الخطاب ١١

تجربة يسوع

"١ أَمَّا يَسُوعُ فَرَجَعَ مِنَ الأُرْدُنِّ مُمْتَلِئًا مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَكَانَ يُقْتَادُ بِالرُّوحِ فِي الْبَرِّيَّةِ ٢ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُجَرَّبُ مِنْ إِبْلِيسَ. وَلَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا فِي تِلْكَ الأَيَّامِ. وَلَمَّا تَمَّتْ جَاعَ أَخِيرًا. ٣وَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ:«إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ، فَقُلْ لِهذَا الْحَجَرِ أَنْ يَصِيرَ خُبْزًا». ٤ فأَجَابَهُ يَسُوعُ قِائِلاً:«مَكْتُوبٌ: أَنْ لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ مِنَ اللهِ». ٥ ثُمَّ أَصْعَدَهُ إِبْلِيسُ إِلَى جَبَل عَال وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْمَسْكُونَةِ فِي لَحْظَةٍ مِنَ الزَّمَانِ. ٦ وَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ:«لَكَ أُعْطِي هذَا السُّلْطَانَ كُلَّهُ وَمَجْدَهُنَّ، لأَنَّهُ إِلَيَّ قَدْ دُفِعَ، وَأَنَا أُعْطِيهِ لِمَنْ أُرِيدُ. ٧ فَإِنْ سَجَدْتَ أَمَامِي يَكُونُ لَكَ الْجَمِيعُ». ٨ فَأَجَابَهُ يَسُوعُ وَقَالَ:«اذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! إِنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ». ٩ ثُمَّ جَاءَ بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَأَقَامَهُ عَلَى جَنَاحِ الْهَيْكَلِ وَقَالَ لَهُ:«إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَاطْرَحْ نَفْسَكَ مِنْ هُنَا إِلَى أَسْفَلُ،١٠ لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ لِكَيْ يَحْفَظُوكَ، ١١وَأَنَّهُمْ عَلَى أَيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لاَ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ». ١٢فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ:«إِنَّهُ قِيلَ: لاَ تُجَرِّبِ الرَّبَّ إِلهَكَ».١٣وَلَمَّا أَكْمَلَ إِبْلِيسُ كُلَّ تَجْرِبَةٍ فَارَقَهُ إِلَى حِينٍ.١٤ ورَجَعَ يَسُوعُ بِقُوَّةِ الرُّوحِ إِلَى الْجَلِيلِ، وَخَرَجَ خَبَرٌ عَنْهُ فِي جَمِيعِ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ" (لوقا ٤: ١- ١٣).

لدينا روايتان منفصلتان عن تجارب ربنا يسوع المسيح في العهد الجديد، وذلك في إنجيل متى وفي إنجيل لوقا، وكلتاهما ترويان خبراته في ذلك الوقت. لقد لُوحظ غالباً أن ترتيب التجارب ليس نفسه في كلا هذين الإنجيلين. ولكن هذا لا يعني أي تناقض، بل إن الأمر ببساطة هو أن لوقا في إنجيله يتبع بشكل واضح الترتيب الأخلاقي للتجارب، بينما متى يتبع الترتيب التاريخي. نعلم من الأناجيل أن ربنا المبارك كان "مُجَرَّباً فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ" (عب ٤: ١٥). وفي الحقيقة هناك ثلاثة جوانب يمكن أن يجرب أي إنسان منها. كل الإغواء يروق إما لشهوة الجسد، أو شهوة العين، أو كبرياء الحياة. بمعنى، هناك إغواء شهواني، جمالي، وروحي أو فكري. فبهذه الطريقة أُغويت حوّاء في جنة عدن، واستسلمت من كل النواحي. لقد رأت أن ثمرة الشجرة كانت جيدة للأكل؛ كانت تروق للجسد: إذ كانت تبهج العين؛ وتروق للإنسان جمالياً: وعندها يُرغب بها لتجعل الإنسان حكيماً؛ وهذا، وبالطبع، كان يروق للكبرياء الروحي. لقد قاوم ربنا كل الجوانب وأظهر بذلك حقيقة أنه كان الذي بِلاَ خَطِيَّةٍ.

لقد وُلد إلى العالم كقدوس، والقداسة تقاوم الشر. في آدم قبل السقوط، نرى البشرية بريئة؛ وفي آدم الساقط نرى البشرية الخاطئة. في الرب يسوع المسيح لدينا البشرية مقدسة. وغالباً ما يُطرح السؤال: "هل كان بمقدور ربنا أن يخطأ؟ إن لم يكن هذا صحيحاً، فلماذا التجربة، وما الفضيلة المتبدية في موقفه ومقاومته للإغواء؟ الجواب بوضوح هو كما يلي: هو لم يُجرَّب ليكتشف إن كان بمقدوره أن يخطا، بل ليبرهن أنه الذي بِلاَ خَطِيَّةٍ. لقد كان الأمر كمثل اختبار الذهب بالأسيد، الذي يُظهر نقاوة المعدن. علينا أن نتذكر أن الرب يسوع كان إلهاً وإنساناً في شخص واحد. لم يكن شخصان في جسد واحد. ليس معقولاً أنه كان ليمكن أن يخطأ من ناحية أنه إله. فالله لا تغويه الخطيئة. لو كان إنساناً فقط لكان من الممكن أن يُوضع تحت التجربة مثل آدم ويخفق. ولكن بما أنه كان إلهاً وإنساناً في شخص واحد فما كان ليمكن أبداً أن يرتكب خطيئة. بالطبع لم تكن فيه طبيعة شريرة، ولم يكن شيئاً من ذلك في آدم قبل أن يستسلم في الخطيئة. لو كان ربنا قد ورث الطبيعة البشرية الساقطة، ولو كان فيه أي نزعة إلى الخطيئة، لكان هو نفسه في حاجة إلى مخلّص. ولكن بما أنه كان بلا خطيئة أبداً فقد استطاع أن يقدم ذاته فدية عن نفوسنا وهكذا يعيد البشرية الساقطة إلى الله.

نعلم من الرسالة إلى العبرانيين أن يسوع قد تألم إذ جُرِّب. من جهة أخرى، يخبرنا بطرس: "إِنَّ مَنْ تَأَلَّمَ فِي الْجَسَدِ كُفَّ عَنِ الْخَطِيَّةِ". هذان مقطعان يُظهران الفروقات الجوهرية الكبيرة بيننا وبين المسيح. إننا نتألم إذ نقاوم التجربة وأيضاً نُعطى بذلك القدرة على الكفّ عن الخطيئة، ولكن التجربة جعلته يعاني أشد ما يكون. لكونه القدوس ما كان يستطيع أن يحتمل هذا الاحتكاك مع الاقتراحات الشيطانية بدون أن يعاني انزعاجاً داخلياً شديداً.

يخبرنا الكتاب المقدس أن: "يَسُوعُ رَجَعَ مِنَ الأُرْدُنِّ مُمْتَلِئًا مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَكَانَ يُقْتَادُ بِالرُّوحِ فِي الْبَرِّيَّةِ". هذه بحد ذاتها موحية للغاية. إذ يعترف به الآب على أنه ابنه الحبيب الذي وجد فيه كل مسرّته، ومختوماً بالروح القدس وهذا تأكيد على أنه المسيّا، مسيح الرب، اقتيد يسوع بالروح في برية كوارانتانا، بحسب التقليد، لكيما يُظهر بتجربته أنه كان بحقّ القدوس الذي أهلاً بأن يُقدّم نفسه ذبيحة عن أولئك الخطاة غير الأتقياء.

إذ وقفتُ على أطلال مدينة أريحا التي كُشفت حالياً ونظرتُ من فوق ذلك الجبل المنعزل الأجرد الذي في كوارانتانا، في برية اليهودية، تأثّرت كثيراً في قلبي وأنا أفكّر بربنا المبارك وقد أمضى ٤٠ يوماً هناك مع وحوش البرية بدون طعام. يا له من تضاد مع آدم الأول، الذي كان قد وُضع في جنة من النعيم وحيث كانت كل الخلائق خاضعة لإرادته وكان الله قد زوده بكل ما يحتاج إليه ليؤازره ويقويه ويبقيه على قيد الحياة جسدياً. لقد نجح يسوع في كل تجربة، وخلال صيامه في البرية بين الوحوش لأنه، وهو آدم الأخير، الإنسان الثاني، كان ابن الله السرمدي المبارك الذي صار جسداً لأجل فدائنا.

يقول لنا الإنجيل أن يسوع أمضى ٤٠ يوماً يُجرّب من قِبل الشيطان. دعوني أؤكد هذا. هناك من ينكرون اليوم شخصانية الشيطان. يقولون أن الشيطان ما هو إلا الشر الموجود في قلب الإنسان، ورغباته الشريرة، وأفكاره الشريرة. في أحد الأديان الكبيرة، التي اعتنقها كثيرون، يسود تعليم بأن الشيطان هو شرّ وحسب. إن الشيطان هو تجسيد للشرّ. وفعلياً يقولون لنا أنه ليس هناك شيطان شخصي. هل فكرتم يوماً بما يعني هذا؟ أولاً يعني ما يلي: كل الشر، كل الآثام الرديئة، كل البذاءة السيّئة والفساد المريع الذي تميز به رجال ونساء أشرار خلال آلاف السنين من التاريخ قد نبعت من قلوبهم بدون أي روح مجرب لتحرضهم على هذه الانغماسات في الرذيلة. هذا أسوأ اتّهام للجنس البشري تخيّله أي كائن. إنه يعني أن قلب الإنسان بحد ذاته شرير بالكامل لدرجة أنه لا يحتاج إلى حافز خارجي ليقوم بذلك الفساد الفظيع الذي يمارسه والذي لوث صفحات تاريخ البشرية. في الواقع لم تقدّم مثل هكذا اتّهامات قوية ضد البشرية حتى في أيام الكالفينية المفرطة الصارمة في أيام الإصلاح. والمفارقة أن نفس الناس الذين يعلّمون هذا يخبروننا بأن كل البشر هم أولاد الله بالولادة الطبيعية، وينكرون ضرورة الفداء والتجدد.

ولكن هناك أمور أخرى يجب التفكير فيها. إن نكران شخصانية الشيطان هي تجديف محض ضد ربنا يسوع المسيح. فهنا نقرأ أنه اقتيد إلى البرية ليُجرَّب من إبليس. هل يمكننا أن نجرؤ على القول بأن هذا يعني أنه اقتيد ليُجرَّب بأفكار ذاته الشريرة، بالشر في قلبه ذاته؟ لقد رأينا للتو أنه ليس لديه شر أو خطيئة. لقد كان النقيض الذي لا خطيئة فيه. ومع ذلك فإنه جُرِّب من إبليس. وهو نفسه يخبرنا في مكان آخر أن الشيطان لا يقيم في الحق، وأنه كاذب من البدء، وقتّال، وأنه لَيْسَ فِيهِ حَقّ. لاحظوا هذه الضمائر الشخصية. إن ربنا يسوع عرف في إبليس شخصاً شريراً فاسداً، وهو عدو الله والإنسان.

وقد يُطرح السؤال: "لماذا خلق الله إذاً هذا الكائن الشرير؟ لماذا جلب الإبليس إلى الوجود؟" لم يخلقه الله كروح شري بل كملاك نقي بريء. ولم يثبت الشيطان في الحق. وكما كل الملائكة، خُلق في براءة، ولكن جاءت التجربة، التجربة التي أغوته ليمجّد نفسه، وهكذا سقط وصار عدو الله والإنسان. وقد أُعلنت دينونته، ولكن قبل أن يُنفَّذ اختار الله أن يسمح له ببعض السلطة والحرية لكي يُجرَّب البشر به ولكي يكتشفوا ويختاروا بين أن يفضّلوا خدمة الشيطان أو أن يعيشوا في تكرس محبّ لله الذي خلقهم. لكم أن تأخذوا خياركم، ولكن إن اخترتم الشيطانَ سيّداً لكم هنا عليكم أن تشاطروه المصير المشؤوم إلى الأبد، لأن الجحيم قد أُعدّ للشيطان وملائكته، أي رسله.

والآن لاحظوا ترتيب التجارب كما ترد هنا. لقد جاء إبليس إلى يسوع عندما كان جائعاً، عندما كان بأضعف ما يكون جسدياً. كانت هذه هي الفرصة ليقدّم له إغواء رغبة الجسد، إن كان لديه شيء من هذا القبيل خلافاً لقداسة ألوهيته. فقال له إبليس: "إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ، فَقُلْ لِهذَا الْحَجَرِ أَنْ يَصِيرَ خُبْزًا". لو كان قد أذعن لكان قد قبِل الاقتراح الذي يقدمه إبليس وهكذا يخرج نفسه من يد الله. ولكن لم يكن لديه أدنى ميل إلى أن يفعل ذلك. رد يسوع على المجرّب باستخدام الكتاب المقدس قائلاً: "لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ مِنَ اللهِ". هناك ما هو أكثر من الخبز لتغذية الجسد، وذلك هو الكلمة التي تغذّي الروح. ولذلك رفض الرب يسوع اقتراح الشيطان. لم يكن هناك أي كلمة له من الآب تطلب منه أن يحوّل الحجارة إلى خبز. وبالتالي فلن يمارس قدرته لإطاعة إبليس.

للأسف كم نقع نحن الذين نعترف باسمه في ظروف مشابهة. لقد مررنا بخطر الموت خلال خبرات حياتية ما في حياتنا. إبليس يقدم فرصة للازدهار من خلال القيام ما هو بذيء قليلاً ولكن هذا يتناقض مع الحفاظ على الاعتراف المسيحي الكامل. كم من ولد من أولاد لله أخفق هناك وسمح لنفسه بأن يستسلم لشيء حتى العالم يُدرك أنه مريب ومخادع، لكيما يدبّر الكثير من الخبز الذي يفنى، وليجد نفسه في النهاية بأنه يكسر أسنانه على نفس الحجارة التي حاول أن يحوّلها إلى غذاء. ولكن ليست تلك طريقة الله. إنه لا يدعو شعبه ليصنع من الحجارة خبزاً. إنه يطعمنا طبيعياً وروحياً بآن معاً ونحن نكدح يوماً بعد يوم لأجل ذاك الذي فيه بركتنا. هناك ما هو أهم من الخبز، وذلك هو القيام بعمل إرادة الله.

التجربة الثانية كانت محاولة إثارة شهوة العين. فمن جبل كبير وعالٍ يشرف على منظر رائع نظر يسوع إلى كل العالم. يريه إبليس كل ممالك الأرض في لحظة من الزمن. ويعلن له أن كل هذا يخصّه؛ فهو إله هذا العالم؛ إنه رئيسه؛ فالناس أسلموا ذلك له، ويقول: "أَنَا أُعْطِيهِ لِمَنْ أُرِيدُ. فَإِنْ سَجَدْتَ أَمَامِي يَكُونُ لَكَ الْجَمِيعُ". لقد كان ذلك يعني عرض الملكوت بدون الصليب: ولكن لم يكن هناك تجاوب داخلي من جهة المخلّص. لقد جاء إلى العالم ليس فقط ليحكم كملك، بل أولاً ليقدّم حياته فدية لأجل كثيرين، واقتراح إبليس لا يؤثر عليه على الإطلاق. يجيب: "اذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! إِنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ". إنه يدرك في الحال من هو المجرّب، ويدعوه بالاسم، ويقاوم اقتراحه ومن جديد ينتصر من خلال الكلمة.

سيأتي يوم عندما ستصبح ممالك كل هذا العالم ملكوت إلهنا ومسيحه. في ذلك اليوم إبليس نفسه سيُضطر لأن يعترف أن "يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ" (فيل ٢: ١٠). كل المخلوقات العاقلة ستخرّ أمامه ساجدةً، رغم أن الكثيرين منهم سيفعلون ذلك ببكاء ونواح وصرير أسنان بسبب التمرد الذي في قلبهم.

التجربة الثالثة كانت محاولة استمالته إلى كبرياء القلب الطبيعي، ذاك الذي ما كان لربنا المبارك أن يشعر به أبداً في قلبه. فقد أمكنه أن يقول: "إنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ". ونعلم أن إبليس أتى به إلى أورشليم وأجلسه على قمة الهيكل وقال له: "إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَاطْرَحْ نَفْسَكَ مِنْ هُنَا إِلَى أَسْفَلُ". لقد اقتبس إبليس بصفاقة ووقاحة من الكتابات المقدسة، جزء من المزمور ٩١، محاولاً أن يؤكد ليسوع أنه إن فعل ذلك فإن الملائكة ستمسك به وتحفظه وتحميه من الموت. لقد حذف بمكر القسم الأهم من المقطع.

حاولوا أن تتخيلوا ما كان يقترحه هنا. فكروا في ذلك الحشد الكبير من الناس المجتمعين في باحات الهيكل، وربنا ينظر إلى الأسف إلى تلك الجموع العابدة المحتشدة من أحد أعلى قمم المبنى الموقّر. تذكروا أنه جاء ليقدّم نفسه على أنه مسيا إسرائيل. والآن إبليس يعرض أن يتعاون معه ويقترح: "ها هي فرصتك لتبرهن للشعب أنك حقاً ابن الله وأنك المسيا الذي وُعدوا به. قفز من قمة الهيكل: دعهم يرون كيف أن الملائكة تحفظك في الهواء بأيديها. وعندها سيعرفون أنك ما تزعمه". من وجهة نظر طبيعية بدا هذا العرض مناسبة معقولة للرب ليُظهر مسيانيته. لاحظوا كيف أن إبليس حرّف تماماً الكتابات المقدسة ليدعم اقتراحه. قال: "لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ لِكَيْ يَحْفَظُوكَ، وَأَنَّهُمْ عَلَى أَيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لاَ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ". لقد أدرك مخلّصنا التحريف في الحال ورأى من خلال اقتراح إبليس إغواء إلى الكبرياء الروحي. كان لسان حال الشيطان يقول: "إنما أطلب منك أن تفعل ما تسمح به الكتب المقدسة: اقفز من أعلى الهيكل واتكّل على الله ليحقق كلمته وليحميك من الأذى". ولكن إن عدنا إلى المزمور ٩١ فسنجد أن المقطع يقول فعلياً: "لأَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ لِكَيْ يَحْفَظُوكَ فِي كُلِّ طُرُقِكَ" (مز ٩١: ١١). هذه الكلمات الأخيرة حذفها إبليس عمداً وعن مكرٍ. فما كان ليمكن أن يكون من طرق ابن الله القدوس أن يحاول أن يضع أباه تحت الاختبار بالطريقة التي اقترحها إبليس. لم يناقش يسوع المسألة مع الشيطان. بل ردّ عليه مباشرة بقول آخر من أقوال الله. أجاب: "إِنَّهُ قِيلَ: لاَ تُجَرِّبِ الرَّبَّ إِلهَكَ". هذا يعني أنه لا يحق لك أن تفعل أي شيء لكي ترى إذا ما كان الله سيحفظ كلمته أم لا. ليس من الضروري أن تفعل ذلك. لقد كان يمكن الاتكال عليه دائماً ليصنع ما يقوله. لو كانت من طرق ابن الله كما خطط لها الآب أن يقفز من أعلى الهيكل وأن تؤيده الملائكة، لما كان يسوع في حاجة لأن يأخذ تعليمات من إبليس بخصوص ذلك. لقد جاء ليصنع مشيئة الآب، وبقيامه بذلك كان بمقدوره دائماً أن يتكل على قوة الآب التي تؤازره.

كمثال عن تجريب الله أو اختباره، دعوني أشير إلى بعض الأشياء الغريبة التي حدثت مؤخراً في جبالنا الجنوبية. هناك طائفة من المتعصبين شاؤوا أن يختبروا الله استناداً على وعد أعطاه الرب لتلاميذه أنهم سيستطيعون أن يدوسوا الحيات وأنهم إن عضتهم أفعى لا تضرّهم. ولذلك ففي اجتماعات غريبة الشكل والفحوى كان يديرها هؤلاء الناس الجهلة، الذين كان معظمهم لا يستطيع أن يقرأ أو يكتب، ذلك التعليم المعطى أنه إن كان أحد مسيحياً حقاً فإن عضة الأفعى المجلجلة لا يمكن أن تؤذيه، لأن الله كان قد وعد بالحماية. وجرت عدة حوادث هناك حيث تمّ إحضار أفاعي مجلجلة حيّة إلى الاجتماعات وسمح بعض القادة فعلياً لهذه الزواحف المتلوية أن تعضهم، وكانوا يرجون بذلك أن يظهروا مناعتهم لسم الأفعى. مات العديد بسبب ذلك، وعانى آخرون بشدة، ولكنهم تحرروا أخيراً من السمّ من خلال علاج مناسب. واضطُرت الحكومة لأن تتدخل بسبب حماقة هذه الطائفة. لقد كانت كل المسألة هي محاولة لوضع الله تحت التجربة، وبالطبع، فإن الله ما كان ليتجاوب مع أي شيء من هذا القبيل.

ولكن نرى خلاف ذلك تماماً قد جرى مع الرسول بولس في جزيرة مالطا. إذ تحطمت سفينتهم راح البحّارة يُدفئون أنفسهم حول نارٍ، فخرجت منها أفعى سامّة ونشبت في يد بولس. توقع الناس أن يسقط ميتاً، ولكنه رمى الأفعى إلى النار ولم يتأذَ أبداً. لقد حافظ الله على كلمته، ولكن بولس لم يحاول أن يجرّب الله.

وهكذا في تجارب ربنا في البرية، حاول إبليس أن يوقع في الشرك من كل ناحية، ولكنه برهن على أنه هو القدوس الذي لم تكن في داخله أية رغبة للاستسلام لأي توجيهات أخرى سوى المعطاة له من الله الآب. فشل إبليس بأن يؤثر على ابن الله، ونقرأ بعدها: "فَارَقَهُ إِلَى حِينٍ". لقد كان يعود إليه من فترة إلى أخرى ويحاول من خلال الجاحدين غير المؤمنين الساقطين المتعصبين أن يقتله، وفي جثسيماني، وأيضاً عندما سُمِّر مخلّصنا حقاً على الصليب، وسعى الشيطان مرة أخرى ليحرف هدف الله، ولم ينل كل مرة سوى الهزيمة النكراء.

الدرس العظيم الذي نتعلمه هو أن ربنا يسوع المسيح، الذي جُرّب من كل النواحي كما يحدث معنا، وهو الذي بلا خطيئة، يحيا في المج اليوم وهو قادر على أن يبذل قدرته المقتدرة لأجلنا ويعيننا عندما نتعرض للتجربة. مهما كانت التجربة أو الاختبار الذي نضطر لمواجهته، دعونا نتذكر أنه يقف على أهبة الاستعداد لأن يأتي وينصرنا، وأن يعطينا القوة بقوة الروح القدس، لكي نقاوم التجربة ولا نخزي إلهنا وأبانا بإخفاقاتنا.