الخطاب ٢

السابق الآتي

"٥ كَانَ فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ مَلِكِ الْيَهُودِيَّةِ كَاهِنٌ اسْمُهُ زَكَرِيَّا مِنْ فِرْقَةِ أَبِيَّا وَامْرَأَتُهُ مِنْ بَنَاتِ هَارُونَ وَاسْمُهَا أَلِيصَابَاتُ. ٦وَكَانَا كِلاَهُمَا بَارَّيْنِ أَمَامَ اللهِ سَالِكَيْنِ فِي جَمِيعِ وَصَايَا الرَّبِّ وَأَحْكَامِهِ بِلاَ لَوْمٍ. ٧وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا وَلَدٌ إِذْ كَانَتْ أَلِيصَابَاتُ عَاقِراً. وَكَانَا كِلاَهُمَا مُتَقَدِّمَيْنِ فِي أَيَّامِهِمَا. ٨فَبَيْنَمَا هُوَ يَكْهَنُ فِي نَوْبَةِ فِرْقَتِهِ أَمَامَ اللهِ ٩حَسَبَ عَادَةِ الْكَهَنُوتِ أَصَابَتْهُ الْقُرْعَةُ أَنْ يَدْخُلَ إِلَى هَيْكَلِ الرَّبِّ وَيُبَخِّرَ. ١٠وَكَانَ كُلُّ جُمْهُورِ الشَّعْبِ يُصَلُّونَ خَارِجاً وَقْتَ الْبَخُورِ. ١١فَظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ وَاقِفاً عَنْ يَمِينِ مَذْبَحِ الْبَخُورِ. ١٢فَلَمَّا رَآهُ زَكَرِيَّا اضْطَرَبَ وَوَقَعَ عَلَيْهِ خَوْفٌ. ١٣فَقَالَ لَهُ الْمَلاَكُ: «لاَ تَخَفْ يَا زَكَرِيَّا لأَنَّ طِلْبَتَكَ قَدْ سُمِعَتْ وَامْرَأَتُكَ أَلِيصَابَاتُ سَتَلِدُ لَكَ ابْناً وَتُسَمِّيهِ يُوحَنَّا. ١٤وَيَكُونُ لَكَ فَرَحٌ وَابْتِهَاجٌ وَكَثِيرُونَ سَيَفْرَحُونَ بِوِلاَدَتِهِ ١٥لأَنَّهُ يَكُونُ عَظِيماً أَمَامَ الرَّبِّ وَخَمْراً وَمُسْكِراً لاَ يَشْرَبُ وَمِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِئُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. ١٦وَيَرُدُّ كَثِيرِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الرَّبِّ إِلَهِهِمْ. ١٧وَيَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ لِيَرُدَّ قُلُوبَ الآبَاءِ إِلَى الأَبْنَاءِ وَالْعُصَاةَ إِلَى فِكْرِ الأَبْرَارِ لِكَيْ يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْباً مُسْتَعِدّاً». ١٨فَقَالَ زَكَرِيَّا لِلْمَلاَكِ: «كَيْفَ أَعْلَمُ هَذَا لأَنِّي أَنَا شَيْخٌ وَامْرَأَتِي مُتَقَدِّمَةٌ فِي أَيَّامِهَا؟» ١٩فَأَجَابَ الْمَلاَكُ وَقَالَ لَهُ: «أَنَا جِبْرَائِيلُ الْوَاقِفُ قُدَّامَ اللهِ َأُرْسِلْتُ لأُكَلِّمَكَ وَأُبَشِّرَكَ بِهَذَا. ٢٠وَهَا أَنْتَ تَكُونُ صَامِتاً وَلاَ تَقْدِرُ أَنْ تَتَكَلَّمَ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ هَذَا لأَنَّكَ لَمْ تُصَدِّقْ كَلاَمِي الَّذِي سَيَتِمُّ فِي وَقْتِهِ». ٢١وَكَانَ الشَّعْبُ مُنْتَظِرِينَ زَكَرِيَّا وَمُتَعّجِّبِينَ مِنْ إِبْطَائِهِ فِي الْهَيْكَلِ. ٢٢فَلَمَّا خَرَجَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ فَفَهِمُوا أَنَّهُ قَدْ رَأَى رُؤْيَا فِي الْهَيْكَلِ. فَكَانَ يُومِئُ إِلَيْهِمْ وَبَقِيَ صَامِتاً. ٢٣وَلَمَّا كَمِلَتْ أَيَّامُ خِدْمَتِهِ مَضَى إِلَى بَيْتِهِ. ٢٤وَبَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ حَبِلَتْ أَلِيصَابَاتُ امْرَأَتُهُ وَأَخْفَتْ نَفْسَهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ قَائِلَةً: ٢٥«هَكَذَا قَدْ فَعَلَ بِيَ الرَّبُّ فِي الأَيَّامِ الَّتِي فِيهَا نَظَرَ إِلَيَّ لِيَنْزِعَ عَارِي بَيْنَ النَّاسِ»"- (لوقا ١: ٥- ١٥).

كما تعلمون، هناك فاصل زمني مؤلف من حوالي ٤٠٠ سنة بين سفر ملاخي، آخر سفر في العهد القديم، وأناجيل العهد الجديد. نشير إلى هذه الفترة أحياناً بعبارة "السنوات الأربعمئة الصامتة" لأنه ليس لدينا أي تدوين في تلك السنين، بما يتعلق بالتاريخ الموحى به، عن حديث الله بشكل مسموع للإنسان إما بشكل شخصي مباشر أو عن طريق خدمة ملائكية ما. بالطبع، في الأسفار التي تُسمى أحياناً "الأبوكريفا"، نقرأ عن زيارة ملائكة لبشر وأنبياء يكبرون، ولكن في الكتابات المقدسة المُلهَمة ليس لدينا تدوين عن أي شيء من هذا النوع خلال تلك السنوات الأربعمئة. لقد كانت سنوات انتظار. كان شعب إسرائيل قد عاد من السبي في بابل حوالي العام ٥٣٦- ٤٤٥ ق.م. وكان الله قد كلّم نبيه دانيال، قائلاً أنه في نهاية فترة زمنية معينة محدودة- ٤٨٣ سنة تماماً، ٦٩ فترة تتكون كل منها من ٧ سنوات- سيأتي المسيا، وكان الناس ينتظرون هذا المجيء. كانوا يعلمون أن الوقت كاد يحين ويمكن للمرء أن يفهم الترقب الذي كان لدى اليهود في أورشليم سنة بعد الأخرى في حفظهم لأعياد الرب، على أمل أن يتحقق الوعد.

ولكن لم يحدث شيء إلى أن جاء ذلك اليوم الذي لا يمكن أن يُنسى أبداً، عندما كان كاهن يُدعى زكريا يخدم في المقدس في هيكل أورشليم. نقرأ في الآية ٥: "كَانَ فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ مَلِكِ الْيَهُودِيَّةِ كَاهِنٌ اسْمُهُ زَكَرِيَّا مِنْ فِرْقَةِ أَبِيَّا وَامْرَأَتُهُ مِنْ بَنَاتِ هَارُونَ وَاسْمُهَا أَلِيصَابَاتُ". ستتذكرون، كما هو مدون في ١ أخ ٢٤، أن الملك داود قسم الكهنوت في إسرائيل إلى ٢٤ فرقة، وكل فرقة تخدم لأسبوعين مرة في السنة في الهيكل ثم تُفسح المجال للفرقة التالية. فرقة أبيا كانت الثامنة. وكان زكريا عضواً في هذه الفرقة بالذات، وربما خدم في الهيكل في مناسبات أخرى وربما لا، ولكن في هذا اليوم كان يُبخّر في المذبح المقدس، المذبح الذهبي في المقدس. نقرأ عنه وعن امرأته أنهما "كَانَا كِلاَهُمَا بَارَّيْنِ أَمَامَ اللهِ سَالِكَيْنِ فِي جَمِيعِ وَصَايَا الرَّبِّ وَأَحْكَامِهِ بِلاَ لَوْمٍ" (الآية ٦). هذا لا يعني أنهما كانا بلا خطيئة، "لأنه لا إنسان صدّيق في الأرض يعمل صلاحاً ولا يخطئ" كما يذكر الكتاب المقدس (جامعة ٧: ٢٠)؛ ولكن "بِلاَ لَوْمٍ" تشير إلى الدوافع. لقد كانت دوافعهما بارّة سليمة. كانا يسعيان ليطيعا الله، ويسيرا مع الله، وكان الله يؤيد ما يصنعان إلا في أمر واحد. لقد كان عاراً كبيراً في إسرائيل أن لا تنجب المرأة المتزوجة أولاداً؛ ولذلك، لا بد أن الناس كانوا يتساءلون فيما إذا كان الله غير راضٍ على هذين الزوجين، وفيما إذا كانا لا يجدان حظوة لديه بعد كل ذلك. ولكن الله، كما تعلمون، لا يصنع فورياً ما تلتمسه قلوبنا بحرقة، ومع ذلك يبقى في مقصده أن يكافئ عُبّاده في الوقت المناسب.

مرت السنون وكان هذان الزوجان لا يزالان بلا أولاد، إلى أن صارا الآن كهلين، ويئسا من فكرة أن يصبحا أبوين لولد على الإطلاق. ولكن الإنجيل يخبرنا هنا أن زكريا في ذلك اليوم المعين "بَيْنَمَا هُوَ يَكْهَنُ فِي نَوْبَةِ فِرْقَتِهِ أَمَامَ اللهِ حَسَبَ عَادَةِ الْكَهَنُوتِ أَصَابَتْهُ الْقُرْعَةُ أَنْ يَدْخُلَ إِلَى هَيْكَلِ الرَّبِّ وَيُبَخِّرَ" (الآيات ٨، ٩). ما إن وقف أمام المذبح ونثر البخور على النار التي كانت متقّدة دائماً هناك، حتى انحنت جموع الناس المحتشدة في الخارج مصلّين أمام الله. لقد كانت صورة جميلة عن الشركة في الصلاة. لعل زكريا يرمز هنا فعلياً إلى ربنا المبارك، الذي دخل إلى قدس الأقداس في الأعالي، حيث يعيش أبداً ليتوسط لأجلنا، بينما شعبه يتشارك الصلاة هنا على الأرض.

بينما كان زكريا يصلّي ويرفع الناس قلوبهم إلى الله، فجأة انقطع حبل الصمت للقرون الأربعة. ونقرأ: "فَظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ وَاقِفاً عَنْ يَمِينِ مَذْبَحِ الْبَخُورِ" (الآية ١١). لا بد أن الأمر كان مذهلاً مفاجئاً مجفلاً. ما من أحد من بني إسرائيل الأحياء قد شاهد ملاكاً. لقد سمعوا عن ظهورات ملائكية في السنوات الخوالي، ولكن لا بد أنهم ظنوا أن ذلك ربما مضى إلى الأبد وأنه ما من أحد منهم ربما يحظى بزيارة من ملاك. إذ نظر زكريا إلى هذا الكائن المجيد، يقول الإنجيل أنه "اضْطَرَبَ وَوَقَعَ عَلَيْهِ خَوْفٌ" (الآية ١٢).

لقد كانت الفكرة المألوفة وسط اليهود أن النظر إلى الله أو إلى كائن سماوي يعني الموت. تذكرون في العهد القديم كيف أنه عندما ظهرت الملائكة لأشخاص مختلفين كانوا يمتلئون خوفاً، ويظنون أن ذلك يعني أنهم على وشك الموت. ولكن الملاك سرعان ما هدأ روع زكريا. "قَالَ لَهُ الْمَلاَكُ: «لاَ تَخَفْ يَا زَكَرِيَّا لأَنَّ طِلْبَتَكَ قَدْ سُمِعَتْ وَامْرَأَتُكَ أَلِيصَابَاتُ سَتَلِدُ لَكَ ابْناً وَتُسَمِّيهِ يُوحَنَّا" (الآية ١٣). "لاَ تَخَفْ". يبدو هذا تعبيراً مفضلاً على شفاه الملاك جبرائيل، إذ قبل ذلك وفي هذا الأصحاح الملاك نفسه قال ذلك عندما ظهر إلى العذراء مريم المباركة، ونقرأ في الآية ٣٠: "قَالَ لَهَا الْمَلاَكُ: «لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ". ثم في الأصحاح الثاني والآية ١٠، حيث جند الملائكة ظهروا بالمجد للرعاة الذين كانوا ساهرين على قطعانهم، نقرأ: "قَالَ لَهُمُ الْمَلاَكُ: لاَ تَخَافُوا! فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ". رسالة الإنجيل يُعنى بها أن تزيل كل المخاوف وأن تملأ القلب بالطمأنينة واليقين، ومعرفة اهتمام الله العميق والمقيم بشعبه.

وإذاً هدّأ الملاك مخاوف زكريا وأعطاه وعداً قائلاً: "لاَ تَخَفْ يَا زَكَرِيَّا لأَنَّ طِلْبَتَكَ قَدْ سُمِعَتْ وَامْرَأَتُكَ أَلِيصَابَاتُ سَتَلِدُ لَكَ ابْناً". والملاك سمّى الابن: "تُسَمِّيهِ يُوحَنَّا" (الآية ١٣). يا له من أمر رائع أن يُسمي رسولٌ سماويٌّ طفلاً! لدينا عدة أمثلة على ذلك في الكتابات المقدسة. أخبر الله إبراهيم أن عليه أن يُسمي ابنه "اسحق". وهنا سمَّى الملاك الطفل الذي قال أنه سيولد، مانحاً إياه اسم "يوحنا". والاسم يعني ببساطة "رحمة الله".

الطفل الذي سيولد كان سيكون وسيلة لإدخال الفرح والغبطة إلى قلب أناس كثيرين، وأولهم أهله. "يَكُونُ لَكَ فَرَحٌ وَابْتِهَاجٌ وَكَثِيرُونَ سَيَفْرَحُونَ بِوِلاَدَتِهِ لأَنَّهُ يَكُونُ عَظِيماً أَمَامَ الرَّبِّ وَخَمْراً وَمُسْكِراً لاَ يَشْرَبُ وَمِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِئُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (الآيات ١٤، ١٥). تتذكرون ما قاله يسوع بنفسه فيما بعد عنه ، أن "بين المولودين من النساء ليس نبي أعظم من يوحنا المعمدان ولكن الأصغر في ملكوت الله أعظم منه". كان هذا الرجل عظيماً، مقدراً له أن يكون عظيماً، لأنه كان سيُعدّ الطريق لمجيء الملك. كان سيُعمّد الملك ويقدّمه إلى إسرائيل، ولكن هو نفسه كان سيموت ليكون مع الله، بنتيجة قسوة هيرودس المريرة، قبل أن يرى النظام الجديد وقد تأسس بشكل كامل هنا على الأرض. ولذلك فإن أقل شخص يقتبل المسيح الآن ويدخل إلى ملكوت الله يحتلّ مكانة أعظم من يوحنا المعمدان نفسه. لقد قال: "الملك آتٍ". ويمكننا أن نقول: "الحمد لله، فقد جاء، ونحن متّحدون به بشكل واضح لا لُبسَ فيه".

كان على يوحنا أن يكون منذوراً. قبل سنين طويلة، عندما أعطاهم الله الناموس، قال إنه إن كان أحد من بني إسرائيل سيتكرس للرب بشكل خاص، فيجب أن يبقى في معزل عن أي شيء يأتي من الكرمة. وكان يُحظّر عليه حتى أن يلمس زبيباً مجففاً أو أي نتاج آخر من نتاج الكرمة، لأن الكرمة نفسها كانت رمز الفرح، بينما هؤلاء الرجال تخلّوا عن أفراح الأرض مسرّاتها لكي يكونوا مكرّسين كلية أكثر لله نفسه. إضافة إلى ذلك فقد كانت هناك أعراف أخرى مفروضة عليهم. كان يجب عليم ألا يتنجسوا بالاقتراب من أي جسد ميت. كان عليهم أيضاً أن يطيلوا شعرهم، إلى أن تكتمل أيام نذرهم. كان على شمشون أن يكون منذوراً من ولادته، وقد صار ضعيفاً عندما سمح بقص شعره الطويل. وكان على يوحنا المعمدان أيضاً أن يكون منذوراً من مولده. كان يجب أن يكون مكرساً لخدمة الرب من البدء. ولكن أكثر من ذلك، كان يجب أن يكون مفرزاً بشكل خاص من قِبل الروح القدس ويُقوّى منه من اللحظة التي يأتي فيها إلى العالم. نقرأ: "يَكُونُ عَظِيماً أَمَامَ الرَّبِّ وَخَمْراً وَمُسْكِراً لاَ يَشْرَبُ وَمِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِئُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. وَيَرُدُّ كَثِيرِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الرَّبِّ إِلَهِهِمْ" (الآيات ١٥، ١٦).

لقد أعدّه الله من بدء أيامه الأولى من أجل المهمة العظيمة التي يجب أن يحقّقها. أعتقد أنكم غالباً ما ستجدون أنه عندما يختار الرب شخصاً لعمل خاص ما، فإنه يضع يده عليه في وقت باكر في حياته ويختمه بالامتياز الممكن والبهيج بأن يصبح رسوله إلى عالم ضالٍ محتاج. وما أكثر خُدّام الله الذين قاموا بخدمة عظيمة على مدى سنين الذين دُعيوا إلى الخدمة منذ نعومة أظفارهم كأبناء من أهل أتقياء، ومن أيامهم الأولى أُطلعوا على أمور الرب، وتدربوا على مسؤوليتهم نحو الله، وفيما بعد عندما جاء وقت إدراك الخلاص الكامل والواضح بالإيمان بيسوع المسيح، بدا وكأن ما من شيء يرجعهم إلى الوراء. فمنذ صغرهم بدأوا يعلنون غنى المسيح الذي لا يُسبر غوره.

إذاً دُعي يوحنا من بدء طفولته ليكون خادماً للمسيح، وأُعطي اليقين من الله: "يَرُدُّ كَثِيرِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الرَّبِّ إِلَهِهِمْ" (الآية ١٦). مجيئه كان قد أنبأ به سفر أشعياء. لقد تكلم الروح القدس بشكل محدد عن مجيء هذا الشخص إلى العالم. في الأصحاح ٤٠، بدءاً من الآية ٣، نقرأ: "صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: «أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. قَوِّمُوا فِي الْقَفْرِ سَبِيلاً لإِلَهِنَا. كُلُّ وَطَاءٍ يَرْتَفِعُ، وَكُلُّ جَبَل وَأَكَمَةٍ يَنْخَفِضُ، وَيَصِيرُ الْمُعْوَجُّ مُسْتَقِيمًا، وَالْعَرَاقِيبُ سَهْلاً. فَيُعْلَنُ مَجْدُ الرَّبِّ وَيَرَاهُ كُلُّ بَشَرٍ جَمِيعًا، لأَنَّ فَمَ الرَّبِّ تَكَلَّمَ»" (الآيات ٣- ٥). كانت هذه نبوءة نُطق بها قبل سبعمئة سنة من ولادة يوحنا وتقول بأنه سيأتي إلى العالم من سيُعدّ الطريق أمام المخلّص.

ومن ثم، ملاخي، النبي الأخير في العهد القديم ، يتحدث عنه مرتين. في الأصحاح ٣، الآية ١، يقول الله على لسان ملاخي: "هأَنَذَا أُرْسِلُ مَلاَكِي فَيُهَيِّئُ الطَّرِيقَ أَمَامِي. وَيَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ السَّيِّدُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ، وَمَلاَكُ الْعَهْدِ الَّذِي تُسَرُّونَ بِهِ. هُوَذَا يَأْتِي، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ". كان يوحنا المعمدان هو ذلك الرسول، الذي أُرسل ليعد طريق الرب. ويمكنني أن أضيف هنا أنه لديكم دليل قاطع واضح على ألوهية ربنا يسوع المسيح، لأن الرب هو الذي سيُعَدّ طريقه على هذا النحو، ويوحنا جاء ليعد طريق يسوع. إن يسوع العهد الجديد هو رب العهد القديم. بعدئذٍ، نقرأ في الأصحاح الأخير من ملاخي، الآية ٥: "هأَنَذَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا النَّبِيَّ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ، الْيَوْمِ الْعَظِيمِ وَالْمَخُوفِ، فَيَرُدُّ قَلْبَ الآبَاءِ عَلَى الأَبْنَاءِ، وَقَلْبَ الأَبْنَاءِ عَلَى آبَائِهِمْ. لِئَلاَّ آتِيَ وَأَضْرِبَ الأَرْضَ بِلَعْنٍ" (الآيات ٥، ٦).

كانت هذه نبوءة تشير إلى خدمة يوحنا المعمدان. لم يأتِ إيليا بنفسه راجعاً من السماء إلى الأرض، بل يوحنا هو الذي سيأتي بقوة إيليا. في الإشارة مرة أخرى إلى الأصحاح الأول من لوقا، الآيات ١٦ و١٧، نجد أنها تؤكد على حقيقة أن يوحنا كان رسول الرب. "وَيَرُدُّ كَثِيرِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الرَّبِّ إِلَهِهِمْ. وَيَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ لِيَرُدَّ قُلُوبَ الآبَاءِ إِلَى الأَبْنَاءِ وَالْعُصَاةَ إِلَى فِكْرِ الأَبْرَارِ لِكَيْ يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْباً مُسْتَعِدّاً". الإشارة هي بشكل واضح قاطع إلى النبوءة المعطاة في ملاخي.

تذكرون ما حدث فيما بعد عندما أتى التلاميذ إلى الرب يسوع حيث كان يتحدث عن مجيئه الثاني، وسألوه: "لماذا يقول الكتبة إن إيليا ينبغي أن يأتي أولاً؟ فأجابهم يسوع بأن: "إيليا أيضاً قد أتى وعملوا به كل ما أرادوا"؛ ومن ثم فسّر لهم أن يوحنا قد أتى بروح وقوة إيليا. ليس من نصّ كتابي آخر يعلن أن إيليا سيأتي. لقد جاء لتوه في شخص يوحنا المعمدان. لعلكم تقولون: "حسنٌ، كان ينبغي أن يأتي قبل يَوْمِ الرَّبِّ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ وَالْمَخُوفِ". نعم، وقد فعل ذلك فعلاً. يَوْم الرَّبِّ الْعَظِيم وَالْمَخُوف لا يزال في المستقبل، ولدينا دهر النعمة التدبيري هذا في الوسط؛ ولكن ذلك بشكل يتوافق مع كل نبوءات العهد القديم. هذا الدهر الحالي محتجب بالكلّية. إنه الفترة الفاصلة العظيمة الكائنة في مخطط الله. "يَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ لِيَرُدَّ قُلُوبَ الآبَاءِ إِلَى الأَبْنَاءِ وَالْعُصَاةَ إِلَى فِكْرِ الأَبْرَارِ"؛ أي، يدعو شعب إسرائيل للعودة إلى شهادة كلمة الله وإلى ذلك الناموس الذي كان قد سُلّم لآبائهم.

عندما تم هذا الإعلان لزكريا امتلأ بالدهشة والحيرة. انظروا كم هو بشري! كان وزوجته المخلصة قد صلّوا لسنوات أن "يا ألله، إن كان يحسن لديك، امنحنا ولداً"؛ وظنّوا أنهم كانوا يصلّون بإيمان، ولكن مضت السنون وما من ولدٍ أدخل البهجة إلى منزلهم وحياتهم. والآن، وإذ يظهر الملاك ويقول، "قريباً ستعانقون ولداً، وتدعون اسمه يوحنا"، نظر زكريا إلى الملاك بشك. لقد نسي كم صلّى طوال تلك السنين. نسي أن الله يمكن الاعتماد عليه ليستجيب لصلاة الإيمان، فسأل الملاك: "كَيْفَ أَعْلَمُ هَذَا لأَنِّي أَنَا شَيْخٌ وَامْرَأَتِي مُتَقَدِّمَةٌ فِي أَيَّامِهَا؟" (الآية ١٨). بمعنى آخر، لكأنه يقول عملياً: "حسنٌ. أي علامة ستعطيني لتؤكد لي أن هذا الوعد سيتحقق؟ إنه أمر يصعب عليّ كثيراً أن أومن به. بالكاد أستطيع أن أعتقد أن صلاتي ستُستجاب فعلاً. أي علامة ستكون لي على أن الله سيصنع هذا من أجلي؟" لعله يمكنني أن أقول بوقار وخشية، يبدو لي أن الملاك استاء نوعاً ما من نقص الإيمان عند زكريا.

أتساءل إذا ما كان الله غالباً سيحزن على نفس المنوال عندما سيرى نقص الإيمان لدينا! إنه يعطينا وعوداً عظيمة وثمينة هكذا، ونأتي إليه في الصلاة، ونبسط أمامه حاجاتنا فيعطينا كلمته، ونجد أنفئنا نتساءل: "أنى لي أن أعرف ذلك؟" هل سبق له أن قال شيئاً ولم يصنعه؟ هذا كل ما يتطلبه الإيمان- كلمة الله الحي. لسنا في حاجة إلى علامة ما أخرى لكي نتأكد من أن الله سيحقق وعده وكلمته.

فَأَجَابَ الْمَلاَكُ وَقَالَ لزكريا: "أَنَا جِبْرَائِيلُ الْوَاقِفُ قُدَّامَ اللهِ، وَأُرْسِلْتُ لأُكَلِّمَكَ وَأُبَشِّرَكَ بِهذَا" (الآية ١٩). بمعنى آخر، إنه يقول عملياً: "يا زكريا، لعلك لم تدرك من هو الذي أرسلني إليك؟ أن الملاك الواقف في حضرة الله- جبرائيل، جبرائيل الذي ظهر لدانيال. جبرائيل الذي كشف نبوءة الأسابيع السبعين، والذي أخبر عن الأمور المجيدة التي ستأتي". والآن يقول: "أُرْسِلْتُ لأُكَلِّمَكَ وَأُبَشِّرَكَ بِهذَا". كان يجب أن يكون هذا كافياً. "لقد جئت مباشرة من العرش رسولاً للرب. عليك أن تكون مستعداً لقبول كلمتي بالنيابة عنه، ولكنك الآن تريد علامة. سأعطيك علامة، علامة لن تسرّك، ولكن سأعطيك علامة لأنك لست مستعداً للثقة بكلمة الله المجردة". "هَا أَنْتَ تَكُونُ صَامِتًا وَلاَ تَقْدِرُ أَنْ تَتَكَلَّمَ، إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ هذَا، لأَنَّكَ لَمْ تُصَدِّقْ كَلاَمِي الَّذِي سَيَتِمُّ فِي وَقْتِهِ" (الآية ٢٠).

عدم الإيمان أخرس فم زكريا. الكلمات الأخيرة التي خرجت من شفتيه قبل أن يتحقق الوعد كانت: "كيف أعلم هذا؟". وأول كلمات نطق بها بعد أن تحقق الوعد كانت كلمات حمد وتسبيح وشكر. عدم الإيمان جعله أبكماً: والإيمان فتح شفتيه من جديد.

"كَانَ الشَّعْبُ مُنْتَظِرِينَ زَكَرِيَّا وَمُتَعّجِّبِينَ مِنْ إِبْطَائِهِ فِي الْهَيْكَلِ" (الآية ٢١). كما ترون لقد مكث هناك، عند مذبح البخور طول من الوقت الذي يستغرقه الكاهن بالعادة. كان يجب أن يخرج، بحسب الإجراء المتبع في الخدمة، ليبارك الشعب؛ ولكنه بقي داخلاً في حضرة الله، رغم أنه لم يفهم الأمر. ولذلك فقد تعجّبوا من أنه أطال المكوث كثيراً هناك. "فَلَمَّا خَرَجَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ، فَفَهِمُوا أَنَّهُ قَدْ رَأَى رُؤْيَا فِي الْهَيْكَلِ. فَكَانَ يُومِئُ إِلَيْهِمْ وَبَقِيَ صَامِتًا" (الآية ٢٢). لقد وقف هناك وأبدى إيماءة، وهو عاجز عن الكلام. "كَانَ يُومِئُ إِلَيْهِمْ وَبَقِيَ صَامِتًا". وأدركوا غريزياً أن أمراً عجيباً قد حدث، وأنه قد رأى رؤيا ما. ثم نعلم أنه "لَمَّا كَمِلَتْ أَيَّامُ خِدْمَتِهِ مَضَى إِلَى بَيْتِهِ" (الآية ٢٣).

اضطُرّ لأن يبقى هناك في أورشليم لمدة أسبوعين فقط، ثم رجع إلى بيته وانتظر الوقت الملائم ليبدأ الله بتحقيق وعده له. "وَبَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ حَبِلَتْ أَلِيصَابَاتُ امْرَأَتُهُ، وَأَخْفَتْ نَفْسَهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ قَائِلَةً: «هكَذَا قَدْ فَعَلَ بِيَ الرَّبُّ فِي الأَيَّامِ الَّتِي فِيهَا نَظَرَ إِلَيَّ، لِيَنْزِعَ عَارِي بَيْنَ النَّاسِ»" (الآيات ٢٤، ٢٥).

يمكن للمرء أن يتخيل مدى السرور الذي كان يملأ قلبها عندما أدركت أنها بعد كل تلك السنين سيستجيب الله لطلبتها حقاً، وأنها ستكون أم هذا الطفل الذي قُدّر له أن يستقبل المسيا بنفسه عندما يأتي إلى إسرائيل. ألا ليتنا نتعلّم درس الإيمان والثقة والاتّكال على الله، الله الذي لا تزال يده ممتدة، والذي يوجه إلينا السؤال: "هل من أمرٍ يصعب على الرب؟".