الخطاب ٤٦

الحياة بدون قلق أو همّ

"٢٢وَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: «مِنْ أَجْلِ هَذَا أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَلاَ لِلْجَسَدِ بِمَا تَلْبَسُونَ. ٢٣اَلْحَيَاةُ أَفْضَلُ مِنَ الطَّعَامِ وَالْجَسَدُ أَفْضَلُ مِنَ اللِّبَاسِ. ٢٤تَأَمَّلُوا الْغِرْبَانَ: أَنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلَيْسَ لَهَا مَخْدَعٌ وَلاَ مَخْزَنٌ وَاللهُ يُقِيتُهَا. كَمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلُ مِنَ الطُّيُورِ! ٢٥وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعاً وَاحِدَةً؟ ٢٦فَإِنْ كُنْتُمْ لاَ تَقْدِرُونَ وَلاَ عَلَى الأَصْغَرِ فَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِالْبَوَاقِي؟ ٢٧تَأَمَّلُوا الزَّنَابِقَ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. ٢٨فَإِنْ كَانَ الْعُشْبُ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ فِي الْحَقْلِ وَيُطْرَحُ غَداً فِي التَّنُّورِ يُلْبِسُهُ اللهُ هَكَذَا فَكَمْ بِالْحَرِيِّ يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟ ٢٩فَلاَ تَطْلُبُوا أَنْتُمْ مَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَشْرَبُونَ وَلاَ تَقْلَقُوا ٣٠فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا أُمَمُ الْعَالَمِ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَأَبُوكُمْ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هَذِهِ. ٣١بَلِ اطْلُبُوا مَلَكُوتَ اللهِ وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ. ٣٢«لاَ تَخَفْ أَيُّهَا الْقَطِيعُ الصَّغِيرُ لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوتَ. ٣٣بِيعُوا مَا لَكُمْ وَأَعْطُوا صَدَقَةً. اِعْمَلُوا لَكُمْ أَكْيَاساً لاَ تَفْنَى وَكَنْزاً لاَ يَنْفَدُ فِي السَّمَاوَاتِ حَيْثُ لاَ يَقْرَبُ سَارِقٌ وَلاَ يُبْلِي سُوسٌ ٣٤لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكُمْ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكُمْ أَيْضاً" (لوقا ١٢: ٢٢- ٣٤).

بعد أن سرد الرب يسوع تلك القصة المحزنة عن الغني الجاهل، الذي رغم حرصه والأثرة لديه، فقد كل شيء، التفت يسوع إلى تلاميذه وكلمهم عن بركة الحياة التي تكون خالية من القلق أو الهم، الحياة التي فيه اتكال على الله الحيّ، الذي هو أبو كل من يؤمن بكلمته.

قال يسوع: "لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَلاَ لِلْجَسَدِ بِمَا تَلْبَسُونَ. اَلْحَيَاةُ أَفْضَلُ مِنَ الطَّعَامِ وَالْجَسَدُ أَفْضَلُ مِنَ اللِّبَاسِ". لم يكن يشجّع الإسراف أو التبذير، ولم يكن يغرس في الذهن فكرة الكسل والتبطّل، ولا عدم الاهتمام بمسؤوليات المستقبل. كان التحذير هو لتلاميذه لكي يتحاشوا الفكر القلق. أن تصبح ابناً لله لا يتناسب مع القلق حول الطعام أو الكساء، وسد الحاجات المختلفة التي تنشأ من يوم إلى يوم. لقد رأينا الشعار: "إن تقلق، فإنك لا تثقف؛ إن تثق، فإنك لا تقلق". لقد كان هذا هو ما أراد الرب أن يطبعه في ذهن تلاميذه. الإيمان يمكن أن يتكل على الله لسد كل حاجة تنشأ، فيؤمّن الله ما يحتاجه المرء في سيره وهو يطيع الكلمة.

لقد لفت يسوع الانتباه إلى الغربان، والتي كانت منتشرة بشكل عام في فلسطين. إذ أنها كانت غير قادرة على أن تزرع أو تحصد فقد كان خالقها الكريم يؤمن كل شيء لها. إنه أمر لا يستدعي التفكير ولاشك فيه في أن الله الذي يهتم بطيور السماء لديه اهتمام أكبر بأولاده.

إضافة إلى ذلك، ما الذي يحققه القلق أو الهم؟ هل يستطيع الإنسان القلق أن يزيد إلى قامته؟ إننا ننمو في القمة من الطفولة إلى النضج كما رتب الله. فلماذا لا نتكل عليه لأجل البقية؟

زنابق الحقل، التي هي أكثر جميلة وأكثر هشاشة من أي عمل فني للإنسان، يكسيها الله كساءً جميلاً. لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ، ومع ذلك، فإن لها ذلك الجمال المشرق الذي لم يعرفه حتى سليمان في مجده. كل زهرة، كل ورقة من عشب، هي شاهد على حكمة وقدرة وقوة الخالق، الذي هو إلهنا وأبونا. يجب أن نكون على يقين بأن من يظهر عنايته الإلهية التدبيرية نحو كل مخلوقات الدنيا، سوف لن يخفق في أن يُعنى بخاصته الذين يُكرّسون له كل أمور حياته.

أن نجعل من مسألة الحصول على الطعام والشراب أهم هدف لعملنا وكدحنا يعني أنه يفوتنا كلياً الهدف الحقيقي للحياة. شعوب الأرض الذين لا يعرفون الله قد لا تكون لديهم معايير أعلى من هذه؛ ولكن يجب أن يكون الأمر خلاف ذلك مع أولئك الذين أعلن الرب نفسه لهم في نعمة ورحمة وحنو.

ضعوا الأشياء الأهم أولاً. لا تسعوا وراء تلك الأشياء التي تخدم رغباتنا الأنانية، بل بالحري اطلبوا ملكوت الله، الذي يعني ضمناً الاعتراف بسلطانه الإلهي على كل حياتنا، وكل شيء آخر سيضيفه الله كما يراه مناسباً وملائماً.

الكدّ والإيمان يسيران يداً بيد. ولكن هذا لا يعني أن المرء لديه إيمان حقيقي بالله لأنه يتخلى عن وظيفته في الحياة الدنيوية ويعلن أنه سيذهب للاتكال على الرب ليسد حاجاته. إن كان منشغلاً إلى كل تلك الدرجة في خدمة الكلمة حتى أنه لا يستطيع أن يعمل بيديه، فإن عليه، كما كان بولس يفعل أحياناً، فإنه مخول لأن يتكل على الله ليسد كل حاجة لديه. ولكن يتوافق بالعادة تماماً مع مسار الإيمان أن نتذكر أن الله قال: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضاً" (٢ تس ٣: ١٠). وعلينا أن نتذكر التحذير والتذكير القديم الأولي أن: "بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأكُلُ خُبْزاً" (تك ٣: ١٩). ما من أحد يستطيع أن يقدم للناس انطباعاً عن حقيقة والطابع الأصيل للخبرة المسيحية الحقيقية أكثر من الإنسان العامل الكادح، أو الموظف، الذي، خلال عمله وسعيه لتأمين نفسه وعائلته، يحيا حياة من الاتكال اليومي على الله، ناظراً إليه على أنه يؤمن له الوظيفة التي تلائم مسؤولياته الزمنية الدنيوية.

هناك فارق بين الإيمان والتسليم. الإيمان يستند إلى كلمة الله المعلنة. التسليم يحاول أن يناغم الله مع البرنامج البشري، والنتيجة تكون إخفاق محتم. لقد وعد الله بأن يستجيب لصلاة الإيمان؛ ولم يعد بأن يرضي رغبات البشر الذين لا يسلكون بحسب كلمته.

خلال هذا الدهر الحاضر لشعب الله، الذين يعرفون عناية الله الآب المحب بهم، هناك مجموعة صغيرة بالفعل، عرضة لإساءة الفهم وحتى للتعرض للكراهية والقسوة من عالم لا يرحم. ولكن بالنسبة لهؤلاء يُعطى الوعد أن: "أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوتَ".

ولذلك، فإن المرء، المدرك لعلاقته مع الله وحقيقة أنه وريث للملكوت، يستطيع أن يتحمل جيداً أن يحتفظ بكل ما في هذا العالم بيدٍ خفيفة، وهو يعلم أن الغنى الأبدي قد وُضع له في المجد، وإذ يعبر كغريب وحاج عبر عالم مليء بالعداء، يمكنه أن يتكل على الحماية الإلهية والعناية الإلهية معاً.

بدلاً من تكديس كنوز أرضية دنيوية، من يتبع الرب يسوع سيجد فرحه الأعظم في مشاركة الآخرين بالفوائد الدنيوية التي يتمتع بها. ما من إنسان يستطيع فعلياً أن يدوس هذا العالم بقدميه إلى أن يكون قد رأى عالماً أفضل فوق رأسه. وإذ يعلم أنه وريث للملكوت، ويعلم انه عليه أن يشارك ذلك الكنز الذي لا يخفق، الكنز الذي لا يستطيع اللصوص أن يسرقوه، ولا للزمان أن يتلفه، فلماذا سيترك قلبه يتعلق بالأمور المبهرجة البائسة التي في هذا العالم، والتي نعلم في الكتاب المقدس أنها جميعاً تتلاشى مع الاستخدام.

إنه سؤال يتعلق ببساطة بأين نضع قلبنا. إن كنا نشتهي ثروة دنيوية ومجداً زائلاً باطلاً في هذه الأرض، فذلك لأن قلوبنا لا تزال في العالم, ولكن إن كنا قد تعلّمنا قيمة الغنى الأبدي والأمجاد التي لن تتلاشى، فذلك لأن قلوبنا مثبتة على ذلك الوطن الذي جاء منه المخلّص والذي عاد إليه. وهكذا ففي كولوسي ٣، يُطلب إلينا أن نهتم بـ (أن نرفع أذهاننا إلى) ما هو فوق، حَيْثُ الْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ اللهِ. ما من شيء يمكن أن يفصلنا على الإطلاق عن الانشغال بأمور الدنيا الزائلة في هذا الزمان سوى إدراكنا بأن وطننا هو في السماء ونصيبنا هناك أيضاً.

هذا لن يودي بنا إلى أن نكون غير مكترثين بالتزاماتنا كمواطنين مؤقتين في هذا العالم، ولن يخلق فينا النزعة إلى أن نكون متكاسلين أو متراخين أو لا مبالين نحو التدبير المناسب لحياتنا اليومية. بل إن هذا سيحرّرنا من الهم والقلق، ويعطينا الثقة الكاملة التي تمكننا من أن نتكل على الرب بينما نحن نسعى لنمجّده في كل المسؤوليات التي يلقيها على عاتقنا.