الخطاب ٤٩

الدعوة إلى التوبة كشعبٍ وأفراد

"١وَكَانَ حَاضِراً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَوْمٌ يُخْبِرُونَهُ عَنِ الْجَلِيلِيِّينَ الَّذِينَ خَلَطَ بِيلاَطُسُ دَمَهُمْ بِذَبَائِحِهِمْ. ٢فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَتَظُنُّونَ أَنَّ هَؤُلاَءِ الْجَلِيلِيِّينَ كَانُوا خُطَاةً أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ الْجَلِيلِيِّينَ لأَنَّهُمْ كَابَدُوا مِثْلَ هَذَا؟ ٣كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ. بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذَلِكَ تَهْلِكُونَ. ٤أَوْ أُولَئِكَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ سَقَطَ عَلَيْهِمُ الْبُرْجُ فِي سِلْوَامَ وَقَتَلَهُمْ أَتَظُنُّونَ أَنَّ هَؤُلاَءِ كَانُوا مُذْنِبِينَ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ السَّاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ؟ ٥كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ! بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذَلِكَ تَهْلِكُونَ». ٦وَقَالَ هَذَا الْمَثَلَ: «كَانَتْ لِوَاحِدٍ شَجَرَةُ تِينٍ مَغْرُوسَةٌ فِي كَرْمِهِ فَأَتَى يَطْلُبُ فِيهَا ثَمَراً وَلَمْ يَجِدْ. ٧فَقَالَ لِلْكَرَّامِ: هُوَذَا ثَلاَثُ سِنِينَ آتِي أَطْلُبُ ثَمَراً فِي هَذِهِ التِّينَةِ وَلَمْ أَجِدْ. اِقْطَعْهَا. لِمَاذَا تُبَطِّلُ الأَرْضَ أَيْضاً؟ ٨فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُ: يَا سَيِّدُ اتْرُكْهَا هَذِهِ السَّنَةَ أَيْضاً حَتَّى أَنْقُبَ حَوْلَهَا وَأَضَعَ زِبْلاً. ٩فَإِنْ صَنَعَتْ ثَمَراً وَإِلاَّ فَفِيمَا بَعْدُ تَقْطَعُهَا»" (لوقا ١٣: ١- ٩).

هناك قسمان في هذا الجزء الذي أمامنا الآن. الآيات الخمس الأولى تحتوي على تحذير جليل مهيب، استناداً على حادثتين كانتا قد جرتا مؤخراً في فلسطين. ثم في الآيات ٦ إلى ٩ لدينا مثل يركز على نفسي الحقيقة التي يؤكد عليها ربنا في القسم الأول. كان الرب يخدم في مدينة كفرناحوم التي دعاها موطنه- المدينة التي كان قد نقل إليها مكان إقامته، والتي يبدو أنه اتخذها موطناً له بعد مغادرته الناصرة. بينما كان الناس يستمعون إليه، جاء البعض ليخبرونه بأمور فظيعة حدثت قبل بضعة أيام في أورشليم. كانت قد قامت ثورة على يد غيورين معينين من الجليل. وكان الحاكم الروماني، بيلاطس، قد أمر فرقة م الجنود بان تنهي هذا التمرد، فنتج عن ذلك قتل عدد من اليهود في نفس باحات الهيكل. من الطبيعي أن يكون الجليليون حزانى جداً لأجل ذلك ومهتاجين. كانوا يتساءلون لماذا سمح الله بهذا الدمار بالجملة لأنسبائهم. كان الناس يظنون أن الله رأى بعض الشر فيهم على أنه أعظم وأكبر من القوم العاديين؛ وإلا ما كان ليسمح بأن يُذبحوا على ذلك النحو. أعلن يسوع أن هذا لم يكن صحيحاً بالضرورة. الجليليون لم يُقتلوا لأنهم كانوا آثمين أكثر من الناس العاديين. ثم يُحذِّر جميع مستمعيه برزانة قائلاً: "كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ. بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذَلِكَ تَهْلِكُونَ". بمعنى آخر، يُحذّرهم يسوع بأن دينونة الله هي كسيف مسلط على كل الناس غير التائبين؛ الدينونة ستقع في نهاية الأمر على كل من لم يتطهروا من خطاياهم على الإطلاق. هذه كلمات مهيبة بالفعل. يجب أن نأخذها في قلوبنا بجدية ونحن نرى هذا الانفصال الفردي والجماعي الواسع الانتشار عن الله ۱. إنه لسهل علينا كأناس وشعب، أن نجلس في حالة الرضا عن الذات والاكتفاء الذاتي في غفلة عن الأخطار المحدقة وأن نتخيل أننا في نظر الله أسمى بكثير من بعض الشعوب التي تعاني من هذا الصراع العالمي الحالي الفظيع. ولكن فوق صوت المعارك، وفوق زئير القنابل، وفوق صرخات ألم الجرحى والمحتضرين، نسمع كلمات ربنا يسوع المسيح: "كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ. بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذَلِكَ تَهْلِكُونَ".

هذا الحادث الذي يرد ذكره أمامنا في هذه الآيات الثلاث الأولى كان مليئاً بالعنف، ولكن الحادث الثاني كان حادثاُ عرضياً. يتحدث يسوع عن "أُولَئِكَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ سَقَطَ عَلَيْهِمُ الْبُرْجُ فِي سِلْوَامَ". من الواضح أن برجاً كان فيه عيب أو خطأ قد انهار، ربما ارتج من الزلزال، وعدد من الناس قُتلوا. كان هناك ميل إلى القول: "حسنٌ، لا بد أنهم كانوا خطاة كبار حتى أن الله عرّضهم إلى هكذا موت؛ وإلا فإن الله الصالح، الكريم السموح، الخالق اللطيف، كان سيحميهم من ذلك الحادث". ولكن هذا الرأي لا يستقيم، لأن الأحداث تأتي على الصالحين والأشرار على حد سواء. الأبرار وكذلك الفُجّار يعانون منها- من الوباء، والحرائق الهائلة، والأعاصير، والاضطرابات الطبيعية من مختلف الأنواع. ولذلك فمن جديد وبخ يسوع الناس على الافتراض أن أولئك الذين ماتوا كانوا خطاة أكثر من الآخرين. فقال من جديد: "كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ! بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذَلِكَ تَهْلِكُونَ".

الدعوة إلى التوبة هو أحد الحلقات المفقودة في كرازتنا في هذه الأيام. بعض إخوتنا يخشون أن يتكلموا عن التوبة، لئلا يفكر الناس بها على أنها شيء هام يستحق الاعتبار. ليست التوبة عمل استحقاق أو أهلية: التوبة هي اعتراف بأن المرء ليس له استحقاق، وأنه في ذاته خاطئ غير مستحق وعرضة لدينونة الله. اللهُ "يَأْمُرُ جَمِيعَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُوا". لا يجب الخلط بين التوبة والندم. الندم هو حزن وأسف على الخطيئة، ولكن نعلم أن "الْحُزْنَ الَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ يُنْشِئُ تَوْبَةً لِخَلاَصٍ بِلاَ نَدَامَةٍ". إنها ليست مجرد حزن على أمر خاطئ تم ارتكابه. قد أحزن في قلبي على السوء الذي فعلته، والأذى الذي سببته لشخص آخر، ومع ذلك فقد لا أتوب إلى الله حقاً. التوبة لا يجب خلطها مع ما يسميه البعض "عملاً تكفيرياً". العمل التكفيري هو محاولة للتعويض أو للتكفير عما فعله المرء بأن يتألم طوعاً واختياراً؛ ولكن ما من ألم جسدي أو نكران للذات يمكن أن يعوض عن خطأ ارتكبناه بحق الله والإنسان. والتوبة تختلف عن الإصلاح. بعض الناس يظنون أن التوبة هي محاولة الكفّ عن الخطايا التي يرتكبونها وعيش حياة بارّة. قد يكون هناك إصلاح بدون توبة، ولكن ليس من توبة حقيقية بمعزل عن إصلاح، لأني إن تبتُ حقاً فسأسعى للتأكيد لأن أصلح سلوكي. كلمة "يتوب" تعني تغيير الذهن؛ ليس فقط تغيير وجهة نظر. إنها تختلف، مثلاً، عن تغيير المرء للحزب السياسي الذي ينتمي إليه: الإنسان يمكن أن يكون في الحزب الديمقراطي اليوم وفي الحزب الجمهوري غداً، أو العكس بالعكس- وهذه ليست توبة. التوبة هي تغيير في الذهن ينجم عنه تغيير كامل في المواقف. إن كان هناك إنسان يعيش في الخطيئة وفي تجاهل كامل لله، واعترف بخطيئته وأقرّ بالشر الذي فيه وسعى بجدية ليتحرر منه، عندما يصمم على أن يسلك، ليس بحسب الطرق القديمة أو أن يحيا كما في السابق، بل أن يتحول إلى الله الذي كان يرفضه ويضع ثقته في المخلّص- فهذه هي التوبة الحقيقية. نقرأ عن "التَّوْبَةِ إِلَى اللهِ وَالإِيمَانِ الَّذِي بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ". الإنسان التائب، في هكذا حالة، يجد في المسيح، ليس مخلّصاً فحسب من كل خطاياه وآثامه، بل أيضاً من يعطيه حياة جديدة لكي يسلك من ذلك الآن فصاعداً بطريقة جديدة. سوف لن يحيا بعد الآن في عبودية للأشياء التي كانت تسيطر عليه وتتحكم به في الماضي.

كم يحتاج الناس إلى أن ينتبهوا إلى الدعوة إلى التوبة! الرسول بولس، من أول يوم لخدمته، شدّد على أنه يجب على كل الناس أن يتوبوا وأن يرجعوا إلى الله. أناس هذا العالم يحتاجون إلى أن يتوبوا عن خطاياهم؛ والمسيحيون يحتاجون لأن يتوبوا عن برودتهم ولامبالاتهم. في الرسائل إلى الكنائس في سفر الرؤيا، يقول روح قدس الله سبعة مرات: "مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ لِلْكَنَائِسِ". سبع مرات في هذه الرسائل توجه الدعوة إلى المسيحيين المعترفين لكي يتوبوا ويصححوا مسيرتهم مع الله!

الحاجة هناك هي إلى التوبة الطبيعية! ربنا يسوع دعا بني إسرائيل إلى أن يتوبوا ولكنهم رفضوا أن يسمع صوته. قال: "يَا أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا ! ". بسبب رفضهم التوبة كشعب سُلّموا إلى الدينونة. آهٍ، كم يجب أن يقرع هذا المطلب ناقوس الخطر في كل أرجاء الأرض اليوم، داعياً إيانا كشعب إلى أن نتوب عن خطايا الفساد والشر والاشتهاء والعنف التي تميزنا! كم أسأنا استخدام مراحم الله ونسينا مسؤوليتنا بأن نكرمه! الحمد لله، مهما كنا بعيدين كأفراد أو شعب عن الله، لا يزال لدينا هناك أمل ورجاء في المسيح؛ ولكن إن لم تكن هناك توبة فليست هناك سوى دينونة في نهاية الأمر. بعد ذلك لدينا مثل يُظهر كيف أن إسرائيل أخفق في تكريم الله وكيف كان الله صبوراً معهم: "وَقَالَ هَذَا الْمَثَلَ: «كَانَتْ لِوَاحِدٍ شَجَرَةُ تِينٍ مَغْرُوسَةٌ فِي كَرْمِهِ فَأَتَى يَطْلُبُ فِيهَا ثَمَراً وَلَمْ يَجِدْ. فَقَالَ لِلْكَرَّامِ: هُوَذَا ثَلاَثُ سِنِينَ آتِي أَطْلُبُ ثَمَراً فِي هَذِهِ التِّينَةِ وَلَمْ أَجِدْ. اِقْطَعْهَا. لِمَاذَا تُبَطِّلُ الأَرْضَ أَيْضاً؟ فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُ: يَا سَيِّدُ اتْرُكْهَا هَذِهِ السَّنَةَ أَيْضاً حَتَّى أَنْقُبَ حَوْلَهَا وَأَضَعَ زِبْلاً. فَإِنْ صَنَعَتْ ثَمَراً وَإِلاَّ فَفِيمَا بَعْدُ تَقْطَعُهَا»". شجرة التين المغروسة في الكرم كانت الشعب اليهودي في فلسطين، والكرّام كان هو الرب. لثلاث سنوات ظلّ يخدم في رسالته بني إسرائيل: لقد انطلق يدعو الناس إلى التوبة ويكرز بملكوت الله، ولكن قلّة فقط كانت لهم آذان للسمع وقلوب للفهم. ولذلك نفذَ صبر الله؛ وقال: "اِقْطَعْهَا. لِمَاذَا تُبَطِّلُ الأَرْضَ أَيْضاً؟" ولكن الكرّام يتشفع لأجلهم قائلاً: "يَا سَيِّدُ اتْرُكْهَا هَذِهِ السَّنَةَ أَيْضاً حَتَّى أَنْقُبَ حَوْلَهَا وَأَضَعَ زِبْلاً. فَإِنْ صَنَعَتْ ثَمَراً وَإِلاَّ فَفِيمَا بَعْدُ تَقْطَعُهَا". وهكذا بدأت السنة الرابعة من خدمة ربنا، والتي خلالها تابع يسوع إعلان الحق ودعوة الناس إلى التوبة. ولكن في منتصف تلك السنة قام اليهود على الرب وقاده جنود الرومان إلى الجلجلة وصلبوه. لم تكن هناك توبة جماعية للشعب، وبالنتيجة قُطعت شجرة التين: وتبعثر بنو إسرائيل في كل أصقاع الأرض. يا له من درس نتعلّمه! لقد تحمّلنا الله كشعب، ليس لثلاث سنين فقط بل لأكثر من قرن، ولا نزال ننجرف بعيداً عنه أكثر فأكثر. وسرعان ما سيصدر الحكم: "اِقْطَعْهَا. لِمَاذَا تُبَطِّلُ الأَرْضَ أَيْضاً؟" شعوب أخرى خسرت ميراثها؛ شعوب أخرى دُمرت بسبب حياة الفجور والخطيئة التي يعيشونها. فلماذا سيبقي الله علينا؟ لكن لا يزال الروح القدس يعمل؛ ولا تزال رسالة الله قائمة. ألا ليت لنا آذان للسمع وقلوب للفهم فنتجاوب، لكيما تكون هناك توبة للأفراد والجماعة، ولكي ننعطف إلى الله وهكذا نتفادى المصير المشؤوم الذي يتربص بنا.


۱. - أُلقيت هذه الخُطب خلال الحرب العالمية الثانية.