الخطاب ٤٨

جُرْم الصلب

"٤٩«جِئْتُ لأُلْقِيَ نَاراً عَلَى الأَرْضِ فَمَاذَا أُرِيدُ لَوِ اضْطَرَمَتْ؟ ٥٠وَلِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ؟ ٥١أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئْتُ لأُعْطِيَ سَلاَماً عَلَى الأَرْضِ؟ كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ! بَلِ انْقِسَاماً. ٥٢لأَنَّهُ يَكُونُ مِنَ الآنَ خَمْسَةٌ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ مُنْقَسِمِينَ: ثَلاَثَةٌ عَلَى اثْنَيْنِ وَاثْنَانِ عَلَى ثَلاَثَةٍ. ٥٣يَنْقَسِمُ الأَبُ عَلَى الاِبْنِ وَالاِبْنُ عَلَى الأَبِ وَالأُمُّ عَلَى الْبِنْتِ وَالْبِنْتُ عَلَى الأُمِّ وَالْحَمَاةُ عَلَى كَنَّتِهَا وَالْكَنَّةُ عَلَى حَمَاتِهَا». ٥٤ثُمَّ قَالَ أَيْضاً لِلْجُمُوعِ: «إِذَا رَأَيْتُمُ السَّحَابَ تَطْلُعُ مِنَ الْمَغَارِبِ فَلِلْوَقْتِ تَقُولُونَ: إِنَّهُ يَأْتِي مَطَرٌ. فَيَكُونُ هَكَذَا. ٥٥وَإِذَا رَأَيْتُمْ رِيحَ الْجَنُوبِ تَهُبُّ تَقُولُونَ: إِنَّهُ سَيَكُونُ حَرٌّ. فَيَكُونُ. ٥٦يَا مُرَاؤُونَ تَعْرِفُونَ أَنْ تُمَيِّزُوا وَجْهَ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَأَمَّا هَذَا الزَّمَانُ فَكَيْفَ لاَ تُمَيِّزُونَهُ؟ ٥٧وَلِمَاذَا لاَ تَحْكُمُونَ بِالْحَقِّ مِنْ قِبَلِ نُفُوسِكُمْ؟ ٥٨حِينَمَا تَذْهَبُ مَعَ خَصْمِكَ إِلَى الْحَاكِمِ ابْذُلِ الْجَهْدَ وَأَنْتَ فِي الطَّرِيقِ لِتَتَخَلَّصَ مِنْهُ لِئَلاَّ يَجُرَّكَ إِلَى الْقَاضِي وَيُسَلِّمَكَ الْقَاضِي إِلَى الْحَاكِمِ فَيُلْقِيَكَ الْحَاكِمُ فِي السِّجْنِ. ٥٩أَقُولُ لَكَ: لاَ تَخْرُجُ مِنْ هُنَاكَ حَتَّى تُوفِيَ الْفَلْسَ الأَخِيرَ»" (لوقا ١٢: ٤٩- ٥٩).

في الآيات السابقة لاحظنا أن مخلصنا سيأتي ثانية وبذلك يشير على أنه كان سيغادر العالم للوقت الحالي. لقد غادر ماراً بطريق جبل الزيتون، والصليب، والقبر. لقد كان ماضياً بسبب موقف شعبه الخاص منه، بني إسرائيل، وموقف العالم عموماً: "إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ". نقرأ في هوشع ٥: ١٥ أن الرب يقول: "أَذْهَبُ وَأَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي حَتَّى يُجَازَوْا وَيَطْلُبُوا وَجْهِي. فِي ضِيقِهِمْ يُبَكِّرُونَ إِلَيَّ". عندما جاء في اتضاعٍ أعلنت الملائكة مجيئه قائلين: "الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ". وأما الناس فقد رفضوا الاعتراف به. لقد رُفِضَ وصُلِبَ. قال بطرس في خطابه لشعب إسرائيل: "وَالآنَ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكُمْ بِجَهَالَةٍ عَمِلْتُمْ كَمَا رُؤَسَاؤُكُمْ أَيْضاً". لم يَرَ بنو إسرائيل في المخلّصِ المتواضعِ الملكَ الذي وَعَدَت به الكتابات المقدسة النبوية.

في غيابه يجب أن يُعلن إنجيله في كل مكان. عندما يقبل الناس ذلك الإنجيل ويأتون بشكل مؤكد إلى الرب، فإنهم، وعلى منواله، سوف يُرفضون من قِبل العالم. قال المسيح في صلاته كرئيس كهنة عظيم: "لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ، كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ". أن تكون مسيحياً يعني شيئاً معيناً؛ إنه يعني أن نتطابق مع ذاك الذي رفضه العالم. وهكذا كما أبغضه العالم ورفضه نحتاج ألا نندهش إذا ما أبغضنا العالم ورفضنا نحن أيضاً- تلك هي تبعات الصليب. قبل زمنٍ عندما كان يتم التصويت على أفضل أغنية تُغنى على الراديو، وُجد أن أغنية "الصليب القاسي القديم" هي أكثر الأغاني انتشاراً كما تبدى من خلال آلاف الإجابات التي انهمرت على مكاتب أحد صحفنا الرائدة. ولكني على ثقة بأن هناك عدد كبير من الناس الذي يغنون أغنية "الصليب القاسي القديم" والذي لا يشعرون بمعنى الصليب. الغناء عن الصليب يحرك قلوبهم؛ ولكنهم لا يؤمنون أبداً بذاك الذي مات على ذلك الصليب، ولا يطابقون أنفسهم مع ذاك الذي رُفض.

في الآيات الافتتاحية من القسم الحالي يشير ربنا إلى هذا الرفض وإلى ما سيتم إنجازه على الصليب. قال: "جِئْتُ لأُلْقِيَ نَاراً عَلَى الأَرْضِ فَمَاذَا أُرِيدُ لَوِ اضْطَرَمَتْ؟” رمز النار يرمز إلى عمل الله في الدينونة ضد الخطيئة. لم يأتِ يسوع ليدين الناس بل ليخلّصهم؛ ومع ذلك فإن العالم وضع نفسه في مكان الدينونة برفضه المسيح. اختبار الله هو: "ما هو موقفك نحو ابني؟" أو "ماذا تفتكر في المسيح؟" لو قبله الناس، لو آمنوا به واتكلوا عليه، لو اتخذوا مكانهم معه، لكانوا سيدخلون في سلام وبركة؛ ولكن إذا ما رفضوه بازدراء، فعندها سيعرضون أنفسهم لغضب الله ودينونته. قال يسوع: "لِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ؟” لقد كان يشير إلى تلك المعمودية من الدينونة الإلهية التي كان سيحملها على الصليب. لاحظنا في سياق متصل بمعمودية يوحنا أنها كانت للتوبة. عندما كان الناس يعترفون بخطاياهم كان يقودهم يوحنا إلى مياه المعمودية. لم تكن المعمودية تطهّرهم من الخطيئة بل كانت تدل على توبتهم. كان الناس يغطسون في مياه المعمودية، معترفين بأنهم خطاة وبأنهم كانوا يستحقون الموت. لقد أخذ يسوع مكانه مع هؤلاء الخطأة في هذه المعمودية، إذ غمس نفسه في الماء ليسوي مسالة خطاياهم، رغم أانه كان ذاك الذي بلا خطيئة. لقد كان الأمر وكأنه يُجيّر كل الشيكات التي كان كل هؤلاء الدائنين يعطونها لله. عندما يوقّع المرء على شيك يأتي يوم في نهاية الأمر يستوجب الاستحقاق. إن كان المدين لا يستطيع أن يدفع، فإن من يُجيّر الشيكات ينبغي عليه أن يفعل ذلك. ولقد وقّع يسوع على الشيكات عن جميع هؤلاء الناس. والآن مرت ثلاث سنوات ونصف وآن ملء الزمان عندما استوجب إيفاء الشيكات المستحقة، عندما تمت تسوية كل شيء؛ ورأى الصليب أمامه حيث كان سيذهب ليقابل كل إدعاء من قِبل الله ضد الخطأة. قال: "لِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ؟” تأثرت روحه بعمق وهو يتطلع إلى ذلك الصليب وإلى الدينونة ضد الخطيئة التي كان سيحتملها هناك.

ذاك الصليب كان سيقسم العالم. قال الرب يسوع: "أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئْتُ لأُعْطِيَ سَلاَماً عَلَى الأَرْضِ؟ كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ! بَلِ انْقِسَاماً". ألم يأتِ ليعطي السلام؟ لقد مُنح السالم بواسطته. لو كان الناس قد قبلوه لكانوا سيتمتعون بالسلام، ولكنهم رفضوه وقاوموه بازدراء. لحوالي ألفي سنة تقريباً ساد الحرب والاضطراب بدل السلام الذي وعد به أنبياء العهد القديم من خلال مجيء المسيا. سوف لن يأتي السلام إلى أن يرجع المسيح. في هذه الأثناء سيكون هناك نزاع ومحنة: "لأَنَّهُ يَكُونُ مِنَ الآنَ خَمْسَةٌ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ مُنْقَسِمِينَ: ثَلاَثَةٌ عَلَى اثْنَيْنِ وَاثْنَانِ عَلَى ثَلاَثَةٍ. يَنْقَسِمُ الأَبُ عَلَى الاِبْنِ وَالاِبْنُ عَلَى الأَبِ وَالأُمُّ عَلَى الْبِنْتِ وَالْبِنْتُ عَلَى الأُمِّ وَالْحَمَاةُ عَلَى كَنَّتِهَا وَالْكَنَّةُ عَلَى حَمَاتِهَا". وهكذا كان الحال منذ أن غادر هذا العالم. العائلات والشعوب تحطمت وتقسمت، وكل ذلك بسبب موقفها من الرب يسوع. كثيرون منا يعرفون شيئاً من ذلك. أولئك الذين وُلدوا بينكم في عائلات حيث لم يكن الإنجيل معروفاً ومحبوباً، ومع ذلك من خلال نعمة الله بُشّرتم بالكلمة وخلصتم، تعرفون شيئاً من المقاومة المريرة لأولئك المرتبطين بكم بعلاقة حميمة قوية. لقد كل الكثيرين منكم كمّاً كبيراً من الألم والمعاناة لأجل الرب. أعضاء آخرون من عائلتكم قالوا عنكم أنكم متعصبين وحمقى لأنكم آمنتم بالمخلّص. ولكن لكم أن تمضوا متكلين عليه وأن تكونوا مخلصين له بسبب النعمة التي خلّصتكم. لقد غفر لكم، ويمكنكم أن تكونوا واثقين من تلك الحقيقة نفسها أنه مهتم بجميع عائلتكم. اطلبوا منه أن يأتي بالآخرين إليه. ولكن إلى أن يحصل ذلك انتبهوا ألا تُثبّط همتكم. قبل أن تخلصوا لم تفهموا لماذا لم يستطع المسيحيون التخلي عن كل شيء بسرور لأجل المسيح، ولذلك أنتم لستم في حاجة إلى أن تتوقعوا أن تُفهموا الآن من قِبل أولئك الذين لا يزالون في خطاياهم.

دعوني أحذّركم أنتم الذين تُعتبرون مسيحيين لتوّكم: لا تتماهوا وتتساهلوا مع العالم الذي صلب ربّكم. اشعروا دائماً بالحزن عندما يسأل أناس شبّان جديون عن إذا ما كان هناك خطأ في القيام بهذا العمل أم ذاك. من الأفضل أن تسأل: "هل سيكرّم هذا ربّي؟"، "هل سيجعلني هذا الأمر أكثر تشبهاً بالرب يسوع المسيح؟"، "هل سيجعلني هذا الأمر أكثر روحانية؟" يمكنكم أن تفعلوا بكل حرية ما تجدون أن فيه ميل ليخلق في أنفسكم تقديراً أعظم للمسيح.

إنه عائد من جديد في يوم ما. لقد مضى وهو مرفوض؛ وسيعود ممجداً. عندما جاء لأول مرة لم يستطيعوا الناس أن يتبينوا علامات الأزمنة، وهناك خطر أن نكون جاهلين بما يتعلق بمجيئه الثاني. قال يسوع: "إِذَا رَأَيْتُمُ السَّحَابَ تَطْلُعُ مِنَ الْمَغَارِبِ فَلِلْوَقْتِ تَقُولُونَ: إِنَّهُ يَأْتِي مَطَرٌ. فَيَكُونُ هَكَذَا. وَإِذَا رَأَيْتُمْ رِيحَ الْجَنُوبِ تَهُبُّ تَقُولُونَ: إِنَّهُ سَيَكُونُ حَرٌّ. فَيَكُونُ". لقد كانت لديهم الكتابات المقدسة التي وضعها الأنبياء بين أيديهم، ومع ذلك لم يستطيعوا أن يروا العلامات التي تحققت حولها. لدينا الكتاب المقدس اليوم، وهناك أشياء كثيرة تحققت تخبرنا عن العودة القريبة لربنا؛ ولكن كم قلة هم أولئك الذين يدركون ذلك! "لِمَاذَا لاَ تَحْكُمُونَ بِالْحَقِّ مِنْ قِبَلِ نُفُوسِكُمْ؟” المعيار هو كلمة الله. ادرسوا الكتابات المقدسة وستتعلمون منها الطريف الذي يجب أن تسلكوه وأن تمرون عبر هذا العالم. "حِينَمَا تَذْهَبُ مَعَ خَصْمِكَ إِلَى الْحَاكِمِ ابْذُلِ الْجَهْدَ وَأَنْتَ فِي الطَّرِيقِ لِتَتَخَلَّصَ مِنْهُ لِئَلاَّ يَجُرَّكَ إِلَى الْقَاضِي وَيُسَلِّمَكَ الْقَاضِي إِلَى الْحَاكِمِ فَيُلْقِيَكَ الْحَاكِمُ فِي السِّجْنِ. أَقُولُ لَكَ: لاَ تَخْرُجُ مِنْ هُنَاكَ حَتَّى تُوفِيَ الْفَلْسَ الأَخِيرَ". بمعنى آخر، حاولوا أن تسووا هذه المسألة خارج المحكمة. لا تنتظروا حتى يوم ظهور الرب، سواء كنتم تفكرون في دينونة أولئك الذين لا يؤمنون بالمسيح عند العرش الأبيض العظيم، أو سواء كنتم في اليوم الذي سينزل به الرب من السماء وخاصته معه. لا تتركوا الأمور تستمر على ذلك النحو حتى ذلك اليوم. من الأفضل لكم أن تواجهوا كل شيء في هذه الحياة وبذلك تحصلون على اليقين من المغفرة الإلهية الآن. سيكون الوقت متأخراً جداً لتضعوا الأمور في نصابها الصحيح في الأبدية. ما من أحد مهما بذل من جهد خاص ذاتي، وبأي استحقاق يمكن أن يحققه، يمكن أبداً أن يسد مطالب العدالة الإلهية. ولكن المسيح قد دفع عن كل الذين سيتكلون عليه. مبررين بالإيمان أمما الله نحن مسؤولون أن نسلك على هذا النحو نحو إخوتنا هنا على الأرض لكي نبقي على وجدان خالٍ من الإثم نحو الله والإنسان.