الخطاب ٥٤

حساب النفقة

"٢٥وَكَانَ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ سَائِرِينَ مَعَهُ فَالْتَفَتَ وَقَالَ لَهُمْ: ٢٦«إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضاً فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً. ٢٧وَمَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً. ٢٨وَمَنْ مِنْكُمْ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بُرْجاً لاَ يَجْلِسُ أَوَّلاً وَيَحْسِبُ النَّفَقَةَ هَلْ عِنْدَهُ مَا يَلْزَمُ لِكَمَالِهِ؟ ٢٩لِئَلاَّ يَضَعَ الأَسَاسَ وَلاَ يَقْدِرَ أَنْ يُكَمِّلَ فَيَبْتَدِئَ جَمِيعُ النَّاظِرِينَ يَهْزَأُونَ بِهِ ٣٠قَائِلِينَ: هَذَا الإِنْسَانُ ابْتَدَأَ يَبْنِي وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُكَمِّلَ. ٣١وَأَيُّ مَلِكٍ إِنْ ذَهَبَ لِمُقَاتَلَةِ مَلِكٍ آخَرَ فِي حَرْبٍ لاَ يَجْلِسُ أَوَّلاً وَيَتَشَاوَرُ: هَلْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُلاَقِيَ بِعَشَرَةِ آلاَفٍ الَّذِي يَأْتِي عَلَيْهِ بِعِشْرِينَ أَلْفاً؟ ٣٢وَإِلاَّ فَمَا دَامَ ذَلِكَ بَعِيداً يُرْسِلُ سَفَارَةً وَيَسْأَلُ مَا هُوَ لِلصُّلْحِ. ٣٣فَكَذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لاَ يَتْرُكُ جَمِيعَ أَمْوَالِهِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً. ٣٤اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلَكِنْ إِذَا فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُصْلَحُ؟ ٣٥لاَ يَصْلُحُ لأَرْضٍ وَلاَ لِمَزْبَلَةٍ فَيَطْرَحُونَهُ خَارِجاً. مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!»" (لوقا ١٤: ٢٥- ٣٥).

الآيات الأخيرة من هذا الأصحاح تشكّل تحدّياً لكل واحد منا. وقُصد بها أن تكون كذلك بالنسبة إلى المستمعين إلى ربنا عندما كان هنا على الأرض، وما برحت تخاطب الناس بقوة على مدى القرون حيث يسوع في المجد. "مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ". في هذا المقطع كله يتناول الرب يسوع موضوع مسؤولية التلمذة. إنه لا يتكلم عن مدى بؤس وهلاك الخطأة الذين يمكن أن يخلصوا، ولا عن تكلفة ذلك الخلاص. إن خلاص الله هو بدون مقابل، ولكننا ندفع كثيراً إن لم نقبله. هل حسبتم النفقة إذا ما هلكت نفوسكم؟ بعد سماعكم الإنجيل وبعد إصغائكم إلى رسالة المسيح، إن تجاهلتموها، متوقعين أنكم ستقبلون المسيح يوماً ما، وعشتم ومتم مهملين هذا الخلاص العظيم، فستجدون أنكم دفعتم ثمناً كبيراً رهيباً. لا أزال أتذكر عندما سمعت رجل الله العظيم ذاك، د. وولتر ب. هنسون، قبل بضعة سنوات، يعظ على هذا النص قائلاً: "مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟” قبل أن يناقش النص نفسه، طرح سؤالاً بشكل غير مباشر قائلاً: "تأملوا في هذه الآية أولاً: مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟” إنه لثمن باهظ يدفعه البشر إذ يخرجون إلى هلاك أبدي. بعض الناس يبدو أنهم يفكرون بأنهم يقدمون معروفاً لله إذ آمنوا بابنه وتبعوه؛ ولكن الحقيقة هي العكس. الله يقدّم لكم معروفاً أبدياً بتخليصكم من دينونة لا نهاية لها، وإن رفضتم رحمته فإنكم تتعرضون لخسارة كبيرة جداً.

في الآيات التي قرأناها، ليس هناك أسئلة عن موضوع الخلاص بل بالأحرى الآيات تتناول موضوع التلمذة. كلمات ربنا هنا موجهة لأولئك الذين آمنوا به لتوهم، لأولئك الذين يؤمنون به على أنه ابن الله، مسيا إسرائيل ومخلّص الخطأة. أولئك الذين وضعوا إيمانهم فيه مدعوون الآن ليكونوا تلاميذ له. والتلمذة تكلّف. لا يمكننا أن نخدم ربنا يسوع المسيح كما ينبغي بدون أن ندفع تكلفة باهظة من أنفسنا. ولذلك عندما كانت جموع كبيرة تحتشد حول يسوع، "الْتَفَتَ وَقَالَ لَهُمْ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضاً فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً. وَمَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً". هذا قول قاسٍ، ولكن علينا أن نتذكر أن الرب يستخدم أحياناً تعابير قوية جداً بطريقة تختلف جداً عن طريقة استخدامنا لها. على سبيل المثال، في العهد القديم، في سفر ملاخي، نجد الكلمات التالية: "أَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ". الله لم يبغض أحداً في الواقع بالمعنى الذي نستخدم فيه الكلمة أحياناً. "هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ". "اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا". "فِي هَذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا". وهكذا فإننا على يقين بأن الله أحب أولاد عيسو تماماً كما أحب أولاد يعقوب؛ ولكن عندما قال: "أَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ"، فإنه كان يشير إلى امتيازات خاصة هنا على الأرض. كان الله قد أعطى امتيازات معينة لأولاد يعقوب لم يحصل عليها أولاد عيسو. لقد أعطى شعب إسرائيل ناموساً مقدساً وعناية خاصة لم تُمنح لأي شعب آخر، وأعطاهم معلّمين لم يحظَ بهم أي شعب آخر؛ لقد أعطاهم أرضاً تفيض لبناً وعسلاً، وجعلهم شعباً له يتمتعون بعنايته الخاصة. وسكن بنو عيسو في البرية، في أرض جافة جدباء ظمأى. كانت لديهم بضعة قليلة جداً من الامتيازات مقارنة بشعب إسرائيل. ولكن هذا ما كان يعني أن الله لم يكن مهتماً بأولاد عيسو. إننا على يقين بأن نعمته ورحمته تدفقتا على كل أدوميٍّ تاب عن خطيئته وعبادته الوثنية. لذا فإن ربنا يسوع يقول هنا: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضاً فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً". هذا لا يعني أن علينا أن نعامل أحباءنا بالسوء؛ ولا يعني أن علينا أن نحمل البغضاء نحوهم. ولكن المكانة التي نعطيها للمسيح، ومحبتنا لذاك الذي مات عنا، ستكون عظيمة جداً، مقارنة باهتمامنا بالأعزاء على قلبنا على الأرض، إذا ما عارضوا ما هو صحيح وحقّ، فإن موقفنا سيبدو وكأنه بغضاء. لقد رأيتُ أمثلة كثيرة عن هذا. أتذكر فتاة يهودية شابة عزيزة علي جاءت إلى الإيمان بالرب يسوع المسيح وخلصت. عندما أرادت أن تعتمد، قالت لها أمها اليهودية، التي كانت تحبها للغاية، في نوبة من الغضب: "آهٍ يا ابنتي، أتكرهين أمك إلى تلك الدرجة حتى أنك تريدين الذهاب إلى تلك الكنيسة وتعتمدي؟" أصرّت الابنة على أنها تحب أمها، ولكنها كانت تحب المسيح أكثر. فقالت لها الأم: "أنت لا تحبينني، وإلا لما كنتِ ستعتمدين. أنت تكرهينني؛ وهذا هو السبب في أنك تريدين أن تعتمدي". كانت الابنة تعرف أن الولاء والإخلاص يتطلب أن تترك أمها العزيزة وكأنها كانت تكرهها، رغم أن الأمر كان أكثر من طاقتها وقدرتها على الاحتمال. يوضح هذا ما عناه ربنا. لا شيء يجب أن يحول بينك وبين الولاء للمسيح؛ يجب أن تكون صادقاً مخلصاً له مهما كلف الأمر. وهكذا فإن التلمذة تكلّف. أناس كثيرون كانوا قد اضطروا ليتركوا منازلهم لأجل المسيح، وأُلصِق باسمهم الشر، لأنهم أحبوا المسيح إلى درجة كبيرة سامية. الكثيرون منا ينتمون إلى عائلة مسيحية وقد تربينا في بيوت حيث الأعزاء علينا كانوا مهتمين بخلاصنا؛ ومع ذلك، فإن التحدي هو أمامنا على نفس المستوى. إن وقف أي شخص، مهما كان عزيزاً علينا، بين المسيح وبيننا، فإن علينا أن نبغض ذلك الشخص مقارنة بمحبتنا للمسيح.

"حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضاً". ونقرأ في مكان آخر القول: "مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ". هناك الكثير من الناس الذين يجب أن يتخلوا عن إمكانيات هائلة على الأرض لكي يكون المسيح اهتمامهم الأول. من يرفض أن يفعل ذلك سيخسر حياته، بينما من يحسب كل الأشياء نفاية من أجل المسيح فإنه يحفظها إلى حياة أبدية. هناك سؤال يواجه الكثير من الرجال والنساء: هل المسيح له المكانة الأبرز في قلبكم؟ هل أنتم خاضعون له حتى أنكم مستعدين لتدعوه يشقّ طريقه إلى حياتكم؟ أنتم تعرفون المسيح وأنتم تعرفون الرسالة التي يحتاجها العالم. هل أنتم مستعدون للتخلي عن الاهتمامات الدنيوية وتنطلقوا بحسب دعوته لإعلان الإنجيل إلى أولئك الجالسين في الظلمة؟ أم تفكرون بأحوالكم السارّة وازدهاركم ومدى نجاحكم في هذا العالم وتهتمون بجمع المال، حتى أنكم تتجاهلون دعوة الله؟ أعلم أنه ليس الجميع مدعوون إلى التخلي عن الوظائف الدنيوية ليفرغوا أنفسهم بشكل كامل إلى الخدمة المسيحية، ولكن الأمر الهام هو أن تكونوا مذعنين لله لأجل أي مخطط يضعه لكم. كم ستكون مريعة نهاية إنسان دُعي، على سبيل المثال، ليكون مُرسَلاً، ولكنه آثر البقاء في البيت، وكوّن عائلة وثروة على مدى السنين، ولكن فاته كلياً الطريق الذي كان الرب قد أعده له. وكم هي عظيمة البركة التي تكون مكافأة لذاك الذي يرفض كل هذا وينطلق في إيمان، متكلاً على الرب، إلى أرض بعيدة، وسط أناس غالباً ما يكونون سيئي الطباع، ولكن في حاجة إلى من يخبرهم عن يسوع. أولئك الذين أبغضوا حياتهم، كرمى للمسيح والإنجيل، يا لها من مكافأة ستكون في انتظارهم عند كرسي دينونة المسيح!

هناك أمر على كل واحد منا أن يفكر فيه بتمعن. يضيف الرب قائلاً: "مَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً". ما المقصود بـ "مَنْ" هنا؟ كان الفتى الاسكتلندي على صواب في إجابته أن ذلك يشير "إليك وإليَّ وإلى كل واحد". إنها ليست مسألة حمل صليب المسيح. أنت وأنا لا نستطيع أن نحمل صليب المسيح رغم أننا نتمجد به. قال الرسول بولس: "حَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ". بديلي مات عنّي. موته هو موتي، وأنا ميت عن كل ما مات لأجله كإنسان. لستُ متّحداً مع ذاك الذي رفضه العالم. هذا هو معنى الدخول إلى حقيقة صليبه. يتحدث الرب يسوع المسيح هنا عن حمل التلميذ لصليبه الخاص. لو كنتَ في فلسطين ورأيتَ شخصاً يسير في الطريق حاملاً صليباً فإن ستعرف أنه ذاهبٌ إلى الموت. انطلق ربنا المبارك حاملاً صليبه إلى الجلجلة. على مر العصور التي سيطر فيها الرومان، أولئك الذين ماتوا على الصليب كانوا مُدانين من قِبَل الحكومة، وكان على كل واحد منهم أن يحمل صليبه إلى مكان تنفيذ حكم الإعدام. لذا فما قصده الرب يسوع عندما قال: "مَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً" هو القول: من لا يكون مستعداً لأن يذهب حتى إلى الموت من أجل المسيح لا يكون تلميذاً حقيقياً. أكرر القول: إنها ليست مسألة خلاص، بل مسألة تكرس للمسيح في التلمذة. وطريق التلمذة قد يؤدي إلى الموت، وبالطبع هذا أمر لا يمكن الدخول إليه بدون تفكير أو بلا مبالاة. كثير من الناس يفوتهم إدراك جدية مسألة التلمذة هذه. لا يكفي أن يندفع المرء عاطفياً ويقول: "أنا على استعداد لأكون مرسلاً أو مبشراً أو كارزاً". على المرء أن يمعن التفكير جدياً في المسألة كي يدرك حقيقية هذا البيت الشعري الذي يتردد كثيراً على مسامعنا:

"حياة واحدة نحياها وسرعان ما تنقضي،
ما نصنعه للمسيح وحده يبقى ويدوم".

ما الذي سأفعله في هذي الحياة؟ هل سأحيا لذاتي أم للمسيح؟ احسبوا النفقة. استخدم الرب يسوع المثل عن البنّاء والبرج. "مَنْ مِنْكُمْ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بُرْجاً لاَ يَجْلِسُ أَوَّلاً وَيَحْسِبُ النَّفَقَةَ هَلْ عِنْدَهُ مَا يَلْزَمُ لِكَمَالِهِ؟ لِئَلاَّ يَضَعَ الأَسَاسَ وَلاَ يَقْدِرَ أَنْ يُكَمِّلَ فَيَبْتَدِئَ جَمِيعُ النَّاظِرِينَ يَهْزَأُونَ بِهِ قَائِلِينَ: هَذَا الإِنْسَانُ ابْتَدَأَ يَبْنِي وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُكَمِّلَ". لقد سمعنا عن أناسٍ يحاولون أن يبنوا قصراً كبيراً أو برجاً بدون أن يحسبوا النفقة. لقد بدأوا البناء ووجدوا أنفسهم في حالة ارتباك مادياً، ولذلك لم يستطيعوا أن يستمروا. هكذا أبنية كانت واضحة لي- الأبنية غير المنتهية. الأبنية غير المكتملة- لأن أحداً بدأ ببناء ولم يستطع أن ينهيه. ولذلك عندما تُدعون لأن تكرسوا حياتكم لله يجدر بكم أن تحسبوا النفقة، وتسألوا أنفسكم هذا السؤال: “هل أنا على استعداد لأن أواجه كل ما تتطلبه التلمذة والولاء لربنا يسوع المسيح؟”

المَثل التوضيحي الثاني مشابه نوعاً ما: "وَأَيُّ مَلِكٍ إِنْ ذَهَبَ لِمُقَاتَلَةِ مَلِكٍ آخَرَ فِي حَرْبٍ لاَ يَجْلِسُ أَوَّلاً وَيَتَشَاوَرُ: هَلْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُلاَقِيَ بِعَشَرَةِ آلاَفٍ الَّذِي يَأْتِي عَلَيْهِ بِعِشْرِينَ أَلْفاً؟ وَإِلاَّ فَمَا دَامَ ذَلِكَ بَعِيداً يُرْسِلُ سَفَارَةً وَيَسْأَلُ مَا هُوَ لِلصُّلْحِ". أولئك الذين بدأوا الحرب العالمية الثانية، أولئك المسؤولين عنه، شعروا أن الدول الديمقراطية كانت آخذة في الزوال، وأنهم لن يستطيعوا أن يثبتوا أمام القوى الفاشية، وأن هذه الشعوب وقبل أن تستطيع الدفاع عن نفسها ستكون القوى الفاشية قد سيطرت على العالم. ولذلك بدأوا صراعاً ما كانوا يستطيعون الوصول إلى خاتمة ناجحة فيه. في الحرب الروحية الكبيرة مع جنود الشر في السماويات، كم نحتاج أنت وأنا إلى أن نطمئن التفكير فيما إذا كنا على استعداد لأن نسلّم أنفسنا كلياً لربنا المبارك من خلال الروح القدس، وحتى نكون قادرين على أن نجاهد جهاد الإيمان الحسن. كان الرسول بولس أحد الذين حسبوا النفقة. لقد واجه كل شيء؛ وإذ وضع كل المكاسب والخسارات نصب عينيه، قال: "لَكِنْ مَا كَانَ لِي رِبْحاً فَهَذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ الْمَسِيحِ خَسَارَةً. بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضاً خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ". ألا فليهبنا الله أن نكون متحفّزين بنفس روح التكرس هذه. "فَكَذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لاَ يَتْرُكُ جَمِيعَ أَمْوَالِهِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً". لا تسيئوا فهم هذا القول. إنه لا يعني أنه إن كان لديك منزل فعليك أن تتخلى عنه، ولا يعني أنه إن كان الله قد عهد إليك بثروة ما فعليك أن ترمي بها أدراج الرياح؛ ولا يعني أنه إن كان لك أصدقاء فعليك أن تتنكر لهم وترفضهم: بل يعني أن عليك أن تحتفظ بكل شيء لديك لله نفسه. عبّر دافيد ليفيينغستون عن ذلك، على ما أعتقد، عندما كتب في يومياته: "إني عازم على ألا أنظر إلى أي شيء أمتلكه إلا من حيث علاقته بملكوت الله". وهذا ما يعنيه أن نحتفظ بكل شيء لله.

هناك تحذير جليل في هاتين الآيتين الأخيرتين. إنهما توحيان بإمكانية أن يصبح التلميذ، الذي كان يوماً شاهداً مشرقاً للرب أن يصح عديم الفائدة وبلا قيمة بالنسبة إلى الله والناس من حيث شهادته إلى العالم. "اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلَكِنْ إِذَا فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُصْلَحُ؟ لاَ يَصْلُحُ لأَرْضٍ وَلاَ لِمَزْبَلَةٍ فَيَطْرَحُونَهُ خَارِجاً. مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!". اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. إنه يحفظ من الفساد، وشعب الله في هذا العالم هم الملح الذي يحفظ. قال يسوع: "أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ". ولكن إذا فقد الملح طعمه فهو لا يكون جيداً. الملح، عندما يتعرض إلى تأثيرات كيميائية معينة، يفقد ملوحته، ويصبح بلا قيمة. إنه لا يحقق الهدف الذي قُصد منه. من الممكن للمسيحي أن يصبح لا مبالٍ وفاسد الأفكار بسبب مبادئ العالم بحيث يخفق في تحقيق الهدف الذي خلقه الله لأجله.

لو كانت فكرة الله الوحيدة هي أن يخلّص نفوسنا لأجل السماء لكان أمكنه أن يأخذنا بعيداً بعد خمس دقائق من اهتدائنا. لا يمكنني أن أكون أكثر ملائمة بالسماء مما عندما كانت بعد خمس دقائق من نيلي الخلاص. اللص المحتضر على الصليب كان يشجب ويلوم الرب، إلى أن ميّز فجأة شخص ابن الله في ذلك المسمر على الصليب الأوسط، فمال قلبه إليه في الحال واعترف بأنه الذي بلا خطيئة. صلّى قائلاً: "اذْكُرْنِي يَارَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِك". فقال له يسوع: "الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْس". كان يمكن أن نذهب إلى ديارنا السماوية في اللحظة التي خلّصنا فيها لو كان هذا هدفه الوحيد؛ ولكنه خلّصنا لكي نخدمه هنا، لكي نشهد له، ونكون تلاميذ له. ألا ليت الله يمنحنا ألا نصبح ملحاً فقد طعمه!

"مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!". هل حسبتم النفقة؟ لقد فعل يسوع ذلك، واحتمل صليب العار. هل سنتمنع عن نيل الامتيازات المقدمة لنا؟ هل نحن مهتمون بإمكانياتنا وعناصر ازدهارنا هنا في الأدنى أكثر من سماع القول "نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ" من شفتي الرب عندما نقف أمام مجلس دينونة المسيح؟