الخطاب ٦٩
الخطاب النبوي العظيم لربنا
" ١ وَتَطَلَّعَ فَرَأَى الأَغْنِيَاءَ يُلْقُونَ قَرَابِينَهُمْ فِي الْخِزَانَةِ ٢وَرَأَى أَيْضاً أَرْمَلَةً مِسْكِينَةً أَلْقَتْ هُنَاكَ فَلْسَيْنِ. ٣فَقَالَ: «بِالْحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ هَذِهِ الأَرْمَلَةَ الْفَقِيرَةَ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنَ الْجَمِيعِ ٤لأَنَّ هَؤُلاَءِ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا فِي قَرَابِينِ اللهِ وَأَمَّا هَذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ الْمَعِيشَةِ الَّتِي لَهَا». ٥وَإِذْ كَانَ قَوْمٌ يَقُولُونَ عَنِ الْهَيْكَلِ إِنَّهُ مُزَيَّنٌ بِحِجَارَةٍ حَسَنَةٍ وَتُحَفٍ قَالَ: ٦«هَذِهِ الَّتِي تَرَوْنَهَا سَتَأْتِي أَيَّامٌ لاَ يُتْرَكُ فِيهَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ». ٧فَسَأَلُوهُ قَائِلِين: «يَا مُعَلِّمُ مَتَى يَكُونُ هَذَا ومَا هِيَ الْعَلاَمَةُ عِنْدَمَا يَصِيرُ هَذَا؟» ٨فَقَالَ: «ﭐنْظُرُوا! لاَ تَضِلُّوا. فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلِينَ: إِنِّي أَنَا هُوَ وَالزَّمَانُ قَدْ قَرُبَ. فَلاَ تَذْهَبُوا وَرَاءَهُمْ. ٩فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِحُرُوبٍ وَقَلاَقِلٍ فَلاَ تَجْزَعُوا لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَوَّلاً وَلَكِنْ لاَ يَكُونُ الْمُنْتَهَى سَرِيعاً». ١٠ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «تَقُومُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ وَمَمْلَكَةٌ عَلَى مَمْلَكَةٍ ١١وَتَكُونُ زَلاَزِلُ عَظِيمَةٌ فِي أَمَاكِنَ وَمَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٌ. وَتَكُونُ مَخَاوِفُ وَعَلاَمَاتٌ عَظِيمَةٌ مِنَ السَّمَاءِ. ١٢وَقَبْلَ هَذَا كُلِّهِ يُلْقُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ وَيُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى مَجَامِعٍ وَسُجُونٍ وَتُسَاقُونَ أَمَامَ مُلُوكٍ وَوُلاَةٍ لأَجْلِ اسْمِي. ١٣فَيَؤُولُ ذَلِكَ لَكُمْ شَهَادَةً. ١٤فَضَعُوا فِي قُلُوبِكُمْ أَنْ لاَ تَهْتَمُّوا مِنْ قَبْلُ لِكَيْ تَحْتَجُّوا ١٥لأَنِّي أَنَا أُعْطِيكُمْ فَماً وَحِكْمَةً لاَ يَقْدِرُ جَمِيعُ مُعَانِدِيكُمْ أَنْ يُقَاوِمُوهَا أَوْ يُنَاقِضُوهَا. ١٦وَسَوْفَ تُسَلَّمُونَ مِنَ الْوَالِدِينَ وَالإِخْوَةِ وَالأَقْرِبَاءِ وَالأَصْدِقَاءِ وَيَقْتُلُونَ مِنْكُمْ. ١٧وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنَ الْجَمِيعِ مِنْ أَجْلِ اسْمِي. ١٨وَلَكِنَّ شَعْرَةً مِنْ رُؤُوسِكُمْ لاَ تَهْلِكُ. ١٩بِصَبْرِكُمُ اقْتَنُوا أَنْفُسَكُمْ. ٢٠وَمَتَى رَأَيْتُمْ أُورُشَلِيمَ مُحَاطَةً بِجُيُوشٍ فَحِينَئِذٍ اعْلَمُوا أَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ خَرَابُهَا. ٢١حِينَئِذٍ لِيَهْرُبِ الَّذِينَ فِي الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجِبَالِ وَالَّذِينَ فِي وَسَطِهَا فَلْيَفِرُّوا خَارِجاً وَالَّذِينَ فِي الْكُوَرِ فَلاَ يَدْخُلُوهَا ٢٢لأَنَّ هَذِهِ أَيَّامُ انْتِقَامٍ لِيَتِمَّ كُلُّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ. ٢٣وَوَيْلٌ لِلْحَبَالَى وَالْمُرْضِعَاتِ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ لأَنَّهُ يَكُونُ ضِيقٌ عَظِيمٌ عَلَى الأَرْضِ وَسُخْطٌ عَلَى هَذَا الشَّعْبِ. ٢٤وَيَقَعُونَ بِفَمِ السَّيْفِ وَيُسْبَوْنَ إِلَى جَمِيعِ الأُمَمِ وَتَكُونُ أُورُشَلِيمُ مَدُوسَةً مِنَ الأُمَمِ حَتَّى تُكَمَّلَ أَزْمِنَةُ الأُمَمِ " (لوقا ٢١: ١- ٢٤).
"وَتَطَلَّعَ فَرَأَى الأَغْنِيَاءَ يُلْقُونَ قَرَابِينَهُمْ فِي الْخِزَانَةِ وَرَأَى أَيْضاً أَرْمَلَةً مِسْكِينَةً أَلْقَتْ هُنَاكَ فَلْسَيْنِ". هناك أمران مهمان نتعلّمهما من التمعن في هذه الحادثة. الأول هو أن ربنا المبارك مهتم بعمق بما نقدمه لله. هناك نزعة أحياناً، حتى عند المسيحيين، لأن يقلّلوا من شأن العطاء؛ وهناك اشمئزاز من تقديم العطايا في الخدمات المسيحية، وكأنه صارت لها صفة الروح التجارية الدنيوية إلى حد كبير. ولكن علينا أن نتذكر أن الله، وطوال تاريخ تعاملاته مع الناس، كان يتطلع لأن يقدموا من أموالهم لتحقيق عمله. إن هذا اعتراف بتلمذتنا إن قدّمنا عطايانا لله من وقت إلى آخر. كان الحال هكذا في إسرائيل القديم؛ وكان هكذا طوال كل القرون. في هذه الحادثة نرى ربنا جالساً مقابل الخزينة، يلاحظ ما يساهم به الناس. إنه شديد الانتباه إلى ما يقدّمه شعبه له؛ إنه يعرف إن كان عطاؤنا بدافع المحبة له أم لا؛ إنه يعرف إن كان ذلك بروح التضحية وبنكران للذات حقيقي.
وثانياً، نتعلم من هذا المقطع أن حساب السماء- طريقة السماء في مسك الدفاتر- مختلفة تماماً عن طرقنا. عادة نحكم على الناس بحسب مقدار المال الذي يقدّمونه. فإن قدّم غني مبلغاً كبيراً نقول أنه أعطى كثيراً؛ ولكن إن قدّم أحد مالاً قليلاً فإننا نعيره اهتماماً ضئيلاً. طريقة الله في الحساب مختلفة تماماً. إنه يدون ملاحظات، وليس بحسب المبلغ المقدّم، بل بحسب ما يبقى. الغني قد يقدم آلاف ومع ذلك تبقى لديه مئات الألوف؛ وشخص آخر، في ظروف أقل وفرة، قد يقدّم مبلغاً صغيراً جداً، ولكن لأنه لا يتبقى لديه سوى القليل يسجّل الله ذلك على أنه مساهمة كبيرة. رأى الرب يسوع الأرملة الفقيرة تلقي بفلسين، وهو مبلغ ضئيل جداً. فلسان قيمة كل منهما أقل بكثير من الفارذينع البريطاني. ومع ذلك يقول يسوع: "بِالْحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ هَذِهِ الأَرْمَلَةَ الْفَقِيرَةَ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنَ الْجَمِيعِ لأَنَّ هَؤُلاَءِ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا فِي قَرَابِينِ اللهِ وَأَمَّا هَذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ الْمَعِيشَةِ الَّتِي لَهَا". أعتقد أن ذلك كان أجرها طوال ذلك النهار. لقد عملت طوال اليوم وكان هذا ما كسبته، ووضعته كله في قرابين الرب. ما من أحد يقدّم لله على هذا النحو ويعاني بسبب ذلك. الله سيرد عليه بطريقته الخاصة وفي الوقت الذي يجده مناسباً. لن يكون الله مديناً لأحد؛ سيعوض بشكل أو بآخر عن كل ما يقدّم له.
ثم نتحول إلى رواية لوقا ونتأمل في خطبة ربنا النبوية العظيمة: "وَإِذْ كَانَ قَوْمٌ يَقُولُونَ عَنِ الْهَيْكَلِ إِنَّهُ مُزَيَّنٌ بِحِجَارَةٍ حَسَنَةٍ وَتُحَفٍ". كانت أورشليم في ذلك الوقت مدينة عظيمة كما حال المدن في الشرق. كان يحيط بها سور قوي منيع. أبنيتها الضخمة كانت جميلة، وخاصة الهيكل المجيد الذي كان هيرودس قد صرف الملايين عليه في محاولة منه ليجعله عظيماً كما كان هيكل سليمان قبل أن يدمره جيش نبوخذنصر. ومن الطبيعي أن اليهود كانوا فخورين جداً بالهيكل والأبنية الأخرى؛ وأظهر الرسل نفس الروح إذ التفتوا نحو يسوع وحاولوا أن يلفتوا انتباهه إلى روعة البناء المعماري هناك. ولكنه نظر إلى الأمر برمته بعيون نبوية لم يستطيعوا هم أن يروا من خلالها. لقد رأى ما كان سيحدث لهذه الأبنية. وأعلن قائلاً: "هَذِهِ الَّتِي تَرَوْنَهَا سَتَأْتِي أَيَّامٌ لاَ يُتْرَكُ فِيهَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ". لا بد أن تلك الكلمات ظهرت وكأن تحقيقها بعيد الاحتمال. ومع ذلك فبعد أربعين سنة سُوِّيَ الهيكل وجميع أبنية المدينة بالأرض. كل نبوءة في الكتب المقدسة إما أن تكون قد تحققت أو سوف تتحقق حرفياً كما كُتب أو قِيل. عندما أخبر الرب يسوع تلاميذه عن هذه الأمور المستقبلية اندهشوا، وسألوه: "يَا مُعَلِّمُ مَتَى يَكُونُ هَذَا ومَا هِيَ الْعَلاَمَةُ عِنْدَمَا يَصِيرُ هَذَا؟" لكي نفهم جوابه الكامل نحتاج لقراءة ما ورد في هذا الخطاب الكامل كما يتبين لنا من الأناجيل الإزائية الثلاثة: متى ٢٤، ومرقس ١٣، وهنا في لوقا ٢١. يسرد لوقا الحوادث والظروف التي ستجري قبل دمار أورشليم والتي ستؤدي إليه؛ يتناول متى بشكل خاص الأمور التي ستحدث فيما بعد، والتي ستفضي إلى المجيء الثاني للمسيح. يخبرنا لوقا شيئاً من هذا، ولكنه لا يقدم لنا نصاً كاملاً ومكتملاً كما يفعل متى. رواية مرقس تشبه كثيراً رواية متى، رغم أنها ليست كاملة تماماً. في هذا التقرير من ثلاث زوايا مختلفة حول هذه الكلمات التي نطقت بها شفاه ربنا، لدينا نبوءة لافتة عن الأمور التي ستحدث بعد موته وقيامته وصعوده إلى السماء. دمار أورشليم، حالة العالم خلال الدهر الحالي، والظروف التي ستسود في زمن النهاية- الأسبوع السبعون الأخير غير المحقق من دانيال (الأصحاح ٩)- والمجيء الثاني بالمجد، توصف بطريقة تصويرية وتفصيلية. ليس لدينا هنا شيء عن الكنيسة، جسد المسيح، أو الاختطاف. فهذه حقائق سيُعلن عنها فيما بعد.
"ﭐنْظُرُوا! لاَ تَضِلُّوا. فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلِينَ: إِنِّي أَنَا هُوَ وَالزَّمَانُ قَدْ قَرُبَ. فَلاَ تَذْهَبُوا وَرَاءَهُمْ". يخبرنا التاريخ أنه كان هنالك العديد من الكذبة والدجالين الذين ظهروا في إسرائيل، يدّعون أنهم المسيا، خلال السنوات الأربعين التي انقضت بعد الصلب. كان المسيا الحقيقي قد رُفض. القسم الأعظم من أورشليم رفض أن يؤمن بأن يسوع كان هو الموعود، ولذلك فقد وقعوا بسهولة تحت تأثير هؤلاء الأنبياء الكذبة. قدّم يسوع وصفاً عاماً للظروف التي ستسود في العالم قبل أن تنال أورشليم مصيرها المشؤوم. "إذَا سَمِعْتُمْ بِحُرُوبٍ وَقَلاَقِلٍ فَلاَ تَجْزَعُوا لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَوَّلاً وَلَكِنْ لاَ يَكُونُ الْمُنْتَهَى سَرِيعاً". عبارة "يَكُونُ الْمُنْتَهَى سَرِيعاً" هي كلمة واحدة في اللغة اليونانية وهي تعني "فوراً" أو "في الحال". ولذلك فإن ما كان ربنا يقوله هو التالي: "ستكون هناك حروب وإشاعات عن حروب، ولكن عليكم ألا تضطربوا، لأن هذه الأشياء لا بد أن تحدث وسوف تحدث، ولكن لا تكون النهاية قد جاءت بعد". واضح من دراسة متأنية لنص متى أن هذه الظروف ستسود إلى أن يرجع المسيح. ولكنه لا يعطينا هذه الأشياء كعلامات محددة عن مجيء النهاية؛ إنها ببساطة النتيجة الطبيعية لرفض رئيس السلام.
كلما تعرفنا على التاريخ أكثر كلما أدركنا أكثر كيف تحققت حرفياً كلمات ربنا خلال تلك الحقبة المؤلفة من أربعين سنة. ثم قال: "قَبْلَ هَذَا كُلِّهِ يُلْقُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ وَيُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى مَجَامِعٍ وَسُجُونٍ وَتُسَاقُونَ أَمَامَ مُلُوكٍ وَوُلاَةٍ لأَجْلِ اسْمِي". يكفي أن نقرأ سفر أعمال الرسل لنرى كيف تحققت هذه النبوءة المتعلقة بالتلاميذ الأوائل لربنا يسوع المسيح. لقد اضطهدهم اليهود في المجامع وكذلك اضطهدهم الأمم؛ قُتل كثيرون منهم لأجل اسم يسوع. لقد شجع الرب التلاميذ بأن أكّد لهم أنه لا يجب أن يخافوا: فأعداؤهم لن يؤذوهم حقاً. وفي أسوأ الأحوال لا يستطيعون سوى أن يرسلوا التلاميذ إلى ديارهم في بيت الآب. ليس الموت شراً بالنسبة لأولاد الله. ولا حاجة لأن يخافوا من خصومهم المناوئين لهم. "ضَعُوا فِي قُلُوبِكُمْ أَنْ لاَ تَهْتَمُّوا مِنْ قَبْلُ لِكَيْ تَحْتَجُّوا لأَنِّي أَنَا أُعْطِيكُمْ فَماً وَحِكْمَةً لاَ يَقْدِرُ جَمِيعُ مُعَانِدِيكُمْ أَنْ يُقَاوِمُوهَا أَوْ يُنَاقِضُوهَا". ومن جديدي لا نحتاج سوى إلى العودة إلى سفر الأعمال ونقرأ كيف أن بطرس واستفانس وبولس مُكِّنوا من أن يدافعوا عن أنفسهم على نحو رائع. إننا ندرك أن الرب يسوع قد أعانهم فعلياً إذ مكّنهم بأن يتكلموا بالكلمات المناسبة في الوقت المناسب تحت كل الظروف. "سَوْفَ تُسَلَّمُونَ مِنَ الْوَالِدِينَ وَالإِخْوَةِ وَالأَقْرِبَاءِ وَالأَصْدِقَاءِ وَيَقْتُلُونَ مِنْكُمْ. وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنَ الْجَمِيعِ مِنْ أَجْلِ اسْمِي". في تلك الأيام كان الناس ينظرون بريبة شديدة إلى الكنيسة المسيحية والمسيحيين الأفراد أكثر من أي مؤسسة أو جماعة في كل العالم. لقد كانوا يعتقدون أن المؤمنين هم أسوأ أعداء الجنس البشري، ومع ذلك فقد كانوا يمثلون الله الذي هكذا أحبّ العالم حتى أنه بذل ابنه الوحيد ليكون مخلّصاً لهم. "وَلَكِنَّ شَعْرَةً مِنْ رُؤُوسِكُمْ لاَ تَهْلِكُ". ألم يموتوا؟ بلى. ألم يهلكوا؟ لا. ذلك لأنه في اللحظة التي أتاهم الموت فيها كانوا غائبين عن الجسد وحاضرين مع الرب. ولذلك فلم يخسوا شيئاً عندما تعرضوا للقتل على يد أعدائهم؛ بل بالحري، إن الموت أدخلهم إلى المسرّات التي كانوا ينتظرونها برجاء. "بِصَبْرِكُمُ اقْتَنُوا أَنْفُسَكُمْ"، أو، بصياغة أخرى: "بِصَبْرِكُمُ تربحونَ أَنْفُسَكُمْ": أي، باحتمال الاضطهاد، فبالمرور بالألم والمعاناة لأجل المسيح سيصبحون تلاميذ أقوى. النمو في النعمة يأتي في ظروف الاضطهاد والضيقة الشديدة.
ثم يجيب الرب مباشرة على سؤالهم حول من ستقع عليهم هذه الأمور التي يتكلم عنها. متى ستُهدم أورشليم وتنهار أبنيتها؟ لقد جرت هذه الأحداث حوالي العالم ٧٠ ميلادية. كان يسوع قد تنبأ عن كل هذا وقال: "مَتَى رَأَيْتُمْ أُورُشَلِيمَ مُحَاطَةً بِجُيُوشٍ فَحِينَئِذٍ اعْلَمُوا أَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ خَرَابُهَا". كثيرون ممن كانوا على قيد الحياة عندما تكلم بهذه الكلمات كانوا ليرون جيوش تيطس يطوقون المدينة. علّمهم يسوع ما يفعلون: "حِينَئِذٍ لِيَهْرُبِ الَّذِينَ فِي الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجِبَالِ وَالَّذِينَ فِي وَسَطِهَا فَلْيَفِرُّوا خَارِجاً وَالَّذِينَ فِي الْكُوَرِ فَلاَ يَدْخُلُوهَا". يقدم يوسيفوس توثيقاً للقول أن المسيحيين عندما رأوا أورشليم مطوقة بالجيوش تذكروا كلمات الرب، وتركوا أورشليم وهربوا إلى مدينة بيلا، حيث حماهم الحاكم الروماني، فنجوا بذلك من الدينونة التي حلّت لأورشليم وشعبها الآثم الذين "لم يعرفوا زمن افتقادهم".
"لأَنَّ هَذِهِ أَيَّامُ انْتِقَامٍ لِيَتِمَّ كُلُّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ. وَوَيْلٌ لِلْحَبَالَى وَالْمُرْضِعَاتِ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ لأَنَّهُ يَكُونُ ضِيقٌ عَظِيمٌ عَلَى الأَرْضِ وَسُخْطٌ عَلَى هَذَا الشَّعْبِ. وَيَقَعُونَ بِفَمِ السَّيْفِ وَيُسْبَوْنَ إِلَى جَمِيعِ الأُمَمِ وَتَكُونُ أُورُشَلِيمُ مَدُوسَةً مِنَ الأُمَمِ حَتَّى تُكَمَّلَ أَزْمِنَةُ الأُمَمِ". لاحظوا كم كيف نظر ربنا المبارك بوضوح عبر القرون ورأى ما سيجري مع إسرائيل، شعب الله الأرضي، ومدينتهم، أورشليم. دُمرت المدينة. وقُتل آلاف تلوَ آلافٍ؛ وسادت الحال الأكثر فظاعة التي يمكن تخيلها في أورشليم خلال فترة الحصار الروماني. وعندما دخلت جيوش تيطس المدينة في نهاية الأمر- رغم أنه أعطى بنفسه الأمر بألا يُدمر الهيكل- نعلم من يوسيفوس أن جندياً ثملاً رمى بمشعل متقد إلى منطقة الهيكل وسرعان ما اشتعل الهيكل باللهيب، ودُمر بالكامل. هناك مسجد اليوم حيث كان يقع ذلك الهيكل؛ وحيث كان دخان القرابين يصعد إلى الرب يوماً، صار المحمديون يلتقون ويصلّون.
أولئك اليهود الذين نجوا من الهلاك سُبِيُوا إلى كل الأمم. كان موسى قد تنبّأ قبل زمان طويل بأنهم سيُباعون إلى الأمم عَبِيداً وَإِمَاءً "وَليْسَ مَنْ يَشْتَرِي" (تث ٢٨: ٦٨)؛ ويخبرنا التاريخ أن آلاف عديدة من اليهود بيعوا على ذلك النحو. وأُتخمت أسواق النخاسة في العالم؛ وعُرض الرجال اليهود القويو البنية للبيع في المدن الكبيرة في الإمبراطورية الرومانية، في الإسكندرية، وكورنثوس، وروما نفسها، والمدن الأخرى، بأسعار زهيدة لدرجة أنه كان يستحيل تحقيق ربح من بيعهم.
أعلن يسوع قائلاً: "تَكُونُ أُورُشَلِيمُ مَدُوسَةً مِنَ الأُمَمِ حَتَّى تُكَمَّلَ أَزْمِنَةُ الأُمَمِ". لاحظوا أن هناك فترة محددة للخزي الذي ستتعرض له أورشليم. سوف لن تكون المدينة مَدُوسَةً إلى الأبد؛ بل فقط إلى أن تُكمل أزمنة الأمم. عبارة "أَزْمِنَةُ الأُمَمِ"، والتي نجدها هنا فقط، تغطي كل الفترة التي يكون فيها اليهود وأورشليم تحت سيطرة الأمم. بدأ هذا بنبوخذنصر عام ٦٠٦ ق.م.، وسيستمر إلى أن يأتي الرب يسوع ثانية ليحرر شعبه الأرضي، في نهاية الضيقة العظيمة. في هذه الأثناء، تُعلن حقيقية الكنيسة في جسد المسيح؛ وبينما يكون إسرائيل مرفوضاً كشعب والأمم يسيطرون على مدينتهم المقدسة، سيؤسس الله شعباً لاسمه من اليهود والأمم. وهؤلاء يشكّلون كنيسة الله، رفقة ابنه، وسيُرفعون من الأرض قبل بدء وقت ضيق يعقوب، الضيقة العظيمة.