الخطاب ٢٩

المسيح ينتصر على الأرواح الشريرة

"٢٦وَسَارُوا إِلَى كُورَةِ الْجَدَرِيِّينَ الَّتِي هِيَ مُقَابِلَ الْجَلِيلِ. ٢٧وَلَمَّا خَرَجَ إِلَى الأَرْضِ اسْتَقْبَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمَدِينَةِ كَانَ فِيهِ شَيَاطِينُ مُنْذُ زَمَانٍ طَوِيلٍ وَكَانَ لاَ يَلْبَسُ ثَوْباً وَلاَ يُقِيمُ فِي بَيْتٍ بَلْ فِي الْقُبُورِ. ٢٨فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ صَرَخَ وَخَرَّ لَهُ وَقَالَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «مَا لِي وَلَكَ يَا يَسُوعُ ابْنَ اللهِ الْعَلِيِّ! أَطْلُبُ مِنْكَ أَنْ لاَ تُعَذِّبَنِي». ٢٩لأَنَّهُ أَمَرَ الرُّوحَ النَّجِسَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الإِنْسَانِ. لأَنَّهُ مُنْذُ زَمَانٍ كَثِيرٍ كَانَ يَخْطَفُهُ وَقَدْ رُبِطَ بِسَلاَسِلٍ وَقُيُودٍ مَحْرُوساً وَكَانَ يَقْطَعُ الرُّبُطَ وَيُسَاقُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَى الْبَرَارِي. ٣٠فَسَأَلَهُ يَسُوعُ قَائِلاً: «مَا اسْمُكَ؟» فَقَالَ: «لَجِئُونُ». لأَنَّ شَيَاطِينَ كَثِيرَةً دَخَلَتْ فِيهِ. ٣١وَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ لاَ يَأْمُرَهُمْ بِالذَّهَابِ إِلَى الْهَاوِيَةِ. ٣٢وَكَانَ هُنَاكَ قَطِيعُ خَنَازِيرَ كَثِيرَةٍ تَرْعَى فِي الْجَبَلِ فَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَأْذِنَ لَهُمْ بِالدُّخُولِ فِيهَا فَأَذِنَ لَهُمْ. ٣٣فَخَرَجَتِ الشَّيَاطِينُ مِنَ الإِنْسَانِ وَدَخَلَتْ فِي الْخَنَازِيرِ فَانْدَفَعَ الْقَطِيعُ مِنْ عَلَى الْجُرْفِ إِلَى الْبُحَيْرَةِ وَاخْتَنَقَ. ٣٤فَلَمَّا رَأَى الرُّعَاةُ مَا كَانَ هَرَبُوا وَذَهَبُوا وَأَخْبَرُوا فِي الْمَدِينَةِ وَفِي الضِّيَاعِ ٣٥فَخَرَجُوا لِيَرَوْا مَا جَرَى. وَجَاءُوا إِلَى يَسُوعَ فَوَجَدُوا الإِنْسَانَ الَّذِي كَانَتِ الشَّيَاطِينُ قَدْ خَرَجَتْ مِنْهُ لاَبِساً وَعَاقِلاً جَالِساً عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ فَخَافُوا. ٣٦فَأَخْبَرَهُمْ أَيْضاً الَّذِينَ رَأَوْا كَيْفَ خَلَصَ الْمَجْنُونُ. ٣٧فَطَلَبَ إِلَيْهِ كُلُّ جُمْهُورِ كُورَةِ الْجَدَرِيِّينَ أَنْ يَذْهَبَ عَنْهُمْ لأَنَّهُ اعْتَرَاهُمْ خَوْفٌ عَظِيمٌ. فَدَخَلَ السَّفِينَةَ وَرَجَعَ. ٣٨أَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الشَّيَاطِينُ فَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ وَلَكِنَّ يَسُوعَ صَرَفَهُ قَائِلاً: ٣٩«ﭐرْجِعْ إِلَى بَيْتِكَ وَحَدِّثْ بِكَمْ صَنَعَ اللهُ بِكَ». فَمَضَى وَهُوَ يُنَادِي فِي الْمَدِينَةِ كُلِّهَا بِكَمْ صَنَعَ بِهِ يَسُوعُ. ٤٠وَلَمَّا رَجَعَ يَسُوعُ قَبِلَهُ الْجَمْعُ لأَنَّهُمْ كَانُوا جَمِيعُهُمْ يَنْتَظِرُونَهُ." (لوقا ٨: ٢٦- ٤٠).

هذه إحدى المقاطع العديدة التي تصور لنا ربنا المبارك كمنتصر مطلق على القوة الشيطانية. يرفض كثيرون اليوم قبول تعليم الكتاب المقدس عن شخصانية إبليس وزبانيته. كثيرون يعتقدون أن الشيطان هو ببساطة تجسيد للشر، ولكن كلمة الله ترينا بوضوح أن من هو الشيطان الآن كان يوماً روحاً نقية، ملاكاً مقدّساً، ملازماً الحضور أمام عرش الله، ولكنه سقط بسبب الكبرياء. يقول يسوع عنه: "لَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَقِّ". من الواضح أن الكثير من الملائكة الآخرين كانوا متورطين معه في تمرده وهم الآن في تحالف معه مقاومين الله والمسيح. هناك شيطان واحد فقط، إلا أن هناك الكثير من الأرواح الشريرة. ولذلك، فعندما يُقال "شياطين" بصيغة جمع كما تُستخدم في روايات العهد الجديد، يجب أن يُفهم منها دائماً على أنها تشير إلى الأرواح الشريرة، لأنها ترجمة للكلمة اليونانية التي تعني هذا، أكثر من أن تعني شياطين.

خلال خدمة ربنا على الأرض كثيراً ما التقى بأناس خاضعين للشيطان الذي يستحوذ عليهم. ربما لا نستطيع أن نفهم بشكل كامل سبب هذه السطوة المريعة للشيطان على الناس رجالاً ونساءً، ولكننا نعلم أن ربنا كان دائماً منتصراً عليه.

ونعلم من القصة هنا أن يسوع عندما وصل إلى كُورَةِ الْجَدَرِيِّينَ الَّتِي هِيَ مُقَابِلَ الْجَلِيلِ، التقى به إنسانٌ كان يقيم بين القبور وكانت تستحوذ عليه الكثير من الأرواح الشريرة وليس واحداً فقط. جدرة نفسها كانت كورة محظورة نوعاً ما، خارج أرض كنعان الأصلية، وكان يقطنها سكان مختلطون. الكثير من هؤلاء الناس كانوا يهود مرتدّين يمارسون عادات وأعراف غريبة ومنفّرة بالنسبة لليهود التقليديين، حتى أن البعض كانوا يربّون ويبيعون الخنازير. من الواضح أن قوة إبليس كانت ظاهرة وسط هؤلاء الناس أكثر من الأرض نفسها. لاحظ الحالة المريعة التي كان يعاني منها هذا الكائن الممسوس. يخبرنا لوقا أنه "كَانَ فِيهِ شَيَاطِينُ (أرواح شريرة) مُنْذُ زَمَانٍ طَوِيل، وَكَانَ لاَ يَلْبَسُ ثَوْبًا، وَلاَ يُقِيمُ فِي بَيْتٍ، بَلْ فِي الْقُبُورِ". إنه صورة عن الإنسان الواقع تحت سيطرة الشيطان المطلقة. وحاول أصدقاءه مراراً وتكراراً أن يقيدوه ليخففوا من القوة التي سجنته وقيدته، ولكنه كَانَ يَقْطَعُ الرُّبُطَ بقوة فائقة للبشر وَيُسَاقُ مبتعداً عن أماكن السكن العادية للناس إِلَى الْبَرَارِي حيث يبقى مع الأموات في القبور.

إنه لأمر فظيع أن يتمكن إبليس من إنسان إلى تلك الدرجة حتى أنه لا يعود يحظى باحترام أو بكبح محتشم لائق؛ عندما تسيطر العادات الشريرة على الإنسان وتتحكم به يصبح خارج حدود الظروف الشرعية العادية. ومع ذلك فيا لكثرة أولئك الخاضعين للخطيئة وإبليس! 

لا نعلم بالطريقة التي تمكنت فيها الأرواح الشريرة من أن تسيطر سيطرة كاملة على هذا الرجل المسكين، ولكن من الواضح أنه في وقت ما أو في حياته الباكرة، قد فتح الباب لها؛ ربما بعناد وإصرار على الخطايا التي كان ناموس الله يدينها، وبالنتيجة صار عبداً لتلك الأرواح الشريرة وفقد القدرة على التحكم بنفسه.

لم يستطع أصدقاؤه أن يصنعوا له شيئاً. وإن كان والداه على قيد الحياة، لكان قلبهما من كل بدٍ ليتحطم وهما يشاهدان ابنهما في هذه الحالة العاجزة البائسة. ولكن جاء الوقت أخيراً الذي جُلب فيه إلى احتكاك مع ربنا المبارك نفسه، وعندها تغير كل شيء. يسوع كان الوحيد الذي يستطيع أن يساعده وقد كان ربنا هناك لأجل ذلك الهدف بالذات. من الواضح أن الشياطين التي كانت تستحوذه عليه عرفت في الحال من هو يسوع، إذ يخبرنا الإنجيل أن هذا الرجل لَمَّا رَأَى يَسُوعَ "صَرَخَ وَخَرَّ لَهُ، وَقَالَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: مَا لِي وَلَكَ يَا يَسُوعُ ابْنَ اللهِ الْعَلِيِّ؟ أَطْلُبُ مِنْكَ أَنْ لاَ تُعَذِّبَنِي!" كان الروح الشرير يتكلم من خلال شفاه بشرية. هذه الروح غير التقية والساقطة كان يعرف تماماً من هو يسوع؛ وعرف في يسوع، ابن الله الذي سيتربع على عرش الدينونة، وخشي للتو من مجيء تلك الساعة التي سيُلقى فيها إلى بحيرة النار. الأرواح الشريرة جميعاً تؤمن بأن يسوع هو المسيح، وما كان ليشك بذلك سوى الناس غير التائبين؛ كان إبليس نفسه يعرف أن يسوع هو ابن الله، المخلّص الوحيد. الوحيدون في الكون الذي يجرؤون على نكران أن يسوع هو ابن الله هم أناس غير مسيحيين لا يزالون موضع عطفه واهتمامه. ولكن رغم أن الأرواح الشريرة أقروا بأن يسوع هو ابن الله، إلا أنه لم يكن لديهم الحق بأن يجدوا فيه مخلّصاً لأنفسهم. عرف الشيطان في هذا الرجل أن المسيح هو الديّان، وناشده تمديد الوقت قبل أن يُكمل مصيره النهائي المشؤوم. لم يتجاوب يسوع مع مطلبه، وطرح سؤالاً آخر على هذا الروح الشرير. سَأَلَهُ يَسُوعُ قِائِلاً: «مَا اسْمُكَ؟» فَجاءه الجواب: «لَجِئُونُ»؛ لأَنَّ الإنجيل يخبرنا أن شَيَاطِينَ كَثِيرَةً دَخَلَتْ فِيهِ. "اللجئون" أو "الفيلق" الروماني كان يُشكّل عادة من ستة آلاف رجل. ربما لا يجب أن نأخذ كلمة «لَجِئُونُ» هنا بحرفيتها، ولكنها تشير إلى أن عدداً هائلاً من الأرواح الشريرة كان قد دخل إلى هذا الرجل. وحتى الرجل نفسه ما كان قادراً على أن يجيب شخصياً لأنه كان تحت سيطرتهم الكاملة.

يبدو أن تلك الأرواح الشريرة، الأرواح المتحررة من الجسد، كانت تتوق إلى الاستحواذ على أجساد البشر لكي تحرّضهم على المشاعر الدنيئة والفظيعة، التي كانت تجعلهم يهينون الله الذي خلقهم. عندما أمر الرب يسوع اللجئون أن يغادروا جسد الرجل، توسلوا إليه أن يدخلوا إلى أجساد قطيع الخنازير الذي كان يرعى على مقربة منهم. فلم يعارض يسوع. وإذ خرجت الأرواح الشريرة من الرجل "دَخَلَتْ فِي الْخَنَازِيرِ (لاحظوا النتيجة المذهلة)، فَانْدَفَعَ الْقَطِيعُ مِنْ عَلَى الْجُرُفِ إِلَى الْبُحَيْرَةِ وَاخْتَنَقَ". كم هي هائلة قدرة الإنسان الخاطئ على الشر! ألفا خنزير لم تستطع أن تتحمل الأرواح الشريرة التي كانت تستحوذ على ذلك الرجل.

بدلاً من أن إدراك هذا الدليل اللافت على قدرة ربنا على السطوة على مملكة إبليس والذي كان يُفترض أن يترك انطباعاً جيداً في قلوب أولئك الذين عاينوا ما حدث، يخبرنا الإنجيل أنهم: "هَرَبُوا وَذَهَبُوا وَأَخْبَرُوا فِي الْمَدِينَةِ وَفِي الضِّيَاعِ". لقد رووا لأهل الريف حولهم بقصة خسران قطيع الخنازير، وأيضاً تحرر ذاك الذي كان الشيطان يتلبّسه. فانزعج مالكو ذلك القطيع بسبب النكسة المالية التي ابتليوا بها وجاؤوا لرؤية ما حدث، ويخبرنا الإنجيل أنهم: "جَاءُوا إِلَى يَسُوعَ فَوَجَدُوا الإِنْسَانَ الَّذِي كَانَتِ الشَّيَاطِينُ قَدْ خَرَجَتْ مِنْهُ لاَبِسًا وَعَاقِلاً، جَالِسًا عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ، فَخَافُوا". ثم ماذا؟ هل خرّوا على ركبهم عند قدمي يسوع معترفين بخطاياهم الذاتية وطالبين التحرر من خلال يسوع؟ لا أبداً على الإطلاق. بل كان العكس تماماً. لقد طلبوا من يسوع أن يترك كورتهم. ولا بد أن يسوع استجاب لمطلبهم وهو حزين. يقول لوقا أنه: "طَلَبَ إِلَيْهِ كُلُّ جُمْهُورِ كُورَةِ الْجَدَرِيِّينَ أَنْ يَذْهَبَ عَنْهُمْ، لأَنَّهُ اعْتَرَاهُمْ خَوْفٌ عَظِيمٌ. فَدَخَلَ السَّفِينَةَ وَرَجَعَ". لا يبقى يسوع أبداً مع أناس لا يريدونه. يُسمح للناس أن يختاروا في هكذا ظروف في أن يقبلوه أم لا. ولكن رغم أنه ترك هؤلاء الجدريين في ذلك الوقت، فإننا نشكر الرب على مجيء ذلك اليوم الذي عاد فيه إلى نفس المنطقة ووجد ترحيباً عظيماً هناك. ونستنتج أن الأمر حدث كما يلي: الرَّجُلُ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الشَّيَاطِينُ كان في غاية السعادة من جراء التغير الكبير الذي جرى له حتى أنه ناشد الرب يسوع أن يسمح له بالبقاء معه. لا بد أن هذا الرجل انضم إلى جماعة الرسل وراح يجول مع المخلّص من مكان إلى آخر. ومن الواضح أن قلبه كان ممتلئاً بالمحبة والامتنان بسبب تحرره المعجزي حتى أنه أراد أن يبقى قريباً من فاديه ما أمكنه ذلك؛ ولكن يسوع كان في ذهنه شيء آخر له. بدلاً من أن يأخذه معه، قال له: "ارْجعْ إِلَى بَيْتِكَ وَحَدِّثْ بِكَمْ صَنَعَ اللهُ بِكَ". ذاك الذي كان ممسوساً مخرّفاً قبل قليل صار الآن متعقّلاً جداً حتى أن الناس راحت تصغي إليه باهتمام وانذهال. صار مبشراً بالإنجيل، وجال في كل الأرجاء في تلك المنطقة يخبر الجموع عما صنع يسوع له؛ وانتقل خبر قصته من قرية إلى قرية. ولهذا، كما نعلم، فإن يسوع عندما رجع فيما بعد إلى تلك المنطقة، التي تُعرف باسم "الْعَشْرِ الْمُدُنِ/الْمُدُنِ الْعَشْرِ"، كانت الجموع محتشدة لملاقاته وقد تبدّل موقفهم بالكامل. لم يقبلوه في الماضي، إذ كانوا منزعجين من خسارة خنازيرهم وبسبب الأمور الشريرة الأخرى التي كانت تمنعهم من أن يفتحوا قلوبهم له، وأما الآن فقد كانوا مسرورين برؤيته. وأحضروه معهم مرضاهم بأعداد هائلة، وشفاهم ربنا جميعاً بمحبته الحانية.

كانت تلك هي نتيجة الشهادة الأمينة لرجل واحد تحرر من قوة الشيطان بالمسيح ربنا.