الخطاب ٥٧
ما وراء الحجاب
"١٩«كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ وَكَانَ يَلْبَسُ الأُرْجُوانَ وَالْبَزَّ وَهُوَ يَتَنَعَّمُ كُلَّ يَوْمٍ مُتَرَفِّهاً. ٢٠وَكَانَ مِسْكِينٌ اسْمُهُ لِعَازَرُ الَّذِي طُرِحَ عِنْدَ بَابِهِ مَضْرُوباً بِالْقُرُوحِ ٢١وَيَشْتَهِي أَنْ يَشْبَعَ مِنَ الْفُتَاتِ السَّاقِطِ مِنْ مَائِدَةِ الْغَنِيِّ بَلْ كَانَتِ الْكِلاَبُ تَأْتِي وَتَلْحَسُ قُرُوحَهُ. ٢٢فَمَاتَ الْمِسْكِينُ وَحَمَلَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ إِلَى حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَمَاتَ الْغَنِيُّ أَيْضاً وَدُفِنَ ٢٣فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ فِي الْهَاوِيَةِ وَهُوَ فِي الْعَذَابِ وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ مِنْ بَعِيدٍ وَلِعَازَرَ فِي حِضْنِهِ ٢٤فَنَادَى وَقَالَ: يَا أَبِي إِبْرَاهِيمُ ارْحَمْنِي وَأَرْسِلْ لِعَازَرَ لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصْبَعِهِ بِمَاءٍ وَيُبَرِّدَ لِسَانِي لأَنِّي مُعَذَّبٌ فِي هَذَا اللهِيبِ. ٢٥فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَا ابْنِي اذْكُرْ أَنَّكَ اسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ وَكَذَلِكَ لِعَازَرُ الْبَلاَيَا. وَالآنَ هُوَ يَتَعَزَّى وَأَنْتَ تَتَعَذَّبُ. ٢٦وَفَوْقَ هَذَا كُلِّهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ أُثْبِتَتْ حَتَّى إِنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْعُبُورَ مِنْ هَهُنَا إِلَيْكُمْ لاَ يَقْدِرُونَ وَلاَ الَّذِينَ مِنْ هُنَاكَ يَجْتَازُونَ إِلَيْنَا. ٢٧فَقَالَ: أَسْأَلُكَ إِذاً يَا أَبَتِ أَنْ تُرْسِلَهُ إِلَى بَيْتِ أَبِي ٢٨لأَنَّ لِي خَمْسَةَ إِخْوَةٍ حَتَّى يَشْهَدَ لَهُمْ لِكَيْلاَ يَأْتُوا هُمْ أَيْضاً إِلَى مَوْضِعِ الْعَذَابِ هَذَا. ٢٩قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: عِنْدَهُمْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءُ. لِيَسْمَعُوا مِنْهُمْ. ٣٠فَقَالَ: لاَ يَا أَبِي إِبْرَاهِيمَ. بَلْ إِذَا مَضَى إِلَيْهِمْ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يَتُوبُونَ. ٣١فَقَالَ لَهُ: إِنْ كَانُوا لاَ يَسْمَعُونَ مِنْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَلاَ إِنْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يُصَدِّقُونَ»" (لوقا ١٦: ١٩- ٣١).
قبل التأمل في هذه القصة الجليلة التي دار حولها جدال كبير، وخاصة في السنوات الأخيرة بسبب الثورة على عقيدة العقاب الأبدي، دعوني أقترح فكرتين يحسن بنا أن نبقيهما في أذهاننا. أولاً، من روى هذه الحادثة كان أحن وألطف وأنبل وأكرم إنسان وطئ هذه الأرض. وبالتأكيد ما كان ليحاول أن يصف آلام البشر بعد القبر حتى عرف ورغب بأن يترك انطباعاً عند مستمعيه عن فظاعة الحياة والموت بدون الله. لو كانت هناك إمكانية أن يحيا الناس في خطاياهم ومع ذلك يجدون السلام والبركة في عالم آخر، لكان سيخبرهم بذلك. الانطباع الذي تركه في نفس كل من سمعه الذين أصغوا بانتباه إلى ما كان يريد أن يقوله لا بد أنه نفسه الذي نجده في الرسالة إلى العبرانيين (١٠: ٣١): "مُخِيفٌ هُوَ الْوُقُوعُ فِي يَدَيِ اللهِ الْحَيِّ!". الفكرة الثانية التي أود أن أقدمها هي التالي: ليس هناك سبب لدينا يجعلنا نعتبر أن هذه القصة هي حدث متخيل وليس له أساس من الصحة أو الواقعية. لطالما طُرح السؤال حول إذا ما كنت هذه مثلاً أم لا. إن كنا نعني بالمثل التفكير بقصة خيالية لإيضاح أو تقديم درس أخلاقي أو روحي، فإني أعتقد أننا نكون على صواب إن قلنا أن هذه القصة ليست مثلاً. من جهة أخرى، إذا ما فكرنا بأي حادثة لنستخدمها في إيضاح حقيقة على أنها مجازية، فيصح تماماً أن نقول أن لدينا هنا مثل الغني ولعازر.
منذ بداية الأسفار الأولى في الكتاب المقدس، كما في سفر أيوب، كان السؤال يُطرح (١٤: ١٠): "الرَّجُلُ يَمُوتُ وَيَبْلَى. الإِنْسَانُ يُسْلِمُ الرُّوحَ فَأَيْنَ هُوَ!". بعيداً عن الإعلان الإلهي لا يمكن أن يكون هناك جواب مرضٍ على هذا السؤال. الفكر البشري لا يستطيع أن يخترق الحجاب ويخبرنا عما إذا كان هناك وعي شخصي في العوالم الأخرى غير هذا أم لا؛ ولكن في الحادثة المدونة هنا ذاك الذي جاء من بيت الآب إلى عالم الخطيئة هذا لكي يفتدي البشر، هو الذي يزيح الستارة، الستارة الكثيفة التي تحجب العوالم غير المنظورة عن الرؤية وتظهر لنا بوضوح ما يجري بعد الموت مع الأبرار والأشرار.
مرة أخرى، وكما الحال في المناسبات الأخرى المدونة في هذا الإنجيل، يستخدم يسوع التعبير: "كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ". هل كان هناك إنسان غني فعلاً أم لم يكن هناك هكذا إنسان. بالتأكيد يقول أنه كان هناك حقاً إنسان كهذا. يسوع لم يبدأ القصة بالقول: "إليكم هذا المثل"، كما في بعض المناسبات الأخرى؛ ولم يقل: "يشبه ملكوت السماوات إنساناً غنياً ومتسولاً فقيراً"، أو مفردات مثل هذه. بل بدأ من البدء وبشكل محدد قائلاً بوضوح: "كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ". لو سأل أي من مستمعيه عن اسم ذلك الرجل واسم البلدة التي عاش فيها، فهل من شك بأن يسوع كان قادراً على الإجابة على كلا هذين السؤالين بشكل قاطع؟ لقد كان يعرف هذا الرجل؛ كان يعرف كيف عاش؛ كان يعرف ما جرى بعد موته. إننا لا نعرف اسمه وسوف لن نعرف أبداً إلى أن يمثل أمام العرش الأبيض الكبير. عادة نسميه ديفيس، ولكن ديفيس ليس اسماً؛ هو ببساطة المرادف اللاتيني للكلمة اليونانية التي تعني "غَنِيٌّ". إلا أن هذا الرجل الغفل الاسم يبرز على صفحات الكتاب المقدس كشخصية متمايزة، ممثل عن كثيرين آخرين يعيشون لذاتهم ويتجاهلون الوصيتين العظيمتين اللتين تتضمنان المحبة نحو الله والمحبة نحو الإنسان. "كَانَ يَلْبَسُ الأُرْجُوانَ وَالْبَزَّ وَهُوَ يَتَنَعَّمُ كُلَّ يَوْمٍ مُتَرَفِّهاً". لقد كان ينعم بأفضل ما يمكن للأرض أن تقدمه ولم يكن له اهتمام بأمور الأبدية.
ثم يخبرنا النص أنه "كَانَ مِسْكِينٌ اسْمُهُ لِعَازَرُ الَّذِي طُرِحَ عِنْدَ بَابِهِ مَضْرُوباً بِالْقُرُوحِ وَيَشْتَهِي أَنْ يَشْبَعَ مِنَ الْفُتَاتِ السَّاقِطِ مِنْ مَائِدَةِ الْغَنِيِّ بَلْ كَانَتِ الْكِلاَبُ تَأْتِي وَتَلْحَسُ قُرُوحَهُ". هذا المتسول الفقير يُذكر بالاسم لأن الراعي الصالح "يَدْعُو خِرَافَهُ الْخَاصَّةَ بِأَسْمَاءٍ". رغم ظروفه البائسة، كان لعازر (والذي يعني اسمه "الله عوني") رجل إيمان، ابناً حقيقياً لإبراهيم. لو كانت الأحوال صحيحة سليمة في إسرائيل لما كان أي ابن لإبراهيم ليوجد بهكذا حالة مذرية، ولكن لعازر كان يعاني بأنه كان واحداً من شعب انجرف بعيداً عن الله وخسر كل حقّ للمطالبة بمراحم الله المؤقتة، تلك المراحم التي وُعد بها الشعب إن أطاع الناموس الإلهي. من الواضح أن الرجل الغني لم يكن يشعر بأي اهتمام من أي نوع بهذا المتسول الفقير البائس الذي كان يأتي به أصدقاؤه أو أقرباؤه إلى بابه كل يوم أملاً بأن يتلقى لعازر صدقات كافية لتقيته وتطيل عمره. ولكن يبدو أن لعازر كان الجميع يجتازونه بلا مبالاة راشحة بالازدراء. لقد أظهرت الكلاب اهتماماً به أكثر من بني جنسه الذين ما كانوا يفكرون سوى في إرضاء رغباتهم الأنانية.
ولكن جرى تغيير كبير في النهاية. المتسول مات وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم. ربما لم يسمع ديفيس ورفاقه حتى بموت هذا الرجل. ليس هناك أي شيء مكتوب عن خدمة جنائزية. ربما أُلقي جسد ذلك الإنسان البائس الفقير الجائع إلى النار الدائمة الاشتعال المضرمة في وادي هنوم، أو تُرك لتلتهمه الضباع وأبناء آوى؛ أو إن كان هناك من يهتم به كفاية، فلربما دُفن بأبسط طريقة ممكنة. ومع ذلك وإذ ننظر إلى ما وراء الحجاب، وكلمات يسوع هي التي تساعدنا على ذلك، نرى كوكبة من الملائكة تنتظر لكي ترشد روح هذا البائس المبتلي بالفقر سابقاً إلى حضن إبراهيم، أبي المؤمنين. إنه إعلان مميز في العهد الجديد أن المؤمنين عندما يموتون الآن فإنهم يغادرون ليكونوا مع المسيح في حالة أفضل بكثير؛ ولكن قبل الصليب كان أكبر رجاء للعبراني التقي هو أن يُرحب به إبراهيم الذي قطع اله معه العهد، إلى مقر من الغبطة. يجب ألا نخطئ بالاعتقاد أن حضن إبراهيم كان اسم مكان في الهاوية. كان المكان هو الفردوس. حضن إبراهيم كان حضن إبراهيم. بمعنى آخر، إبراهيم، كشخص حي، رغم أن جسده كان ميتاً منذ زمن بعيد، هو الذي رحب بابن الإيمان هذا في موطن السعادة عندما انتقل من جسده المبتلي.
لا يخبرنا الإنجيل عن الفترة الفاصلة بين موت لعازر والغني، ولكن يبدو أنها لم تكن فترة طويلة جداً. نقرأ أنه "دُفِنَ". وهذا بحد ذاته ذو مغزى. لا شك أنه أُقيمت له خدمة جنائزية عظيمة كان فيها الكثير من الندّابين المستأجرين وأكبر مقدار من التكريم لذاك التراب الفاقد الحياة الذي كان يوماً مسكناً لروحه الأنانية، ولكن بينما كانت الخدمة الجنائزية تُقام على الأرض، كان هو نفسه، الإنسان الحقيقي، في الجحيم يحتمل عذابات الملعونين.
أعرف أن كثيرين يعترضون اليوم على هذا الكلام. وقد يقول لي البعض: "مهلاً. الكلمة المترجمة "هاوية" هنا لا تشير إلى المثوى النهائي الأخير للهالكين والذي هو جهنم فعلياً"، وإننا نسلّم لذلك. إنهم يصرون على أن الهاوية لا تشتمل على أية فكرة لدينونة آتية. ولكن دعونا نقرأ المقطع من جديد وننتبه إلى الكلمة اليونانية ونرى كيف تكون الأمور. "وَمَاتَ الْغَنِيُّ أَيْضاً وَدُفِنَ فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ فِي الْهَاوِيَةِ وَهُوَ فِي الْعَذَابِ". لاحظوا أن لدينا هنا كلمة "العذاب" وهي نفسها في ترجمتنا وفي اللغة اليونانية. يصر آخرون على أن "الهاوية"، في نهاية الأمر، لا تعني "عالم الهالكين"؛ إنها تعني فقط "القبر"، ويجب أن تُترجم على هذا النحو. رغم أننا لا نوافق على هذا الرأي، ولكن دعونا نقرأها على هذا النحو ونرى إن كانت تساعدنا على تحاشي التعليم الواضح الظاهر للقصة: "وَمَاتَ الْغَنِيُّ أَيْضاً وَدُفِنَ. وإذ كان فِي القبر رَفَعَ عَيْنَيْهِ وَهُوَ فِي الْعَذَابِ". لاحظوا أن العذاب لا يزال موجوداً رغم أننا بدلنا الكلمة بشكل عنيف. هل دُفن الرجل حياً حتى عانى العذاب في القبر؟ لا؛ يقول لنا الإنجيل أنه مات، وبعد أن مات، وفي عالم آخر غير هذا، عانى العذاب.
ثم نعلم أمرين لافتين: الأول، أن الأرواح خارج الجسد تكون واعية بشكل كامل وتستطيع أن تخاطب بعضها بعضاً. ثانياً، أن هناك تمييز في العالم غير المنظور. هناك تمييز للمفديين في الفردوس من قِبل الهالكين الذين في الجحيم، بل حتى إن هناك بين الاثنين هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ أُثْبِتَتْ.
إذ نتابع القصة نرى الفصل الذي يحدث في ساعة الموت يبقى إلى كل الأبدية. رفع ديفيس بصره خلال عذابه ورأى لعازر في حضن إبراهيم. ذلك الرجل الهالك نظر إلى الفردوس ورأى هناك ما فاته. رأى ما كان ليكون نصيبه لو أنه فقط أعطى الله مكانته التي يستحقها في حياته: رأى ذاك الذي كان قد عاش متسولاً مهملاً على بابه، يتمتع الآن بسعادة لن يكون في مقدور نفسه أن يعرفها أبداً. وفي محنته بدأ يتوسل ويصلّي. فكروا في هذا- رجل مصلٍّ في الجحيم! ولكن المشكلة هي أنه راح يصلّي في الجانب الآخر من القبر. بينما كان على الأرض لم يشعر بحاجة إلى الصلاة؛ عاش حياته المتمحورة على الذات في إهمال كامل للمطالب المحقة نحو الله والإنسان. ولكن في الأبدية بدأ يصلّي عندما صارت الصلاة لا تنفعه. لم يطلب الكثير في البداية، ببساطة طلب قطرة ماء بارد على طرف إصبع المتسول، ولكن حتى هذه حُرم منها. لقد استخدم لغة المادية رغم أن العطش روحي- عطش ما كان ليعرفه لو استفاد من العرض المقدم له بأن يشرب من الماء الحي عندما كان على الأرض. ولكن كان الأوان قد فات كثيراً الآن. أجاب إبراهيم، الذي رُفع إليه التوسل، قائلاً: "يَا ابْنِي اذْكُرْ أَنَّكَ اسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ وَكَذَلِكَ لِعَازَرُ الْبَلاَيَا. وَالآنَ هُوَ يَتَعَزَّى وَأَنْتَ تَتَعَذَّبُ". يَا ابْنِي اذْكُرْ! يا لها من ذكرى مريعة ستكون لأولئك غير المخلّصين: أن يتذكروا طوال الأبدية كل خطيئة ارتكبوها ولم يتوبوا عنها، ولذلك بقيت غير مغتفرة؛ أن يتذكروا كل فرصة سنحت لهم لتسوية علاقتهم مع الله ولكنهم لم يستفيدوا منها بسبب لا مبالاتهم؛ أن يتذكروا كل رسالة من الإنجيل سمعوها ومع ذلك رفضوا أن يؤمنوا بها. ستكون الذاكرة في الواقع كمثل الدودة، التي لا تموت، وتعذب النفس إلى الأبد.
تُظهر كلمات إبراهيم أن المرء يمكن أن يكون له على الأرض كل ما يرغب به قلبه ولكن ليس للأبدية مكان في فكره أو قلبه. من جهة أخرى، قد لا يكون للمرء أي شيء يخدم حاجته وراحته، ومع ذلك يكون له كل شيء لأجل العالم الآخر.
ثم تخبرنا الكلمات التي تلي ذلك حقيقة استحالة أي تغيير طوال الدهور الآتية. "وَفَوْقَ هَذَا كُلِّهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ أُثْبِتَتْ حَتَّى إِنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْعُبُورَ مِنْ هَهُنَا إِلَيْكُمْ لاَ يَقْدِرُونَ وَلاَ الَّذِينَ مِنْ هُنَاكَ يَجْتَازُونَ إِلَيْنَا". هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ أُثْبِتَتْ! الفصل بين المخلّصين والهالكين نهائي عندما يكون المرء قد انتقل عبر بوابة الموت إلى العوالم غير المنظورة. ها هنا الضربة القاضية للفكرة القائلة بخلاص الجميع. من الطبيعي أن نميل إلى الاعتقاد بأن هناك طريقة ما يستطيع بها أولئك الذين ماتوا أن يتوبوا عن خطاياهم وآثامهم، ويتطهروا من خطاياهم، حتى بعد دهور من العذاب، وأن يتمتعوا بالرؤية الملائكية، ولكن الهوة لا يمكن عبورها. المخلّصون لا يمكن أن ويخسروا بركتهم ويسقطوا إلى الهلاك؛ والهالكون لا يمكن أن ينالوا البركة ويتمتعوا بالخلاص.
إذ وجد نفسه عاجزاً عن التخفيف من بؤسه الشخصي، فجأة أصبح الرجل الغني ذا ذهنية إرسالية. فراح يتوسل بشكل يُرثى له لأجل إخوته الخمسة الذين لا يزالون على الأرض ويرجو إرسال لعازر إليهم من الموت ليحذرهم، لئلا يأتوا إلى نفس مكان العذاب. لقد سمعنا أناساً غير مخلّصين يعلنون بوقاحة في بعض الأحيان أن: "حسنٌ. إن كنتُ هالكاً فسأجد الكثير من الأصحاب معي في الجحيم". لا يوحي لنا النص بأي شيء من هذا القبيل. هذا الرجل لا يرجو صحبة؛ لا يريد أعز أقربائه أن يكونوا هناك. وهذا يعطينا فكرة ما عن العزلة الفظيعة في الجحيم. حتى وإن كان المرء مدركاً لقرب أولئك الذين كان يعرفهم على الأرض فإن هذا إنما ليزيد من بؤسه وتعاسته.
فكروا في العائلة التي كان ينتمي إليها هذا الرجل: هناك ستة إخوة، أحدهم في الجحيم والخمسة الآخرين على الطريق إليه. ومع ذلك كان المسيح سيأتي لأجل أن يموت عن الجميع. ما كان هناك حاجة لأن يهلكوا لو أنهم كانوا على استعداد لقبول رسالة النعمة.
هذا التوسل الثاني، مثل السابق، لن يُستجاب. أجاب إبراهيم قائلاً: "عِنْدَهُمْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءُ. لِيَسْمَعُوا مِنْهُمْ". بمعنى آخر، لديهم كلمة الله؛ لديهم كتبهم المقدسة؛ فليقرأوا الكلمة؛ ولينتبهوا إلى ما يجدونه فيها، وبذلك لن يعرفوا معنى الهلاك الأبدي. ولكن إن رفضوا الكلمة فعندها حتى لو رجع إنسان من بين الأموات ما كان ليستطيع أن يقنعهم بالتوبة. يفكر ديفيس باحتمال آخر. صرخ قائلاً: "لاَ يَا أَبِي إِبْرَاهِيمَ. بَلْ إِذَا مَضَى إِلَيْهِمْ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يَتُوبُونَ". فيأتي الرد قاسياً وسلباً: "إِنْ كَانُوا لاَ يَسْمَعُونَ مِنْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَلاَ إِنْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يُصَدِّقُونَ". الإنسان الذي يرفض أن ينتبه إلى التعليم الواضح المحدد في الكتب المقدسة سوف لن يصدق إذا ما أتى إنسان إليه ليؤكد له أنه كان على الجانب الآخر من القبر وأنه عاد ليحذّره كي يهرب من الغضب الآتي.
بالتأكيد ما من إنسان مفكر عاقل يمكن أن يقرأ هذه القصة بجدية بدون أن يدرك أن ربنا يسوع أراد لنا أن نفهم أننا إن متنا في خطايانا، إن مضينا من هذا العالم ونحن نحب ما يبغضه الله ونكره ما يحب الله، فإننا بالتأكيد سنكون مفصولين عنه إلى الأبد.
وتبقى فكرة أخرى قبل أن نختم هذه الرسالة. إن كانت القصة هي مجرد مثل، كما يقول البعض لنا، فما التعليم الذي يقدمه لنا؟ الجواب الذي يقدمه لنا ذوي النزعة المادية من مختلف الجماعات الذين ينكرون حقيقة وعي الإنسان بعد الموت ويرفضون عقيدة العقاب الأبدي عن الخطيئة، سيكون عادة شيئاً من هذا القبيل: الغني، كما نعلم، يُصور الشعب اليهودي الذي استمتع على مدى القرون بكل البركات التي قدمها الله وأبقاها لنفسه بأنانية؛ والفقير، رغم أن اسمه يهودي، يمثل الأمميين الذين كانوا غرباء عن وعود العهد ويبقون خارج باب اليهودي الأثير. إن موتهم يمثل بداية دهر تدبيري جديد. والآن صار الأممي هو الذي يحظى بالامتياز، حتى في حضن إبراهيم، لأنه صار وريثاً للوعود التي كان محروماً منها سابقاً. اليهودي هو المنبوذ الآن، وهو الذي ظل يتعذب طوال القرون بسبب خطايا آبائه. قد تبدو هذه الفكرة معقولة أو مقبولة لأول وهلة، ولكن دعونا نخطو خطوة أبعد من ذلك. هذا اليهودي المنبوذ وهذا الأممي المتمتع بالامتياز- هل هما منفصلان بهوة لا يمكن عبورها؟ هل صحيح أن اليهودي لا يمكن أن يأتي مكانه الحالي في العذاب إلى الامتيازات المسيحية؟ هل صحيح أن الأممي الأثير لا يستطيع أن يرفض نعمة الله في المسيح وأن يمضي، إذا ما شاء، إلى المكان الذي يتواجد فيه اليهودي نفسه؟ بالتأكيد لا. ما من هوة مثل هذه كانت موجودة أبداً على الأرض. كل يهودي يمكن أن يقبل المسيح ويدخل إلى بركة نور الإنجيل وينال الامتياز والحظوة؛ وكل أممي يرفض نعمة الله ينتقل إلى المكان الذي يوجد فيه اليهودي غير المخلّص تحت دينونة الله.
الاستنتاج الوحيد الصحيح والمنطقي إذاً هو أن ربنا روى هذه الحادثة ليوضح لنا أهمية أن نكون أبراراً ومستقيمين مع الله في هذا العالم لكي ننال حظوة لديه في العالم الآتي.