الخطاب ٧٢

الكرب في جثسيماني

" ٣٩ وَخَرَجَ وَمَضَى كَالْعَادَةِ إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ وَتَبِعَهُ أَيْضاً تَلاَمِيذُهُ. ٤٠وَلَمَّا صَارَ إِلَى الْمَكَانِ قَالَ لَهُمْ: «صَلُّوا لِكَيْ لاَ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ». ٤١وَﭐنْفَصَلَ عَنْهُمْ نَحْوَ رَمْيَةِ حَجَرٍ وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَلَّى ٤٢قَائِلاً: «يَا أَبَتَاهُ إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ. وَلَكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ». ٤٣وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّيهِ. ٤٤وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ. ٤٥ثُمَّ قَامَ مِنَ الصَّلاَةِ وَجَاءَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ فَوَجَدَهُمْ نِيَاماً مِنَ الْحُزْنِ. ٤٦فَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا أَنْتُمْ نِيَامٌ؟ قُومُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ». ٤٧وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا جَمْعٌ وَالَّذِي يُدْعَى يَهُوذَا - أَحَدُ الاِثْنَيْ عَشَرَ - يَتَقَدَّمُهُمْ فَدَنَا مِنْ يَسُوعَ لِيُقَبِّلَهُ. ٤٨فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «يَا يَهُوذَا أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابْنَ الإِنْسَانِ؟» ٤٩فَلَمَّا رَأَى الَّذِينَ حَوْلَهُ مَا يَكُونُ قَالُوا: «يَا رَبُّ أَنَضْرِبُ بِالسَّيْفِ؟» ٥٠وَضَرَبَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَبْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ فَقَطَعَ أُذْنَهُ الْيُمْنَى. ٥١فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: «دَعُوا إِلَى هَذَا!» وَلَمَسَ أُذْنَهُ وَأَبْرَأَهَا. ٥٢ثُمَّ قَالَ يَسُوعُ لِرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَقُوَّادِ جُنْدِ الْهَيْكَلِ وَالشُّيُوخِ الْمُقْبِلِينَ عَلَيْهِ: «كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ! ٥٣إِذْ كُنْتُ مَعَكُمْ كُلَّ يَوْمٍ فِي الْهَيْكَلِ لَمْ تَمُدُّوا عَلَيَّ الأَيَادِيَ. وَلَكِنَّ هَذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلْطَانُ الظُّلْمَةِ» " (لوقا ٢٢: ٣٩- ٥٣).

تاركاً العلّية، مضى الرب مع تلاميذه الإحدى عشر عبر غدير قدرون إلى جبل الزيتون. لقد كانت من عادته، عندما يكون في اليهودية، أن يخلو إلى نفسه من وقت إلى آخر في بستان على سفح هذا الجبل، يُدعى كما نعلم من مكان آخر ببستان جثسيماني. إلى هذا المختلى كان يشق طريقه. لا يذكر لوقا حقيقة أنه ترك ثمانية من أتباعه عند مدخل البستان واكتفى بأخذ بطرس ويعقوب ويوحنا معه وهو يعبر إلى داخل البستان. إذ جاء إلى الموضع الذي كان متعوداً على أن ينخرط في الصلاة أوصاهم قائلاً: "صَلُّوا لِكَيْ لاَ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. وَﭐنْفَصَلَ عَنْهُمْ نَحْوَ رَمْيَةِ حَجَرٍ"، وكان يقول لهم ذلك وهو يتوغل إلى داخل الظلال في بستان الزيتون ذاك.

وهناك خرّ على ركبتيه وراح يصلّي. لقد كان يعاني بشدة من اضطراب روحه. حقيقة أنه كان القدوس بشكل مطلق جعلته يمتلئ بأعمق الحزن وهو يتأمل في المعنى الكامل للصليب. ما كان ليستطيع أن يكون كما هو أو كما كان عليه لو لا تأمله برباطة جأش بفظاعة أن يُجعل خطيئة من أجل عالم آثم. لقد انكمشت كل طبيعته البشرية المقدسة من هذه المحنة الفظيعة. لم يكن يخشى الموت؛ بل صلّى "بِصُرَاخٍ شَدِيدٍ وَدُمُوعٍ.... لِلْقَادِرِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ الْمَوْتِ"، كما يرد في الآية في عبرانيين ٥: ٧. يخبرنا النص هناك أنه "سُمِعَ لَهُ مِنْ أَجْلِ تَقْوَاهُ"، أي من أجل تبجيله لله أبيه.

في محنة نفسه، صلّى قائلاً: "يَا أَبَتَاهُ إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ. وَلَكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ". ما كان ذاك الكأس الذي يخشاه؟ لقد سمعتُ أموراً عديدة كثيرة لا تستحق الذكر قالها أولئك الذين كانوا يحاولون أن يفسروا هذه. اعتقد البعض أنه كان في محنة شديدة حتى أنه خشي أن يفقد عقله وأن يعجز عن أن يذهب إلى الصليب كبديل عن الخطأة طوعياً. ولكن أولئك الذين يتكلمون بهذه الطريقة تعوزهم البصيرة ورؤية حقيقة أنه لم يكن فقط إنساناً بكمال مطلق، بل أيضاً كان الله بكل قدرته. لم يكن الشيطان يستطيع أن يفعل شيئاً حياله سوى برضى الله؛ وليس لدينا أي مكان في الكتاب المقدس يشير إلى أن الشيطان كان يُسمح له بأن يتفوق هكذا على مسيح الله.

علّم آخرون أنه كان يخشى أن يحطّمه خصومه إلى الموت في البستان، وبالتالي يُهزم مخطط الله الذي كان يستدعي أن يُصلب على العود. ولكن هذه النظرية تتجاهل إعلانه الذاتي عندما قال: "لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا (حياته) مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضًا. هذِهِ الْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي" (يو ١٠: ١٨). هذا يتناقض تماماً مع أي افتراض بقدرة الشيطان على أن يهلك يسوع أو يدمره قبل الوقت المحدد المعين.

الكأس الذي كان يخشاه لم يكن الموت على هذا النحو. لقد كان كأس الدينونة الذي ملأته خطايانا. نقرأ في المزمور ٧٥: ٨ أنه: "فِي يَدِ الرَّبِّ كَأْساً وَخَمْرُهَا مُخْتَمِرَةٌ. مَلآنَةٌ شَرَاباً مَمْزُوجاً. وَهُوَ يَسْكُبُ مِنْهَا. لَكِنْ عَكَرُهَا يَمَصُّهُ يَشْرَبُهُ كُلُّ أَشْرَارِ الأَرْضِ". كأس غضب الله هذا ضد الخطيئة كان هو الذي انكمشت إزاءه نفس المخلّص المقدسة. هناك في الحديقة صلّى فيما إذا كان هناك أي طريقة أخرى يمكن بها تسوية مسألة الخطيئة، وهذا ما ظهر. لم تكن هناك معارضة لمشيئة الآب، ولا صراع إرادات. بل كان هناك بالأحرى إذعان كامن لمشيئة الله حتى وإن خشي شرب كأس الدينونة. لقد كان كمال ناسوته متجلياً في تلك الساعة من كرب روحه. لوقا وحده ون سائر الإنجيليين يخبرنا أنه "ظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّيهِ". كم يؤكد هذا على واقعية ناسوته! فهو، خالق الملائكة، الآن كإنسان، يستمد قوة من خدمة أحد هذه الكائنات المجيدة.

"إِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ". كان هناك مغزى كبير في هذا بالنسبة إلى لوقا، الذي ندين له وحده بهذه المعلومات. لقد أظهر شدة الضغط الذي كان يعاني منه ربنا. عندما انتهت المحنة نهض يسوع في هدوء كامل للنفس وجاء إلى تلاميذه، الذين وجدهم "نِيَاماً مِنَ الْحُزْنِ. فَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا أَنْتُمْ نِيَامٌ؟ قُومُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ»". بالنسبة لهم كان الاختبار الأسمى على وشك أن يجري، عندما سيُؤخذ منهم ويُتركون مرتبكين حائرين وخائفين. ما أن تكلم إليهم حتى ظهرت الأنوار، وحشد من الجنود، والكهنة، والمدنيين يقتربون، يقودهم يهوذا الخائن، الذي "دَنَا مِنْ يَسُوعَ لِيُقَبِّلَهُ". كانت هذه الإشارة المرتبة مسبقاً التي ستدل الجنود على من يجب أن يعتقلوا. "قَالَ لَهُ يَسُوعُ: يَا يَهُوذَا أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابْنَ الإِنْسَانِ؟” من الواضح أن الخائن البائس لم يجب، وبدأ الجنود في القبض على يسوع. استيقظ التلاميذ هنا وصرخوا: "يَا رَبُّ أَنَضْرِبُ بِالسَّيْفِ؟” وراح أحدهم- بطرس، كما نعلم من مصادر أخرى- يضرب بسيفه، فقطع الأذن اليمنى لعبد رئيس الكهنة. ولكن يسوع قال: "دَعُوا إِلَى هَذَا!"؛ وشفى الرجل الجريح. حسنة تلك الملاحظة التي أبداها أحدهم: "كم نبقي الرب منشغلاً في إعادة الآذان التي نقطعها في حماسة وغيرة ليست في محلها!".

مخاطباً رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَقُوَّادِ جُنْدِ الْهَيْكَلِ وَالشُّيُوخِ، قال يسوع: "كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ! إِذْ كُنْتُ مَعَكُمْ كُلَّ يَوْمٍ فِي الْهَيْكَلِ لَمْ تَمُدُّوا عَلَيَّ الأَيَادِيَ. وَلَكِنَّ هَذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلْطَانُ الظُّلْمَةِ". لقد كانت مداهمة. لم يجرؤوا على أن يحاولوا القبض عليه بحضور الناس، لأن كثيرين منهم آمنوا بأنه كان نبياً حتى ولو لم يعرفوا أو يعترفوا أنه المسيا الموعود. ولكن في الظلمة وضع هؤلاء الكهنة الجبناء وأتباعهم أيديهم عليه رغم أنه كان قد أسلم نفسه طوعياً إليهم؛ واقتادوه إلى المحاكمة كمجدّف وفتنوي محرّض على التمرد والعصيان. لقد كان هذا تجلٍّ محزن للشر الفائق في قلوب أولئك الكهنة ورؤساء الدين الأتقياء خارجياً ظاهرياً.