي تحذيراً مهيباً من أحجار العثرة. نقرأ في النص أن يسوع "قَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: لاَ يُمْكِنُ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَ الْعَثَرَاتُ وَلَكِنْ وَيْلٌ لِلَّذِي تَأْتِي بِوَاسِطَتِهِ". الكلمة المترجمة "الْعَثَرَاتُ" تعني فعلاً "أحجار العثرة". من فترة لأخرى ستأتي مناسبات يحدث فيها تعثر. البعض سينسى مسؤولياته ويسمح لنفسه بأن يذنب في الأشياء التي سيتبين أنها حجر عثرة للآخرين. إنهم يوقعُون إخوتهم الأضعف منهم في الإثم أو يروِّعونهم بأعمال لا أخلاقية يقومون بها، ولكن يجب ألا نبرر هذه الأشياء في أنفسنا أو عند الآخرين. قد نجد من السهل أن نقول: "لم أقصد أي أذى". ولكننا مسؤولون لأن نسلك هكذا حتى أن الآخرين الذين يحتذون بنا لا يضلوا في طريق الخطيئة من خلال مثلنا السيئ. يجب أن يكون لدينا جواب على ذلك إذا ما أثمنا بهذه الطريقة. قال يسوع: "وَيْلٌ لِلَّذِي تَأْتِي (العثرات) بِوَاسِطَتِهِ! خَيْرٌ لَهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحىً وَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ مِنْ أَنْ يُعْثِرَ أَحَدَ هَؤُلاَءِ الصِّغَارِ". هذه الكلمات قد ترعب المرء للغاية. يجب أن تجعلنا "نسلك بِالتَّدْقِيقِ، لاَ كَجُهَلاَءَ بَلْ كَحُكَمَاءَ، مُفْتَدِينَ الْوَقْتَ لأَنَّ الأَيَّامَ شِرِّيرَةٌ". قد يتساءل المرء: "إني أعيش حياتي الخاصة، ولا أهتم بما يفكر به الناس. أعيش حسب محاكمتي الخاصة للأمور". ولكن هذه ليست روح المسيح، وليست الروح التي يجب أن تميز أولئك الذين يعترفون بأنهم تلاميذه. هناك أمور كثيرة نعتقد أنها صحيحة ولا بأس فيها، ولكن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أخينا الأضعف. تناول الرسول بولس هذا الموضوع بشكل كبير في رسائله. في رومية ١٤: ٢١، قال: "حَسَنٌ أَنْ لاَ تَأْكُلَ لَحْماً وَلاَ تَشْرَبَ خَمْراً وَلاَ شَيْئاً يَصْطَدِمُ بِهِ أَخُوكَ أَوْ يَعْثُرُ أَوْ يَضْعُفُ. أَلَكَ إِيمَانٌ؟ فَلْيَكُنْ لَكَ بِنَفْسِكَ أَمَامَ اللهِ". لا تستعرضوا أو تتباهوا بحريتكم أمام آخر من المحتمل أن يتأثر بتصرفكم على نحو خاطئ.

في الحادثة الثانية يتكلم ربنا عن غفران الأذية، حقيقية كانت أم متوهمة. في الآيتين الثالثة والرابعة يقول: "اِحْتَرِزُوا لأَنْفُسِكُمْ. وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَوَبِّخْهُ وَإِنْ تَابَ فَاغْفِرْ لَهُ. وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ وَرَجَعَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ قَائِلاً: أَنَا تَائِبٌ فَاغْفِرْ لَهُ". دعوني أتوقف هنا لوهلة. "إِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَوَبِّخْهُ". أي، إن شعرت أن أخاك قال شيئاً أو فعل شيئاً ليؤذيك، فلا تتكلم عن ذلك لأناس آخرين؛ لا تسعَ طالباً شخصاً متعاطفاً ما وتفرغ مشاكلك في أذنه، خشية أن ينشر كل ذلك في كل الكنيسة بعد برهة. هناك مثل قديم يقول:

"إن كنتَ حكيماً فلا تنشرْ أخبارَك.
فهذا أمر حساس للغاية.
ليس من الحكمة أن تخبر صديقك عن شؤونك،
ثم تطلب منه أن يُبقي على هذه سرية".

لذا، فإن خطئ أحدهم نحوك، لا تخبر أي أحد بذلك. اذهب إلى ذاك الذي خطئ إليك ووبّخه على ما فعله. "وَإِنْ تَابَ فَاغْفِرْ لَهُ". اذهب مباشرة إلى ذاك الذي أساء إليك؛ قل له أن ما قاله أو ما صنعه يحزنك ويؤلمك. هذا يتطلب شجاعة حقيقية. وأحياناً يكون أسهل بكثير علينا أن ندمدم في كل مكان ناشرين الأخبار وأن نتكلم إلى أنس آخرين عن الأذى الذي نكون قد تعرضنا له بدلاً من أن نذهب إلى ذاك الذي ارتكب الخطأ وأن نخبره بما في فكرنا. إننا عظماء في تحاشي مسؤولياتنا. نفضل أن نلقي بها على شخص آخر. نفضل أن نقوم باتهام أمام الكنيسة. ولكن يسوع يخبرنا بشكل واضح أن علينا ألا نأتي بمسألة كهذه إلى الكنيسة إلا وبعد أن نكون قد ذهبنا إلى الشخص نفسه. اذهب إلى أخيك ووبّخه، وإن قال "أنا آسف؛ لم أقصد أن تجري الأمور على ذلك النحو"، أو قال "آسف، سامحني"، فعندها ستكون قادراً على أن تسوي المسألة في الحال، ولا يجب أن تتكلم عن الأمر مرة أخرى؛ يجب أن تكون هذه هي النهاية. كم من مشاعر سوء مزعجة كنا سنتجنبها لو تصرفنا بناء على هذه الكلمات تماماً؛ كم من نزاعات كنسية كان يمكن تحاشيها! تقولون: "حسنٌ. لقد تكلمت إليه في الموضوع، وقال أنه تاب، وغفرت له؛ ولكنه كرر نفس الفعل. ما الذي سأفعله الآن؟" يقول الرب: "إِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ وَرَجَعَ إِلَيْكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ قَائِلاً: أَنَا تَائِبٌ فَاغْفِرْ لَهُ". هذا كافٍ ليجعل كل إنسان يفقد الثقة تقريباً في الإنسان: يقول: "أَنَا تَائِبٌ"، ثم يكرر العمل مراراً وتكراراً. لا أصدق شخصاً كهذا، أعتقد أنكم ستقولون ذلك. لا بأس؛ لستم مضطرين لأن تصدقوه إذا ما اكتفيتم بمسامحته. إن أخطأ إليك سبع مرات في اليوم وقال: "إني نادم"، فعندها عليك أن تغفر هل. تذكروا أنه في مناسبة أخرى (مت ١٨: ٢١، ٢٢) قال بطرس: " يَا رَبُّ كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ؟ هَلْ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ؟» قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لاَ أَقُولُ لَكَ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ بَلْ إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ". أخشى أن يكون أياً منكم قد اضطر أبداً أن يغفر كل ذلك العدد من المرات. بالطبع ليس مطلوباً منا أن نعلن المغفرة للشخص الآخر الذي يعترف بأنه نادم تائب. لست مضطراً لأن أجري وراء شخص وأقول له: "إني أغفر لك! إني أغفر لك!" فعلى الأرجح أنه سيقول: "لا أريد منك أن تغفر لي؛ لست في حاجة إلى غفرانك". بل علينا أن نتمسك دائماً بموقف رحمة وأن نحبه إلى أن يتأثر في النهاية ويقول أنه تائب نادم. علينا إذاً أن نغفر بشكل مجاني كما أن الله يغفر لنا.

الدرس الثالث الذي نتعلمه هنا هو قوة الإيمان. عندما تكلم يسوع بهذه الأمور إلى تلاميذه، نظروا إليه، وكأنهم يقولون: "إنك تضع معياراً عالياً لا نستطيع الوصول إليه". صرخوا قائلين: "زِدْ إِيمَانَنَا. فَقَالَ الرَّبُّ: لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهَذِهِ الْجُمَّيْزَةِ انْقَلِعِي وَانْغَرِسِي فِي الْبَحْرِ فَتُطِيعُكُمْ". لا تسيئوا فهم ذلك. لم يقصد أن يقول إن علينا أن ننطلق مظهرين قوتنا على الطبيعة. الإيمان، كما تعلمون، هو الإيمان بالله، والإيمان يقود المرء لأن يسلك بحسب إرادة الله المعلنة. إن كان الله يكشف لك أن عليك أن تصلّي لكي تقتلع جميزة ما وتُلقى في البحر، فإنه سيعطي الإيمان اللازم لذلك؛ ولكن ليس هذا الأمر اعتيادياً. ما يعلّمنا إياه الرب هنا هو أنه إن كانت لديك إيمان حقيقي فإنك ستستطيع أن تنتصر رغم جميع الظروف الخارجية. لقد سمعتم عن ذلك الإيرلندي الذي قال: "تعلّمت أن أثق بالله، وقد صنع أشياء رائعة من أجلي لدرجة أنه إن قال لي أن أقفز من فوق جدار حجري، فإني سأفعل ذلك وأعرف أنه سينقذني". ولكن لا تقفز إذا لم يخبرك الله أن تفعل ذلك. الإيمان يقودنا بأن نتصرف وفق كلمة الله، وعندما نفعل ذلك نستطيع الاتكال على الله لنتجاوز الموقف.

في الحادثة الرابعة، يقول الرب بضعة أمور ليبعدنا عن المبالغة في تقدير تكرسنا أنفسنا، أو المبالغة في تقييم خدمتنا. يستخدم مثلاً مشابهاً للغاية: يتكلم عن عامل مزرعة يعمل في الحقل، يحرث، أو يطعم القطيع، ويقوم بواجباته الأخرى، ثم يعود إلى البيت حيث يكون من واجبه أن يساعد في إعداد الوليمة وأن يخدم سيد المزرعة. يقول في حالة كهذه، بعد أن أنهيت حراثتك، وحملت الطعام إلى القطيع وأنهيت عدداً من واجباتك وأتيت إلى المنزل، لا تتوقع من السيد أن يقول لك: "اجلس هنا بينما أعد لك الطعام، وسيكون من دواعي سروري أن أخدمك". لا؛ عليك ألا تنتظر ذلك. أنت عامل مستأجر، خادم، ومطلوب منك القيام ببعض الأمور التي يدفع لك السيد عليها أجراً. إنك لا تشعر بضرورة أن تتلقى إطراءً خاصاً مقابل قيامك بما يُدفع لك لأجله. لقد أُعدت الترتيبات عندما أتيت إلى العمل في المزرعة، ولذلك فلا تتوقعنّ أي مراعاة خاصة. ليس لك أن تقول: "لقد أعطيت وقتي، وأعتقد أني أستحق مقداراً أكبر من الانتباه". ولذلك فإن الرب يحذر تلاميذه لئلا يسمحوا لأنفسهم بأن يُأخذوا بفكرة أنهم يستحقون الثناء بفضل خدمتهم له. إننا نُشترى بدمه الثمين، وعملنا هو أن نخدمه بسرور. لسنا سوى عمال ناقصون في أفضل أحوالنا. يقول: "مَتَى فَعَلْتُمْ كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَقُولُوا: إِنَّنَا عَبِيدٌ بَطَّالُونَ. لأَنَّنَا إِنَّمَا عَمِلْنَا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْنَا". إن واجبنا هو أن نستمر في خدمة ربنا يسوع المسيح. ونترك له أن يمتدح عملنا. سوف يلاحظ كل خدمتنا التي صنعناها لأجله، وكل ما فعلناه بدافع المحبة له سيكافئنا عليه، حتى وإن كان كأس ماء بارد قدمناه باسمه.