الخطاب ٧٥

ارتباك بيلاطس وحيرته

"١فَقَامَ كُلُّ جُمْهُورِهِمْ وَجَاءُوا بِهِ إِلَى بِيلاَطُسَ ٢وَﭐبْتَدَأُوا يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: «إِنَّنَا وَجَدْنَا هَذَا يُفْسِدُ الأُمَّةَ وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ قَائِلاً: إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ». ٣فَسَأَلَهُ بِيلاَطُسُ قَائِلاً: «أَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟» فَأَجَابَهُ وَقَالَ: «أَنْتَ تَقُولُ». ٤فَقَالَ بِيلاَطُسُ لِرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْجُمُوعِ: «إِنِّي لاَ أَجِدُ عِلَّةً فِي هَذَا الإِنْسَانِ». ٥فَكَانُوا يُشَدِّدُونَ قَائِلِينَ: «إِنَّهُ يُهَيِّجُ الشَّعْبَ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ مُبْتَدِئاً مِنَ الْجَلِيلِ إِلَى هُنَا». ٦فَلَمَّا سَمِعَ بِيلاَطُسُ ذِكْرَ الْجَلِيلِ سَأَلَ: «هَلِ الرَّجُلُ جَلِيلِيٌّ؟» ٧وَحِينَ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ سَلْطَنَةِ هِيرُودُسَ أَرْسَلَهُ إِلَى هِيرُودُسَ إِذْ كَانَ هُوَ أَيْضاً تِلْكَ الأَيَّامَ فِي أُورُشَلِيمَ. ٨وَأَمَّا هِيرُودُسُ فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ فَرِحَ جِدّاً لأَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ مِنْ زَمَانٍ طَوِيلٍ أَنْ يَرَاهُ لِسَمَاعِهِ عَنْهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً وَتَرَجَّى أَنْ يَرَى آيَةً تُصْنَعُ مِنْهُ. ٩وَسَأَلَهُ بِكَلاَمٍ كَثِيرٍ فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ. ١٠وَوَقَفَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ بِاشْتِدَادٍ ١١فَاحْتَقَرَهُ هِيرُودُسُ مَعَ عَسْكَرِهِ وَاسْتَهْزَأَ بِهِ وَأَلْبَسَهُ لِبَاساً لاَمِعاً وَرَدَّهُ إِلَى بِيلاَطُسَ. ١٢فَصَارَ بِيلاَطُسُ وَهِيرُودُسُ صَدِيقَيْنِ مَعَ بَعْضِهِمَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لأَنَّهُمَا كَانَا مِنْ قَبْلُ فِي عَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا. ١٣فَدَعَا بِيلاَطُسُ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ وَالْعُظَمَاءَ وَالشَّعْبَ ١٤وَقَالَ لَهُمْ: «قَدْ قَدَّمْتُمْ إِلَيَّ هَذَا الإِنْسَانَ كَمَنْ يُفْسِدُ الشَّعْبَ. وَهَا أَنَا قَدْ فَحَصْتُ قُدَّامَكُمْ وَلَمْ أَجِدْ فِي هَذَا الإِنْسَانِ عِلَّةً مِمَّا تَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. ١٥وَلاَ هِيرُودُسُ أَيْضاً لأَنِّي أَرْسَلْتُكُمْ إِلَيْهِ. وَهَا لاَ شَيْءَ يَسْتَحِقُّ الْمَوْتَ صُنِعَ مِنْهُ. ١٦فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ». ١٧وَكَانَ مُضْطَرّاً أَنْ يُطْلِقَ لَهُمْ كُلَّ عِيدٍ وَاحِداً ١٨فَصَرَخُوا بِجُمْلَتِهِمْ قَائِلِينَ: «خُذْ هَذَا وَأَطْلِقْ لَنَا بَارَابَاسَ!» ١٩وَذَاكَ كَانَ قَدْ طُرِحَ فِي السِّجْنِ لأَجْلِ فِتْنَةٍ حَدَثَتْ فِي الْمَدِينَةِ وَقَتْلٍ. ٢٠فَنَادَاهُمْ أَيْضاً بِيلاَطُسُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُطْلِقَ يَسُوعَ ٢١فَصَرَخُوا قَائِلِين: «ﭐصْلِبْهُ! اصْلِبْهُ!» ٢٢فَقَالَ لَهُمْ ثَالِثَةً: «فَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ هَذَا؟ إِنِّي لَمْ أَجِدْ فِيهِ عِلَّةً لِلْمَوْتِ فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ». ٢٣فَكَانُوا يَلِجُّونَ بِأَصْوَاتٍ عَظِيمَةٍ طَالِبِينَ أَنْ يُصْلَبَ. فَقَوِيَتْ أَصْوَاتُهُمْ وَأَصْوَاتُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ. ٢٤فَحَكَمَ بِيلاَطُسُ أَنْ تَكُونَ طِلْبَتُهُمْ. ٢٥فَأَطْلَقَ لَهُمُ الَّذِي طُرِحَ فِي السِّجْنِ لأَجْلِ فِتْنَةٍ وَقَتْلٍ الَّذِي طَلَبُوهُ وَأَسْلَمَ يَسُوعَ لِمَشِيئَتِهِمْ" (لوقا ٢٣: ١- ٢٥).

إذ نتأمل في الرواية الملهمة التي تتناول إدانة وصلب ربنا المبارك، علنا نقارب الموضوع بقلوب تائبة ونفوس منكسرة إذ نتذكر من جديد أنه بسبب خطايانا ذهب إلى الصليب. بمعزل عن هذه الحقيقة المهيبة لم تكن هناك قوة على الأرض أو في الجحيم كان ليمكن أن تُضطر يسوع المسيح لأن يموت كما صنع. ما كان بحاجة لأن يموت على الإطلاق: كان ابن الله الذي بلا خطيئة. ولكنه اختار أن يموت بديلاً عنا. وصار طوعياً كفيلاً لنا واتخذ على عاتقه بالنعمة أن يدفع الدَّين الذي علينا. الأمر المثير للشفقة هو أن البشر، يقودهم الشيطان، رفعوا أيديهم الشريرة ضده وألقوا عليه الخزي والعار. ولكن هذا أظهر رداءة قلب الإنسان الخاطئ والطبيعة الشريرة الخبيثة لإبليس. إذ نتابع السير مع ربنا في محاكمات الهزء به أمام بيلاطس وهيرودس، ومن قاعة المحكمة عند بيلاطس إلى الجلجثة بصليبها المؤلم، فإننا ولا بد سيتحطم كبرياؤنا ونُبكَّت إذ نتأمل في ماهية الخطيئة عندما نرى إلى أي حد أمكن لأناس مثلنا أن يمضوا تحت تأثيرها.

لدينا إشارة أربع مرات إلى بيلاطس البنطي في أقسام أخرى من العهد الجديد خارج الأناجيل. بالطبع، نقرأ عن محاكمة يسوع في كل الأناجيل، وعن إخفاق بيلاطس في الوقوف إلى جانب البر في وقت عرف فيه أن المسجون الواقف أمامه كان بلا ذنب وبريئاً من التهم المرفوعة ضده. عندما كان الرسول بطرس يخاطب شعب إسرائيل بعد يوم الخمسين (أع ٣: ١٣، ١٤)، قال: "إِنَّ إِلَهَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ إِلَهَ آبَائِنَا مَجَّدَ فَتَاهُ يَسُوعَ الَّذِي أَسْلَمْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَأَنْكَرْتُمُوهُ أَمَامَ وَجْهِ بِيلاَطُسَ وَهُوَ حَاكِمٌ بِإِطْلاَقِهِ. وَلَكِنْ أَنْتُمْ أَنْكَرْتُمُ الْقُدُّوسَ الْبَارَّ وَطَلَبْتُمْ أَنْ يُوهَبَ لَكُمْ رَجُلٌ قَاتِلٌ". وفي أع ٤: ٢٧ نسمع بطرس يتكلم إلى الله في الصلاة قائلاً: "لأَنَّهُ بِالْحَقِيقَةِ اجْتَمَعَ عَلَى فَتَاكَ الْقُدُّوسِ يَسُوعَ الَّذِي مَسَحْتَهُ هِيرُودُسُ وَبِيلاَطُسُ الْبُنْطِيُّ مَعَ أُمَمٍ وَشُعُوبِ إِسْرَائِيلَ". ثم نقرأ في الأصحاح ١٣: ٢٨، عندما كان بولس يكرز في مجمع أَنْطَاكِيَةَ في بِيسِيدِيَّةَ، أنه قال: "وَمَعْ أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا عِلَّةً وَاحِدَةً لِلْمَوْتِ طَلَبُوا مِنْ بِيلاَطُسَ أَنْ يُقْتَلَ". بكتابته إلى المهتدي على يده، الكارز الشاب تيموثاوس، يذكّره بولس، في ١ تيم، بالشهادة الأمينة لربنا خلال فترة محاكمته. في ١ تيم ٦: ١٣، قال بولس: "أُوصِيكَ أَمَامَ اللهِ الَّذِي يُحْيِي الْكُلَّ وَالْمَسِيحِ يَسُوعَ الَّذِي شَهِدَ لَدَى بِيلاَطُسَ الْبُنْطِيِّ بِالاِعْتِرَافِ الْحَسَنِ: أَنْ تَحْفَظَ الْوَصِيَّةَ بِلاَ دَنَسٍ وَلاَ لَوْمٍ إِلَى ظُهُورِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ". يبرز اسم بيلاطس البنطي في كلمة الله وفي صفحات التاريخ موسوماً بالعار الأبدي. أفترض أنه ما من اسم آخر لإنسان يتردد بمقدار اسم بيلاطس البنطي. في كل يوم للرب (الأحد) وغالباً في مناسبات أخرى كثيرة، مئات ألوف من المسيحيين المعترفين يتجمعون معاً في أماكن مختلفة، يكررون الكلمات الموجودة في دستور إيمان الرسل؛ "وصُلِبَ عنّا على عهد بيلاطس البنطي"، وهكذا يتكرر اسم بيلاطس وظل يتكرر على مدى القرون باعتباره من أصدر حكم الموت على المسيح البريء. ولم ينتهِ الأمر بعد بالنسبة لبيلاطس. فعندما سيقف في النهاية أمام العرش الأبيض العظيم سيرى جالساً هناك على العرش أمامه ذاك الذي وقف يوماً سجيناً أمامه؛ سيرى ذاك الذي قال أنه بريء من التهم الموجهة إليه، ومع ذلك فقد أسلمه للصلب. كانت مشكلة بيلاطس هي التالية: كان ممتلئاً بالطموح الأناني؛ برغبة بأن ينال حظوة لدى السلطات التي تعلوه وحتى عند الناس الذين كان يحكمهم، لدرجة أنه لم يستطع أن يملك الشجاعة المبادئ الأخلاقية ليساند ما كان يعرف بأنه حق وعدل.

عندما أُحضر يسوع المسيح أمام بيلاطس، لم يكن غريباً بالنسبة له. كان بيلاطس قد سمع عن يسوع من قبل؛ كان قد عرف بخدمته في إسرائيل؛ وكان يعرف أن رؤساء الكهنة قد أسلموا يسوع إلى المحاكمة بسبب الغيرة والحسد. كان ينبغي على بيلاطس أن يتعامل مع يسوع على اعتبار أن التهم الموجهة إليه زائفة كاذبة، ولكنه كان يخشى أن يلام، وهكذا يفقد منصبه الذي ناله بمحاباته لقيصر.

الجمع كله كانوا قد تجمهروا وقادوا يسوع إلى بيلاطس البنطي ليدينه بتهمة الفتنة والتحريض على التمرد ضد الحكم الروماني. ﭐبْتَدَأُوا يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: "إِنَّنَا وَجَدْنَا هَذَا يُفْسِدُ الأُمَّةَ وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ قَائِلاً: إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ". لاحظوا أنه كان هناك شيء من الحقيقة في التهم الموجهة إليه، ومع ذلك فإن التهم ككل كانت كاذبة، لأن نصف الحقيقة غالباً ما تكون أكذوبة كاملة. صحيح أن الرب يسوع أعلن نفسه ملكاً، ولكنه لم يعلن نفسه أبداً ملكاً على إسرائيل في ذلك الوقت. لقد جاء بتوافق تام مع النبوءة وعرف أنه كان سيُرفض وأن ملكوته لم يأتِ أوان تأسيسه بعد. من جهة أخرى، اتهامهم له بالفتنة والتمرد كان كاذباً تماماً، لأنه عندما سُئل: "أَيَجُوزُ لَنَا أَنْ نُعْطِيَ جِزْيَةً لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟” أجابهم يسوع طالباً منهم أن يروه ديناراً، قائلاً: "«لِمَنِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟» فَأَجَابُوا: «لِقَيْصَرَ». فَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ»" (لو ٢٠: ٢٤، ٢٥). لقد سمعوه يقول ذلك؛ وإذاً كذبوا عندما جاؤوا أمام بيلاطس وقالوا أنه منعهم من أن يقدموا الجزية لقيصر.

وجّه بيلاطس السؤال على نحو محدد: "«أَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟» فَأَجَابَهُ الرب وَقَالَ: «أَنْتَ تَقُولُ»". قد يكون هذا غامض على ما يبدو، ولكن كأنه قال: "أنت قلت ذلك؛ أنت قلت ذلك بالحق، وبوحي إلهي، أني ملك اليهود". لم يطرح يسوع نفسه على هذا الشكل بينما كان يخدم بين الناس، ولكن السؤال طُرح عليه وأقر بأنه كان بالفعل هو الشخص الذي أرسله الله ليحكم إسرائيل. التفت بيلاطس إلى رؤساء الكهنة والشعب وقال: "إِنِّي لاَ أَجِدُ عِلَّةً فِي هَذَا الإِنْسَانِ". وما كانوا ليقبلوا أن يصغوا إلى أي شيء يُقال في صالح المسيح. صرخوا قائلين: "إِنَّهُ يُهَيِّجُ الشَّعْبَ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ مُبْتَدِئاً مِنَ الْجَلِيلِ إِلَى هُنَا". عندما سمع بيلاطس كلمة "الجليل"، اعتقد أنه وجد منفذاً يستطيع من خلاله أن يتجنب المسؤولية؛ ولذلك سأل إذا ما كان الرجل جليلياً. عندما علم أن يسوع جاء من الجليل، وجد في ذلك فرصة ليحوّل محاكمة يسوع إلى شخص آخر. كان هيرودس رئيس ربعٍ، أو حاكم الجليل، الذي جاء إلى أورشليم لكي يحفظ الأمن خلال فترة عيد الفصح، وحالما عرف بيلاطس أن يسوع كان من تلك السلطنة أرسله إلى هيرودس، وهذا، عندما رأى يسوع، فرح جداً. لقد سُرّ بأن يراه؛ كان قد سمع الكثير عنه. كان مهتماً على الدوام بصانعي المعجزات وأولئك الذين يعظّمهم الناس. لقد كان مهتماً بيوحنا المعمدان إلى أن قال له يوحنا بأمانة وهو يشير إلى زوجة رجل آخر كانت تجلس إلى جانبه: "لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ" (مت ١٤: ٤). فوضع هيرودس يوحنا المعمدان في السجن بدافع السخط، وفيما بعد، ولكي يرضي رغبة تلك المرأة بالانتقام، فقد قطع هيرودس رأس المعمدان.

وها هنا الآن رجل قيل له أنه صنع معجزات عظيمة، وسُرّ هيرودس بأن يراه، وكان يرجو أن يرى أعجوبة ما يصنعه هذا الرجل. "وَسَأَلَهُ بِكَلاَمٍ كَثِيرٍ فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ". كما الحال دائماً لم يكن لدى الرب يسوع شيء ليقوله لأولئك الذين كان لديهم فضول ولكن دون أن تكون لديهم رغبة في معرفة الحق. "وَوَقَفَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ بِاشْتِدَادٍ فَاحْتَقَرَهُ هِيرُودُسُ مَعَ عَسْكَرِهِ وَاسْتَهْزَأَ بِهِ وَأَلْبَسَهُ لِبَاساً لاَمِعاً وَرَدَّهُ إِلَى بِيلاَطُسَ". من الواضح أنه كان رداءً مثل ذلك النوع من الحرير الذي يتغير لونه باختلاف زاوية النظر إليه. يقول أحد الإنجيليين أنه كان أرجوانياً؛ ويقول آخر أنه كان قرمزياً. ربما كان الدثار بلون والنسيج بلون آخر، ولذلك فقد كان فعلاً رداءً جميلاً. لقد وضعوه عليه؛ جثوا على ركبتيهم، ووضعوا قصبة في يمينه، واستهزأوا به صارخين: "السَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ!". نعلم من الأناجيل الأخرى أن جنود الرومان صنعوا تاجاً من الشوك ووضعوه على رأسه، مسببين له ألماً شديداً ومريراً.

نقرأ في الآية التالية أنه: "صَارَ بِيلاَطُسُ وَهِيرُودُسُ صَدِيقَيْنِ مَعَ بَعْضِهِمَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لأَنَّهُمَا كَانَا مِنْ قَبْلُ فِي عَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا". هذان رجلا سياسة ماكران بارعان كانا يكرهان بعضهما البعض ولا يثقان ببعضهما، ولكن أمكنهما أن يتفقا في رفضهما للرب يسوع المسيح.

ردّ هيرودس يسوع إلى بيلاطس. "فَدَعَا بِيلاَطُسُ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ وَالْعُظَمَاءَ وَالشَّعْبَ وَقَالَ لَهُمْ: قَدْ قَدَّمْتُمْ إِلَيَّ هَذَا الإِنْسَانَ كَمَنْ يُفْسِدُ الشَّعْبَ. وَهَا أَنَا قَدْ فَحَصْتُ قُدَّامَكُمْ وَلَمْ أَجِدْ فِي هَذَا الإِنْسَانِ عِلَّةً مِمَّا تَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. وَلاَ هِيرُودُسُ أَيْضاً لأَنِّي أَرْسَلْتُكُمْ إِلَيْهِ. وَهَا لاَ شَيْءَ يَسْتَحِقُّ الْمَوْتَ صُنِعَ مِنْهُ. فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ".

كانت هذه الجلسة الثانية في قاعة المحكمة عند بيلاطس. جرت هذه الجلسة بعد أن رجع يسوع من عند هيرودس، الذي لم يجد فيه علّة، ولكن ما من تهمة بقيت ضده. "هَا أَنَا قَدْ فَحَصْتُ قُدَّامَكُمْ وَلَمْ أَجِدْ فِي هَذَا الإِنْسَانِ عِلَّةً". كان إعلان بيلاطس يعني تبرئة يسوع، ولكن هذا لم يرضِ أعداءه عديمي الشفقة، الذين كانوا مصممين على أن يموت، دون إدراك منهم بان موته كان الله هو الذي قرّره مسبقاً لأجل خلاصنا (أع ٢: ٢٣). "وَلاَ هِيرُودُسُ أَيْضاً". هذا الملك الفاجر لم يجرؤ على أن يدين يسوع ويحكم عليه بالموت، لأنه كان يعرف جيداً أنه كان بريئاً من التهم الموجهة إليه سواء في التجديف أو في الفتنة. قال بيلاطس: "أَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ". إنزال العقاب التأديبي لرجل بريء كان منافياً للعقل، ولكن من الواضح أن بيلاطس ظنّ أنه بذلك إنما يسترضي ويهدئ رؤساء اليهود وهكذا يمكنه أن يحرر يسوع من أي إدانة أكبر.

لقد كانت هناك عادة سادت خلال بعض الوقت، بأن يُطلق سراح سجين بارز في عيد الفصح، ولجأ بيلاطس إلى هذه الفكرة ليستند إليها ويطلق سراح يسوع. كان هناك سجين اسمه باراباس ينتظر أن يُنفّذ فيه حكم الإعدام، ولذلك فقد اقترح، كما هو مدون في إنجيل آخر: "«مَنْ مِنَ الاِثْنَيْنِ تُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ؟» فَقَالُوا: «بَارَابَاسَ»" (مت ٢٧: ٢١). كان باراباس متمرداً بارزاً. كان في السجن بتهمة التمرد والعصيان والقتل. ولكن الشعب صرخوا جميعاً بصوت واحد: "خُذْ هَذَا وَأَطْلِقْ لَنَا بَارَابَاسَ!". بصوتٍ متفق اختاروا أن يطلقوا سراح هذا البطل القومي اليهودي المشهور الذي كان محكوماً عليه بالموت. وطالبوا بدلاً من ذلك بموت يسوع، البريء. مكتوب (مت ٢٧: ٢٢) أن بيلاطس طرح السؤال المهيب: "فَمَاذَا أَفْعَلُ بِيَسُوعَ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ؟” هذا السؤال ظلّ على مدى عصور يُطرح على كل إنسان. "فَصَرَخُوا بِجُمْلَتِهِمْ قَائِلِينَ: خُذْ هَذَا.... ﭐصْلِبْهُ! ﭐصْلِبْهُ!". شعر بيلاطس بأنه كان عاجزاً أمام الجمع إن كان يريد إنقاذ سمعته، لأنه كان يخشى أن يتهمه اليهود (أمام السلطة الأعلى). "فَقَالَ لَهُمْ ثَالِثَةً: «فَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ هَذَا؟ إِنِّي لَمْ أَجِدْ فِيهِ عِلَّةً لِلْمَوْتِ فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ». فَكَانُوا يَلِجُّونَ بِأَصْوَاتٍ عَظِيمَةٍ طَالِبِينَ أَنْ يُصْلَبَ. فَقَوِيَتْ أَصْوَاتُهُمْ وَأَصْوَاتُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ". لقد سار بيلاطس ضد ضميره الشخصي؛ سلك ضد محاكمته العقلية الصحيحة؛ سار عكس مناشدات زوجته له، التي كانت قد أرسلت له رسالة تقول فيها: "إِيَّاكَ وَذَلِكَ الْبَارَّ لأَنِّي تَأَلَّمْتُ الْيَوْمَ كَثِيراً فِي حُلْمٍ مِنْ أَجْلِهِ" (مت ٢٧: ١٩). ولكن بيلاطس أصدر حكماً بحسب رغبتهم. "فَأَطْلَقَ لَهُمُ الَّذِي طُرِحَ فِي السِّجْنِ لأَجْلِ فِتْنَةٍ وَقَتْلٍ الَّذِي طَلَبُوهُ وَأَسْلَمَ يَسُوعَ لِمَشِيئَتِهِمْ".

في الاختيار الذي اتُخذ بين يسوع وباراباس، لا نجد أن ذلك كان خيار إسرائيل فقط، بل خيار الأمم أيضاً الذي كان على مدى قرون. لقد اختاروا قاتلاً، مجرماً، بدلاً من ربّ المجد. لو قُبل المسيح لكان قد جلب السلام والبر إلى العالم؛ ولكن بما أنهم لم يختاروه فإن الأمم سادها رجال بروح باراباس، على مقياس كبير، منذ ذلك اليوم الفاجع. والعالم نفسه تشرّب بدم ملايين الناس الذين ماتوا بسبب الظروف الفظيعة التي نتجت عن رفض رئيس السلام.

والسؤال يُطرح على كل واحد منا فرداً فرداً: "مَاذَا أَفْعَلُ بِيَسُوعَ؟” أنتم يا من سمعتم قصة يسوع طوال حياتكم، ألا زلتم تترددون كما تردد بيلاطس؟ رغم أنكم تعرفون أن عليكم أن تقبلوا المسيح، هل تخافون كما خاف بيلاطس؟ أتخشون ما يقوله الإنسان أكثر مما يقوله الله؟ إن كنتم لم تؤمنوا بعد بالمسيح يسوع، فإني أناشدكم أن تجيبوا قائلين: "ليس باراباس، بل هذا الإنسان". "فَلْيَكُنْ مَعْلُوماً عِنْدَكُمْ أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ أَنَّهُ بِهَذَا يُنَادَى لَكُمْ بِغُفْرَانِ الْخَطَايَا وَبِهَذَا يَتَبَرَّرُ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ مِنْ كُلِّ مَا لَمْ تَقْدِرُوا أَنْ تَتَبَرَّرُوا مِنْهُ بِنَامُوسِ مُوسَى" (أع ١٣: ٣٨، ٣٩).