الخطاب ٧١

الفصح الأخير وتأسيس عشاء الرب

" ١ وَقَرُبَ عِيدُ الْفَطِيرِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْفِصْحُ. ٢وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ يَطْلُبُونَ كَيْفَ يَقْتُلُونَهُ لأَنَّهُمْ خَافُوا الشَّعْبَ. ٣فَدَخَلَ الشَّيْطَانُ فِي يَهُوذَا الَّذِي يُدْعَى الإِسْخَرْيُوطِيَّ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الاِثْنَيْ عَشَرَ. ٤فَمَضَى وَتَكَلَّمَ مَعَ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَقُوَّادِ الْجُنْدِ كَيْفَ يُسَلِّمُهُ إِلَيْهِمْ. ٥فَفَرِحُوا وَعَاهَدُوهُ أَنْ يُعْطُوهُ فِضَّةً. ٦فَوَاعَدَهُمْ. وَكَانَ يَطْلُبُ فُرْصَةً لِيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ خِلْواً مِنْ جَمْعٍ. ٧وَجَاءَ يَوْمُ الْفَطِيرِ الَّذِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُذْبَحَ فِيهِ الْفِصْحُ. ٨فَأَرْسَلَ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا قَائِلاً: «ﭐذْهَبَا وَأَعِدَّا لَنَا الْفِصْحَ لِنَأْكُلَ». ٩فَقَالاَ لَهُ: «أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نُعِدَّ؟” ١٠فَقَالَ لَهُمَا: «إِذَا دَخَلْتُمَا الْمَدِينَةَ يَسْتَقْبِلُكُمَا إِنْسَانٌ حَامِلٌ جَرَّةَ مَاءٍ. اِتْبَعَاهُ إِلَى الْبَيْتِ حَيْثُ يَدْخُلُ ١١وَقُولاَ لِرَبِّ الْبَيْتِ: يَقُولُ لَكَ الْمُعَلِّمُ: أَيْنَ الْمَنْزِلُ حَيْثُ آكُلُ الْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي؟ ١٢فَذَاكَ يُرِيكُمَا عِلِّيَّةً كَبِيرَةً مَفْرُوشَةً. هُنَاكَ أَعِدَّا». ١٣فَانْطَلَقَا وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَهُمَا فَأَعَدَّا الْفِصْحَ. ١٤وَلَمَّا كَانَتِ السَّاعَةُ اتَّكَأَ وَالاِثْنَا عَشَرَ رَسُولاً مَعَهُ ١٥وَقَالَ لَهُمْ: «شَهْوَةً اشْتَهَيْتُ أَنْ آكُلَ هَذَا الْفِصْحَ مَعَكُمْ قَبْلَ أَنْ أَتَأَلَّمَ ١٦لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ آكُلُ مِنْهُ بَعْدُ حَتَّى يُكْمَلَ فِي مَلَكُوتِ اللهِ». ١٧ثُمَّ تَنَاوَلَ كَأْساً وَشَكَرَ وَقَالَ: «خُذُوا هَذِهِ وَاقْتَسِمُوهَا بَيْنَكُمْ ١٨لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ حَتَّى يَأْتِيَ مَلَكُوتُ اللهِ». ١٩وَأَخَذَ خُبْزاً وَشَكَرَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: «هَذَا هُوَ جَسَدِي الَّذِي يُبْذَلُ عَنْكُمْ. اِصْنَعُوا هَذَا لِذِكْرِي». ٢٠وَكَذَلِكَ الْكَأْسَ أَيْضاً بَعْدَ الْعَشَاءِ قَائِلاً: «هَذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي الَّذِي يُسْفَكُ عَنْكُمْ. ٢١وَلَكِنْ هُوَذَا يَدُ الَّذِي يُسَلِّمُنِي هِيَ مَعِي عَلَى الْمَائِدَةِ. ٢٢وَﭐبْنُ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَحْتُومٌ وَلَكِنْ وَيْلٌ لِذَلِكَ الإِنْسَانِ الَّذِي يُسَلِّمُهُ». ٢٣فَابْتَدَأُوا يَتَسَاءَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ: «مَنْ تَرَى مِنْهُمْ هُوَ الْمُزْمِعُ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا؟” ٢٤وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ أَيْضاً مُشَاجَرَةٌ مَنْ مِنْهُمْ يُظَنُّ أَنَّهُ يَكُونُ أَكْبَرَ. ٢٥فَقَالَ لَهُمْ: «مُلُوكُ الأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ وَالْمُتَسَلِّطُونَ عَلَيْهِمْ يُدْعَوْنَ مُحْسِنِينَ. ٢٦وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَيْسَ هَكَذَا بَلِ الْكَبِيرُ فِيكُمْ لِيَكُنْ كَالأَصْغَرِ وَالْمُتَقَدِّمُ كَالْخَادِمِ. ٢٧لأَنْ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ؟ الَّذِي يَتَّكِئُ أَمِ الَّذِي يَخْدِمُ؟ أَلَيْسَ الَّذِي يَتَّكِئُ؟ وَلَكِنِّي أَنَا بَيْنَكُمْ كَالَّذِي يَخْدِمُ. ٢٨أَنْتُمُ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعِي فِي تَجَارِبِي ٢٩وَأَنَا أَجْعَلُ لَكُمْ كَمَا جَعَلَ لِي أَبِي مَلَكُوتاً ٣٠لِتَأْكُلُوا وَتَشْرَبُوا عَلَى مَائِدَتِي فِي مَلَكُوتِي وَتَجْلِسُوا عَلَى كَرَاسِيَّ تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاِثْنَيْ عَشَرَ». ٣١وَقَالَ الرَّبُّ: «سِمْعَانُ سِمْعَانُ هُوَذَا الشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَالْحِنْطَةِ! ٣٢وَلَكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ. وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ». ٣٣فَقَالَ لَهُ: «يَا رَبُّ إِنِّي مُسْتَعِدٌّ أَنْ أَمْضِيَ مَعَكَ حَتَّى إِلَى السِّجْنِ وَإِلَى الْمَوْتِ». ٣٤فَقَالَ: «أَقُولُ لَكَ يَا بُطْرُسُ لاَ يَصِيحُ الدِّيكُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ تُنْكِرَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَعْرِفُنِي». ٣٥ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «حِينَ أَرْسَلْتُكُمْ بِلاَ كِيسٍ وَلاَ مِزْوَدٍ وَلاَ أَحْذِيَةٍ هَلْ أَعْوَزَكُمْ شَيْءٌ؟» فَقَالُوا: «لاَ». ٣٦فَقَالَ لَهُمْ: «لَكِنِ الآنَ مَنْ لَهُ كِيسٌ فَلْيَأْخُذْهُ وَمِزْوَدٌ كَذَلِكَ. وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَلْيَبِعْ ثَوْبَهُ وَيَشْتَرِ سَيْفاً. ٣٧لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ فِيَّ أَيْضاً هَذَا الْمَكْتُوبُ: وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ. لأَنَّ مَا هُوَ مِنْ جِهَتِي لَهُ انْقِضَاءٌ». ٣٨فَقَالُوا: «يَا رَبُّ هُوَذَا هُنَا سَيْفَانِ». فَقَالَ لَهُمْ: «يَكْفِي!» " (لوقا ٢٢: ١- ٣٨).

نتأمل الآن في هذا المقطع الطويل الذي يتناول خمسة أحداث منفصلة متمايزة: أولاً، خيانة يهوذا؛ ثانياً، الإعداد والاحتفال بعيد الفصح؛ ثالثاً، تأسيس عشاء الرب؛ رابعاً، المكانة التي سيحتلها تلاميذ الرب في الملكوت المستقبلي؛ وأخيراً، تحذير الرب لبطرس.

حمل الفصح كان يُذبح في الليلة التي تحرر فيها بنو إسرائيل من مصر. بالنسبة إلى اليهود كان عيد الفصح هو إحياء ذكرى تلك الحادثة، ولكنه كان أيضاً رمزاً لشيء سيأتي في المستقبل. وجاء الآن اليوم عندما صار هذا قيد التحقيق. نقرأ في ١ كو ٥: ٧، ٨: "إِذاً نَقُّوا مِنْكُمُ الْخَمِيرَةَ الْعَتِيقَةَ لِكَيْ تَكُونُوا عَجِيناً جَدِيداً كَمَا أَنْتُمْ فَطِيرٌ. لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضاً الْمَسِيحَ قَدْ ذُبِحَ لأَجْلِنَا. إِذاً لِنُعَيِّدْ لَيْسَ بِخَمِيرَةٍ عَتِيقَةٍ وَلاَ بِخَمِيرَةِ الشَّرِّ وَالْخُبْثِ بَلْ بِفَطِيرِ الإِخْلاَصِ وَالْحَقِّ". في الكتاب المقدس، الخمير هو دائماً رمز للشر، كما رأينا. ولذلك فإننا مدعوون لأن نزيل من حياتنا كل ما هو نجس، كل ما هو مخالف لروح المسيح.

لقرون عديدة حافظ شعب إسرائيل على هذا العيد. والآن الرب يسوع المسيح، حمل الفصح الحقيقي، كان في وسطهم ومعظم الناس كانوا جاهلين تماماً بحضوره. بينما كان يستعد ليحفظ هذا العيد، كان رؤساء الكهنة والكتبة يتآمرون معاً ليروا كيف يقتلوه، وهم لا يدركون أنه كان المرموز إليه بحمل الفصح. "فَدَخَلَ الشَّيْطَانُ فِي يَهُوذَا الَّذِي يُدْعَى الإِسْخَرْيُوطِيَّ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الاثْنَيْ عَشَرَ". لقد كان يصنع فقط ما سبق الله أن رآه وتنبأ به وعرف أنه سيحدث. خيانه يهوذا كان قد تم التنبؤ بها قبل قرون. كان الرؤساء يتآمرون ليقتلوا يسوع، وتملك الشيطان قلب أحد تلاميذ الرب، الذي عرض أن يسلمه إليهم لقاء المال. فكروا في يهوذا الذي كان يرافق الرب وبقية التلاميذ لثلاث سنوات ونصف رائعة، يتكلم الآن مع رؤساء الكهنة وقواد الجند ليروا كيف يسلمه إلى أيديهم! هناك كثيرون اليوم ممن يرافقون مسيحيين ويأخذون دوراً فعالاً في الخدمات الدينية ولكنهم لم يعرفوا المسيح بأنفسهم. هكذا كان حال يهوذا. وذلك عندما جاء الوقت وجد الشيطان فيه أداة جاهزة لتنفذ إرادته. "فَمَضَى وَتَكَلَّمَ مَعَ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَقُوَّادِ الْجُنْدِ كَيْفَ يُسَلِّمُهُ إِلَيْهِمْ". قد يبدو الأمر شبه مستحيل وغير قابل للتصديق حقيقة أن نفس النوع من السلوك ما برح يتكرر منذ ذلك الوقت. "فَفَرِحُوا وَعَاهَدُوهُ أَنْ يُعْطُوهُ فِضَّةً. فَوَاعَدَهُمْ. وَكَانَ يَطْلُبُ فُرْصَةً لِيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ خِلْواً مِنْ جَمْعٍ". تخيل يهوذا أنه ما من عين سترى أو أذن ستسمع بمؤامرته مع رؤساء الكهنة؛ ولكن يسوع، الله متجلياً فيه، كان يعرف كل شيء عن الصفقة، كما تبين فيما بعد.

وإذاً جاء اليوم عندما وجب أن يُقتل حمل الفصح. وهذا الأمر يفرض سؤالاً محيراً لبعض الناس. علينا أن نتذكر أن يوم اليهود كان يبدأ بالغروب، وأن ذلك كان بعد غروب يوم ١٤ نيسان أن الرب احتفل بعيد الفصح مع تلاميذه. قبل غروب اليوم التالي، أي، ما بعد ظهر اليوم التالي، مات ربنا نفسه على الصليب. وهكذا حفظ الفصح بالأمسية الأولى من اليوم الموعود، وهو نفسه تألم ومات كونه الفصح الحقيقي قبل مساء اليوم التالي. بحسب تقدير اليهود، إذاً، كلا الحدثين وقعا في يوم واحد.

أَرْسَلَ يسوع "بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا قَائِلاً: «ﭐذْهَبَا وَأَعِدَّا لَنَا الْفِصْحَ لِنَأْكُلَ»". فَسألوه السؤال الطبيعي قائلين لَهُ: "«أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نُعِدَّ؟»". لم يكن ليسوع بيت في أورشليم أو جوارها. ولكن في تلك كان من عادة اليهود أن يكون لديهم غرفة خاصة مخصصة لغرفة الضيوف حيث كانوا يستضيفون المسافرين، وخاصة في زمن عيد الفصح. والآن عرف يسوع شخصاً كان مستعداً ليستقبلهم في بيته، وحيث كان يستطيع أن يأكل الفصح مع تلاميذه. فَقَالَ لَهُمَا: "إِذَا دَخَلْتُمَا الْمَدِينَةَ يَسْتَقْبِلُكُمَا إِنْسَانٌ حَامِلٌ جَرَّةَ مَاءٍ. اِتْبَعَاهُ إِلَى الْبَيْتِ حَيْثُ يَدْخُلُ". قد نفكر بأن هذه التعليمات كانت غير محددة نوعاً ما. لم يخبرهم اسم الرجل ولا شيء آخر يستطيعون به أن يتعرفوا على هويته؛ فكيف كانوا سيستطيعون أن يعرفوا إذا ما التقوا بالشخص المطلوب؟ حسنٌ، ترون أن ذلك كان أمراً غير عادي لرجل أن يوجد في شوارع عامة وهو يحمل جرة ماء. ففي العادة كانت النسوة هنّ اللواتي يذهبن إلى البئر ويحملن المياه، وعموماً في جرار من الفخار على رؤوسهنّ. هذه هي العادة المألوفة والتي لا تزال حتى الآن في أراضي الشرق. فعندما قال يسوع: "إِنْسَانٌ حَامِلٌ جَرَّةَ مَاءٍ"، لقد أشار إلى شيء مميز. حامل الماء قد يدلنا على أولئك الذين يستقون الماء بفرح من آبار الخلاص. "وَقُولاَ لِرَبِّ الْبَيْتِ: يَقُولُ لَكَ الْمُعَلِّمُ: أَيْنَ الْمَنْزِلُ حَيْثُ آكُلُ الْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي؟” كان هذا هو كل المطلوب. من الواضح أن صاحب البيت كان مؤمناً بالرب. "فَذَاكَ يُرِيكُمَا عِلِّيَّةً كَبِيرَةً مَفْرُوشَةً. هُنَاكَ أَعِدَّا". ربما يكون هذا هو البيت الذي عاش فيه يوحنا مرقس، وأن هذه الحجرة العلوية الكبيرة كانت نفسها التي اعتكف فيه التلاميذ بعد قيامة ربنا، وحيث أقامت الكنيسة الأولى اجتماعات صلاتها. "فَانْطَلَقَا وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَهُمَا فَأَعَدَّا الْفِصْحَ". أعدّا المائدة بالحمل المشوي، والخبز الفطير، والأعشاب المرة، وخمر الفصح. بعدئذٍ نقرأ أنه "لَمَّا كَانَتِ السَّاعَةُ اتَّكَأَ وَالاِثْنَا عَشَرَ رَسُولاً مَعَهُ". لقد كان مشهداً مباركاً من الشركة والصداقة الحميمة، ما عدا العلامة الناشذة الوحيدة- وجود يهوذا الخائن. "وَقَالَ لَهُمْ: شَهْوَةً اشْتَهَيْتُ أَنْ آكُلَ هَذَا الْفِصْحَ مَعَكُمْ قَبْلَ أَنْ أَتَأَلَّمَ". لقد كان مشهداً مباركاً من الشركة والصداقة، ما خلا أمر واحد معكّر- حضور يهوذا الخائن. غالباً ما كان يشارك في أعياد الفصح في السنوات التي مضت. لقد كانت صورة عن موته الوشيك، ومحبته التي قادته لأن يتوق إلى أن يكون خاصته وحدهم معه في وليمة الفصح. لقد كان يعرف جيداً ما سيحدث له. لقد كان الوحيد في إسرائيل الذي يعرف أن هذا الفصح كان رمزاً سابقاً لموته نفسه على جبل الجلجثة والخلاص الذي كان سينجزه بسفك دمه الثمين. والآن جاء إلى العشاء الأخير الذي سيكون مميزاً في عيني الله، وهو آخر فصح سيشارك به بنفسه قبل أن يحقق كل ما جاء لإنجازه.

قال: "إِنِّي لاَ آكُلُ مِنْهُ بَعْدُ حَتَّى يُكْمَلَ فِي مَلَكُوتِ اللهِ". الرمز كان يتلاشى، والمرموز إليه بدا يأخذ مكانه. "ثُمَّ تَنَاوَلَ كَأْساً وَشَكَرَ". هذا الكأس ليس له علاقة بعشاء الرب؛ لقد كان خاتمة لاحتفال الفصح. قال: "خُذُوا هَذِهِ وَاقْتَسِمُوهَا بَيْنَكُمْ لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ حَتَّى يَأْتِيَ مَلَكُوتُ اللهِ". لم يكن الله قد طلب منهم أو أمرهم أن يستخدموا ثمار الكرمة في الفصح، ولكن هذه كانت عادة مُورست على مدى قرون، والرب كان يعرف ذلك وقد قبِل به، لم يشرب من الكأس بنفسه، لأن ثمر الكرمة يرمز إلى الفرح والسرور. لقد كان ماضياً إلى الألم والموت. لم تكن ساعة سعادة وسرور بالنسبة له؛ كان ينتظره أن يحمل الصليب قبل أن يدخل إلى فرحه نفسه.

بعد الفصح أسس الرب الفريضة الجميلة التي مارستها كنيسة الله لحوالي ألفي سنة تذكاراً لموته وآلامه. "وَأَخَذَ خُبْزاً وَشَكَرَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: هَذَا هُوَ جَسَدِي الَّذِي يُبْذَلُ عَنْكُمْ. اِصْنَعُوا هَذَا لِذِكْرِي". لقد أخذ أحد أرغفة الفصح، المنبسطة التي ليس فيها خمر، والتي كسرها. غريب أن يفترض أي إنسان أن ما قصده هنا كان أن يحوّل الخبز إلى جسده نفسه. لقد كان تصرفاً رمزياً. الخبز بقي كما كان بعد رفع الشكر، ولكنه الآن صار له معنى خاص كصورة عن جسده الذي سيُسلم إلى الموت. قال: "هَذَا هُوَ جَسَدِي الَّذِي يُبْذَلُ عَنْكُمْ. اِصْنَعُوا هَذَا لِذِكْرِي". أي، اصنعوا هذا من وقت إلى آخر لكي تتذكروني. "وَكَذَلِكَ الْكَأْسَ أَيْضاً بَعْدَ الْعَشَاءِ قَائِلاً: هَذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي الَّذِي يُسْفَكُ عَنْكُمْ". هذا هو كأس البركة (١ كور ١٠: ١٦) الذي يؤسس للعهد الجديد بدم المسيح الذي على وشك أن يُسفك على الصليب لأجل فدائنا. إذ شربوا منه كانوا يعبّرون عن شركتهم كخطأة مفديين مع الله بدم المسيح. كان يوم العهد القديم قد بدأ يزول، وها هو الرب على وشك أن يختم عهداً جديداً بسفك دمه على الصليب.

عشاء الرب (١ كور ١١: ٢٠) هو وليمة للتذكر، يُقصد بها أن تحمل أذهاننا وتذكرنا بموت مخلّصنا وأيضاً لتجعلنا نتطلع إلى مجيئه ثانية (١ كور ١١: ٢٦). كانت الوليمة، في البدايات، عبارة عن وليمة بسيطة للغاية، تُدعى كسر الخبز (أعمال ٢: ٤٦)، ويبدو أنها كانت تقام يومياً في البداية أو كلما اجتمع بضعة مسيحيين معاً، على الأرجح في نهاية كل وليمة عادية. ويبدو أنه صار يُحتفل بها فيما بعد بشكل منتظم في اليوم الأول من الأسبوع (أع ٢٠: ٧)، رغم أنه ليس من قانون يلزمنا بذلك. عبارة "كُلَّمَا" صنعتم ذلك يبدو أنها تفسح مجالاً لتلاميذ المسيح ليحددوا زمان وعدد مرات تكرارها بحسب محبتهم وروحانيتهم. في هذه الخدمة التذكارية يبقى الخبز خبزاً، ونتاج الكرمة في الكأس لا يتبدل في طبيعته، ولكن الطابع التمثيلي للخبز والخمر يبقيان هناك. عندما قال يسوع: "هَذَا هُوَ جَسَدِي"، و"هَذِهِ.... هِيَ.... دَمِي"، جلس وسط أتباعه، وكان دمه لا يزال يجري في عروقه وجسده متجلياً ظاهراً بينهم. لقد كان الأمر كما لو أن شخصاً يرفع صورة أمام صديق ويقول له: "هذه أمي". ما من أحد سيفكر أن قطعة الكرتون قد تحولت فعلاً إلى جسد ودم امرأة. ولكن هذه التذكارات كانت مخصصة لتستحضر أمامنا بشكل حيوي شخص ربنا المعبود، وتمكننا من أن نتذكره في فكرنا في أكثر من الوضوح العادي. بسبب ذلك، ورغبة يسوع التي عبّر عنها بأن علينا أن نتذكره، كان فرح قلب المسيحيين على مر القرون والأجيال أن يجتمعوا معاً حول مائدة الرب ليفكروا في آلامه، ويتأملوا في محبته، ويتمتعوا بالشركة معه.

في الاحتفال بعشاء الرب علينا أن ننشغل بالمسيح نفسه، بذكريات محبته ونعمته، متذكرين آلامه، ومعاناته، وموته، ونضع في أذهاننا وعده بالمجيء ثانية وقبوله لنا. إنه من الخطأ أن نفكر في هذه الفريضة المباركة على أنها وسيلة للنعمة. بمعنى أن لها علاقة بخلاص النفس. لقد قُصد بها أن تعمّق في قلب أولئك الذين يخلصون الإدراك بعظيم قيمة المسيح. إننا نجتمع معاً لنتذكره، وإذ يملأ بصر نفوسنا نحتفل بالروح متذكرين ما هو وما صنعه.

بعد ذلك لدينا خيانة يهوذا. "وَلَكِنْ هُوَذَا يَدُ الَّذِي يُسَلِّمُنِي هِيَ مَعِي عَلَى الْمَائِدَةِ". نقرأ أنه: "بَعْدَ اللُّقْمَةِ دَخَلَهُ الشَّيْطَانُ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «مَا أَنْتَ تَعْمَلُهُ فَاعْمَلْهُ بِأَكْثَرِ سُرْعَةٍ»". وخرج في الحال وكان الجو ليلاً- ليس فقط ليلاً في الخارج بل أيضاً في نفسه ذاته، التي لم يكن لأي شعاع من النور أن يخترقها عندئذ. تابع يسوع يقول أن حقيقة وجوب مجيء ابن الإنسان إلى العالم ليموت لن تكون مبرراً لأولئك الذين طلبوا أن يصلبوه متعمدين. "وَﭐبْنُ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَحْتُومٌ وَلَكِنْ وَيْلٌ لِذَلِكَ الإِنْسَانِ الَّذِي يُسَلِّمُهُ". في الواقع، وبحسب يوحنا ١٣: ٢٩، ٣٠، غادر يهوذا الغرفة قبل تأسيس عشاء الرب.

في الآية ٢٤ نقرأ عن نزاع بين التلاميذ حول من يجب أن يكون الأعظم. كان الرب على وشك أن يموت؛ وكان قد أعطاهم لتوه من خلال المشاركة في عشاء الرب، صورة عن موته، والآن هؤلاء الذين يحبونه فعلاً بدأوا يتشاجرون فيما بينهم حول من سيكون له المكانة الرئيسية في الملكوت الآتي. الكبرياء أمر يصعب اقتلاعه. كانوا هناك مع ظل الصليب الذي الملقى فوقهم، يختلفون فيما بينهم حول من يكون الأعظم. وبخهم يسوع بلطف للإشارة إلى أنه رغم هذه الروح الطموحة أمر شائع بين الأمم ومتوقع بين الناس الخطأة، إلا أنها يجب ألا تكون موجودة وسط خاصته. "وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَيْسَ هَكَذَا بَلِ الْكَبِيرُ فِيكُمْ لِيَكُنْ كَالأَصْغَرِ وَالْمُتَقَدِّمُ كَالْخَادِمِ". لقد كان أمراً اعتيادياً عند القادة الدنيويين أن يسعوا للإمساك بأتباعهم في حالة إذعان وخضوع، وأولئك الذين كانوا يفعلون ذلك كان يُنظر إليهم كمحزنين إذا ما بدا وكأنه يحكمون في برٍّ. ولكن هذه الشهوة إلى المكانة والسلطة أمر غير ملائم لتلميذ يسوع. العظمة تتبدى في الخدمة المتواضعة. ملكوت الله هو الملكوت الوحيد الذي عرفه الإنسان والذي يكون الأعظم هم أولئك الذين يأخذون المكانة الأكثر اتضاعاً. "لأَنْ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ؟ الَّذِي يَتَّكِئُ أَمِ الَّذِي يَخْدِمُ؟ أَلَيْسَ الَّذِي يَتَّكِئُ؟ وَلَكِنِّي أَنَا بَيْنَكُمْ كَالَّذِي يَخْدِمُ". في هذا الموقف ضرب يسوع لهم مثلاً يجب على كل أتباعه أن يحتذوا به.

بعدئذٍ قال يسوع: "أَنْتُمُ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعِي فِي تَجَارِبِي وَأَنَا أَجْعَلُ لَكُمْ كَمَا جَعَلَ لِي أَبِي مَلَكُوتاً". عندما سيأتي ثانية ليملك في المجد، أولئك الذين شاركوه الرفض الذي لاقاه الآن سيشاركونه في انتصاره (رؤ ٣: ٢١). إنه لا يشير إلى الدهر الحاضر الحالي بل إلى ذاك الذي سيلي هذا. عندما سيؤسس ملكوته على كل هذا الأرض؛ وفي ذلك اليوم أولئك الذين تماثلوا مع يسوع، شعبه الخاص، الذين كانوا يعترفون به عندما لاقى الهزء والرفض، ستكون لهم مكانة مرموقة ورائعة. سيجلس الاثنا عشر على عروش ويدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر. "لِتَأْكُلُوا وَتَشْرَبُوا عَلَى مَائِدَتِي فِي مَلَكُوتِي وَتَجْلِسُوا عَلَى كَرَاسِيَّ تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاِثْنَيْ عَشَرَ". الاثنا عشر (وقد أخذ متياس مكان يهوذا، أع ١: ٢٦) يجب أن تكون لهم مكانة خاصة بإدارة الملكوت الآتي فيما يتعلق بإسرائيل المستعاد. بينما في الكنيسة، ستكون لهم القيادة مع المسيح.

وأخيراً يقول الرب: "سِمْعَانُ سِمْعَانُ هُوَذَا الشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَالْحِنْطَةِ!". الكلمة الأصلية المترجمة "طَلَبَ" هي أقوى من ذلك؛ يفضل ترجمتها بـ "طالبَ". كما أن الشيطان ذهب إلى الله وطالب عملياً بأن ينال فرصة اختبار أيوب، متهماً إياه أمام الله، قائلاً أن أيوب أحب الله فقط لأجل ما وهبه الله إياه، كذلك فإن الشيطان طالب بأن يختبر بطرس. ولكن يسوع قال: "طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ". كما تعلمون، عندما ندخل في غربال الشيطان، يستطيع أن يهزّنا بعنف وقسوة، ولكن كل ما يتبقى عندما ينتهي من ذلك هو عصافة: الحب يسقط من خلال الغربال، وإبليس لا تكون له سوى العصافة. فلا تخافوا من غربال الشيطان؛ إن الله قادر على أن يؤازرنا. تذكروا أن يسوع قال: "طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ". لقد أخفق بطرس بشكل محزن. أنكر الرب ثلاث مرات، ولكن إيمانه بقي وحُفظ، ونجده يعود إلى يسوع وهو قادر على أن يقول له: "يَا رَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ". قال له الرب يسوع: "وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ (أي متى اهتديت وتجدَّدتَ)، ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ". أحياناً يسمح الرب بأن يخفق بعض أفضل خدّامه لكي يظهر لهم ضعفهم، وأنه يمكنهم أن يكونوا أكثر عطفاً وتعاطفاً وحنواً نحو الآخرين. قال بطرس وهو غير مدرك لضعفه: "يَا رَبُّ إِنِّي مُسْتَعِدٌّ أَنْ أَمْضِيَ مَعَكَ حَتَّى إِلَى السِّجْنِ وَإِلَى الْمَوْتِ". ولكن الرب قال له: "أَقُولُ لَكَ يَا بُطْرُسُ لاَ يَصِيحُ الدِّيكُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ تُنْكِرَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَعْرِفُنِي". لقد كان الرب يعرف بطرس أكثر بكثير مما كان هو يعرف نفسه، وهو يعرفك أنت ويعرفني أكثر مما نعرف أنفسنا.

بعد ذلك حذّر ربنا تلاميذه من الصراعات الآتية. كان يعلم ما سيحدث، فقال لهم: "حِينَ أَرْسَلْتُكُمْ بِلاَ كِيسٍ وَلاَ مِزْوَدٍ وَلاَ أَحْذِيَةٍ هَلْ أَعْوَزَكُمْ شَيْءٌ؟"- أي، عندما أرسلهم إلى مدن الجليل لينقلوا رسالة إنجيل الملكوت. "فَقَالُوا: «لاَ»". كان قد تأمّن لهم كل شيء. قَالَ لَهُمْ: "لَكِنِ الآنَ مَنْ لَهُ كِيسٌ فَلْيَأْخُذْهُ وَمِزْوَدٌ كَذَلِكَ. وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَلْيَبِعْ ثَوْبَهُ وَيَشْتَرِ سَيْفاً". لم يعني حرفياً أن عليهم أن يتسلّحوا بسيوف حقيقية مادية؛ ولكننا نعلم في مكان آخر من الكتاب المقدس أن كَلِمَةَ اللهِ أَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ (عب ٤: ١٢). عندما كانوا على استعداد لمغادرة العلِّية، قالوا له: "«يَا رَبُّ هُوَذَا هُنَا سَيْفَانِ»". فَقَالَ لَهُمْ: «يَكْفِي!»"- أي كفى كلاماً حول ذلك. لم يكن يتكلم عن الدفاع الفعلي؛ لم يكن مهتماً بالأسلحة. لقد أراد لهم أن ينطلقوا مسلّحين بسيف الروح القدس لكي يواجهوا أعداء الحقيقة وهم يعلنون الإنجيل.