الخطاب ٣٥
التعصّب منبوذ، والأمانة مطلوبة
"٥١وَحِينَ تَمَّتِ الأَيَّامُ لاِرْتِفَاعِهِ ثَبَّتَ وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إِلَى أُورُشَلِيمَ ٥٢وَأَرْسَلَ أَمَامَ وَجْهِهِ رُسُلاً فَذَهَبُوا وَدَخَلُوا قَرْيَةً لِلسَّامِرِيِّينَ حَتَّى يُعِدُّوا لَهُ. ٥٣فَلَمْ يَقْبَلُوهُ لأَنَّ وَجْهَهُ كَانَ مُتَّجِهاً نَحْوَ أُورُشَلِيمَ. ٥٤فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ تِلْمِيذَاهُ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا قَالاَ: «يَا رَبُّ أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ كَمَا فَعَلَ إِيلِيَّا أَيْضاً؟» ٥٥فَالْتَفَتَ وَانْتَهَرَهُمَا وَقَالَ: «لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا! ٥٦لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ النَّاسِ بَلْ لِيُخَلِّصَ». فَمَضَوْا إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى. ٥٧وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ فِي الطَّرِيقِ قَالَ لَهُ وَاحِدٌ: «يَا سَيِّدُ أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي». ٥٨فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ». ٥٩وَقَالَ لآخَرَ: «ﭐتْبَعْنِي». فَقَالَ: «يَا سَيِّدُ ائْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلاً وَأَدْفِنَ أَبِي». ٦٠فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «دَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ وَأَمَّا أَنْتَ فَاذْهَبْ وَنَادِ بِمَلَكُوتِ اللهِ». ٦١وَقَالَ آخَرُ أَيْضاً: «أَتْبَعُكَ يَا سَيِّدُ وَلَكِنِ ائْذِنْ لِي أَوَّلاً أَنْ أُوَدِّعَ الَّذِينَ فِي بَيْتِي». ٦٢فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى الْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ اللهِ»" (لوقا ٩: ٥١- ٦٢).
هذا الجزء من لوقا يمكن أن نلاحظ بسهولة أنه ينقسم إلى قسمين. في الآيات ٥١- ٥٦ لدينا توبيخ ربنا الجاد والصارم لروح التعصب. ثم في الآيات ٥٧- ٦٢ يضع الرب يسوع مبادئ معينة للتلمذة يجب علينا نحن الذين نعترف بأننا نحبه أن نبقيها ماثلة في أذهاننا. لقد ترك الجليل وهو يعرف تماماً ما ينتظره في اليهودية. لقد كان هناك من قبل. ولقد حاولوا أن يقتلوه آنذاك، ولكن يخبرنا الإنجيل أن ساعته ما كانت قد أتت بعد. ما كانوا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً لإيذائه جسدياً إلى أن يسلّم نفسه طوعياً إلى أيديهم. أمكنه أن يقول: "لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُ حياتي مِنِّي بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي". ولكن ها هي الآن قد دنت الساعة عندما آن الأوان ليتحقق الهدف الذي جاء من أجله إلى الأرض. لقد جاء يسوع ليقدم نفسه فدية عنا؛ وإذ كان يضع ذلك نصب عينيه، "ثَبَّتَ وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إِلَى أُورُشَلِيمَ". ما من شي كان ليمكن أن يحيده عن توجهه. عندما تكلم عن الصليب الذي كان سيُصلب عليه، حتى بطرس احتج على ذلك، قائلاً: "حَاشَاكَ يَا رَبُّ! لاَ يَكُونُ لَكَ هَذَا!" ولكن يسوع وبّخه قائلاً: "اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ. أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا لِلَّهِ لَكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ". لم يسمح يسوع لأحد أو لشيء أن يحيده عن هدفه العظيم الذي جاء ليحققه.
وإذ ثبت يسوع وجهه كالصوان ذاهباً إلى أورشليم، وبينما كان يمر مع تلاميذه عبر منطقة من السامرة، أرسل رسلاً أمامه إلى القرية القريبة ليقوموا بالاستعدادات لقضاء الليل هناك. ونعلم أنه كانت هناك كراهية شديدة بين السامريين واليهود، وما كان أي منهما ليتعامل مع الآخر. كان لهؤلاء السامريون نوعاً من عرق هجين من الناس جزئياً من أصل إسرائيلي وجذرياً ينحدرون من أجناس مختلطة كان ملك آشور قد أتى بهم إلى الأرض بعد أن سبى الأسباط العشرة. وهؤلاء كان لهم زيجات مختلطة مع بقية بني إسرائيل، وكانت عبادتهم مختلطة قد طوروها بأنفسهم، مستندين إلى حد ما على كتب الناموسية الخمسة؛ ولكن السامريين كانوا يرفضون كل الأجزاء الأخرى من العهد القديم. لقد كان لديهم معبدهم الخاص على جبل جرزيم، وكانوا ينظرون بارتياب ونقمة إلى اليهود بسبب إدعائهم أنهم شعب الرب المختار. من جهة أخرى، كان اليهود يبادرونهم الموقف العدائي ببغضهم للسامريين الذين كانوا ينظرون إليهم على أنهم أتباع لديانة زائفة ليس لها أساس يستند على الكتابات المقدسة. وبينما كانت الجماعة الصغيرة ترتحل مع يسوع عبر السامرة، فإن الناس في تلك القرية التي كانوا ينوون أن يمضوا الليلة عندهم رفضوا استقبالهم لأن وجه يسوع كان متجّهاً نحو أورشليم، أي لأنهم كانوا يعرفون أنه كان ذاهباً إلى أورشليم. وإذ أدركوا انه لم يكن سيستقر وسطهم كمعلّم لهم، بل ستمتد خدمته إلى أولئك الذين يبغضهم السامريون، فإن هؤلاء القوم بدورهم صبّوا جام ضغينتهم عليه بأن رفضوا استضافته. لو كان قد جاء إليهم بشكل خاص لربما كانوا قبلوه وقبلوا رسالته، ولكن في هذا الأوان كان مهتماً بشعب آخر.
ما من شيء يفوق مرارة التعصب الديني. فتنظر جماعة متدينة من الناس بارتياب إلى من هم في الجماعات الأخرى؛ وغالباً مع ازدياد اقترابهم من بعض تزداد الشدة والمشاعر السيئة بينهم. وهذا تجلى واضحاً في حالة اليهود والسامريين.
كان يعقوب ويوحنا ساخطين جداً بسبب معاملة هؤلاء الناس لمعلّمهم في هذه المناسبة حتى أنهما كانا على استعداد أن يمضيا إلى أقصى الحدود لكي ينتقما منهم. فقالا ليسوع: "يَارَبُّ، أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ، كَمَا فَعَلَ إِيلِيَّا أَيْضًا؟" غالباً ما نفكر بيعقوب ويوحنا على أنهما شابان متسامحان للغاية؛ ولكن الناس المتسامحين والمخلصين والمكرسين يمكن أن يصبحوا قساة جداً عندما يتعلق الأمر بتعاملهم مع الآخرين الذين هم مختلفون عنهم. هذان التلميذان اللذان أطلق عليهما يسوع اسم "بُوَانَرْجِسَ (أَيِ ابْنَيِ الرَّعْدِ)"، يتطابق سلوكهما هنا مع اسمهما، وهذان ظنّا أنهما يظهران ولاءهما للمسيح بأن يسعيا لمحاكاة إيليا وأن يهلكوا السامريين. بدا وكأنهما يفكران أنهما إن أنزلا ناراً من السماء على هؤلاء، فإن الله لا بد أن يستجيب لهما ويفني المدينة التي رفضت استقبال يسوع وأتباعه لتلك الليلة؛ وهكذا كانا سيستمتعان لرؤية أعدائهما الدينيين يُبادون على نحو كامل.
يا لها من روح فظيعة تلك، ومع ذلك كم تظهر عبرا لدهور والعصور! يخبرنا التاريخ كيف أن الكنائس قد قاتلت كنائس أخرى، والمسيحيون حاربوا مسيحيين آخرين، مستخدمين أشد وأقسى أنواع القد والذم في الكلام بل وحتى غالوا في الأمر فقتلوا بعضهم بعضا. تمتلئ قلوبنا بالرعب ونحن نفكر في الآلاف من المسيحيين الأوائل الذين استُشهدوا بأمر من أباطرة روما الوثنيين. ولكن الأمر المذهل هو أنه خلال القرون التي تلت دمار الوثنية، نجد أن المسيحيين المعترفين حشدوا ضد صفوف الآخرين يحملون أيضاً اسم المسيح؛ وسِرّ بَابِل كان مسؤولاً عن موت أناس يفوق عددهم على عدد من قتلتهم روما الوثنية. وحتى في البروتستانتية خلال القرون التي تلت الإصلاح، كم من حرب غير مقدسة نشبت؛ وكم من مؤمنين فشلوا وللأسف في أن يسلكوا معاً في الشركة المقدسة! وعندما سنقف في نهاية الأمر أمام كرسي دينونة المسيح، هناك لكي نقدم حساباً عن أعمالنا في الجسد، كم سنشعر بالخجل والخزي والعار إذا ما تبينت روح التعصب الخاطئة التي ميّزت شخصية يعقوب ويوحنا عندما كانوا يردون أن يدمروا القرية السامرية لأن شعبها لم يفهم، ولذلك لم يقبل المخلّص الذي كان يرتحل عبر تلك القرية نحو أورشليم.
لقد رفض قلب يسوع الحاني اقتراح ذينك التلميذين المتحمسين، وبدلاً من أن يعطيهما الحرية ليصنعا كما رغبا، فقد انتهرهما وقال: "لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا! لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ النَّاسِ، بَلْ لِيُخَلِّصَ". لا بد أن هذين التلميذين شعر بهذا التأنيب القاسي الصارم، ولا شك أنهما تعلّما درساً لن يكون في مقدورهما نسيانه أبداً.
والآن دعونا نتأمل بعناية لبضعة دقائق بكلمات ربنا، لأنها تجسّد حقيقة رائعة: "ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ النَّاسِ، بَلْ لِيُخَلِّصَ". وفي مكان آخر قال: "لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ". ويخبرنا الإنجيل أن "اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحاً الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ". كان الرب يسوع في طريقه إلى الصليب ليحمل الدينونة عن الخطاة؛ ولذلك أمكنه أن يقول لامرأة بائسة ضالة: "ولاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضاً".
إنه لأمر قيم فعلاً أن ندرك أنه:
"إن رحمة الله رحبةٌ،
كوسع البحر:
ثمة لطف في عدالته،
أكثر من حرية.
لأن محبة الله أوسع
من مقياس فكر الإنسان.
وقلب السرمدي
لطيف عجيب إلى أبعد الحدود".
إن الله ينظر بحنو وإشفاق إلى الناس. حتى وإن داسوا على محبته ورفضوا ابنه المبارك، يبقى قلبه متعطّفاً عليه؛ إنه ينتظر منهم أن يتوبوا، ويتوق لأن يخلّصهم. هو "لا يرغب أن يهلك أحد"، بل أن يرجع إليه الجميع فيحيون. يا لنعمته العجيبة! عندما نفكر بأن بعضاً من أسوأ أعداء صلب المسيح قد تملكته سلطة الله وتحوّل على نحو رائع، وفيما بعد صار من المتحمسين الكبار للخلاص الذي صنعه الرب يسوع على الصليب. نفكر بشاول الطرسوسي الذي يضطهد كنيسة الله، مرسلاً المؤمنين إلى السجن، ويحكم عليهم بالموت؛ ومع ذلك فقد أوقفه في النهاية المسيح القائم عندما تراءى له على الطريق إلى دمشق، وربح ذلك المخلّص قلبه كلّياً وهو الذي رفضه لزمن طويل.
ولكن ها هنا شيء أكبر، على ما أعتقد، في هذه الكلمات- "ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ النَّاسِ، بَلْ لِيُخَلِّصَ". وهذا ليس مشتملاً في التحرر من الدينونة. أناس كثيرون لديهم فكرة أنه بصيرورتهم مسيحيين يفقدون كل فرح الحياة، ويعيشون بقية أيام حياتهم في سوداوية، ونوعاً من الوجود الكئيب، ويخافون من هذا ومن ذاك ولذلك، هم في محنة ذهنية دائمة مستديمة. ما هذه سوى صورة كاريكاتورية عن المسيحية الحقيقية. عندما يفكر الناس في إتباع المسيح بما يشتمل ذلك على عيش حياة من الكفاح المتواصل والكبح، فإنهم يخفقون في فهم بركة الولادة الجديدة. لا أحد يدخل إلى الحياة في الواقع إلى أن يعرف المسيح. الإنسان غير المخلّص قد يتكلم عن "رؤية الحياة" ولكن عملياً إنهم يتقربون من الموت. وحده من آمن بالمسيح يستمتع بالحياة على أكمل وجه. وبهذا المعنى يتكلم يسوع عندما قال بأنه لم يأتِ ليهلك البشر. لم يأتِ ليأخذ منا كل الفرح والسعادة؛ لم يأتِ ليجعل أتباعه معتزلين منعزلين عن العالم، خائفين من التمتع بالصالحات التي تقدّمها لنا العناية الإلهية. لقد جاء يسع ليعطينا أن ندرك أنه عندما نعرف الله المعنى في المسيح فعندها فقط نحصل على أفضل ما في الحياة.
"السماء في العلاء زرقاء صافية؛
والأرض تحتها خضراء قائعة:
ثمة ما يحيا في كل لون،
عيون الإلحاد لا ترى.
الطيور بأعذب الألحان تغرّد؛ والزهور بأروع الجمال تشرق،
ولأني أني أعرف، كما أعرف الآن،
فأنا له وهو لي".
هذه إحدى الترانيم التي علّمنا إياها أحد شعرائنا المسيحيين. ما من أحد على استعداد للتمتع بخيرات هذه الحياة مثل الإنسان الذي يعرف معنى أن يكون مستقيماً في عيني الله. تخبرنا رسالة يوحنا الأولى أن "مَنْ لَهُ الاِبْنُ فَلَهُ الْحَيَاةُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ابْنُ اللهِ فَلَيْسَتْ لَهُ الْحَيَاةُ". وبهذه الحياة الإلهية الأبدية التي تُعطى مجاناً لكل من يؤمن بالرب يسوع المسيح، تأتي القدرة بالتمتع بكل عطايا الله وإدراك أن كل تلك الصالحات تأتي منه، وهو الأب السماوي المحب المهتم جداً وبعمق بكل شيء يتعلق بخير خاصته. عندما يأتي المرء لمعرفة المسيح، فإن الأمور التي كانت تبدو يوماً ذات قيمة يتبين له أنها تافهة جداً؛ بينما تلك الأشياء التي كان يجفل منها يوماً ما يتعلّم أن يقدّرها على أكمل وجه ممكن.
في القسم التالي نرى ربنا من جديد يضع مبادئ التلمذة التي تنطبق على كل الحقبات التاريخية حتى مجيئه ثانية في قوة ومجد. نقرأ: "وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ فِي الطَّرِيقِ قَالَ لَهُ وَاحِدٌ: «يَا سَيِّدُ، أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي»". ها هنا إنسان كان واضحاً أنه منجذب بنعمة المسيح. لقد جاء إلى يسوع بإرادته كما هو واضح، وأعلن استعداده لأن يتبعه ويتطابق معه، ولكن الرب يوسع امتحنه في الحال بأن قال له: "لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ، وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ". لكأن يسوع كان يريد أن يقول إلى هذا التلميذ المعترف: "إن تبعتني فعليك ألا تتوقع أي مكسب أرضي؛ فإني لا أعدك بأنك ستمر بوقت يسيرٍ هنا على الأرض؛ لا أضمن لك راحةً زمانية زائلة. ليس لي بيت أنا نفسي. أنا، الذي أتيت من السماء- أسير عبر هذا العالم كغريب وليس لدي مسكن معين أقيم فيه، وليس لي غنى أرضي أمنحه لتلاميذي؛ ولذلك إن كنت ستتبعني، فهذا يعني أن تعيش حياة من النكران والتخلّي على طول الطريق".
هل يبطل هذا ما لاحظناه قبل قليل في الآيات السباقة؟ لا أبداً على الإطلاق. إذ ليس من حياة أكثر سعادة في هذا العالم من تلك الحياة التي يدخلها المرء عندما يأخذ مكانته في الشركة مع المسيح ويعبر خلال هذا العالم كغريب وسائح ورحّال.
شروط التلمذة لم تتبدل، وهي لا تزال على حالها اليوم كما في القديم. إتباع المسيح لا يضمن للمرء حياة من الراحة واليسر. نِعمَ ما قال سافونارولا: "الحياة المسيحية حافلة فتصنع الخير وتعاني من الشر". كلما كنا أمناء أكثر للمسيح كلما عانينا أكثر من العالم، ولكن يمكننا أن نجتاز ذلك بالشركة مع ربنا المرفوض، وأن نجد فرحاً في مشاركته الرفض الذي لا يمكن للنفس أن تجده في متع هذا العالم. في هذه الحادثة لا نعرف إذا ما كان الرجل قد تبع الرب أم أنه عاد أدراجه خائباً.
وقال يسوع لآخر: "اتْبَعْنِي"، فأجاب ذاك: "يَا سَيِّدُ، ائْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلاً وَأَدْفِنَ أَبِي". إلا أن يسوع قال ما معناه أن: "يجب ألا تضع أي شيء آخر في المقام الأول. فما أقوله أسمى من كل شيء". لكأن هذا الرجل يقول: "نعم يا رب؛ إني أحبك، وسوف أكون مستعداً لإتباعك يوماً ما، ولكن لي أبٌ طاعنٌ في السن، ولا أستطيع أن أتركه إلى أن يتوفاه الأجل وأن أدفنه؛ وعندما يحدث ذلك سأكون مستعداً لإتباعك". أجاب الرب: "دَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ، وَأَمَّا أَنْتَ فَاذْهَبْ وَنَادِ بِمَلَكُوتِ اللهِ". بمعنى آخر، لكأنه قال: "إن كانت رسالتي قد لمست ونفسك؛ إن كنتُ قد ربحت ثقتك وإيمانك؛ إن كنت تشعر بدعوة إلهية لتمثّلني في شعب إسرائيل، فلا تنتظر إلى أن تتغير ظروف العائلة، ابدأ في الحال أن تخبر الآخرين عما فعله الله لك وعما يستطيع أن يفعله لك".
أخشى أن يكون كثيرون منا قد أجابوا أحياناً الرب بنفس الطريقة كما فعل ذلك الرجل. لقد سمحنا لروابط القربى أن تشكّل عائقاً بيننا وبين عمل المسيح؛ ولكن يجب أن يكون المسيح أولاً، ثم يأتي كل شيء آخر في مكانه الصحيح.
وجاء رجل ثالث وقال: "أَتْبَعُكَ يَا سَيِّدُ، وَلكِنِ......". لنتوقف هنا للحظة. هذه الكلمة الصغيرة المؤلفة من ثلاثة أحرف قد سلبت نفوس كثيرين وأعاقتهم عن تقديم حياتهم للمسيح. هل هي تعيقك؟ ما هي هذه الـ "لكن" التي في أذهانكم؟ "أَتْبَعُكَ، وَلكِن"- لا أستطيع أن أتخلى عن هذا، أو ذاك، أو شيء آخر. هل هو الحال هكذا؟ "أَتْبَعُكَ، وَلكِن"- لا أستطيع أن أسلّم ذاتي كلياً لك في هذه المرحلة بالذات. ما هي هذه الـ "لكن" التي تعيقك؟ قال هذا الرجل: "أَتْبَعُكَ يَا سَيِّدُ، وَلكِن"- يجب أن أعود وأسوّي الأمور مع أهلي في البيت؛ لست مستعداً لأن أتبعك بعد؛ يجب أن أذهب وأتكلم إليهم أولاً. كان عليهم أن يتعلّم أن أقوال يسوع كانت أسمى من كلّ شيء آخر. قال يسوع له: "لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى الْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ اللهِ". ألا ليتنا جميعاً ندرك هذا أكثر فأكثر، وندرك أن المسيح يجب أن يكون له المقام الأول في قلوبنا وحياتنا!