الخطاب ٦٢

الرفض الكبير

"١٨وَسَأَلَهُ رَئِيسٌ قَائِلاً: «أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟» ١٩فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ. ٢٠أَنْتَ تَعْرِفُ الْوَصَايَا: لاَ تَزْنِ. لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ». ٢١فَقَالَ: «هَذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي». ٢٢فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ ذَلِكَ قَالَ لَهُ: «يُعْوِزُكَ أَيْضاً شَيْءٌ. بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَوَزِّعْ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنِي». ٢٣فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ حَزِنَ لأَنَّهُ كَانَ غَنِيّاً جِدّاً. ٢٤فَلَمَّا رَآهُ يَسُوعُ قَدْ حَزِنَ قَالَ: «مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ! ٢٥لأَنَّ دُخُولَ جَمَلٍ مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!». ٢٦فَقَالَ الَّذِينَ سَمِعُوا: «فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟» ٢٧فَقَالَ: «غَيْرُ الْمُسْتَطَاعِ عِنْدَ النَّاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اللهِ». ٢٨فَقَالَ بُطْرُسُ: «هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ». ٢٩فَقَالَ لَهُمُ: «ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتاً أَوْ وَالِدَيْنِ أَوْ إِخْوَةً أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَداً مِنْ أَجْلِ مَلَكُوتِ اللهِ ٣٠إِلاَّ وَيَأْخُذُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَفِي الدَّهْرِ الآتِي الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ»" (لوقا ١٨: ١٨- ٣٠).

ليس الرب يسوع المسيح فقط مخلّص من الدينونة، بل هو أيضاً رب حياتنا. في الأيام التي لم نكن قد اهتدينا فيها بعد عشنا لأنفسنا؛ عشنا بطرق مختلفة؛ اخترنا طرقنا الخاصة، ولكن هدفنا الوحيد الكبير كان أن نرضي أنفسنا.

"عشتُ لنفسي، لنفسي فقط،
لأجل نفسي ولا أحد سواي،
كما لو أن يسوع لم يحيا أبداً،
وكما لو أنه لم يمت أبداً".

وإذاً جاء مخلّصنا المبارك إلى هذا العالم ليقوم بأكثر من أن يفدينا ويحرّرنا من خطايانا ومن دينونة الله. لقد جاء ليجعلنا خاصته بمعنى عملي، لكي نحيا في كل طرقنا هنا على الأرض لمجده. بدلاً من أن يكونوا متمحورين على أنفسهم، على أولاد الله أن يكونوا متمحورين على المسيح، وقادرين على أن يقولوا مع الرسول بولس: "لأن لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ". وهذا يتضح جلياً في المقطع الذي أمامنا.

لدينا أولاً قصة الرئيس الغني الشاب: "وَسَأَلَهُ رَئِيسٌ قَائِلاً: «أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟” لا أعلم بالضبط ما كان في ذهن هذا الشاب عندما استخدم عبارة "الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ". بالتأكيد لم تكن تعني له ما تعنيه لنا تماماً. قال ربنا يسوع: "وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلَهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ". الحياة الأبدية هي تلك التي تعطي القدرة على الدخول والتمتع بالشركة مع الثالوث القدوس: الآب والابن بقوة الروح القدس. من الواضح أن هذا الشاب فكر بالحياة الأبدية كخبرة سارة وإطالة للحياة البشرية هنا على الأرض، ويقين السعادة بعد الموت. لقد تكلم من وجهة نظر ناموس موسى عندما سأل: "مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟” ما الذي يجب أن أفعله لكي أمتلك هذه البركة العظيمة؟ لاحظوا الطريقة التي خاطب بها الرب يسوع: "أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ". لقد أقر بأن الرب معلّم، كما يفعل آلاف اليوم. قال يسوع: "لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ". هل كان يقول: "أنا لست إلهاً، ولذلك يجب ألا تخاطبني بعبارة المعلّم الصالح"؟ لا؛ كان الرب يختبر هذا الرئيس الشاب. ما من أحد صالح جوهرياً فعلياً سوى الله، والله كان متجلياً في المسيح. السؤال هو: هل كان هذا الشاب يميز يسوع هكذا؟ لا لم يفعل ذلك. بعدئذ قال له ربنا يسوع: "أَنْتَ تَعْرِفُ الْوَصَايَا: لاَ تَزْنِ. لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّك". يقول الناموس بأن الإنسان الذي يطيع هذه الوصايا يحيا. ذكر الرب يسوع فقط الوصايا التي لها علاقة بالحياة الظاهرة الخارجية، علاقتنا مع إخوتنا البشر؛ لم يذكر تلك الوصايا المتعلقة بعلاقتنا مع الله. لم يكن الشاب مهتماً بموقفه أمام الله بل بالشكل الذي كان يظهر عليه أمام إخوته البشر. لقد رفع بصره برضى عن الذات، وقال: "هَذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي". ربما كان صادقاً في قوله هذا؛ ربما لم ينتهك أياً من هذه الوصايا، ولكن الرب يسوع رأى أنه كان يستند على بره الذاتي. المحافظة على هذه الوصايا كما ينبغي يعني أكثر من مجرد الامتناع عن القيام بأفعال الشر الصريحة؛ إنها تعني أن نحب القريب كما نحب أنفسنا، وهكذا يضع الرب هذا الشاب تحت الاختبار بقوله: "يُعْوِزُكَ أَيْضاً شَيْءٌ". حياتك قد تبدو نقية ظاهرياً خارجياً؛ قد تكون نظيفة نسبياً؛ وفي عيني إخوتك البشر قد تكون شخصاً نبيلاً للغاية، ولكن إن كنت تحيا لأجل ذاتك أكثر مما لأجل الله، فإنك تحت دينونة الناموس. امتحن الرب يسوع هذا الشاب على ذلك النحو: "يُعْوِزُكَ أَيْضاً شَيْءٌ. بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَوَزِّعْ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنِي". هل قصد أن يقول أن الطريق إلى الحصول على الحياة الأبدية هو أن يقدم المرء كل ما يمتلكه إلى الفقراء؟ لا أبداً على الإطلاق؛ ولكنه كان يختبر هذا الشاب، الذي كان أنانياً متبجحاً ممتلئاً بالرضا عن الذات. بالتأكيد لا يُقال لنا شيء ضد طبيعته الأخلاقية، ولكن حياته كانت حياة أنانية؛ لقد كانت لديه ممتلكات كثيرة؛ كانت لديه ثروة كبيرة، وكان الناس يعيشون حوله في فقر؛ ومع ذلك فقد استمر على حاله ولم يدرك أن الله قد عهد إليه بهذه الثروة لكي يستخدمها لأجله نفسه (الله). إن عهد الله إليك بثروة، فإنه يجعلك وكيلاً عليها، وعليك أن تستخدمها لمجد الله وبركة البشر. إن قدمنا حياتنا وممتلكاتنا للرب يسوع فلن نكون قلقين أو مهتمين بذواتنا؛ سنهتم بحاجات الآخرين، وهدفنا الوحيد سيكون أن نمجد ذاك الذي فدانا. ولذلك فإن الاختبار هنا هو: هل ستسمح للمسيح بأن يكون رباً على حياتك؟ نقرأ أنه عندما سمع ذلك الرئيس تلك الكلمات حَزِنَ للغاية لأَنَّهُ كَانَ غَنِيّاً جِدّاً وانصرف. لم ينجح ذلك الشاب في الاختبار الذي وضعه الرب أمامه. لقد رفض طريق الخضوع للمسيح. وكثيرون أخذوا نفس المسار.

ليس من الخطأ أن تكون غنياً، ولكنه أمر فظيع إن كانت الثروة تبعدك عن السمع. الله يمنحنا بوفرة كل الأشياء لكي نستمتع بها، ولكنها تصبح كارثة إذا ما صار المرء منشغلاً بالكنز الأرضي لدرجة أنه يضل طريق الحياة الأبدية كما فعل هذا الرجل.

"فَلَمَّا رَآهُ يَسُوعُ قَدْ حَزِنَ قَالَ: مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!" إنه يصعب على المرء الذي لديه الكثير من أغراض الدنيا أن يدرك حاجته وأن يأتي إلى الله كفقير، كخاطئ مبتلياً بالفقر. نعلم أن هذا صحيح عملياً، لأن هناك قلة قليلة جداً من العظماء والمترفين في هذا العالم الذين أتوا إلى المسيح وجعلوا حياتهم بين يديه. قال يسوع: "لأَنَّ دُخُولَ جَمَلٍ مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!" أنتم تعرفون المثل الذي لطالما استُخدم- أفترض أنه صحيح: هناك بوابة صغيرة في أحد الأبواب الضخمة يُسمى "خرم الإبرة"- رأيت هكذا بوابات عندما كنت في فلسطين- على الأرجح أنها كانت نفسها في زمن ربنا يسوع. إذا ما وصل المسافر إلى المدينة متأخراً في الليل وقرع على الباب، سيسمح له الحارس في الداخل بأن يمر عبر خرم الإبرة، ولكن على الجمل الذي يمتطيه أن ينحني لكي يستطيع المرور عبر البوابة. وكان يجب على المسافر أن يترك أغراضه وبضائعه في الخارج حتى الصباح. ولذلك قال يسوع: "دُخُولَ جَمَلٍ مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!" كان على الغني أن يُنزل حمولته؛ كان عليه أن يسلّم كل شيء لسلطة الرب يسوع المسيح.

انذهل التلاميذ عندما سمعوا ذلك. لقد فكروا، كما يفكر كثيرون اليوم، بأن الفقر هو الذي يجعل الناس خارج ملكوت الله. إن استطعنا أن نتخلّص من الفقر، ولو أمكننا أن نزيل الأحياء الفقيرة من مدننا، فعندها يمكننا أن نجعل الناس يهتدون إلى المسيح! ولكن الأمر لا ينجح بتلك الطريقة. نقرأ عن "الفقير في هذا العالم والذي هو غني بالإيمان". غالباً ما تبين أن الغنى يشكل عائقاً حقيقياً لخلاص النفس. سأل التلاميذ: "فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟" وأجاب ربنا قائلاً: "غَيْرُ الْمُسْتَطَاعِ عِنْدَ النَّاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اللهِ". ليس أمراً مستحيلاً على الغني أن يخلص. بل من الممكن للغني أن يعرف المسيح إن كان مستعداً للتوبة والإيمان به والاعتراف به رباً وسيّداً، والذي سيعني ثورة كاملة في الطريقة التي كان يحيا بها.

الحمد لله على وجود بعض الأغنياء بيننا الذين وضعوا كل حياتهم وثروتهم في خضوع للمسيح. خسرنا مؤخراً رجلاً تقياً من مدينتنا كان الرب قد عهد إليه بمقدرات وثروة. كان قد سخّر كل ما يملكه للرب. أشير إلى رئيس التجار ذاك، السيد هنري ب. كرويل. وهناك آخرون مثله؛ رجال يمكن لله أن يأتمنهم على ثروة كبيرة لأنهم يستخدمونها، ليس لأجل أنفسهم، بل لمجد الله. من جهة أخرى، ولأننا فقراء، علينا ألا نفكر بأن الفقر هو لقب للسماء أو طريق إليها. لا شيء صحيح من هذا القبيل. الفقير والغني يلتقيان معاً؛ كلاهما بحاجة إلى الخلاص بنفس الطريقة: "إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ".

وبالحديث عن الرسل، قال بطرس: "هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ". لم يكن هناك الكثير ليتركوه. إن كنتُ أتذكر على نحو صحيح، لقد كان ذلك قارباً وشبكة ممزقة تركهما بطرس وراءه، ولكنها كانت تعني الكثير له- عمل صيد السمك ذاك في كفرناحوم. قال يسوع: "ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتاً أَوْ وَالِدَيْنِ أَوْ إِخْوَةً أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَداً مِنْ أَجْلِ مَلَكُوتِ اللهِ إِلاَّ وَيَأْخُذُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَفِي الدَّهْرِ الآتِي الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ".اجعل المسيح رباً وسيداً على حياتك؛ آمن به مخلّصاً لك؛ أخضع كل ما لديك له، وستتلقى في نهاية الأمر أكثر مما تركت. سيرى الله كيف يدبر ذلك لك بوفرة، لأنه يخبرنا بأن يعطي مئة ضعف لأولئك الذين يسلّمون أنفسهم له؛ ومئة ضعف هي ١٠٠٠٠ بالمئة. معظمنا راضون، في هذه الأيام، إن استطعنا أن نحصل على ثلاثة أو أربعة بالمئة على استثمارات. ومع ذلك فإننا ننكمش من الاستثمار الذي سيقدم لنا نسبة ربح ١٠٠٠٠ بالمئة. إننا نخشى أن نسلّم حياتنا إلى يدي الرب، ولكنه لا يخيب أولئك الذين يسلّمون أنفسهم له، وعندما نصل إلى نهاية المطاف، كم سنسبحه ذاك الذي سمعنا صوته يدعونا لأن نؤمن به ونتكل عليه ونقر بسلطانه على حياتنا. إن لنا حياة أبدية الآن من خلال الإيمان، ولكن عندما نصل المدينة السماوية سندخل إلى الحياة الأبدية بكل مجدها.

لن يكون هناك أحد في ذلك اليوم ينظر إلى الخلف ويقول: "أود لو كنت أكثر تمحوراً على ذاتي؛ ليتني لم أكن متكرساً إلى كل ذلك الحد؛ ليتني لم أذعن كثيراً إلى يسوع المسيح". لن يكون هناك من يتحدث على هذا النحو في ذلك اليوم الآتي؛ ولكن سيكون هناك كثيرون منا يقولون: "أود لو كنت أكثر غيرية؛ ليتني كنت مكرساً أكثر؛ ليتني أسلمت ذاتي أكثر للرب يسوع المسيح". ألا فليمنحنا الله جميعاً أن نسلّم له أنفسنا وأن نعترف به في كل طرقنا، لكيما نسلك كما يشاء ونحن نمضي عبر هذا العالم.