الخطاب ٥١
وجهان لملكوت الله
"١٨فَقَالَ: «مَاذَا يُشْبِهُ مَلَكُوتُ اللهِ وَبِمَاذَا أُشَبِّهُهُ؟ ١٩يُشْبِهُ حَبَّةَ خَرْدَلٍ أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَأَلْقَاهَا فِي بُسْتَانِهِ فَنَمَتْ وَصَارَتْ شَجَرَةً كَبِيرَةً وَتَآوَتْ طُيُورُ السَّمَاءِ فِي أَغْصَانِهَا». ٢٠وَقَالَ أَيْضاً: «بِمَاذَا أُشَبِّهُ مَلَكُوتَ اللهِ؟ ٢١يُشْبِهُ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا امْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ حَتَّى اخْتَمَرَ الْجَمِيعُ»" (لوقا ١٣: ١٨- ٢١).
نعلم من بداية هذا الإنجيل والأناجيل الإزائية الأخرى أن يوحنا المعمدان جاء يكرز بالتوبة لأن ملكوت الله كان قريباً. وانطلق الرب يسوع في الرسالة حالما بدأ خدمته. بقرون عديدة، منذ أن بدأ تشتت اليهود وعودتهم الجزئية على الأرض، كان اليهود يتطلعون إلى ملك سيحررهم من السيطرة الرومانية ويؤسس لسيادة البر على الأرض. والآن صار الملك بينهم، ولم يعرفوه. الأنبياء أنفسهم الذين أخبروا عن الملكوت تنبأوا أيضاً عن رفض الملك لدى مجيئه الأول؛ وتنبأوا بمجيء ثانٍ مجيد عندما سيعود بقوة وأُبهة ملكية فخمة، وبهذا المجيء ستنتهي سنوات نواحهم، وسيدخل إسرائيل إلى ملء البركة.
ولكن ماذا عن الفترة الفاصلة بين هذين المجيئين؟ هل سيبقى الملكوت كلياً في حالة تعليق وتعطل؛ أم سيعقد شكلاً آخر تنبأ به الأنبياء في القديم؟ هذه الأسئلة نجد إجابة لها، على الأقل جزئياً، في المثلين الذين نجدهما أمامنا الآن. هذان المثلان يدعيان هنا أمثال "ملكوت الله". نجدهما أيضاً في إنجيل متى (الأصحاح ١٣)، ولكن هناك كلمة "ملكوت السماء" هي التي تُستخدم، وهذا تعبير محدد معين خاص بالإنجيلي متى. هذه في الواقع مرادف لما ندعوه عموماً العالم المسيحي. هناك جزء كبير من العالم حيث يُقر بالمسيح ظاهرياً على أنه الملك البار الشرعي على الأرض، على الأقل. قد يكون هناك إذعان من القلب له وقد لا يكون؛ ولكن الناس يقرون معترفين بولائهم له، كما تدل بشكل واضح الأحرف التي تعني "ميم"- "في سنة ربنا"، التي نستخدمها لتاريخ كل مراسلاتنا ومستنداتنا الأخرى. "العالم المسيحي" يعني حقاً "ملكوت المسيح". هذا ما أشار إليه ربنا عندما كان يتكلم عن سر ملكوت الله. إنه الملكوت بشكل سري خفي في حين أن الملك نفسه غائب في السماء.
هناك وجهان مختلفان لهذا الملكوت يتم استحضارهما أمامنا في هذين المثلين المعطيين هنا. متى يعطي كلا المثلين، كما ذكرنا سابقاً، في سلسلة مع خمسة أمثال أخرى في الأصحاح ١٣ من إنجيله، بينما لدينا رؤوس أقلام مميزة واضحة لكل التاريخ والمبادئ الأخلاقية التي كانت تميز ملكوت السماء بينما الملك يبقى بعيداً.
"مَاذَا يُشْبِهُ مَلَكُوتُ اللهِ وَبِمَاذَا أُشَبِّهُهُ؟ يُشْبِهُ حَبَّةَ خَرْدَلٍ أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَأَلْقَاهَا فِي بُسْتَانِهِ فَنَمَتْ وَصَارَتْ شَجَرَةً كَبِيرَةً وَتَآوَتْ طُيُورُ السَّمَاءِ فِي أَغْصَانِهَا". في مكان آخر يخبرنا الإنجيل أن حبة الخردل هي أصغر أنواع البذور. وهذا لا يعني أنها أصغر أنواع البذور في عالم النبات بل هي الأصغر في فصيلة الأعشاب. ومع ذلك فإن تلك البذرة الصغيرة تنتج أضخم شجرة أعشاب على الإطلاق. إنها تنمو بسرعة كبيرة وسرعان ما تلقي ظلالها في كل مكان حولها. والآن هذه هي صورة الرب التي أعطاها ليشير إلى التطور الخارجي الظاهري لملكوت الله. هل توقفتم مرة عند هذه الفكرة وتمعنتم فيها؟ عندما صعد ربنا أولاً إلى السماء كان هناك إحدى عشر رجلاً بالتحديد مكرسين له، وكانوا يُعرفون بأنهم تلاميذه ورسله، وكان عليهم أن يحملوا الرسالة إلى العالم. كان هناك بضعة مئات من أناس آخرين في كل أرجاء اليهودية والجليل والسامرة الذين كانوا يعترفون بمزاعمه. البداية الصغيرة كانت مثل حبة الخردل، نواة الملكوت. هؤلاء الإحدى عشر كانوا قد فُوّضوا بأن يذهبوا إلى أي مكان كارزين بملكوت الله، ومخبرين عن المخلّص الذي مات ليرفع خطيئة البشر والذي صعد إلى السماء، وسيأتي ثانية ليدين العالم. تعلمون كم توسع الملكوت بسرعة. خلال فترة وجيزة بعد صعود الرب يسوع نأتي إلى يوم الخمسين، وفي ذلك اليوم ثلاثة آلاف نفس اعترفت علانية بولائها للمسيح. ثم خلال فترة وجيزة بعد شفاء المقعد عند باب الهيكل، صار العدد خمسة آلاف، ومع مرور الأيام خرج أناس أكثر في كل أرجاء أورشليم واليهودية لأجل المسيح. بُشّر بالإنجيل في السامرة، ومئات عديدة من السامريين آمنوا، وهكذا انطلق الإنجيل إلى العالم الأممي. الحقيقة اللافتة هي أن الإنجيل ورغم أنه كان ينافس الوثنية في أسوأ أنواعها، خلال ثلاثمئة سنة من انتشار الوثنية في الإمبراطورية الرومانية، إلا أن المسيحية أبطلت الوثنية. كُتّاب المسيحية الأوائل في ذلك الوقت كانوا يوبخون أعداء المسيحية بكلمات مثل هذه: "هياكلكم مهجورة. المسيحيون موجودون في كل مكان في كل أرجاء الإمبراطورية". ولذلك فإن الكلمة انطلقت واستمرت وانتشرت إلى أن وصلت الآن إلى ملايين لا تُحصى من الناس في العالم الذين يعترفون بالولاء إلى الرب يسوع المسيح. ولكن ربنا قال أن الشجرة نمت إلى أن "صَارَتْ شَجَرَةً كَبِيرَةً وَتَآوَتْ طُيُورُ السَّمَاءِ فِي أَغْصَانِهَا". إن رجعنا إلى الأصحاح ١٨ من هذا الإنجيل نجد مثل الزارع الذي خرج ليزرع زرعاً، "وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ فَانْدَاسَ وَأَكَلَتْهُ طُيُورُ السَّمَاءِ". عندما يعطي ربنا التفسير لهذا المثل في الآيتين ١١ و١٢، يقول: "الزَّرْعُ هُوَ كَلاَمُ اللهِ وَالَّذِينَ عَلَى الطَّرِيقِ هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ثُمَّ يَأْتِي إِبْلِيسُ وَيَنْزِعُ الْكَلِمَةَ مِنْ قُلُوبِهِمْ لِئَلاَّ يُؤْمِنُوا فَيَخْلُصُوا". يظهر ربنا في هذه أن طيور السماء تمثل رسل الشر، وكلاء الشيطان، الذين يسعون لتدمير ما هو من الله، وليمنعوا بذرة الملكوت الصالحة من أن تحمل ثمراً في قلوب أولئك الذين يسمعون. أليس أمراً لافتاً أنه بعد فترة وجيزة من ذلك الوقت يشبه ملكوت السماء بشجرة الخردل، والتي أغصانها تنتشر بشكل واسع بطريقة لافتة، ولكن بشكل يجعل طيور السماء تجد فيها مأوى فعلياً؟ ألا يتفق هذا مع تاريخ العالم المسيحي؟ الطريقة التي خرج بها شعب بعد شعب من العتمة الوثنية إلى معرفة مخلّصنا المبارك كانت طريقة عجيبة حقاً؛ ولكن للأسف، كم من شرور عديدة كانت مخفية في الكنيسة المعترفة بالله الحي! عندما نفكر في رسل الشيطان العديدين الذين وجدوا ملجأً داخل المنظمات المسيحية والهيئات الكبيرة، والذين زرعوا البغضاء المريرة للإنجيل، وحاولا أن يبعدوا الناس عن الحق، ربما يتساءل المرء ويرتعب ويهن عزمه لو أن الرب لم يتنبأ بذلك كله.
المثل التالي يتحدث عن الخميرة التي "أَخَذَتْهَا امْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ حَتَّى اخْتَمَرَ الْجَمِيعُ". دعوني أوجه كلمة تحذير هنا: لا تقولوا أن الملكوت نفسه هو مثل الخمير. هذا ما يعتقد كثير من الناس. لديهم فكرة أن الخمير هو رمز للملكوت، وكما أن ربة بيت تضع الخمير في العجين، كذلك فإن الإنجيل قد عُهِد به إلى خدام المسيح ليحملوه إلى أطراف العالم؛ وسوف يستمر في الانطلاق والفعالية إلى أن يهتدي الجميع، وهذا الكون برمته سيأتي عند أقدام ربنا يسوع المسيح. يا له من أمر رائع إذا ما حصل حقاً، ولكن كتابات عديدة من الكتاب المقدس تُظهر أن الحال ليس هكذا. طرح ربنا يسوع السؤال التالي: "مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الإِيمَانَ عَلَى الأَرْضِ؟” لقد أخبر عن التمرد المضطرد المتزايد مع اقتراب النهاية. قال: "كَمَا كَانَ فِي أَيَّامِ نُوحٍ كَذلِكَ يَكُونُ أَيْضًا فِي أَيَّامِ ابْنِ الإِنْسَانِ". العالم كله لم يهتدي في أيام نوح؛ ولن يكون العالم أيضاً مهتدياً قبل مجيء ربنا ثانية.
في مقطع سابق من هذا العرض ناقشنا معنى الخمير ورأينا أنه يمثل في الكتاب المقدس دائماً ما هو الشر، إما في الممارسة أو في العقيدة. ونجد تحذيراً في ١ كور ٥: ٦ وغلا ٥: ٩، أن "خَمِيرَةٌ صَغِيرَةٌ تُخَمِّرُ الْعَجِينَ كُلَّهُ". الخمير هو شر دائماً وأبداً. على ضوء هذه الحقيقة، ما الذي نراه هنا حقاً؟ لقد كان الرب يخبر عما سيحدث بعد أن يمضي إلى السماء. لقد أظهر كيف أن الملكوت كان سيمتد في كل أرجاء العالم. لقد عرف أن ملايين سيعترفون بالإيمان باسمه، وبالنسبة لهم حقه كان يجب أن يتم التعهد به. كان يجب الحفاظ عليه صافياً فطيراً. ولكنه تنبأ بأن المحاولات التي سيقوم بها المعترفون الكذبة ستكون غايتها إبعاد تلاميذه عن الحق والمجيء بهم إلى تعليم الخمير الشرير. كما إيزابيل في القديم، المرأة هنا تعمل بشكل خفي لتحرف الحق. ولذلك فإنها، وهي الكنيسة الزائفة، تخفي الخمير في طعام أولاد الله. في الرؤيا (الأصحاح ١٧) لدينا تلك المرأة الشريرة، بابل العظيمة، تركب الوحش وتسيطر على أمور هذا العالم، معترفة بأنها عروس الحمل، ولكن عليها السمة التي وضعها الله بأنها زانية كاذبة ومضطهدة للقديسين. وهذه، على ما أعتقد، هي المرأة التي نجد تصويراً لها هنا، آتية من الخارج إلى المسيحية، معترفة بأنها تعلّم الحق الذي أعلنه الله لشعبه. فكروا في تحريف الحق الواسع الانتشار. فمثلاً، أخبر يسوع تلاميذه أن يذهبوا إلى كل العالم وأن يعمدوا المؤمنين من كل الأمم. سرعان ما صار يُقال لهذا الطقس ببساطة أنه ينتج الولادة الجديدة، وتم نشر التعليم بأنه بالمعمودية فقط يمكنننا أن نضمن الخلاص. لقد أسس يسوع الطقس الثمين لعشاء الرب، لكي يتذكروه دائماً إلى أن يأتي ثانية. ولكن سرعان ما انتشر التعليم بين الناس بأن الخبز والخمر كانا يتحولان إلى نفس جسد ودم المسيح ويُقدم ذبيحة عن خطايا الأحياء والأموات. ذلك الذي عُني به أن يكون شهادة جميلة على عمل المسيح المُنجز جُعل بشكل يهدف إلى العكس. هناك آلاف مؤلفة من الناس الذين تعلّموا أن يذهبوا إلى مريم بدلاً من المسيح، ويُصلّوا إلى مريم والرسل وباقي القديسين الذين جاؤوا بعدهم، وكأن القديسين في السماء يمكن أن يسمعوا. ليس من مكان يخبرنا فيه الكتاب المقدس أن القديسين يمكن أن يسمعوا صلواتنا. الله، المُعلن في المسيح، هو الوحيد الذي يعرف قلوبنا، وهو يستطيع أن يسمع صرخات وصلوات شفاهنا. "يُوجَدُ وَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ". وصلتني صورة الأسبوع الماضي هذا، أرسلها لي أحدهم، أفترض أنه كان يرغب في تنويري. لقد كانت الصورة تمثل سُلُّمان يقودان إلى السماء. في قمة الأول بدا ما هو إشارة إلى صورة المسيح، وفي قمة الآخر، كانت صورة مريم، أمه. وفي أسفل سلّم مريم كان هناك مجموعة من الكهنة والرهبان يحثّون الناس على صعود السلم إليها لجل الخلاص. وكل هؤلاء قُوبلوا بترحيب بهيج. أولئك الذين أصروا على اتخاذ السلّم الآخر قابلوا، في قمة السلّم، المسيح عابساً بارداً وصارماً وبلا رحمة. تظهر الصورة بعض الناس يصعدون ذلك اسلّم وبعد أن يصلوا إلى منتصفه يسقطون عنه. ولكن مريم كانت مصورة على أنها مباركة بوجه لطيف محبب، تنظر إلى الأسفل في حنو إلى أولئك الناس وهم يصعدون إلى السماء. لقد كانوا يشقون طريقهم إلى السماء عبر مريم في حين أنهم ما كانوا يستطيعون فعل ذلك عبر المسيح. هذه الصورة توضح ما أقصده بإقحام خمير الخطأ في الطعام. فكّروا في ربّنا المبارك عندما قال: "تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ". هل هو بارد صارم وغير مبالٍ؟ وهل أمه، مريم، هي الحانية المحبّة والمستعدة لمساعدة الخطأة؟ يا لها من صورة زائفة عن الإنجيل! قال يسوع وهو ينظر إلى الأمام أن ذلك "يُشْبِهُ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا امْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاَثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ حَتَّى اخْتَمَرَ الْجَمِيعُ". كم نحن شاكرون لأننا نستطيع أن نرجع وأن نختبر كل شيء من خلال هذا الكتاب المقدس، وأن نبتهج اليوم بأننا نعرف المسيح على أنه هو الذي نزل من مجده وأنجز العمل الذي يخلّصنا، وليعطي يقين الحياة الأبدية لكل من يؤمن به.