الخطاب ١٣

يسوع في كفرناحوم

"٣٠أَمَّا هُوَ فَجَازَ فِي وَسْطِهِمْ وَمَضَى. ٣١وَﭐنْحَدَرَ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ مَدِينَةٍ مِنَ الْجَلِيلِ وَكَانَ يُعَلِّمُهُمْ فِي السُّبُوتِ. ٣٢فَبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ لأَنَّ كَلاَمَهُ كَانَ بِسُلْطَانٍ. ٣٣وَكَانَ فِي الْمَجْمَعِ رَجُلٌ بِهِ رُوحُ شَيْطَانٍ نَجِسٍ فَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: ٣٤«آهِ مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ! أَتَيْتَ لِتُهْلِكَنَا! أَنَا أَعْرِفُكَ مَنْ أَنْتَ: قُدُّوسُ اللهِ». ٣٥فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ قَائِلاً: «ﭐخْرَسْ وَاخْرُجْ مِنْهُ». فَصَرَعَهُ الشَّيْطَانُ فِي الْوَسَطِ وَخَرَجَ مِنْهُ وَلَمْ يَضُرَّهُ شَيْئاً. ٣٦فَوَقَعَتْ دَهْشَةٌ عَلَى الْجَمِيعِ وَكَانُوا يُخَاطِبُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَائِلِينَ: «مَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ! لأَنَّهُ بِسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ يَأْمُرُ الأَرْوَاحَ النَّجِسَةَ فَتَخْرُجُ». ٣٧وَخَرَجَ صِيتٌ عَنْهُ إِلَى كُلِّ مَوْضِعٍ فِي الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ. ٣٨وَلَمَّا قَامَ مِنَ الْمَجْمَعِ دَخَلَ بَيْتَ سِمْعَانَ. وَكَانَتْ حَمَاةُ سِمْعَانَ قَدْ أَخَذَتْهَا حُمَّى شَدِيدَةٌ. فَسَأَلُوهُ مِنْ أَجْلِهَا. ٣٩فَوَقَفَ فَوْقَهَا وَانْتَهَرَ الْحُمَّى فَتَرَكَتْهَا! وَفِي الْحَالِ قَامَتْ وَصَارَتْ تَخْدِمُهُمْ. ٤٠وَعِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ جَمِيعُ الَّذِينَ كَانَ عِنْدَهُمْ سُقَمَاءُ بِأَمْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ قَدَّمُوهُمْ إِلَيْهِ فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَشَفَاهُمْ. ٤١وَكَانَتْ شَيَاطِينُ أَيْضاً تَخْرُجُ مِنْ كَثِيرِينَ وَهِيَ تَصْرُخُ وَتَقُولُ: «أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ!» فَانْتَهَرَهُمْ وَلَمْ يَدَعْهُمْ يَتَكَلَّمُونَ لأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ أَنَّهُ الْمَسِيحُ. ٤٢وَلَمَّا صَارَ النَّهَارُ خَرَجَ وَذَهَبَ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ وَكَانَ الْجُمُوعُ يُفَتِّشُونَ عَلَيْهِ. فَجَاءُوا إِلَيْهِ وَأَمْسَكُوهُ لِئَلاَّ يَذْهَبَ عَنْهُمْ. ٤٣فَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّهُ يَنْبَغِي لِي أَنْ أُبَشِّرَ الْمُدُنَ الأُخَرَ أَيْضاً بِمَلَكُوتِ اللهِ لأَنِّي لِهَذَا قَدْ أُرْسِلْتُ». ٤٤فَكَانَ يَكْرِزُ فِي مَجَامِعِ الْجَلِيلِ" (لوقا ٤: ٣٠- ٤٤).

القسم الأعظم من هذا يغطّي عمل يوم واحد لربنا المبارك يسوع المسيح في كفرناحوم، الواقعة على الضفة الشمالية من بحر الجليل. في مكان آخر تُدعى "مَدِينَتِهِ". بعد أن تخلّى عن حرفته كنجّار وانطلق في رسالته العظيمة ليعلن إنجيل الملكوت إلى شعب منتظر توّاق، شعب كان ينتظر ذلك الملكوت منذ زمن طويل، فقد انتقل من الناصرة إلى كفرناحوم، وجعل منها المركز الذي ينطلق منه ذهاباً وإياباً إلى مختلف الأماكن. وهكذا ففي هذه المناسبة عادة إلى كفرناحوم وكان يعلّمهم، كما يخبرنا الإنجيل في السُّبُوتِ. وكلمة "السُّبُوتِ" هي أيام السبت عند اليهود، اليوم السابع من الأسبوع. كان ذلك هو اليوم الذي كان يُلقي الناس به جانباً كل أشغالهم وأعمالهم الاعتيادية ويتجمعون معاً في مجامعهم ليسمعوا كلمة الله وليرفعوا الصلاة لله. كان ربنا يستفيد ذلك اليوم وينضم إليهم. لقد كانت عادته دائماً أن يفعل ذلك، وهناك في المجمع في السبوت كان يخدم كلمة الله. نعلم أن الناس بُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ لأَنَّ كَلاَمَهُ كَانَ بِسُلْطَانٍ. كانت تحيط به قدرة إلهية تروق لأولئك الناس. لم يسمعوا أبداً شخصاً يتكلّم مثله. تذكرون أنه حدث مرة فيما بعد عندما جاء الخدم الذين أُرسلوا ليعتقلوه، أنه عندما رجعوا بدونه سُئِلوا: "لِمَاذَا لَمْ تَأْتُوا بِهِ؟" أجابوا: "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا". كان هناك شيء مؤثر في رسالة الرب يسوع المسيح وكانت تأسر القلوب حتى قلوب أعدائه. لقد كانت كلمته تتمتع بالقوة.

ليس فقط قوة ألوهيته، بل أيضاً قوة الروح القدس، لأن ربنا يسوع اختار، كإنسان على الأرض، ألا يتصرف بحسب ألوهيته، بل أن يُقتاد ويُرشد ويسير وفق الروح القدس. ولذلك، فبقوة الروح القدس كرز بإنجيل الملكوت.

في إحدى المناسبات نقرأ أنه كان هناك في المجمع رَجُلٌ بِهِ رُوحُ شَيْطَانٍ نَجِسٍ، وقد صَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ. يجب حذف كلمة شيطان من هنا لتبقى روحٌ نجسٌ فقط، وذلك لأنه من المعروف جيداً، وبحسب الكتابات المقدسة، أن هناك شيطان واحد فقط، وهو إبليس، الذي يُدعى "الْحَيَّةُ الْقَدِيمَةُ"؛ ولكن هناك عدد كبير من الأرواح النجسة. ومن الواضح أن هذه الأرواح النجسة كان يقودها إبليس في تمرده الكبير، وهو يُدعى "رَئِيسِ سُلْطَانِ الْهَوَاءِ". وهكذا نستنتج أن تلك الأرواح النجسة ليست مقيدة بعد في الجحيم، بل تتمتع مع سيّدها، إبليس، بإمكانية الوصول إلى الناس، وفي بعض المناسبات نجد أنه يمكنهم أن يسكنوا فعلاً في الناس وأن يسيطروا عليهم، أو حتى حين لا يستحوذون على الناس، يمكنهم أن يؤثروا عليهم لفعل الشر، ويقودونهم إلى طرق تتعارض مع مشيئة الله. وها هنا مثال عن رجل ِبه رُوحُ شَيْطَانٍ نَجِسٍ فعلياً. كما أننا نجد في دهر النعمة التدبيري هذا مسيحيين فيهم سُكنى روح قُدس الله، ويسلكون هكذا تحت إرشاده ويقدّمون الطاعة له، كذلك كان ممكناً للناس أن تكون بهم أرواح شريرة وأن يسلكوا كما يُسيّرهم هؤلاء. عندما رأى هذا الرجل، الذي به رُوحُ شَيْطَانٍ نَجِسٍ، الرب يسوع المسيح هناك في المجمع صرخ قائلاً: "مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ؟ أَتَيْتَ لِتُهْلِكَنَا! أَنَا أَعْرِفُكَ مَنْ أَنْتَ: قُدُّوسُ اللهِ!". هناك أمر مذهل جداً هنا. الناس لم يعرفوه. "إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ". وأما أولئك الذين كان يجب أن يعرفوه، أولئك الذين كان يجب أن يميزوا فيه أن الشخص المُرسَل من الآب، أخفقوا في فهمه ولم يعرفوه. الروح النجس عرفه لأن يسوع كان يتمتع بسلطة مطلقة على العالم غير المنظور. هذا هو العالم الوحيد الذي يجرؤ أي شخص على أن يتباهى بإرادة الرب أو ينكر ألوهيته. الجميع يصنعون مشيئة الله في السماء. والجميع يعرفونه هناك، وعلى الهالكين جميعاً أن يخضعوا له في العالم السفلي. وحتة الأرواح النجسة ستعترف بسلطانه. ومن هنا نجد أن رُوح الشَيْطَان النَجِس صرخ قائلاً: "أَنَا أَعْرِفُكَ مَنْ أَنْتَ: قُدُّوسُ اللهِ!". ولكن يسوع لم يرغب بشهادة من هذا النوع: فَانْتَهَرَهُ قَائِلاً: "اخْرَسْ وَاخْرُجْ مِنْهُ"، وفي الحال، وتجاوباً مع كلمة الرب يسوع، صَرَعَهُ الشَّيْطَانُ فِي الْوَسْطِ وَخَرَجَ مِنْهُ وَلَمْ يَضُرَّهُ شَيْئًا.

حدث كل هذا في المجمع في كفرناحوم. عندما زرت فلسطين قبل سنين، أعتقد أن أكثر ما لفت انتباهي، إضافة إلى زيارة "الْمَوْضِعِ الَّذِي يُدْعَى «جُمْجُمَةَ»"، والقبر في البستان خارج بوابة دمشق في أورشليم، كان عندما وقفت على تلك المنصة في المجمع في كفرناحوم حيث جرت وقائع تلك الحادثة التي يدونها الإنجيل. نعلم أن قائد مئة روماني هو الذي بنى مجمع لليهود في كفرناحوم، وهذه المدينة ظلّت على مدى قرون كثيرة محتجبة كلّياً عن الأنظار. لم يستطع علماء الآثار تحديد موقعها، إلا قبل سنين من الحرب العالمية الأولى حين بنت مجموعة من الرهبان الألمان ديراً على تلة تقع في شمال بحر الجليل، وعندما اندلعت الحرب العالمية سُجنوا داخل أقبية الدير ولم يُسمح لهم بالخروج حتى انتهاء الحرب. وبينما هم في السجن، ولكي يحافظوا على لياقتهم البدنية، شرعوا يحفرون حول التلة حيث يقبع ديرهم، وسرعان ما بدأوا يكتشفون كتلاً ضخمة من الحجارة الكلسية. تابعوا عملهم باهتمام شديد، وبعد حين كشفوا المجمع القديم. وجدوا الأرضية كاملة، والحجارة الضخمة للجدران الجانبية، والمنصة والأعمدة التي كانت تحمل السقف يوماً ما. ولقد استعادوا الآن جزءاً كبيراً من ذلك المجمع، ونصبوا من جديد تلك الأعمدة في مواضعها، ورغم أن السقف ليس موجوداً، إلا أنه يمكنك أن تدخل إلى المبنى ويمكنك أن ترى تلك الأرضية الواسعة التي تستطيع استيعاب جلوس عدة مئات من الناس، ويمكنك أن تقف على المنصة خلف مقعد القراءة الحجري. إذ وقفتُ هناك مع أحد الرهبان إلى جانبي وزوجتي وابنتي إلى الجانب الآخر، كم بدت تلك البقعة مقدسة! كنتُ أعلم أني أقف في نفس المكان حيث وقف ربّنا المبارك قبل زمن طويل. لقد أمكنهم أن يحدّدوا بالضبط بأنه مجمع كفرناحوم استناداً إلى ما يلي: لقد وجدوا على الحجارة الضخمة في الأساس كل أنواع الرموز العبرية. على سبيل المثال، يمكنك أن ترى عصا هارون الحجرية وكُوزُ الذَّهَب الذي كان يوضع في التابوت، وشجر الزيتون، والتينة، وأوراق الكرمة التي كانت تُستخدم كرموز لإسرائيل، إضافة إلى علامات أخرى كثيرة كانت تميز اليهود، ومع ذلك فقد كان المجمع نفسه يتميز بطراز معماري روماني. ولكن هناك علامة رومانية واحدة باقية يمكن رؤيتها. تلك هي النسر الكبير. من الواضح أن بعض اليهود الذين ثاروا على ذلك حاولوا إزالة معظم هذا النسر. لم يكن اليهود يطيقون وجود علامة النسر في مجمع مكرس للرب. رغم وجود بعض الشكّ، إلا أن هذا المجمع قد بناه قائد المئة الروماني لكي يكون مكاناً مناسباً لليهود للعبادة وهو هناك يحمل شهادة صامتة على كلمة الله. إذ وقفتُ هناك عند مقعد القراءة، نظرت وقلت إلى الراهب: "في مكان ما هناك وقف ذاك الرجل الذي فيه روح شيطان نجس. أكاد أتخيّل رؤيته هناك ينهض على قدميه، وأسمعه يصرخ أن: "مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ؟ أَتَيْتَ لِتُهْلِكَنَا! أَنَا أَعْرِفُكَ مَنْ أَنْتَ: قُدُّوسُ اللهِ!" وقال الراهب: "وانْتَهَرَهُ يَسُوعُ". فقلتُ "أجل". وهكذا استمرّينا نتذكر تفاصيل الحادثة التي جرت في ذلك المجمع.

إنه لأمر واقعي جداً أن تقرأ الكتاب المقدس على ضوء ما يمكنك أن تراه، حتى في فلسطين الحالية. فيمكنك أن ترى كم هو دقيق بشكل رائع كل تفصيل يُذكر. إذاً، عندما تحرر هذا الرجل من سطوة قوة الروح الشرير، تأثر الناس المحتشدين هناك بالأمر للغاية. واندهشوا جميعاً وكانوا يقولون في أنفسهم: "مَا هذِهِ الْكَلِمَةُ؟ لأَنَّهُ بِسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ يَأْمُرُ الأَرْوَاحَ النَّجِسَةَ فَتَخْرُجُ! وَخَرَجَ صِيتٌ عَنْهُ إِلَى كُلِّ مَوْضِعٍ فِي الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ". لاحظوا الأمر المتعلق بعجائب ربنا. هو لم يصنع أية معجزة لأجل تعظيم الذات. لم يمارس قوته الهائلة العجيبة فقط ليلفت الانتباه إلى نفسه. بمعنى آخر، لم يكن مثل ما ندعوهم السحرة وسط الوثنيين الذين يقومون بكل أنواع العجائب ليُدهشوا ويُبهروا الناس. لم يصنع يسوع أية معجزة إلا لأجل منفعة الآخرين.

وكان الأمر كذلك في تحريره لهذا الرجل من قوة الروح النجس. لقد كانت معجزة عظيمة حتى أن الجمهور تأثر وانذهل وراحوا ينقلون صيته إلى كل مكان. إلا أن يسوع خرج من المجمع في نفس اليوم وانحدر إلى المدينة. دخل إلى بيت سمعان بطرس، الصيّاد، الذي كان يعيش هناك أيضاً. أمّ زوجة سمعان كانت قَدْ أَخَذَتْهَا حُمَّى شَدِيدَة، فَسَأَلُوهُ مِنْ أَجْلِهَا. ينسى بعض الناس أن سمعان بطرس كانت له زوجة. إن سمعان بطرس لم يكن رجل دين متبتّل. حماته كانت تعيش معهم. وكان بلا شك مهتماً للغاية ومنزعجاً بأنها مرضت، ولذلك فقد دعوا يسوع، وتوسّلوا إليه من أجلها. يا لكثرة الناس الذين نجدهم في هذه الروايات الذين يذهبون إلى الرب يسوع ليطلبوا من أجل آخرين. وهو يدعونا لأن نصنع المثل، وأن نأتي إليه بأولئك المرضى وأولئك المحتاجين، وأولئك الذين هم في محنة. إنه يحبّ أن يستجيب للصلاة اليوم تماماَ كما كان في الماضي البعيد. لقد ناشدوه أن يصنع شيئاً لأجل أم زوجة سمعان، فدخل إلى غرفة المريضة. ووَقَفَ فَوْقَهَا وَانْتَهَرَ الْحُمَّى فَتَرَكَتْهَا! هناك عبارة مضافة في أحد الأناجيل الأخرى تروق لي كثيراً، تقول: "فَلَمَسَ يَدَهَا فَتَرَكَتْهَا الْحُمَّى". وَقَفَ فَوْقَهَا وَانْتَهَرَ الْحُمَّى، ووضع يده على يدها الحارّة من الحمّى، وفي الحال حدث هدوء وبرود. بنفس الطريقة الرائعة يحب الرب يسوع أن يخدم قلوبنا المحمومة المضطربة المتعبة اليوم. كم هناك من أناس بيننا يشابهون حال تلك المرأة البائسة بشكل من الأشكال! نحن جميعاً متحيّرون مستاؤون ومضطربون بالأحوال السائدة. كم كانت بركة عظيمة أن يأتي يسوع إلى جانب السرير، ويدنو، ويوبّخ الحمّى، ويلمس اليد، فتزول الحمى إلى غير رجعة.

نقرأ في الإنجيل أنها قَامَتْ فِي الْحَالِ وَصَارَتْ تَخْدُمُهُمْ. هذا أمر طبيعي نتوقعه ممن اختبر قوة ربنا يسوع المسيح التي تحرر. فالقلب يُسرّ عندئذ بالقيام بأي شيء أو للآخرين. هذه المرأة الصالحة ما أن شُفيت حتى أدركت أنها على ما يرام فقالت: "لأقومنّ الآن فاخدم ذاك الذي صنع لي هذا الأمر، وإني أود أن أخدم أولئك الأعزّاء على قلبه وعلى قلبي." وهكذا راحت تخدمه.

هل شعرتم بلمسة من تلك اليد الشافية؟ هل وبّخ صوته حمّى الخطيئة التي احتدمت يوماً في كيانكم؟ هل تجدون مسرّة ورغبة في خدمته الآن؟ هل أنتم من أولئك الذين يُسرّون ليس فقط في الاستفادة من قوته المحررة، بل المهتمين الآن بأن يقدّموا له خدمة من قلبٍ ممتن؟ هل تسعون لأجل بركة الآخرين؟ هذا هو اختبار الاهتداء الحقيقي. يمكنكم أن تخبروا من اختبر قوة الرب يسوع المسيح المخلّصة بإظهار رغبة في إرضائه، رغبة في صنع مشيئته، وتمجيده، وتعريف الآخرين به، والمجيء بهم إلى احتكاك مباشر معه.

كلما قام يسوع بعمل اقتدار كمثل هذا فيشفي جسد نفس عزيزة محتاجة، كلما ذاع الخبر في كل أرجاء وشجع آخرين للمجيء إليه. الأمر سيّان الآن. عندما يعمل الرب يسوع بنعمة ورحمة كبيرة، مخلّصاً المرء من حياة الخطيئة، وجاعلاً إياه يعرف الله ويعطيه قوة ليحيا حياة جديدة لمجده، كم يروق ذلك للناس الآخرين! لا أعتقد أن هناك ما يماثل اجتذاب الناس إلى حيث يُكرز بكلمة الله، وخلاص الناس، وتحرر الناس من خطاياهم، واجتراح الله للمعجزات وسطهم. وها إننا نرى الكثير من ذلك هنا- قوة الرب يسوع المسيح المخلّصة التي تتجلى على هذا النحو.

في هذه الحادثة نعلم أنه إذ كانت الشمس تغرب، وقارب النهار على الانتهاء، ذلك النهار الذي انشغل فيه يسوع كثيراً بتخليص الناس من محنهم، حيث كان الناس يأتون إليه بجموع غفيرة، وكان يضع يديه عليهم ويشفيهم. لم يأتِ أحد إليه في أيام حياته على الأرض يطلب شفاءً من علة إلا ومنحه يسوع نعمة وحرره من مرضه وبلواه. لعل هناك من يتساءل: "حسناً، ما السر إذاً في أننا عندما نمرض أحياناً الآن، ونأتي إلى يسوع، لا ننال ما نسأل؟" علينا أن نتذكر أن تلك الآيات وأعمال الاقتدار التي صنعها يسوع عندما كان هنا على الأرض كانت الشهادة المقدمة لبني إسرائيل على مسيانيته. لم يصنعها فقط لمساعدة أولئك الذين جاؤوا إليه، بل لكي تكون أيضاً شهادة لأولئك الذين رأوا وسمعوا، على أنه فعلاً المخلّص الموعود. وسوف تتذكرون أن النبي في القديم أعلن أنه في أيام يسوع لسان الأبكم سينحل وينشد بالتسبيح؛ والأعرج سوف يثب كالغزال؛ وأعين العميان ستنفتح؛ وآذان الصّم ستُفتح، وأن الألم والحزن والمرض سيتلاشى أمامه. لقد كانت هذه أدلّة خارجية ظاهرة على أنه كان حقّاً كما قال، مسيا إسرائيل. أما الآن وقد عاد إلى المجد، فإنه لم يقطع على نفسه وعداً بأنه سيفشي الأجساد المريضة، بل وعد بأنه سيحرر دائماً الناس المرضى بالخطيئة الذين سيأتون إليه. يقول يسوع: "مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجاً".

كل معجزة صنعها يسوع كانت نوعاً ما صورة عمّا تفعله الخطيئة للناس وعما يحدث لهم بعد أن يحررهم يسوع. خذوا على سبيل المثال، حالة الرَجُل الذي بِهِ رُوحُ شَيْطَانٍ نَجِسٍ. إنه صورة عن الناس الذين يحيطون بنا والذين تسيطر عليهم قوة شيطانية، وتقودهم العادات والأهواء والرغبات إلى حالة لا يستطيعون أن يحرروا أنفسهم منها. هذه المرأة، وإذ تمكنت منها الحمّى، هي صورة عن حمّى الخطيئة، التي حررها منها يسوع كلياً.

لقد جاؤوا إليه من جميع أصقاع الأرض وشفاهم. يخبرنا النص أنه كَانَتْ شَيَاطِينُ أَيْضاً تَخْرُجُ مِنْ كَثِيرِينَ تَصْرُخُ وَتَقُولُ: "أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ". لقد كانوا يعرفونه. لقد أمكنهم أن يميزوه. وفهموا من يكون. قد ينكره البشر، ولكن الأرواح النجسة لا تستطيع ذلك. لقد وبّخهم لأنه لم يكن يريد شهادتهم. "فَانْتَهَرَهُمْ وَلَمْ يَدَعْهُمْ يَتَكَلَّمُونَ، لأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ أَنَّهُ الْمَسِيحُ".

ثم نعلم أنه لَمَّا صَارَ النَّهَارُ خَرَجَ وَذَهَبَ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ. وعندما بزغ الصبح، ترك كفرناحوم وخرج إلى مكان منعزل، وَكَانَ الْجُمُوعُ يُفَتِّشُونَ عَلَيْهِ، فَجَاءُوا إِلَيْهِ وَأَمْسَكُوهُ لِئَلاَّ يَذْهَبَ عَنْهُمْ. إنه أمر جميل أن نرى ذلك. ففي هذا الوقت، على الأقل، لقي تقديراً من الناس، وكان الناس يريدون منه أن يبقى. ربما كانت لديهم بعض الأنانية في ذلك. ولكنهم عرفوا قدرته ورغبوا إليه أن يبقى في مدينتهم. لقد قال: "إِنَّهُ يَنْبَغِي لِي أَنْ أُبَشِّرَ الْمُدُنَ الأُخَرَ أَيْضًا بِمَلَكُوتِ اللهِ". لقد كان ينتقل من مكان إلى آخر، ويبشّر في مجامع الجليل. وهكذا تبين لشعب إسرائيل بشكل مؤكد أنه الموعود الذي طالما انتظروه. يا له من أمر سار أن ندرك أن يسوع، ورغم أنه محتجب الآن عن عيون الناس، لا تزال لديه نفس القوة والقدرة! إن كان بينكم يا أعزاء من هو في محنة أو ألم أو حزن أو كرب، مقيداً بسلاسل الخطية، أو تسيطر عليه قوة العادة، ليتكم تأتون إلى يسوع، رغم أنه الآن في السماء جالساً عن يمين الآب، إذ تستطيعون أن تمدوا يد الإيمان وتشعرون بلمسة يده الشافية. إنه يمنح الخلاص لكل من يطلبونه بإيمان.