الخطاب ١٤

صيّادو الناس

"١وَإِذْ كَانَ الْجَمْعُ يَزْدَحِمُ عَلَيْهِ لِيَسْمَعَ كَلِمَةَ اللهِ كَانَ وَاقِفاً عِنْدَ بُحَيْرَةِ جَنِّيسَارَتَ. ٢فَرَأَى سَفِينَتَيْنِ وَاقِفَتَيْنِ عِنْدَ الْبُحَيْرَةِ وَالصَّيَّادُونَ قَدْ خَرَجُوا مِنْهُمَا وَغَسَلُوا الشِّبَاكَ. ٣فَدَخَلَ إِحْدَى السَّفِينَتَيْنِ الَّتِي كَانَتْ لِسِمْعَانَ وَسَأَلَهُ أَنْ يُبْعِدَ قَلِيلاً عَنِ الْبَرِّ. ثُمَّ جَلَسَ وَصَارَ يُعَلِّمُ الْجُمُوعَ مِنَ السَّفِينَةِ. ٤وَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْكَلاَمِ قَالَ لِسِمْعَانَ: «ﭐبْعُدْ إِلَى الْعُمْقِ وَأَلْقُوا شِبَاكَكُمْ لِلصَّيْدِ». ٥فَأَجَابَ سِمْعَانُ وَقَالَ لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ قَدْ تَعِبْنَا اللَّيْلَ كُلَّهُ وَلَمْ نَأْخُذْ شَيْئاً. وَلَكِنْ عَلَى كَلِمَتِكَ أُلْقِي الشَّبَكَةَ». ٦وَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ أَمْسَكُوا سَمَكاً كَثِيراً جِدّاً فَصَارَتْ شَبَكَتُهُمْ تَتَخَرَّقُ. ٧فَأَشَارُوا إِلَى شُرَكَائِهِمُ الَّذِينَ فِي السَّفِينَةِ الأُخْرَى أَنْ يَأْتُوا وَيُسَاعِدُوهُمْ. فَأَتَوْا وَمَلأُوا السَّفِينَتَيْنِ حَتَّى أَخَذَتَا فِي الْغَرَقِ. ٨فَلَمَّا رَأَى سِمْعَانُ بُطْرُسُ ذَلِكَ خَرَّ عِنْدَ رُكْبَتَيْ يَسُوعَ قَائِلاً: «ﭐخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ». ٩إِذِ اعْتَرَتْهُ وَجمِيعَ الَّذِينَ مَعَهُ دَهْشَةٌ عَلَى صَيْدِ السَّمَكِ الَّذِي أَخَذُوهُ. ١٠وَكَذَلِكَ أَيْضاً يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا ابْنَا زَبْدِي اللَّذَانِ كَانَا شَرِيكَيْ سِمْعَانَ. فَقَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ: «لاَ تَخَفْ! مِنَ الآنَ تَكُونُ تَصْطَادُ النَّاسَ!» ١١وَلَمَّا جَاءُوا بِالسَّفِينَتَيْنِ إِلَى الْبَرِّ تَرَكُوا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعُوهُ" (لوقا ٥: ١- ١١).

صيّادو الناس! نسمع الكثير حول ذلك هذه الأيام. هذه هي أول مناسبة يدعو فيها ربنا يسوع المسيح الناس إلى تلك الدعوة العظيمة. أريدكم أن تنتبهوا إلى هذه الحادثة بشكل خاص. نقرأ: "وَإِذْ كَانَ الْجَمْعُ يَزْدَحِمُ عَلَيْهِ لِيَسْمَعَ كَلِمَةَ اللهِ، كَانَ وَاقِفًا عِنْدَ بُحَيْرَةِ جَنِّيسَارَتَ". بُحَيْرَة جَنِّيسَارَت هي نفسها بحر الجليل، أو بحر طبرية. إنها بحيرة ذات مياه عذبة، ليست كبيرة، ولكنها في غاية الجمال. من يراها يستطيع أن يتخيل ما تصوّره هذه الآية الأولى لنا. في أماكن كثيرة تبدو التلال وكأنها تتدحرج بلطف نحو البحيرة نفسها، وهناك شاطئ ضيق جداً ولذلك فإن من يقف هناك سيجد نفسه محاطاً بعدد هائل من الناس يدفعونه نحو الماء عندما يحتشد حوله الناس. من جهة أخرى كان في مقدور الناس أن يقفوا أو يجلسوا على سفح التلة وأن يصغوا بسهولة شديدة عندما يتكلم إليهم المرء، إما من الشاطئ نفسه، أو كما فعل ربنا، من على القارب. كل ما في بحر الجليل يتطابق مع الصورة المرسومة له في العهد الجديد. وهناك أمر لا جدال فيه: العهد الجديد لم يُكتب بيد بشر تخيلوا ببساطة القصص التي يتكلمون عنها. كل تفصيل من الصورة هو دقيق تماماً، إذ أن لوقا، ورغم أنه لم يكن من الذين سمعوا الرب يسوع يكرز، يقول أنه حصل على معلومات دقيقة عن كل الأمور من البدء، ولا بد أنه زار بحر الجليل. لا بد أنه شاهد كل ذلك الريف المحيط، أو أمكنه أن يحصل على وصف دقيق لمختلف الأماكن التي يذكرها في إنجيله. يقرّ الجميع، وحتى غير المؤمنين، بأن لوقا هو من أعظم الجغرافيين تأنياً وأيضاً من أكثر المؤرخين دقة الذين ظهروا على قيد الوجود.

إنها لحظة عظيمة في حياة المرء عندما يسمع الدعوة إلى حياة الخدمة وإلى التكرس للرب يسوع المسيح ولبركة العالم الضال الهالك. التجاوب مع هذه الدعوة بإطاعة محبّة يعني الدخول في خبرة مباركة وجديدة كلّياً، حيث يعيش المرء وينتقل إلى مستوى أعلى من ذي قبل. هذا الأمر هو أكثر من اهتداء وحتى أكثر من تكريس. بالنسبة إلى جميع الذي خلصوا وولدوا من فوق، لقد كرّسهم الله ليمجّدوه وليصنعوا مشيئته في هذا العالم. ولكن بالنسبة إلى البعض تأتي دعوة على مستوى أعلى- دعوة لترك كل أسلوب حياتهم وانهماكاتهم في الأمور الزائلة وأن ينطلقوا بناء على طلبه ليُمثّلوه كسفراء له. خدّامه الممسوحون، هم الذين يُعهَد إليهم بأن يقوموا بطريقة خاصة بتلك المهمة ألا وهي "اصطياد الناس"، ثم اقتيادهم في معرفة المسيح. وهناك كثيرون ممن يتخيلون أنهم "مدعوون إلى الخدمة" ولكنهم ليسوا مؤهلين أو أكّفاء للخدمة الحقيقية ولكنهم يخدعون أنفسهم، إلا أن الآخرين يرون براهين كثيرة في حياتهم على أنهم ليسوا أهلاً لتلك الخدمة. إذ أن الرب عندما يدعو حقاً أحدهم ليتبعه في خدمة متفرغة للكامل، فإنه يؤهّله للعمل الذي ينوي أن يوكله له. إن الصيادين الأربعة لم تكن حياتهم تدل أبداً على أنهم يتمتعون بالقدرة على أن يصيروا كارزين بالكلمة؛ ومع ذلك فإن يسوع اختار كل واحد من هؤلاء ليشغل مكانة معينة، وقُدّر لاثنين منهما لأن يصيرا معروفين على أنهما من أعظم الكارزين المُرسَلين والمعلمين في جميع الأزمان. نعرف القليل جداً عن أندراوس، ونعلم أن يعقوب استُشهد في وقت باكر جداً (أع ١٢: ١، ٢)، ولكن بطرس ويوحنا وُهبت لهما سنوات عديدة من الخدمة المكرسة وقد نوّرت خدمتهم المكتوبة ملايين لا تُعد ولا تُحصى.

كان الرب يسوع واقفاً عند الشاطئ. وكَانَ الْجَمْعُ يَزْدَحِمُ عَلَيْهِ لِيَسْمَعه، فيدفعونه إلى الوراء نحو المياه الزرقاء في بحر الجليل أو بحيرة جَنِّيسَارَتَ، كما تُسمى هنا. ثم التفت يسوع حوله، فَرَأَى قاربي صيد وَاقِفَتَيْنِ عِنْدَ الْبُحَيْرَةِ، وَلكن الصَّيَّادينَ كانوا قَدْ خَرَجُوا مِنْهُمَا وَكانوا يقومون بغسلِ شباكهم. كان يسوع يعرف أصحاب هاتين السفينتين، ولا يجد حرجاً أبداً في أن يطلب منهما أن يستخدم إحدى السفينتين. فَدَخَلَ إِحْدَى السَّفِينَتَيْنِ الَّتِي كَانَتْ لِسِمْعَانَ، وَسَأَلَهُ أَنْ يُبْعِدَ قَلِيلاً عَنِ الْبَرِّ. لم تكن تلك أول مرة يحتك بها الرب يسوع بسمعان بطرس، بل سبق وتواصل معه عدة مرات على الأقل. ونقرأ عن أول حادثة تم فيها اللقاء في إنجيل يوحنا، الأصحاح الأول، حيث سمع اثنان من تلاميذ يوحنا المعمدان معلّمَهم يقول: "هُوَذَا حَمَلُ اللهِ"، فتركوا يوحنا وتبعوا يسوع. لقد أمضيا طوال ذلك النهار معه، يستمعون إلى الكلمات الرائعة التي كانت تخرج من شفتيه المقدستين، وعندها صاروا في الحال ذوي خبرة تمكّنهم من الإتيان بالآخرين إليه. ونقرأ أن أحدهما الذي سمع يوحنا يتكلّم كان أندراوس، شقيق سمعان بطرس- "وَجَدَ أَوَّلاً أَخَاهُ سِمْعَانَ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى يَسُوعَ". هناك أمر يتعلق بالترتيب الفعل للنص اليوناني هنا ما قاد الدارسين إلى الاعتقاد بأن المعنى هو ما يلي: لقد كان الأول بين الاثنين الذي وجد أخاه، بمعنى أن يوحنا نفسه وجد أخاه يعقوب في تلك المناسبة وأتى به إلى يسوع أيضاً، ولكن يوحنا يخفي نفسه أيضاً بتواضع ويتحدث فقط عما صنعه صديقه أندراوس. أندراوس وجد أخاه سمعان وأتى به إلى يسوع. رحّب به الرب يسوع وأعطاه ذلك الاسم الجديد "بطرس". ومنذ ذلك الحين فصاعداً حُسب بطرس من بين أولئك الذين عُرفوا بأنهم تلاميذ الرب يسوع، ولكن تلاميذ المسيح ما كانوا مضطرين لأن ينقطعوا عن وظيفتهم وحياتهم المدنية. سُرَّ كثيرون بسماع رسائل الرب وتعلّموا منه، ولكن حصل فيما بعد أنه فرز مجموعة صغيرة مؤلفة من الاثني عشر، ومجموعة أخرى مؤلفة من سبعين ليخرجوا ويكرزوا. وهكذا فإن بطرس تابع في البداية عمله اليومي كصيّاد سمك. لقد كان منهمكاً في مهنته عندما طلب منه الرب يسوع أن يستخدم قاربه. فدخل إلى سفينة سمعان وعندما فعل ذلك، جلس يسوع في السفينة وراح يعلّم الناس.

من السهل أن نتخيل ذلك المشهد. كان هناك حشود من الناس على سفح التلة. وها هنا الرب يسوع يجلس في السفينة وإذ يخاطب الجمع، كان صوته يصل عبر الهواء الهادئ إلى آخر شخص على التلة. لقد راح يعلّمهم بما يتعلق بملكوت الله، وأستطيع أن أتخيل سمعان بطرس يجلس هناك ويتفكّر في نفسه، بما أنه مالك السفينة، قائلاً: "هذه سفينتي، ويسوع يتكلم هنا إلى هؤلاء الناس. إنه ليسعدني جداً أن أراهم يستمعون إليه". قال الرب عدة أمور جدّية رائعة. وكان بطرس لينظر حوله ويفكّر كمثل الكثيرين اليوم أن: "يسعدني أن أرى فلاناً هنا؛ آمل أن يدخل كلام الرب إلى هذا الشخص، وآمل أن تحصل فلانة على ما تحتاج إليه". ولكن من الواضح أن بطرس لم يكن يستوعب كل شيء. لقد كان يكتفي بأن يسمح بحصول كل ذلك الأمر لذلك الجمع المحتشد. وكان الرب يسوع يدرك حالته الحقيقية، وحاجته لشخص يسبر وجدانه. ولذلك قال لسمعان: "ابْعُدْ إِلَى الْعُمْقِ وَأَلْقُوا شِبَاكَكُمْ لِلصَّيْدِ". ارتبك سمعان واندهش. لم يكن يسوع صيّاد سمك. كان نجاراً، ولم يَعِشْ في قرية على شاطئ البحيرة. لقد كان يعيش في الناصرة، على بعد عدة أميال من البحيرة، وما كان متوقعاً منه، لو كان إنساناً وحسب، أن يعرف الوقت المناسب أو الظروف الملائكة للصيد. ولذلك يُوضح بطرس في الآية التالية أنهم أمضوا الليل كله يصيدون السمك، ولم يصطادوا شيئاً. ولذلك اندهش عندما قال له يسوع في وضح النهار، وربما في أشد لحظات إشراق الشمس: "ابْعُدْ إِلَى الْعُمْقِ وَأَلْقُوا شِبَاكَكُمْ لِلصَّيْدِ". يمكنكم أن تتخيلوا هكذا خبرة يمر بها بطرس، ويقول في نفسه: "بما أنه لم يكن هناك سمك في الليل، فبالتأكيد لن يكون هناك أي سمك في وضح النهار المشرق. لا فائدة من توقع اصطياد أي سمكة في هذا الوقت من النهار. أعلم الأحوال هنا بشكل جيد". بالطبع، خدّامنا ووعَّاظنا المعاصرون حاولوا أن يفسروا الحالة على النحو التالي: إنهم يخبروننا أن يسوع حدث له أن نظر حوله ورأى قطيعاً من السمك، وبدلاً من أن يقول لبطرس: انظر هناك قطيع من السمك، فكّر أنها فرصة مناسبة ليجعل بطرس يعتقد أنه كان يقوم بمعجزة ولذلك قال: "أَلْقُوا شِبَاكَكُمْ لِلصَّيْدِ". هذه محاولة لجعل ربنا المبارك يظهر وكأنه مجرد مشعوذ أو دجّال. غلا أن الرب يسوع أراد أن يصل إلى ضمير بطرس، ولذلك صنع شيئاً سيجعله يدرك أنه في حضور الله نفسه.

"أَلْقُوا شِبَاكَكُمْ لِلصَّيْدِ. فقال سِمْعَانُ: يَا مُعَلِّمُ، قَدْ تَعِبْنَا اللَّيْلَ كُلَّهُ وَلَمْ نَأْخُذْ شَيْئًا". لقد كانت ليلة من أكثر الليالي خيبة للأمل. ولكن في تلك اللحظة، وبدلاً من أن يقول أنه عبثاً يلقون شباكهم اليوم، نجده يقول: "وَلكِنْ عَلَى كَلِمَتِكَ أُلْقِي الشَّبَكَةَ". لم يقل يسوع أن: "ألقوا الشَّبَكَةَ"، بل قال: "ألقوا الشباك"، لأجل الاستعداد لمقدار كبير من السمك المصيد. قال بطرس: "يا رب، على كل حال سنلقي شبكة". بالتأكيد شعر بطرس أن الوقت غير ملائم للصيد، وما كان يتوقع أن يحصلوا على شيء، ولكن بما أن يسوع قال ذلك، فقد سمح بإلقاء شبكة. عندما فعلوا ذلك أمسكوا مقداراً كبيراً من السمك، وصَارَتْ شَبَكَتُهُمْ تَتَخَرَّقُ. ربما لو كانوا قد ألقوا بالشباك جميعاً كالعادة لما كانت شبكتهم لتتخرق بتلك السهولة. فشبكة واحدة ما كانت كافية لتلتقط تلك الكمية الكبيرة من الأسماك المندفعة إليها، وعندما وجدوا أنهم لا يستطيعون معالجة ذلك الكم من السمك المصيد، أَشَارُوا إِلَى شُرَكَائِهِمُ الَّذِينَ فِي السَّفِينَةِ الأُخْرَى. أفترض أن هؤلاء كانا يعقوب ويوحنا، إذ يبدو أنهم كانوا يعملون معاً. لقد أَشَارُوا إِلَى شُرَكَائِهِمُ الَّذِينَ فِي السَّفِينَةِ الأُخْرَى أَنْ يَأْتُوا وَيُسَاعِدُوهُمْ، فَأَتَوْا وَمَلأُوا السَّفِينَتَيْنِ حَتَّى أَخَذَتَا فِي الْغَرَقِ. رأيتُ عدداً من قوارب الصيد المحمّلة بالأسماك آتية من بحر الجليل إلى بحر طبرية، ولكني لم أرَ مثل هذه الكمية من السمك التي تهدد بإغراق السفينة. أتذكر، عندما رأيتهم يحضرون كمية كبيرة من السمك، أني كنت في غاية الاندهاش، وقلتُ لأحد الصيادين: "ماذا تسمّون هذه الأسماك؟" فقال: "سمك القديس بطرس". فقلت: "هل هذه بعضٌ من السمكات التي اصطادها بطرس؟" فقال: "لا؛ بل هذه بعض من أولاد الأسماك التي لم يصطدها". لا يزال اسم بطرس مرتبط بهذه الأسماك حتى اليوم.

لقد اصطادوا سمكاً وفيراً حتى أن القوارب كادت تغرق وهي تسحب الأسماك إلى اليابسة. تأثر سمعان بطرس كثيراً بما جرى لدرجة أدرك معها حقيقة أنه ما من أحد سوى خالق السمك كان ليستطيع أن يأمر ثروات البحر العميق لتأتي إلى شبكته على ذلك النحو. أدرك في لحظة أنه، لم يكن فقط في حضرة أعظم نبي ظهر في إسرائيل؛ وليس فقط في حضرة أعظم معلّم قد جاء إلى البشرية؛ وليس فقط في حضرة أعظم صانع معجزات رآه اليهود على الإطلاق- بل كان في حضرة الله. فخَرَّ عِنْدَ رُكْبَتَيْ يَسُوعَ قَائِلاً: "اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَارَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ". عندما يُدرك المرء أنه حاضر أمام الله، فإن هذا يجعله دائماً يُدرك تفاهته وضآلته وإثميته. عندما جاء أيوب إلى حضرة الله قال: "بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي. لِذَلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي التُّرَابِ وَالرَّمَادِ". ومع ذلك فقد كان أفضل إنسان عاش في أيامه، رجلاً كانت حياته الخارجية الظاهرة كاملة مثالية مستقيمة، رجلاً يخشى الله؛ ومع ذلك، في حضرة الرب، وإذ انكشفت أمامه قداسة الله اللامتناهية، شعر أنه ليس سوى خاطئ بائس. ومرَّ أشعياء بنفس الخبرة. لقد كان أحد أعظم الأنبياء نبلاً وبلاغة وفصاحة، رجلاً استخدمه الله ليكرز للآخرين. ومع ذلك فعندما كان في الهيكل في أحد الأيام وتجلى الله، صرخ قائلاً: "إِنِّي هَلَكْتُ لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ" (أش ٦: ٥). لقد سمِعَ السَّرَافِيمَ الوَاقِفينَ فَوْقَ كرسي الله، وهم ينشدون، "قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ" (أش ٦: ٣). لقد أدرك لوهلة أن هناك قداسة لا يعرف شيئاً عنها وما كان ليمكنه أن يصل إليها أبداً؛ ولكن عندما اعترف بإثميته وقال: "إني إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ الشَّفَتَيْنِ" (أش ٦: ٥)، أخذ أحد السرافيم جمرة من المذبح ومسَّ بها شفتيه، قائلاً: "انْتُزِعَ إِثْمُكَ وَكُفِّرَ عَنْ خَطِيَّتِكَ" (أش ٦: ٧).

والآن، سمعان بطرس هنا، بكل طاقته وحماسه، والذي كان مع الرب في عدة مناسبات؛ وهو الذي سمع تعليمه ورأى معجزاته، يدرك الآن، ولأول مرة على ما يبدو، أن يسوع هو الله متجلّياً بالجسد؛ وكانت النتيجة أنه خرّ على قدميه وهتف قائلاً: "إنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ يَارَبُّ". أتساءل إن كنا جميعاً قد فعلنا نفس الأمر أمام الله؟ إن الأمر الأكثر طبيعية لقلب الإنسان والأكثر بغضاء من قِبل الله هو الكبرياء. يخبرنا الكتاب أن: "أَكْثَرُ النَّاسِ يُنَادُونَ كُلُّ وَاحِدٍ بِصَلاَحِهِ أَمَّا الرَّجُلُ الأَمِينُ فَمَنْ يَجِدُهُ؟" (أم ٢٠: ٦). إن تكلمنا إلى الإنسان العادي حول رجائه في السماء لوجدناه يقول: "نعم، أتوقع أني سأصل إلى هناك يوماً ما". إنه على يقين بأنه في النهاية سيجد منزلاً له في مدينة القديسين؛ وتسأله: "على أي أساس تتوقع ذلك؟" فيخبرك بثقة عن محاولاته أن يصنع الخير؛ وسعيه لأن يعمل بالقاعدة الذهبية، وأن يحب الله من كل قلبه، وأن يحب قريبه كنفسه، وأنه لم يرتكب أياً من الخطايا المميتة. إنه يضع رجاءه على أساس أهليته واستحقاقه. ولكن كلمة الله تقول: "بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ كُلُّ ذِي جَسَدٍ لاَ يَتَبَرَّرُ أَمَامَهُ" (رو ٣: ٢٠). كلما سمعتم رجلاً أو امرأة يتكلمون عن برّهم الذاتي، مستندين إلى أعمال صلاحهم، تتأكّدون أنهم لم يكونوا أبداً في حضرة الله. يهتف سمعان بطرس قائلاً: "إنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ؛ تباعد عني"، بمعنى القول: "إني أدرك أني لست أهلاً لأن أرافق قدّوساً مثلك". ويتابع قوله أن: "فلكَ أن تبعدني عنك إن شئتَ ألا أكون معك". ولكن ربنا لا يتخلّى عن خاطئ. فإن أتيتم، معترفين بخطيئتكم وإثمكم، فكونوا على يقين بأنه سيستقبلكم.

أما الرب يسوع، فبدلاً من أن يُبعد بطرس عنه، قال له: "لاَ تَخَفْ! مِنَ الآنَ تَكُونُ تَصْطَادُ النَّاسَ!" بمعنى آخر، "يا سمعان، إن ذات الحقيقة التي أدركتها بنفسك بأنك رجل خاطئ بائس هي نفسها تجعلك مؤهلاً لتنطلق وتصبح بركة للآخرين. سوف تكون لك دعوة أرفع، يا بطرس. سوف لن تمضي بقية حياتك على بحر الجليل تصطاد السمك، بل ستنطلق حسب أمري لتربح نفوس، ولتجلب الآخرين إلى المعرفة التي تخلّص بالله أبي كل المراحم؛ مِنَ الآنَ تَكُونُ تَصْطَادُ النَّاسَ"، أو، كما يرد في إنجيل آخر: "هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُك صَيَّادَ النَّاسِ".

أرجوا ألا تسيئوا فهمي. لا أفترض أن الرب يسوع يقول تماماً هذه الكلمات لكل إنسان. إنه لا يدعو الجميع للتخلي عن وظائفهم المؤقتة الزائلة، وأن ينطلقوا في خدمة الإنجيل، أو أن ينطلقوا كمرسلين إلى بلاد بعيدة. ولكنه يدعو الجميع لأن يكرّسوا أنفسهم له، وإن كانوا كذلك فمهما كانت دعوتكم في الحياة، ومهما كانت مكانتكم، ومهما كان عملكم، ستستطيعون أن تمجدوا الله من خلالي، وحتى إن لم يكن دوركم هو البشارة والكرازة، أو أن تنطلقوا كرسل مثلما فعل بطرس، فإنكم ستستطيعون أن تؤثروا على الآخرين من خلال حياتكم، حياة تُعاش لله، والتي هي أفضل شهادة يمكن أن يؤديها أي إنسان عن نعمة الله التي تخلّص. لا تخف. صحيح أنك خاطئ في نفسك، ولكن إن كان اتّكالك على المسيح وكان إيمانك يستند على ذاك الذي مات ليخلّصك، ذاك الذي بدمه أزال إثمك، فإنك عندها تقدر أن تنطلق بثقة للخدمة. "مِنَ الآنَ تَكُونُ تَصْطَادُ النَّاسَ!"

كان في مقدور الله أن يرسل ملائكة إلى هذا العالم لينقلوا إنجيل نعمته إلى البشر الضالين الهالكين، وأني على يقين من أنه ما من ملاك في السماء كان إلا ويسعده أن يغادر المجد وينزل ويصعد إلى هذا العالم وصولاً إلى الأمم ليخبر عن قصة المسيح الرائعة العجيبة، ذاك الذي مات وقام من جديد. ولكن المسيح لم يُوكل إليهم هذه الخدمة القيّمة. لقد عهد بها إلى خطاة مخلَّصين- لي ولك، نحن الذين، بنعمته، نعرفه فادياً لنا. فليهبنا الله أن نكون أمناء لنقل رسالته إلى كل من حولنا. علينا أن نقوم بذلك بطريقة هادئة جداً. ربما يكفي كلمة هنا وكلمة هناك. قد تكون رسالة قصيرة من الإنجيل وحسب؛ أو ربما شهادة مختصرة تخبر عن نعمة المسيح التي تخلّص. كل هذه يمكن أن تُستخدم كصنارة صيد نصطاد بها البشر ونأتي بهم إلى معرفة الرب يسوع المسيح لأجل خيرهم.

كانت هذه الحادثة مأزقاً في حياة الرسول بطرس، أو لنقل، صياد السمك بطرس. لقد شكّلت نقطة تحول بين حياته كصيّاد سمك ومرحلة الاستعداد للرسولية، إذ نقرأ: " لَمَّا جَاءُوا بِالسَّفِينَتَيْنِ إِلَى الْبَرِّ تَرَكُوا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعُوهُ". ما عاد بطرس أبداً ينشغل بصيد السمك ليعتاش عليه. هناك حادثة واحدة فقط، إذا كنتم تذكرون، بعد قيامة الرب يسوع، عندما كان لا يزال نوعاً ما في حالة ارتباك وحيرة، بعد نكرانه للمسيح، إذ نزل إلى بحر الجليل، وكان يصطاد؛ وظهر له المخلّص مرة أخرى، ومن جديد كان الصيد وفيراً فالتقطت شبكته الكثير من السمك، ولكن منذ ذلك الوقت وصاعداً لا نقرأ أبداً أن بطرس لمس بيده شبكة صيد من جديد. لقد كرّس حياته كلّياً لنقل بشارة الإنجيل إلى العالم الضال. "تَرَكُوا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعُوهُ". أفترض أن الحديث هنا، يتناول، على الأقل، الأربعة- بطرس، وأندراوس، ويعقوب، ويوحنا. لقد كان هذا نوعاً من التجنيد لهم للخدمة الرسولية. لقد تخلّوا عن حرفهم الزائلة التي كانوا يمارسونها ومنذ ذلك الوقت وصاعداً صاروا مرافقين ليسوع وهو ينتقل من مكان إلى آخر، كارزاً بإنجيل الملكوت. وهكذا، بعد ثلاث سنوات ونصف من مرافقتهم ليسوع، كانوا مستعدين، عندما حلّ الروح القدس في يوم الخمسين، لينطلقوا معلنين إنجيل نعمته بقوة؛ وهكذا خلصت أعداد هائلة من اليهود والأمميين على حد سواء. وعلى هذا النحو برهن حقيقة كلمات الرب: "مِنَ الآنَ تَكُونُ تَصْطَادُ النَّاسَ!" لا أستطيع أن أتخيل دعوة على الأرض أرفع من تلك في أن يستخدمنا الله لنأتي إليه بنفوس ثمينة. من يأبى القيام بهكذا خدمة يفوّضنا بها معلّم عجيب رائع إلى تلك الدرجة! أن نكون صيّادي سمك هو أعظم امتياز يمكن أن يتمتع به المرء.