الخطاب ٧٦
"معي في الفردوس"
"٢٦وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ أَمْسَكُوا سِمْعَانَ رَجُلاً قَيْرَوَانِيّاً كَانَ آتِياً مِنَ الْحَقْلِ وَوَضَعُوا عَلَيْهِ الصَّلِيبَ لِيَحْمِلَهُ خَلْفَ يَسُوعَ. ٢٧وَتَبِعَهُ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الشَّعْبِ وَالنِّسَاءِ اللَّوَاتِي كُنَّ يَلْطِمْنَ أَيْضاً وَيَنُحْنَ عَلَيْهِ. ٢٨فَالْتَفَتَ إِلَيْهِنَّ يَسُوعُ وَقَالَ: «يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ابْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ ٢٩لأَنَّهُ هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُونَ فِيهَا: طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ وَالْبُطُونِ الَّتِي لَمْ تَلِدْ وَالثُّدِيِّ الَّتِي لَمْ تُرْضِعْ. ٣٠حِينَئِذٍ يَبْتَدِئُونَ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ: اسْقُطِي عَلَيْنَا وَلِلآكَامِ: غَطِّينَا. ٣١لأَنَّهُ إِنْ كَانُوا بِالْعُودِ الرَّطْبِ يَفْعَلُونَ هَذَا فَمَاذَا يَكُونُ بِالْيَابِسِ؟” ٣٢وَجَاءُوا أَيْضاً بِاثْنَيْنِ آخَرَيْنِ مُذْنِبَيْنِ لِيُقْتَلاَ مَعَهُ. ٣٣وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُدْعَى «جُمْجُمَةَ» صَلَبُوهُ هُنَاكَ مَعَ الْمُذْنِبَيْنِ وَاحِداً عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ. ٣٤فَقَالَ يَسُوعُ: «يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ». وَإِذِ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ اقْتَرَعُوا عَلَيْهَا. ٣٥وَكَانَ الشَّعْبُ وَاقِفِينَ يَنْظُرُونَ وَالرُّؤَسَاءُ أَيْضاً مَعَهُمْ يَسْخَرُونَ بِهِ قَائِلِينَ: «خَلَّصَ آخَرِينَ فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ هُوَ الْمَسِيحَ مُخْتَارَ اللهِ». ٣٦وَﭐلْجُنْدُ أَيْضاً اسْتَهْزَأُوا بِهِ وَهُمْ يَأْتُونَ وَيُقَدِّمُونَ لَهُ خَلاًّ ٣٧قَائِلِينَ: «إِنْ كُنْتَ أَنْتَ مَلِكَ الْيَهُودِ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ». ٣٨وَكَانَ عُنْوَانٌ مَكْتُوبٌ فَوْقَهُ بِأَحْرُفٍ يُونَانِيَّةٍ وَرُومَانِيَّةٍ وَعِبْرَانِيَّةٍ: «هَذَا هُوَ مَلِكُ الْيَهُودِ». ٣٩وَكَانَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُذْنِبَيْنِ الْمُعَلَّقَيْنِ يُجَدِّفُ عَلَيْهِ قَائِلاً: «إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا!» ٤٠فَأَجَابَ الآخَرُ وَانْتَهَرَهُ قَائِلاً: «أَوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ اللهَ إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هَذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟ ٤١أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْلٍ لأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا وَأَمَّا هَذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ». ٤٢ثُمَّ قَالَ لِيَسُوعَ: «ﭐذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ». ٤٣فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ»" (لوقا ٢٣: ٢٦- ٤٣).
لقد تبعنا مخلّصنا إلى قاعة محاكمة بيلاطس وشهدنا محاكمته؛ لقد لاحظنا التصرف الجبان لبيلاطس، ورأينا ربنا يُجلد بالسياط بقسوة ويُسلّم إلى الجنود ليقتلوه. والآن نقرأ أنهم اقتادوه من قاعة المحاكمة إلى المكان الذي يُدعى الجلجثة، ثم لدينا رواية صلبه. وإلى ذلك نجد ما تفعله النعمة العجيبة في تخليص خاطئ بائس مدان ذاك الذي كان معلَّقاً إلى جانبه على الصليب الآخر.
لاحظوا ما هو مكتوب عن الرحلة إلى الجلجثة: "مَضَوْا بِهِ". نعلم- ليس من الكتاب المقدس بل من تقليد الكنيسة- أنه ترنح ووقع تحت ثقل صليبه. لا نقرأ ذلك في الكتب المقدسة؛ قد يكون هذا حقيقياً، ولكن ليس لدينا دليل يؤكد ذلك. على كل حال، من الواضح أن الجنود لاحظوا بلا ريب أن الصليب بدا ثقيلاً عليه ليحمله بعد كل ما عاناه في الليلة السابقة وبسبب الجلد القاسي الذي كان قد تعرض له؛ إذ يقول لنا الإنجيل أنهم "أَمْسَكُوا سِمْعَانَ رَجُلاً قَيْرَوَانِيّاً كَانَ آتِياً مِنَ الْحَقْلِ وَوَضَعُوا عَلَيْهِ الصَّلِيبَ لِيَحْمِلَهُ خَلْفَ يَسُوعَ". يا له من امتياز حظي به ذلك الرجل الأسود! كان سمعان من قيروان، مدينة في شمال أفريقيا، وبلا شك كان رجلاً داكن البشرة. كم كُرِّمَ هذا الرجل الملون إذ سُمح له بحمل صليب يسوع! هناك تقليد كنسي آخر يقول أن سمعان قد صار أحد تلاميذ يسوع فوراً، أن ذلك الشخص الذي يُدعى روفس، الوارد ذكره في رو ١٦: ٣ هو نفسه شقيق ألكسندر، ابن سمعان، المشار إليه في مر ١٥: ٢١. يبدو لي أن كل إنسان ملون يجب أن يشعر بالامتنان لأن أحد أبناء عرقه نال فرصة مساعدة الرب المبارك وهو خارج إلى الموت على صليب العار.
وإذ تابعوا طريقهم، تبعهم جمع غفير من الناس: بعضهم بدافع التعاطف مع يسوع، وآخرون كانوا يسخرون من يسوع ويشتمونه. ومن بين الجماعة المتعاطفة كان عدد من النسوة كُنَّ يَلْطِمْنَ وَيَنُحْنَ عَلَيْهِ ولكن يَسُوعُ الْتَفَتَ إِلَيْهِنَّ وَقَالَ: "يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ابْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ". بعين نبوية رأى يسوع أورشليم يحيط بها الجيش الروماني وتعاني الأمَرَّين، في وقت تصبح الظروف فظيعة تحت المحنة حتى أن أحن النساء ستلتهم أولادها بسبب ذلك. أكل لحوم البشر هذا كان موسى قد تنبأ به (تث ٢٨: ٥٣- ٥٧). ورأى ربنا بنظرة نبوية أن كل هذا سيحدث لأن الشعب ابتعد عن الله ولم يعرف وقت افتقاده. كان هذا نصب عينيه وهو يتطلع إلى مدينة أورشليم ويقول: "يَا أُورُشَلِيمُ، يَاأُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا! هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَابًا! وَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ لاَ تَرَوْنَنِي حَتَّى يَأْتِيَ وَقْتٌ تَقُولُونَ فِيهِ: مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ!»" (لو ١٣: ٣٤، ٣٥). هذا كله هو ما دعاه ليقول لهؤلاء النسوة: "لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ". لقد كان يصنع مشيئة الله وحسب. كان هذا هو الهدف الواضح الذي جاء إلى هذا العالم لأجله. "لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ" (لو ١٩: ١٠). "ابْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ"، بسبب الدينونة التي ستنزل بهم. لأَنَّهُ "هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُونَ فِيهَا: طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ وَالْبُطُونِ الَّتِي لَمْ تَلِدْ وَالثُّدِيِّ الَّتِي لَمْ تُرْضِعْ". كان هذا أفضل بكثير من رؤيتهم لأولادهم ينازعون الموت بين أيديهم. "حِينَئِذٍ يَبْتَدِئُونَ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ: اسْقُطِي عَلَيْنَا وَلِلآكَامِ: غَطِّينَا". لقد كان يتكلم عن أورشليم. ولكن هذه الكلمات نفسها تُستخدم في سفر الرؤيا فيما يتعلق بيوم الغضب العظيم للحمل الذي سيصيب أولئك الذين لم يعرفوا الله، عندما "مُلُوكُ الأَرْضِ وَالْعُظَمَاءُ وَالأَغْنِيَاءُ وَالأُمَرَاءُ وَالأَقْوِيَاءُ وَكُلُّ عَبْدٍ وَكُلُّ حُرٍّ، (سيخفونَ) أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَغَايِرِ وَفِي صُخُورِ الْجِبَالِ، (وَيَقُولُونَ) لِلْجِبَالِ وَالصُّخُورِ: «اُسْقُطِي عَلَيْنَا وَأَخْفِينَا عَنْ وَجْهِ الْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ وَعَنْ غَضَبِ الْحَمَلِ، لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ يَوْمُ غَضَبِهِ الْعَظِيمُ. وَمَنْ يَسْتَطِيعُ الْوُقُوفَ؟»" (رؤ ٦: ١٥- ١٧). إذا رفض الناس الخلاص الذي يقدمه الله بيسوع المسيح، فعندها يتوجب عليهم أن يتحملوا غضبه. وهكذا حذّر ربنا هؤلاء الناس من الدينونة التي سرعان ما ستصيب أورشليم. كان يشير إلى نصٍّ من العهد القديم عندما قال: "لأَنَّهُ إِنْ كَانُوا بِالْعُودِ الرَّطْبِ يَفْعَلُونَ هَذَا فَمَاذَا يَكُونُ بِالْيَابِسِ؟” وفي حزقيال (٢٠: ٤٧) كان الرب قد قال للنبي أن يتنبأ ضد وَعْرِ الْجَنُوبِ: "اسْمَعْ كَلاَمَ الرَّبِّ. هَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هَئَنَذَا أُضْرِمُ فِيكَ نَاراً فَتَأْكُلُ كُلَّ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ فِيكَ وَكُلَّ شَجَرَةٍ يَابِسَةٍ. لاَ يُطْفَأُ لَهِيبُهَا الْمُلْتَهِبُ, وَتُحْرَقُ بِهَا كُلُّ الْوُجُوهِ مِنَ الْجَنُوبِ إِلَى الشِّمَالِ. فَيَرَى كُلُّ بَشَرٍ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ أَضْرَمْتُهَا. لاَ تُطْفَأُ". الرب يسوع نفسه صُوِّرَ بشَجَرَةٍ خَضْرَاءَ: "فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ" (يو ١: ٤). رفض يسوع والتنحي عن الله، من قِبل إسرائيل الشكلاني والمتدين، كانت تمثّله الشجرة اليابسة. إن كانوا قد رفضوا الإنسان القدوس الكامل الوحيد الذي بلا خطيئة في كل إسرائيل وحكموا عليه بالموت على الصليب، فما سيكون عليه مصير أولئك الذين رفضوه، الذين كانوا يعيشون في خطاياهم ويتجاهلون الخلاص الذي جاء ليأتي به؟
"وَجَاءُوا أَيْضاً بِاثْنَيْنِ آخَرَيْنِ مُذْنِبَيْنِ لِيُقْتَلاَ مَعَهُ". هذان الرجلان كانا قد سُجنا، مثل باراباس، بسبب شرّ فعلوه. كانا هذان سيُصلبان مع الرب يسوع: "أُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ". "وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُدْعَى «جُمْجُمَةَ» صَلَبُوهُ هُنَاكَ مَعَ الْمُذْنِبَيْنِ وَاحِداً عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ". علينا أن نذهب إلى كل من الأناجيل الأربعة لنعرف الرواية الكاملة لما حدث في الجلجثة؛ في الواقع، ما كنت لأستعمل هذه العبارة "الرواية الكاملة"، لأننا لن نعرف تماماً ما جرى هناك على الإطلاق إلى أن نقف في حضرته وننظر إلى وجهه المبارك، وعندها سنبدأ بفهم ما عنى له حقاً، ذلك القدوس، أن يرفع خطايانا. ولكن علينا أن نستأنس بكل من الأناجيل الأربعة لنحصل على تفاصيل أكمل عما جرى. يذكر كاتب بعض الأشياء؛ ويقدّم كاتب آخر تفاصيل إضافية، وإن جمعنا بينها جميعاً لحصلنا على رواية تصويرية نابضة بالحياة. هنا نعلم عن صلاة الرب يسوع بينما كان معلّقاً على الصليب. فكّروا به باسطاً ذراعيه هناك على العود: مسامير مثبتة إلى يديه؛ وإكليل الشوك يضغط على جبينه. والجنود يحرسون الصليب؛ والجموع يشتمونه ويسخرون منه، ويجدفون على اسمه، قائلين في هزءٍ: "إِنْ كُنْتَ أَنْتَ مَلِكَ الْيَهُودِ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ". ومتى أيضاً يخبرنا بأنهم صرخوا قائلين: "خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا!". لم يدركوا حقيقة ذلك القول؛ إن كان عليه أن يخلّص الآخرين ما كان ليقدر أن يخلّص نفسه؛ يجب أن يحتمل الآلام لكي نتحرر من الدينونة التي استوجبتها خطايانا. ولذلك فعندما سمعهم، وبدلاً من أن يشعر بالنقمة في قلبه، نسمعه يصلّي أن: "يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ". في العهد القديم، إذا ما قتل رجلٌ جاره بدون نيّة بأن يقتله، كان عليه أن يهرب إلى “مَدِينَةَ مَلْجَأ”، وهناك سيكون في مأمن من وَلِيِّ الدَّمِ. لأن القاتل الفعلي ما كانت له نجاة من الموت. قال الله: "سَافِكُ دَمِ الانْسَانِ بِالانْسَانِ يُسْفَكُ دَمُهُ" (تك ٩: ٦). ولكنه ميّز بين القتل العمد والقتل عن جهل. لذا فيسوع، وبهذه الصلاة، "يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ"، وضعهم على مستوى القتل غير العمد بدلاً من القتل العمد. صرّح بطرس بعد العنصرة قائلاً: "بِجَهَالَةٍ عَمِلْتُمْ" (أع ٣: ١٧). وبالحديث عن حكّام الأمم، قال بولس: "الَّتِي لَمْ يَعْلَمْهَا أَحَدٌ مِنْ عُظَمَاءِ هَذَا الدَّهْرِ- لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْدِ" (١ كور ٢: ٨). لم يفهموا؛ لم يعرفوا من كان يسوع؛ لم يعرفوا ما كانوا يفعلون بتسليمهم إياه إلى الموت على الصليب. لكأن الرب قال: "يا أبتاه، افتح الباب إلى “مَدِينَةَ مَلْجَأ”، ودعهم يهربون من وَلِيِّ الدَّمِ". والحمد لله، كل من هربوا إلى يسوع- الذي هو نفسه “مَدِينَةَ مَلْجَأ”- وجدوا أماناً وحماية من الدينونة التي تستحقها الخطيئة. البعض يقول أن صلاة ربنا لم تُستجاب. بلى، لقد استُجيبت، على الشكل التالي: الله لم يعاملهم كقتلى، بل فتح لهم طريق الخلاص. إن رفض الناس عن عمد وعن قصد عرض الرحمة الذي لربنا يسوع المسيح، فعندها يضعونه تحت عارٍ صريح ويصلبون ابن الله من جديد، ولا رجاء لأولئك الذين يُصرّون على رفض المسيح. إنهم يُدانون بجرم قتل ابن الله. إن كان أحد ممن يسمعني غير مخلّص، إن كان أحد لا يعرف الرب يسوع، فإني أناشدكم أن تأتوا الآن إلى الله بالمسيح؛ اهربوا إلى “مَدِينَةَ مَلْجَأ” التي وفّرها الله. اقبلوه مخلّصاً لكم وهكذا تضمنون ترحيباً مجيداً.
الجند الواقفون تحت الصليب "اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ، واقْتَرَعُوا عَلَيْهَا". كان قد تم التبنؤ بهذا قبل سنوات كثيرة. إذ نقرأ في مز ٢٢: ١٨: "يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ". تحقق هذا النص الكتابي في ذلك اليوم عندما مات يسوع بدلاً منا في الجلجثة. نقرأ: "كَانَ الشَّعْبُ وَاقِفِينَ يَنْظُرُونَ وَالرُّؤَسَاءُ أَيْضاً مَعَهُمْ يَسْخَرُونَ بِهِ قَائِلِينَ: «خَلَّصَ آخَرِينَ فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ هُوَ الْمَسِيحَ مُخْتَارَ اللهِ»". وانضم الجنود الرومان إلى الشعب يسخرون ويستهزئون قائلين: "إِنْ كُنْتَ أَنْتَ مَلِكَ الْيَهُودِ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ".
نعلم من الإنجيل أن بيلاطس أمر بوضع كتابة فوق رأس يسوع. في تلك الأيام عندما كان يُصلب إنسان ما كان من المعتاد أن يكتبوا حكمه على لوحة ويُسمروها إلى صليبه. كَانَ هذا العُنْوَانٌ مَكْتُوبٌ بِاليونَانِيَّة، لغة الثقافة؛ والَرُومَانِيَّة، لغة السلطة؛ وَالعِبْرَانِيَّة، لغة الدّين: "هَذَا هُوَ مَلِكُ الْيَهُودِ". كل المارّين كان في مقدروهم أن يروا أنه صُلب كمتمرد ثائر، هذا الأمر الذي كان بيلاطس يعرف أنه لم يكن حقيقياً أو صحيحاً. جاء رؤساء الكهنة إلى بيلاطس قائلين له: "لاَ تَكْتُبْ: مَلِكُ الْيَهُودِ بَلْ: إِنَّ ذَاكَ قَالَ أَنَا مَلِكُ الْيَهُودِ" (يو ١٩: ٢١). وفي هذا الوقت، وإذ كان بيلاطس قد نفذ صبره منهم، قال: "مَا كَتَبْتُ قَدْ كَتَبْتُ"، وأبقى الكتابة على حالها. آخر مرة رأى أولئك الرجال يسوع كان يسوع فيها معلّقاً على الصليب والكتابة فوقه تعلنه ملك اليهود: لقد كان ملك الله، وقال الله في مز ٢: ٦: "أَمَّا أَنَا فَقَدْ مَسَحْتُ مَلِكِي عَلَى صِهْيَوْنَ". وفي وقت ما سيعترف به اليهود بكل سرور كرب الأرباب وملك الملوك.
نقرأ أنه "كَانَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُذْنِبَيْنِ الْمُعَلَّقَيْنِ يُجَدِّفُ عَلَيْهِ". في البداية كان كلا المعلّقين يلومان يسوع مجدّفين قائلين: "إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا!". ولكن فجأة وقع الإيمان على أحد هذين الرجلين بفعل إلهي. فإذ كان ينظر إلى ذلك المتألم القدوس المسمر على الصليب الأوسط على الأرجح، سمعه يصلّي لأجل أعدائه، وعلى ما يبدو أدرك من كان ذلك المصلوب. فوبّخ القاتل الآخر قائلاً: "أَوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ اللهَ إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هَذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟ أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْلٍ لأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا وَأَمَّا هَذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ". بدا أنه يدرك القداسة الكاملة ليسوع، وفي تغاير حيوي رأى الإثمية والشر في حياته الخاصة وفي حياة رفيقه. "أَمَّا هَذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ". يا له من إعلان في هكذا وقت! قبل سنين طرح أشعياء هذا السؤال: "فِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي؟" (أش ٥٣: ٨). ترجم أحدهم هذا السؤال على هذا النحو: "من سيعلن سلوكه الحسن في الحياة؟" فكروا في الإعلان الصادر عن لصّ محتضر، معلّق إلى جانبه: "أَمَّا هَذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ". فالتفت عندئذ إلى يسوع إذ عرف في ذلك المتألم المتوّج بالشوك، أنه القدوس الذي هو ملك المجد، وقال: "ﭐذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ".لقد كان إيماناً حقيقياً ممزوجاً بتوبة حقيقية. وهكذا فقد خلص ذلك الرجل المعلّق هناك على ذلك الصليب. لكأن يسوع قال: "ليس عليك أن تنتظر إلى أن آتي في ملكوتي": "إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ". أعرف أن هناك البعض الذين يودون أن يجعلوننا نعتقد أن يسوع قال: "الْيَوْمَ أقول لك (أي ليس البارحة وليس غداً) أنك يوماً ما ستَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ". هذا يلوي ويحرّف النص الذي نجده في الأصل وفي ترجماتنا للكتاب المقدس، ويدل ضمناً على أن ربنا قام بأمر يدينه فينا- ألا وهو استخدام كلمات لا قيمة لها. كلا؛ ما قاله يسوع هو: "إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ". وكان كذلك؛ إذ قبل نهاية ذلك اليوم- بناء على طريقة حساب اليهود لليوم، من الغروب إلى الغروب- أسلم الرب يسوع روحه للآب، وروح اللص مضت لتكون مع المسيح في الفردوس: باكورة عمله الفدائي المجيد. كان كاتب قديم قد اقترح أن هناك خطر كبير في تأجيل خلاصنا إلى نهاية الحياة. في الكتاب المقدس هناك رجل واحد خلص في اللحظة الأخيرة. هناك واحد على الأقل، فلا ييأس أحد؛ واحد فقط، فلا يسلّم أي أحد جدلاً بالأمر.
خلال سلسلة من اللقاءات قبل سنوات، رأى مبشّر شاباً بدا مهتماً نوعاً ما. ذهب المبشر إليه وسأله إذا ما كان على استعداد للموت، فأجاب الفتى: "لا؛ لست مستعداً؛ آمل أن أكون على استعداد يوماً ما. أتذكر اللص المحتضر؟" فسأله المبشر: "أي لص؟" رفع الشاب بصره مجفلاً وقال: "آه، لقد نسيت؛ كان هناك لصّان، أليس كذلك؟" فأجاب المبشر: "نعم. وأحدهما ذهب، كما هو مدون، إلى الأبدية وقد أغلق قلبه أمام المخلّص وهلك إلى الأبد. وأما الآخر فقد آمن به وخلص إلى الأبد. فعلى شكل أي من اللصين ستكون؟" قال الشاب: "كنت لأفضّل أن آتي الآن". وأغمض عينيه في ذلك المساء مع المسيح. فكّروا في النعمة التي منحها الرب يسوع المسيح إلى لصّ محتضر وتذكروا أن الخلاص هو لكم إن آمنتم به بشكل كامل.