الخطاب ٣٦

رسالة السبعين

"١وَبَعْدَ ذَلِكَ عَيَّنَ الرَّبُّ سَبْعِينَ آخَرِينَ أَيْضاً وَأَرْسَلَهُمُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ أَمَامَ وَجْهِهِ إِلَى كُلِّ مَدِينَةٍ وَمَوْضِعٍ حَيْثُ كَانَ هُوَ مُزْمِعاً أَنْ يَأْتِيَ. ٢فَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّ الْحَصَادَ كَثِيرٌ وَلَكِنَّ الْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ. فَاطْلُبُوا مِنْ رَبِّ الْحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ فَعَلَةً إِلَى حَصَادِهِ. ٣اِذْهَبُوا. هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ مِثْلَ حُمْلاَنٍ بَيْنَ ذِئَابٍ. ٤لاَ تَحْمِلُوا كِيساً وَلاَ مِزْوَداً وَلاَ أَحْذِيَةً وَلاَ تُسَلِّمُوا عَلَى أَحَدٍ فِي الطَّرِيقِ. ٥وَأَيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَقُولُوا أَوَّلاً: سَلاَمٌ لِهَذَا الْبَيْتِ. ٦فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ ابْنُ السَّلاَمِ يَحِلُّ سَلاَمُكُمْ عَلَيْهِ وَإِلاَّ فَيَرْجِعُ إِلَيْكُمْ. ٧وَأَقِيمُوا فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ آكِلِينَ وَشَارِبِينَ مِمَّا عِنْدَهُمْ لأَنَّ الْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ أُجْرَتَهُ. لاَ تَنْتَقِلُوا مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ. ٨وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَقَبِلُوكُمْ فَكُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ لَكُمْ ٩وَﭐشْفُوا الْمَرْضَى الَّذِينَ فِيهَا وَقُولُوا لَهُمْ: قَدِ اقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ ١٠وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَلَمْ يَقْبَلُوكُمْ فَاخْرُجُوا إِلَى شَوَارِعِهَا وَقُولُوا: ١١حَتَّى الْغُبَارُ الَّذِي لَصِقَ بِنَا مِنْ مَدِينَتِكُمْ نَنْفُضُهُ لَكُمْ. وَلَكِنِ اعْلَمُوا هَذَا أَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ. ١٢وَأَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَكُونُ لِسَدُومَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ الْمَدِينَةِ. ١٣«وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ! وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا! لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي صُورَ وَصَيْدَاءَ الْقُوَّاتُ الْمَصْنُوعَةُ فِيكُمَا لَتَابَتَا قَدِيماً جَالِسَتَيْنِ فِي الْمُسُوحِ وَالرَّمَادِ. ١٤وَلَكِنَّ صُورَ وَصَيْدَاءَ يَكُونُ لَهُمَا فِي الدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً مِمَّا لَكُمَا. ١٥وَأَنْتِ يَا كَفْرَنَاحُومُ الْمُرْتَفِعَةُ إِلَى السَّمَاءِ سَتُهْبَطِينَ إِلَى الْهَاوِيَةِ. ١٦اَلَّذِي يَسْمَعُ مِنْكُمْ يَسْمَعُ مِنِّي وَالَّذِي يُرْذِلُكُمْ يُرْذِلُنِي وَالَّذِي يُرْذِلُنِي يُرْذِلُ الَّذِي أَرْسَلَنِي». ١٧فَرَجَعَ السَّبْعُونَ بِفَرَحٍ قَائِلِينَ: «يَا رَبُّ حَتَّى الشَّيَاطِينُ تَخْضَعُ لَنَا بِاسْمِكَ». ١٨فَقَالَ لَهُمْ: «رَأَيْتُ الشَّيْطَانَ سَاقِطاً مِثْلَ الْبَرْقِ مِنَ السَّمَاءِ. ١٩هَا أَنَا أُعْطِيكُمْ سُلْطَاناً لِتَدُوسُوا الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةِ الْعَدُّوِ وَلاَ يَضُرُّكُمْ شَيْءٌ. ٢٠وَلَكِنْ لاَ تَفْرَحُوا بِهَذَا أَنَّ الأَرْوَاحَ تَخْضَعُ لَكُمْ بَلِ افْرَحُوا بِالْحَرِيِّ أَنَّ أَسْمَاءَكُمْ كُتِبَتْ فِي السَّمَاوَاتِ»" (لوقا ١٠: ١- ٢٠).

يجب أن نميز حقيقة أننا في هذا المقطع بأكمله نتعامل مع الدهر التدبيري السابق، ولا يمكننا أن نطبق كل ما في ذلك الدهر التدبيري على دهر النعمة الحالي. ومع ذلك  فإن هناك دروساً مهمة هنا يمكن أن نستمد منها المعونة والتعليم ونحن نسعى اليوم لنعمل مشيئة الله.

لقد لاحظنا للتو كيف أن الرب فوّض الاثني عشر رسولاً وأرسلهم إلى مدن الجليل. والآن نقرأ أنه عين سبعين آخرين. هؤلاء لم يكن لديهم التفويض الرسمي كما الاثني عشر. المهمة التي كُلّفوا بها كانت لفترة محصورة من الزمن، وهي الفترة التي سيتم فيها الانتقال من مدينة إلى أخرى قبل أن يُرفض الرب نهائياً من قِبل شعب الجليل. لقد أرسلهم اثنين اثنين، لأنه كان يعرف كم كانوا في الشركة مع بعضهم البعض. الكارز في سفر الجامعة يخبرنا أن اثنين أفضل من واحد، لأنه إن سقط أحدهم فإن الآخر يمكن أن يرفعه؛ ولذا فيبدو وكأنه ترتيب إلهي عموماًَ أن يعمل خدام المسيح كل اثنين أو أكثر معاً. الشخص بمفرده قد يتخبط وقد يتثبّط، بينما الاثنان يمكن أن يتحادثا معاً ويواسي كل منهما الآخر ويشجّعه.

إذ فكر الرب ملياً في الجموع الذين كانوا كخراف لا راعي لها، والذين رغب إلى تلاميذه أن يذهبوا إليهم حاملين رسالة الملكوت، وترك لديهم الانطباع بالحاجة قائلاً: "إِنَّ الْحَصَادَ كَثِيرٌ، وَلكِنَّ الْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ". وطلب منهم أن يصلّوا إلى رَبِّ الْحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ فَعَلَةً إِلَى حَصَادِهِ. في مناسبة أخرى، عندما جلس عند بئر يعقوب، عندما أعلن نفسه لتلك المرأة البائسة المحتاجة التي كانت قد جاءت لتستقي الماء، التفت إلى تلاميذه وقال لهم: "أَمَا تَقُولُونَ إِنَّهُ يَكُونُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَأْتِي الْحَصَادُ؟ هَا أَنَا أَقُولُ لَكُمُ: ارْفَعُوا أَعْيُنَكُمْ وَانْظُرُوا الْحُقُولَ إِنَّهَا قَدِ ابْيَضَّتْ لِلْحَصَادِ". حقل الحصاد الكبير ذاك كان يتكون من الجموع الذين لم يعرفوه بعد مخلّصاً، ومسيا، وربّاً. ولا يزال الأمر يصح، رغم أننا نعيش في دهر تدبيري مختلف، أن هناك جموع كبيرة جداً، ليس فقط في بلادنا بل في كل أرجاء العالم، يحتاجون إلى المسيح وينتظرون رسل الرب لأن يذهبوا إليهم بالحقيقة الثمينة عن الإنجيل. ولذلك فيمكننا أن نطبّق كلمات الرب على هذا الزمان الحاضر كما كان الحال على الزمان الماضي. لا يزال الرب يطلب منا أن نصلّي لكي يرسل الله فعلة لتجمع الحصاد الذي ينتظر من يجمعه.

في الآيات ٣- ٧ لدينا التكليف المباشر المعطى للتلاميذ، قال الرب يسوع: "اِذْهَبُوا! هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ مِثْلَ حُمْلاَنٍ بَيْنَ ذِئَابٍ". كان يجب عليهم أن يذهبوا في إتكالية بسيطة عليه، واثقين بقوة الله وقدرته على أن يؤازرهم، وكان عليهم ألا يقابلوا المعاملة السيئة بالمثل مهما كلّف الأمر إذا ما أُسيئت معاملتهم. وما كان ينبغي عليهم أن يحملوا زاداً للرحلة الطويلة، لن مهمتهم الإرسالية ستنتهي خلال زمن قصير جداً؛ ولذلك أضاف: "لاَ تَحْمِلُوا كِيسًا وَلاَ مِزْوَدًا وَلاَ أَحْذِيَةً، وَلاَ تُسَلِّمُوا عَلَى أَحَدٍ فِي الطَّرِيقِ". إنها حماقة أن تأخذ هذه الكلمات من سياقها وأن تفرضها على خدام المسيح اليوم. السبعون أُرسلوا إلى شعب إسرائيل؛ وكانوا هم أنفسهم من بني إسرائيل، وكان الشعب ينتظر إعلان الملكوت، وهؤلاء التلاميذ كان عليهم أن ينطلقوا ويعلنوا أن الملكوت قريب. كان لديهم الحق بان يتلقوا الطعام والمنامة والتقدير من هؤلاء الذين يحملون إليهم الرسالة. بسبب قصر الوقت كان عليهم أن يسرعوا في طريقهم، وألا يتوقفوا منشغلين بالتحيات الشرقية المطولة الحافلة بالأعراف المألوفة. ما كانوا في حاجة إلى مبلغ كبير من المال، أو إلى أحذية إضافية، أو إلى ثياب، لأن الظروف التي وُجدوا فيها ما كانت تتطلب هكذا تدبير احتياطي. وفي هذا نرى كم كانت الظروف مختلفة التي وُضعوا فيها عن تلك الظروف التي يعيشها المُرسَل العادي للصليب اليوم.

كان للسبعين الحق بأن يُستقبلوا من قِبل إخوتهم اليهود إذ أنهم ذهبوا إليهم ليعلنوا حضور الملك بينهم. قال لهم الرب: "أَيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَقُولُوا أَوَّلاً: سَلاَمٌ لِهذَا الْبَيْتِ. فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ ابْنُ السَّلاَمِ يَحُلُّ سَلاَمُكُمْ عَلَيْهِ، وَإِّلاَّ فَيَرْجعُ إِلَيْكُمْ". لقد انطلقوا لإعلان مجيء رئيس السلام، وتحيتهم كنت بحسب هذا. إن كان صاحب البيت هو ابن سلام بالفعل، فإنه سيُسر بأن يرحب برسل الرب. في تلك الحالة لهم أن يبقوا في ذلك البيت خلال البيت الذي يكرزون به لتلك المدينة أو القرية المعينة. ولكن إن كان ابن السلام لا يقطن هناك، أي إن لم يكن أحد من ذلك البيت مستعداً أن يدرك رسالة الرب، وأن يُرحب برسله بناءً على ذلك، فإن سلامهم يرجع إليهم، وصاحب البيت سيفقد فرصته التي كانت متاحة له. يا للأسف عندما جاء المسيح إلى بيت إسرائيل لم يكن ابن السلام هناك، ولذلك نقرأ أن: "إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ".

لم يخرج هؤلاء الرسل في رحلة ترفيهية لأجل المتعة، ولذلك فقد تم تحذيرهم ضد كل ما سيبدو أنه من الأنانية أو من اهتمام بالملذات الشخصية. كان عليهم أن يبقوا في ذلك البيت، يأكلون ويشربون مما يقدم لهم، مدركين حقيقة أن العامل يستحق أجره. لقد كانوا عمّال في حقل الرب الكبير؛ وكان على شعبه أن يستقبلوا هؤلاء ويزودوهم بكل ما يحتاجون إليه. ما كان على الرسل أن يتسكعوا من بيت إلى بيت، طالبين ضيافة أفضل. كان لديهم الحق بأن يقتبلهم الناس كممثلين عن الملك، ولذلك ما كان لهم ليشعروا بالخزي إذا ما قبلوا كل ما يُقدم لهم؛ ولكن كان عليهم ألا ينغمسوا في الملذات.

خلال هذا الدهر الحاضر من النعمة، خدام المسيح ليس لهم حق أو مبرر ليتوقعوا من العالم أن يستقبلوهم في منازلهم أو أن يقدموا لهم أي شيء؛ ولذلك فإن هذا النص الكتابي، بمعناه الكامل، لا يمكن أن ينطبق على اليوم الحاضر. نقرأ في رسالة يوحنا الثالثة عن إخوة مسافرين، ومن الواضح أنهم كانوا خداماً للكلمة، الذين انطلقوا من أجل اسم الرب يسوع، وما كناو يأخذون شيئاً من الأمميين. الرسول بولس رفض أن يأخذ دعمه بالطريقة التي يقدمها العالم الوثني. بل إنه كان يفضل أن يعمل بيديه لكي يؤمن حاجاته لنفسه بشكل ملائم له ولأولئك الذين كانوا معه. كانت الظروف مختلفة عندما كان ربنا على الأرض ويخدم الخراف الضالة من بيت إسرائيل. ما كان ينبغي على ممثليه أن يحاولوا أن يفرضوا شيئاً أو يستغلوا الناس عندما يقبلون ضيافتهم. لقد كانوا يعرفون أن الناس بهذه الطريقة كانوا يتجاوبون مع رسالة الملكوت، ولذلك فعندما كان يُفتح لهم أي بيت كان يجب عليهم أن يدخلوا إليه وأن يقبلوا بامتنان ما يُقدم لهم. لقد كان واجب التلاميذ أن يركزوا على نعمة الملك. أعطاهم الرب قوة خاصة ليعملوا المعجزات باسمه. رسالتهم كانت دائماً وأبداً هي: "قَدِ اقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ".

كان أنبياء العهد القديم قد تكلموا عن هذا الملكوت الآتي. وكانوا قد أخبروا عن ذاك الذي سيملك في البر، ولسنين كان شعب إسرائيل ينتظر تجلّي هذا الملك. والآن صار الملك في وسطهم، وكان هناك قلة فقط من الذين عرفوه. يستطيع المرء أن يتخيل هؤلاء الرسل ينطلقون من مكان إلى آخر يخدمون المحتاجين من الناس، ويعلنون أن: "قَدِ اقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ"، بينما كان الناس يتجمهرون حولهم. "لقد ظهر المسيح لتوه وهو يدعوكم لأن تستدعوه. ملكوت الله على وشك أن يتأسس في وسطكم". الغالبية العظمى رفضت الرسالة ورفضوا مزاعم الرب يسوع المسيح وما كانوا ليقبلون أن يملك عليهم. لم يعرفوا أوان افتقارهم، ولذلك كانوا قد خسروا فرصتهم. لأنهم لم يدخلوا إلى بركة الملكوت، جاء وقت نفض فيه الرب الغبار عن قدميه كشهادة عليهم، وقال لهم: "إِنَّ مَلَكُوتَ اللهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لأُمَّةٍ تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ". وللوقت الراهن كان شعب إسرائيل قد تمت تنحيته، ودخل دهر تدبيري جديد كلياً. خلال كل تلك الحقبة أولئك الذين عرفوا المخلّص وأحبوه مدعوون لأن يمثّلوه في العالم. هذا هو الوقت الذي يشكل فيه الله من وسط الأمم شعباً على اسمه. إنه ويعلن السلام ليسوع المسيح، ورغم أن الحروب الدامية قد وسمت كل القرون منذ عاد المسيح إلى السماء، فإن أولئك الذين آمنوا به وجدوا سلاماً دائماً، حتى في وسط المشاكل والصعوبات. لقد تبرهنت لهم حقيقة الكلمة التي تقول: "ذُو الرَّأْيِ الْمُمَكَّنِ تَحْفَظُهُ سَالِماً سَالِماً لأَنَّهُ عَلَيْكَ مُتَوَكِّلٌ". لا يزال الملكوت مستقبلي. لقد مضى الرب إلى أقصى مكان ليؤسس لنفسه ملكوتاً ويعود. حتى يوم رجوعه الثاني، على خدامه أن يكونوا منشغلين بدعوة الناس إلى أن يتصالحوا مع الله.

يتناول هذا المقطع الكتابي أمامنا زمناً مهماً جداً من تاريخ إسرائيل. لقد كان زمن محنة.كان كل شيء يعتمد على موقف الشعب نحو ربنا يسوع. هل سيقبلونه؟ إن لم يفعلوا ذلك، فلا بد أنهم سيبقون في خطاياهم، وسوف لن يدخلوا أبداً الملكوت الذي كانوا ينتظرونه. لقد كان هناك قلة نسبياً ممن فتحوا قلوبهم وبيوتهم للرسل ورسالتهم، ولكن لهؤلاء جاءت البركة. أما بالنسبة للبقية، فقد تُركوا في خطاياهم. غبار مدنهم نفسه كان شاهداً عليهم. ومع ذلك تبقى الحقيقة بأن ملكوت الله قد اقترب منهم.

في الآيات القليلة التالية نسمع الرب يعلن الدينونات التي كانت ستأتي على المدن التي صنع فيها الكثير من أعماله المقتدرة، والذين نالوا أفضل الفرص لكي يعرفوه، ومع ذلك فقد رفضوه، وعن كل هؤلاء يقول: "أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَكُونُ لِسَدُومَ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ الْمَدِينَةِ". من حيث كان يقف كان يمكنه أن يرى على الأرجح مدن كُورَزِين وبَيْت صَيْدَا؛ وإذ نظر إليهما، قال: "وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ! وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا! لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي صُورَ وَصَيْدَاءَ الْقُوَّاتُ الْمَصْنُوعَةُ فِيكُمَا، لَتَابَتَا قَدِيمًا جَالِسَتَيْنِ فِي الْمُسُوحِ وَالرَّمَادِ". هذه المدن، المدن التي قد بُوركت بحضور الرب الشخصي، والذي رأى شعبها وجه الرب، وسمعوا كلماته الرائعة التي خرجت من شفتيه، وعاينوا أعمال اقتداره؛ مع ذلك تنحوا عنه ببرود وحتى رفضوا بازدراء أن يعترفوا به ملكاً ورباً. اليوم كُورَزِينُ هي مجرد آثار، ولم يُعرف مكانها أو يُكتشف حتى وقت آخر في الآونة الأخيرة. أتذكر عندما كنا نسافر في الجليل لاحظت بعض الآثار على أحد جوانب الطريق ونحن نقود السيارة متجهين نحو السامرة، وإذ التفت إلى مرشدنا، قلت له: "أرى آثار مدينتي هناك، هل تعرف أي مدينة هي؟" لقد كان عربياً. وقال لي: "تلك المدينة التي تُدعى كُورَزِينُ في كتابكم المقدس". كان ذلك هو كل ما بقي منها، بسبب إخفاق شعبها في قبول الملك عندما جاء بينهم في نعمة متواضعة. لا تزال بَيْتَ صَيْدَا باقية، ولكنها قرية صيدٍ صغيرةٍ بائسة على ضفة بحر الجليل. قيل لي أنه بالكاد يمكنك أن تجد مسيحياً هناك.

كان قد أُطلق على كفرناحوم اسم مدينة الرب، لأنه هناك جعل مقامه عندما كان في الجليل بعد أن غادر الناصرة. بالتأكيد فإن الشعب هناك، الذين كانت لديهم الفرصة بأن يتعرفوا عليه جيداً، كانوا سيرحبون به، ولكن للأسف لم يفعلوا. فقال حزيناً: "وَأَنْتِ يَا كَفْرَنَاحُومَ الْمُرْتَفِعَةُ إِلَى السَّمَاءِ! سَتُهْبَطِينَ إِلَى الْهَاوِيَةِ". كفرناحوم هي المدينة التي ألقى فيها لرب بعضاً من أعظم خطاباته. العظة على الجبل على الأرجح كانت على النجد الذي يقع خلف تلك المدينة. وهناك وجد متى العشار، ودعاه لأن يترك مهنة جمع الضرائب ليصبح أحد رسله. وهناك أعاد العافية إلى حماة بطرس عندما كانت مريضة من الحمى؛ وهناك أقام ابنة يايرس، وشفى المرأة المسكينة التي قالت: "إن لمستُ هُدْبَ ثَوْبِهِ فسوف أشفى". وعجائب كثيرة صنعها في تلك المدينة، ومع ذلك فقد رفضه أهلها؛ وهكذا ورغم ارتفاعها إلى السماء بالامتيازات، إلا أنها ستهبط إلى الحاوية، أي إلى الجحيم، العالم غير المنظور. ولذلك فإن هذه النبوءات تحققت بالكامل حتى أنه لم يعرف أحد موقع مدينة كفرناحوم على مدى ١٥٠٠ سنة. ففي زماننا فقط تم اكتشافها. خلال كل تلك القرون الطويلة كانت مغطاة برمال الصحراء، وكان المسافرون يمرون بها لا يرون سوى رابية قليلة الارتفاع. ولكن خلال الحرب العالمية الأولى، تم اعتقال جماعة من الرهبان الأملان في ديرهم على سفح تلك التلة، وهؤلاء بدأوا بالحفر، وشيئاً فشيئاً كشفوا آثار كفرناحوم. وهذا ينطبق على المدن كما على الأفراد؛ الدينونة تأتي إن رفضوا بازدراء الرحمة المقدمة لهم. إنه أمر فظيع أن تسخر بالحقائق الروحية. "لاَ تَضِلُّوا! اللهُ لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضاً". هذه الكلمات صحيحة وتنطبق على المدن وعلى الأمم كما أيضاً على الأفراد.

أن ترفض قبول شهادة أحد الذين يحملون رسالة المسيح هو بمثابة رفض له شخصياً. "اَلَّذِي يَسْمَعُ مِنْكُمْ يَسْمَعُ مِنِّي، وَالَّذِي يُرْذِلُكُمْ يُرْذِلُنِي، وَالَّذِي يُرْذِلُنِي يُرْذِلُ الَّذِي أَرْسَلَنِي". يجب أن ندرك أن الاستماع إلى أحد خدّام الله وهو يقرأ كلمة الله هو كأنك تستمع إلى ربنا المبارك نفسه. فأي مسؤولية تقع على عاتقنا وتتطلب منا أن ننتبه إلى ما نسمع وكيف نسمع!

في الآيات ١٧- ٢٠ نقرأ عن عودة السبعين بعد أن حققوا مهمتهم الإرسالية. من الواضح أنهم اختبروا فترة زمنية رائعة رغم لا مبالاة كثيرين بهم وبرسالتهم، لأنهم رجعوا إلى الرب بفرح وهم يقولون: "يَارَبُّ، حَتَّى الشَّيَاطِينُ تَخْضَعُ لَنَا بِاسْمِكَ". لقد رأى أنهم كانوا مأخوذين جداً بما أنجزوه- وهناك دائماً خطر يتعرض له أولئك الذين يكرزون بالكلمة أن يأخذوا الكثير من الفضل لأنفسهم من حيث أي نتائج يحصلون عليها- ولكن بينما كان هؤلاء التلاميذ يتكلمون عن إخضاع الأرواح الشريرة، كان يسوع يتطلع بالروح إلى الساعة التي سيُطرد بها إبليس نهائياً من السماوات، فقال: "رَأَيْتُ الشَّيْطَانَ سَاقِطًا مِثْلَ الْبَرْقِ مِنَ السَّمَاءِ". ثم يضيف قائلاً: "هَا أَنَا أُعْطِيكُمْ سُلْطَانًا لِتَدُوسُوا الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةِ الْعَدُوِّ، وَلاَ يَضُرُّكُمْ شَيْءٌ". لقد قصد يسوع بذلك أن تؤخذ هذه الكلمات حرفياً والدليل على ذلك هو ما نقرأه في سفر أعمال الرسل، عندما أُلقي الرسول بولس على جزيرة مالطا. فهو ورفقاؤه أشعلوا ناراً لكي يتدفأوا، فَخَرَجَتْ مِنَ الْحَرَارَةِ أَفْعَى وَنَشِبَتْ فِي يَدِ بولس. فَنَفَضَ الْوَحْشَ إِلَى النَّارِ وَلَمْ يَتَضَرَّرْ بِشَيْءٍ رَدِيّ بفضل قوة الله التي تحفظ خاصّته عندما يسلكون فعلياً في إرادته. بالطبع هذا أمر مختلف عن التعامل المتعمد مع الأفاعي السامة كما فعل بعض المتعصبين في أيامنا لكي يظهروا إيمانهم.

هناك أمر أكثر بركة، من عمل المعجزات. وذلك هو معرفة أن يكون الإنسان باراً أمام الله. أخبر الرب يسوع أولئك التلاميذ المليئين بالحيوية والحماس ألا يبتهجوا فقط لأن الأرواح الشريرة كانت تخضع لهم، بل بالحري يبتهجوا لأن أسماؤهم كانت مكتوبة في السماوات. وهذا حقيقي ويصح على كل من آمنوا بالمسيح. فك هؤلاء مكتوبة أسماؤهم في سفر الحياة للحمل وهذه الأسماء سوف لن تُمحى بل ستبقى إلى أبد الآبدين.