الخطاب ٧٧

المسيح يُصلب والحجاب يُشق

"٤٤وَكَانَ نَحْوُ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ فَكَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى الأَرْضِ كُلِّهَا إِلَى السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ. ٤٥وَأَظْلَمَتِ الشَّمْسُ وَانْشَقَّ حِجَابُ الْهَيْكَلِ مِنْ وَسَطِهِ. ٤٦وَنَادَى يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَ: «يَا أَبَتَاهُ فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي». وَلَمَّا قَالَ هَذَا أَسْلَمَ الرُّوحَ. ٤٧فَلَمَّا رَأَى قَائِدُ الْمِئَةِ مَا كَانَ مَجَّدَ اللهَ قَائِلاً: «بِالْحَقِيقَةِ كَانَ هَذَا الإِنْسَانُ بَارّاً!» ٤٨وَكُلُّ الْجُمُوعِ الَّذِينَ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ لِهَذَا الْمَنْظَرِ لَمَّا أَبْصَرُوا مَا كَانَ رَجَعُوا وَهُمْ يَقْرَعُونَ صُدُورَهُمْ. ٤٩وَكَانَ جَمِيعُ مَعَارِفِهِ وَنِسَاءٌ كُنَّ قَدْ تَبِعْنَهُ مِنَ الْجَلِيلِ وَاقِفِينَ مِنْ بَعِيدٍ يَنْظُرُونَ ذَلِكَ. ٥٠وَإِذَا رَجُلٌ اسْمُهُ يُوسُفُ وَكَانَ مُشِيراً وَرَجُلاً صَالِحاً بَارّاً- ٥١هَذَا لَمْ يَكُنْ مُوافِقاً لِرَأْيِهِمْ وَعَمَلِهِمْ وَهُوَ مِنَ الرَّامَةِ مَدِينَةٍ لِلْيَهُودِ. وَكَانَ هُوَ أَيْضاً يَنْتَظِرُ مَلَكُوتَ اللهِ. ٥٢هَذَا تَقَدَّمَ إِلَى بِيلاَطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ ٥٣وَأَنْزَلَهُ وَلَفَّهُ بِكَتَّانٍ وَوَضَعَهُ فِي قَبْرٍ مَنْحُوتٍ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ وُضِعَ قَطُّ. ٥٤وَكَانَ يَوْمُ الاِسْتِعْدَادِ وَالسَّبْتُ يَلُوحُ. ٥٥وَتَبِعَتْهُ نِسَاءٌ كُنَّ قَدْ أَتَيْنَ مَعَهُ مِنَ الْجَلِيلِ وَنَظَرْنَ الْقَبْرَ وَكَيْفَ وُضِعَ جَسَدُهُ. ٥٦فَرَجَعْنَ وَأَعْدَدْنَ حَنُوطاً وَأَطْيَاباً. وَفِي السَّبْتِ اسْتَرَحْنَ حَسَبَ الْوَصِيَّةِ" (لوقا ٢٣: ٤٤- ٥٦).

من تتبعوا بعناية الروايات المختلفة عن موت ربنا يسوع المسيح يعرفون أن هناك تفاصيل معينة تكون محذوفة في إنجيل ولكن نجدها في الأناجيل الأخرى، ولكنها جميعاً هي في توافق تام. لا بد أنكم لاحظتم أن ربنا المبارك قد بقي معلّقاً على الصليب في الجلجثة لمدة ست ساعات فظيعة. لقد سُمّر إلى الصليب في الساعة الثالثة: وهذه هي التي ندعوها الساعة التاسعة صباحاً؛ وأُنزل عن الصليب بعد الساعة التاسعة: أي، بعد الساعة الثالثة بعد الظهر. خلال تلك الساعات الثلاث الأولى كانت الشمس مشرقة؛ كل الطبيعة بدت لامعة، وكأنها لا مبالية على الإطلاق بما كان يجري: خالق كل الأشياء كان يُحتضر على صليب العار؛ مرفوضاً من قِبل أولئك الذين ليس فقط أتى بهم إلى الوجود بل أيضاً جاء لأجل مباركتهم وخلاصهم. في الساعة السادسة- وهي تعادل الساعة الثانية عشر ظهراً- انكسفت الشمس من السماء. لم يكن ذلك كسوفاً. لقد كان زمن الفصح، وكان يستحيل أن يحدث كسوف أو خسوف في وقت يكون فيه القمر بدراً. لقد كانت ظلمة فائقة الطبيعة انتشرت في كل أرجاء الأرض، وليس فقط فوق أرض اليهودية، بل على الأرجح، وفي نفس الوقت، في كل أرجاء العالم المعروف. يخبرنا المسيحيون الأوائل (ولا أدري إن كانوا يستندون في ذلك إلى أساس موثوق أم لا، مع أنه من الممتع أن القصة تنحدر من الأزمنة الأولى) أن فيلسوفاً يونانياً كان يعطي محاضرة في مدينة الإسكندرية في مصر ساعة حلّت الظلمة على الأرض، فوق وسط خطبته وأعلن قائلاً: "إما أن هذا إله يحتضر أو أن الكون آيلٌ إلى الفناء". ذاك الذي كان إلهاً وإنساناً معاً كان يحتضر! لقد كان يحتضر في تلك الساعة الفظيعة لأجل خطايانا. استمرت الظلمة من الساعة السادسة إلى السعاة التاسعة، وبعد أن زالت أحنى الرب رأسه وأسلم الروح.

إنه يفيدنا تعليمياً أن نلاحظ أن يسوع خلال الساعات الثلاث الأولى لم يبدِ أي اهتمام بنفسه. لقد كان في غاية الهدوء، ورغم أنه كان متوجعاً ومتألماً للغاية إلا أنه لم يظهر أي دليل على إشفاقه على ذاته. رَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ المباركة واقفة عند أقدام الصليب، ويوحنا التلميذ الحبيب قريباً منها؛ فقَالَ لأُمِّهِ: "يَا امْرَأَةُ، هُوَذَا ابْنُكِ" ثم قال ليوحنا: "هُوَذَا أُمُّكَ". وأخذها يوحنا بعيداً عن مشهد ألم احتضار ابنها القدوس؛ ونعلم، من مصادر أخرى، أنه اعتنى بها لبقية حياتها هنا على الأرض. ثم نظر الرب إلى الجموع، وهم يجدفون، ويهزأون به ويسخرون منه؛ وأدرك شرّ قلوبهم؛ ومع ذلك فقد فتح لهم مَدِينَةَ مَلْجَأ إليها يلوذون، كما رأينا للتو، عندما صلّى قائلاً: "يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ". لقد سمع مناشدة اللص التائب وضمن له مكاناً في الفردوس. وهكذا لم يظهر خلال تلك الساعات الثلاث الأولى أي اضطراب في الروح، وأي قلق على نفسه، بل فقط اعتباراً حانياً نحو الآخرين.

من الوقت الذي حلّ فيه الظلمة لم يخرج أي صوت من شفاه يسوع، كما يخبرنا الإنجيل، إلى أن قاربت الساعات الثلاث على نهايتها؛ وعندها، كما نعلم من إنجيلين آخرين، صرخ في ألم وحزن عميق قائلاً: "إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟” في تلك الساعات الثلاث الأولى من العتمة كان يتألم على يدي الإنسان: لقد احتمل بدون تذمر كل الخزي والعار الذي أمكن للإنسان أن يلقيه عليه. ولكن خلال الساعات الثلاث الأخيرة من الظلمة كان يتألم على يد الله- الله الذي قدّم نفسه تقدمة عن الخطية. وهناك شرب كأس مرارة الدينونة التي ملأتها خطايانا- الكأس التي انكمش منها واقشعّر في جثسيماني، والتي لو شربناها لما فرغت إلى الأبد. الله "جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ" (٢ كور ٥: ٢١). في الساعات الثلاث الأولى خاطب الله بـ "الآب"، قائلاً: "يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ". ولكن في الساعات الثلاث الأخيرة هذه لم يستخدم كلمة "الآب"، إلى أن حلّ الظلام على الأرض. لقبّه بـ "الله"، قائلاً: "إِلُوِي، إِلُوِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟" اَلَّذِي تَفْسِيرُهُ: "إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟" (مر ١٥: ٣٤). ذلك لأن الله كقاضٍ هو الذي كان هناك يتعامل مع ابنه القدوس لأجلنا إذ أخذ يسوع مكان الخاطئ. نقرأ: "وَأَظْلَمَتِ الشَّمْسُ وَانْشَقَّ حِجَابُ الْهَيْكَلِ مِنْ وَسَطِهِ". يخبرنا أحد النقاد أن لوقا يربط انشقاق الحجاب بالظلمة أكثر منها بموت يسوع، وأنه كان على عجلة كبيرة ليصل إلى ذروة المشهد ويعلن انتصار المسيح لأن الأناجيل الأخرى تدون أن الحجاب قد تمزق بعد أن أسلم يسوع روحه. حسنٌ، لا نلوم لوقا على عجلته لتدوين انشقاق الحجاب؛ ولكن الروح القدس هو الذي كان راغباً في أن يجعلنا نعرف أن الحجاب قد انشق. طوال أزمنة العهد القديم كان الله يقول: "أسْكُنُ فِي الضَّبَابِ". حجاب الهيكل كان يرمز إلى أنه ما من إنسان كان في مقدوره أن يجتاز إلى حضرة الله سوى في حالة دخول رئيس الكهنة في يوم الكفارة، وذلك "بدون دم". ولكن عندما مات المسيح ذبيحة كفارية عن الخطية فُتح الطريق إلى قدس الأقداس. والآن يستطيع الله أن يخرج بمحبة لا عائق أمامها نحو الإنسان، ويستطيع الإنسان أن يدخل إلى حضرة الله مقبولاً في المسيح. الحجاب المشقوق يدل على أن الفداء قد أُكمل. "لَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ ثِقَةٌ بِالدُّخُولِ إِلَى «الأَقْدَاسِ» بِدَمِ يَسُوعَ" (عب ١٠: ١٩). كتب أحد مؤلفي التسابيح لدينا قائلاً:

"من خلال انكسار جسد الثمين-
داخل الحجاب.
أي كلمات تعبّر للخاطئين-
داخل الحجاب.
ثمينٌ كالدم الذي اشترانا؛
كاملٌ كالمحبة التي طلبتنا؛
مقدس كالحمل الذي أحضرنا-
داخل الحجاب.
يا حمل الله، بك ندخل-
داخل الحجاب.
مطهّرين بالدم نتقدم بجرأة-
داخل الحجاب.
لا لطخة فينا، خليقة جديدة؛
فخلاصنا كامل:
فلننحنِ ونركع عابدين-
داخل الحجاب.
سرعان ما يتجمع القديسون-
داخل الحجاب.
كلنا في دارنا- لا أحد مشتّتٌ-
داخل الحجاب.
لن تخيب فيك نفوسنا أبداً؛
سنراك، ولن نحزنك أبداً؛
ونهتف أن: سبّحوا الحمل إلى الأبد-
داخل الحجاب".

وعند تسليم الروح صلّى يسوع، قائلاً: "«يَا أَبَتَاهُ فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي». وَلَمَّا قَالَ هَذَا أَسْلَمَ الرُّوحَ". لقد أسلم روحه. أُنجز العمل، وذهب إلى دياره ليكون مع الآب. ثم يوجه انتباهنا تالياً إلى المشهد أمام الصليب. يخبرنا النص أنه "لَمَّا رَأَى قَائِدُ الْمِئَةِ مَا كَانَ مَجَّدَ اللهَ قَائِلاً: «بِالْحَقِيقَةِ كَانَ هَذَا الإِنْسَانُ بَارّاً!»". لقد كان رومانياً؛ كان مسؤولاً عن الجنود الذين كانوا قائمين على الحراسة هناك؛ لقد سمع ورأى كل ما جرى، وتحرّك قلبه. بحسب الأناجيل الأخرى، فإنه أضاف أيضاً: "حَقًّا كَانَ هذَا ابْنَ اللهِ!". ويخبرنا النص أيضاً أن "كُلّ الْجُمُوعِ الَّذِينَ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ لِهَذَا الْمَنْظَرِ لَمَّا أَبْصَرُوا مَا كَانَ رَجَعُوا وَهُمْ يَقْرَعُونَ صُدُورَهُمْ". حشدٌ كبيرٌ كان قد تجمهر هناك، ليس فقط أعداؤه بل أيضاً أصدقاؤه؛ ولكن هؤلاء الأخيرين كانوا عاجزين عن التدخل وقد وقفوا ينظرون بحزن وأسى. لا بد أن الأمر كان صعباً عليهم أن يصدقوا أن يسوع قد مات فعلاً. لقد كانوا يظنون أنه هو من سيفتدي إسرائيل، ولكن تلاشت آمالهم الآن، واستداروا إلى الخلف وذهبوا إلى بيوتهم حزانى نائحين. كل رفقائه وقفوا بعيداً، ينظرون إلى تلك الأمور. كانوا ينظرون إلى مسيح الرب يموت كمجرم على صليب العار؛ ولكن يا للفرح الذي كان ينتظرهم عندما سيعلمون بقيامته المجيدة!

ستلاحظون أنه طالما كان يسوع واقفاً في مكان الخاطئ سمح الله بكل نوع من العار بأن يحل على ابنه المبارك: لقد تفلوا في وجهه؛ ضربوه براحات أيديهم، الإيماءة الأكثر تحقيراً؛ جلدوه حتى تمزق جسده من ناحية الظهر وسال الدم من كل جرح فيه؛ غرسوا تاجاً من شوكٍ في رأسه؛ وألبسوه رداءً جميلاً وركعوا أمامه ساخرين منه قائلين: "السَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ!". لقد أخرجوه إلى الجلجثة وسمّروه على الصليب؛ وأخيراً طعن أحد الجنود جنبه، ولكن كانت تلك آخر معاملة مهينة سمح الله بها. "الرّمح الذي طعن جنبه أسال الدم الذي يخلّص". بعد ذلك لكأن الله قال: "لقد أسلمتُ ابني إلى أيديكم؛ وأظهرتم كل بغضاء وحقدٍ في قلوبكم بالطريقة التي عاملتموه فيها. والآن ما من يد أخرى نجسة ستلمسه". ومنذ تلك اللحظة وصاعداً لم يلمس أي عدوٍّ ذلك الجسد المقدس.

"وَإِذَا رَجُلٌ اسْمُهُ يُوسُفُ وَكَانَ مُشِيراً وَرَجُلاً صَالِحاً بَارّاً؛ (هَذَا لَمْ يَكُنْ مُوافِقاً لِرَأْيِهِمْ وَعَمَلِهِمْ)؛ وَهُوَ مِنَ الرَّامَةِ مَدِينَةٍ لِلْيَهُودِ. وَكَانَ هُوَ أَيْضاً يَنْتَظِرُ مَلَكُوتَ اللهِ. هَذَا تَقَدَّمَ إِلَى بِيلاَطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ". أنزل الرجل وخدامه ذلك الجسد بكل وقار عن الصليب، وغسلوه من لطخات الدم، ولفوا الجسد بالكتّان، وحملوه إلى قبر يوسف الجديد وتركوه هناك، وفي نيتهم، بعد أن ينقضي السبت، أن يُطيّبوه بحسب عادات اليهود. "وَتَبِعَتْهُ نِسَاءٌ كُنَّ قَدْ أَتَيْنَ مَعَهُ مِنَ الْجَلِيلِ وَنَظَرْنَ الْقَبْرَ وَكَيْفَ وُضِعَ جَسَدُهُ". ثم رَجَعْنَ حزينات، عازمات على العودة وإجراء الطقوس المقدسة الأخيرة بعد يوم السبت. إذ "أَعْدَدْنَ حَنُوطاً وَأَطْيَاباً. وَفِي السَّبْتِ اسْتَرَحْنَ حَسَبَ الْوَصِيَّةِ". المسيح- الذي وُلد من عذراء؛ الذي ترعرع كنبتة طرية غضّة في حديقة الرب، وانطلقن ممسوحاً من الرب، يشفي المرضى، ويمنح البصر للعميان، ويعلن إنجيل الملكوت- قد مات أخيراً على الصليب عن الخطأة؛ والآن يرقد جسده في القبر، وما من أحد على الأرض عرف إذا ما كان الفداء حقيقة قد أُكملت أم لا. لو لم يخرج من ذلك القبر لما كان هناك دليل على أن مسألة الخطيئة قد سُوّيت. ولكن جسده المقام كان الدليل على كفاية وفعالية عمله. والآن، لنشكرنَّ الله، فهو "يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ أَيْضاً إِلَى التَّمَامِ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ بِهِ إِلَى اللهِ، إِذْ هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ" (عب ٧: ٢٥).