الخطاب ١٨

يسوع ينتقد الناموسية

"١ وَفِي السَّبْتِ الثَّانِي بَعْدَ الأَوَّلِ اجْتَازَ بَيْنَ الزُّرُوعِ. وَكَانَ تَلاَمِيذُهُ يَقْطِفُونَ السَّنَابِلَ وَيَأْكُلُونَ وَهُمْ يَفْرُكُونَهَا بِأَيْدِيهِمْ. ٢فَقَالَ لَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ: «لِمَاذَا تَفْعَلُونَ مَا لاَ يَحِلُّ فِعْلُهُ فِي السُّبُوتِ؟» ٣فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُم: «أَمَا قَرَأْتُمْ وَلاَ هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ دَاوُدُ حِينَ جَاعَ هُوَ وَالَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ ٤كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ اللهِ وَأَخَذَ خُبْزَ التَّقْدِمَةِ وَأَكَلَ وَأَعْطَى الَّذِينَ مَعَهُ أَيْضاً الَّذِي لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ إِلاَّ لِلْكَهَنَةِ فَقَطْ؟» ٥وَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضاً». ٦وَفِي سَبْتٍ آخَرَ دَخَلَ الْمَجْمَعَ وَصَارَ يُعَلِّمُ. وَكَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ يَدُهُ الْيُمْنَى يَابِسَةٌ ٧وَكَانَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ يُرَاقِبُونَهُ: هَلْ يَشْفِي فِي السَّبْتِ لِكَيْ يَجِدُوا عَلَيْهِ شِكَايَةً. ٨أَمَّا هُوَ فَعَلِمَ أَفْكَارَهُمْ وَقَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي يَدُهُ يَابِسَةٌ: «قُمْ وَقِفْ فِي الْوَسَطِ». فَقَامَ وَوَقَفَ. ٩ثُمَّ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَسْأَلُكُمْ شَيْئاً: هَلْ يَحِلُّ فِي السَّبْتِ فِعْلُ الْخَيْرِ أَوْ فِعْلُ الشَّرِّ؟ تَخْلِيصُ نَفْسٍ أَوْ إِهْلاَكُهَا؟». ١٠ثُمَّ نَظَرَ حَوْلَهُ إِلَى جَمِيعِهِمْ وَقَالَ لِلرَّجُلِ: «مُدَّ يَدَكَ». فَفَعَلَ هَكَذَا. فَعَادَتْ يَدُهُ صَحِيحَةً كَالأُخْرَى. ١١فَامْتَلأُوا حُمْقاً وَصَارُوا يَتَكَالَمُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ: مَاذَا يَفْعَلُونَ بِيَسُوعَ؟ " (لوقا ٦: ١- ١١).

لدينا هنا في الواقع حادثتين منفصلتين حدثتا بفاصل أسبوع بينهما. ولكنهما حول نفس الموضوع عموماً؛ وهو الموقف الناموسي عند فئة محددة من رؤساء إسرائيل بما يتعلق بالسبت، وتجلّيات نعمة ربنا. هؤلاء الرؤساء يضعون عبئاً من الأمر ذاته الذي أعطاه الرب لإراحة وبركة شعبه، إذ أن الوصايا التي أعطاها الله قيمة أكثر من كل القوانين والأعراف كان هؤلاء الرؤساء يتجاهلونها كلّياً. لقد أعطى الله السبت لإسرائيل للبركة، وأمرهم ألا يعملوا أي شيء في ذلك اليوم، ولكن فئة من الناس كانت تتباهى مدّعية أنها تطبّق كلمة الرب، وكانوا يذهبون إلى حقولهم وأعمالهم ويستخدمون ساعات يوم السبت المقدسة ليغتنوا. ثم كان هناك الناموسيون المتعصبون الصارمون الذين كانوا ينظرون إلى السبت وكأنه هو مفتاح الخلاص لنفوسهم. كانوا يعتبرون أنهم إن حافظوا عليه يخلصون وإلا فإنه يهلكون، ولذلك فقد أضافوا إلى كلمة الرب تقييدات لا حصر لها وصلت إلى درجة أنه صار يستحيل على الإنسان أن يحفظ كل تلك القوانين في ذهنه. إنه لأمر مسلٍّ أن تقرأوا التلمود وتلاحظوا القوانين والأعراف السخيفة المنافية للعقل فيه.

لقد تجاهل ربنا هذه القوانين التي وضعها البشر. لقد جعل الله السبت ليكون مسرّة، وسيلة فرحٍ وهناء وعون لشعبه، لا أن يكون مرتبطاً بقوانين صارمة وصيام قاسٍ يصعب على الإنسان حفظها، لكي ينال الأهلية، إذ أن الله كان يعرف حاجة الجسد والفكر البشريين للراحة. وإضافة إلى ذلك فقد كانت مسرّة الله أن يجعل شعبه يجتمعون في ذلك اليوم لعبادته. لسنا اليوم خاضعين لهذه القوانين القديمة المتعلقة بالسبت. نقرأ في كول ٢: ١٦، "فَلاَ يَحْكُمْ عَلَيْكُمْ أحَدٌ فِي أكْلٍ أوْ شُرْبٍ، أوْ مِنْ جِهَةِ عِيدٍ أوْ هِلاَلٍ أوْ سَبْتٍ، الَّتِي هِيَ ظِلُّ الأُمُورِ الْعَتِيدَةِ، وَأَمَّا الْجَسَدُ فَلِلْمَسِيحِ". لدينا يوم الرب بدلاً من ذلك.

لقد كان يوم السبت ظلاً للأشياء العتيدة أن تأتي. الإنسان يكدح لستة أيام ويستريح في اليوم السابع. الإنسان يكدح طوال الحياة إلى أن يعرف المسيح ويدخل إلى الراحة فيه. السبت هو رمز للمسيح، وهو يعطيه لأجل الراحة.

مؤمنو العهد الجديد يتعلّمون أن يحفظوا يوم الرب في إدراك منهم لحقيقة أن الله قد قدّس ذلك اليوم أكثر من أي يوم آخر بجعل ابنه يقوم من الأموات في ذلك اليوم من الأسبوع (الأحد). "هذَا هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي صَنَعُهُ الرَّبُّ، نَبْتَهِجُ وَنَفْرَحُ فِيهِ" (مز ١١٨: ٢٤). الناس الذين يزدرون بامتيازات يوم الرب، فلا يفكرون إلا بشراء ومبيع، سواء كان ضرورياً أم لا، ويرفّهون عن أنفسهم في ذلك اليوم، إنما يخطئون بحق أنفسهم. الكثير من المسيحيين المعترفين يجعلونه اليوم الوحيد في الأسبوع الذي يستطيعون فيه أن يتمتعوا بلعبة غولف أو أن يذهبوا بنزهة، بدلاً من أن يقدّروا هذه الفرصة ليستغلوا هذا اليوم للقاء إخوتهم المؤمنين لأجل العبادة والصلاة والشهادة.

يعلمنا الإنجيل هنا أن ربنا المبارك وتلاميذه كانوا يجتازون بين الزروع في الريف. وهذا يعني القمح، وليس الذرة كما نعلم. وإذ كانوا يسيرون بين حقول القمح، راح التلاميذ يلتقطون السنابل ويأكلونها بأن يفركوا الحبّات بأيديهم ويتناولوها. بحسب ناموس موسى، كان يمكن للمرء أن يلتقط الذرة أو القمح ويأكلها إن كان يمر عبر الحقول، ولكن لا يحق له أن يستخدم منجلاً. ولذلك فإن الرب وتلاميذه استفادوا من هذا الامتياز. لقد كانوا يفركون حبّات القمح ويفركونها، ولكن مجموعة معينة من الناموسيين، الكتبة والفريسيين، الذين كانوا يراقبونهم، قالوا للرب: "لِمَاذَا تَفْعَلُونَ مَا لاَ يَحِلُّ فِعْلُهُ فِي السُّبُوتِ؟" هل حظّرت كلمة الله ذلك؟ لماذا استخدموا هذه العبارة: "مَا لاَ يَحِلُّ"؟ لقد كان هذا بحسب التقليد. أجابهم ربنا يسوع بتذكيرهم بحادثة وقعت قبل سنين عديدة. كان داود يهرب من شاول متجنباً غضب غيرته. جاء داود ومن كان معه وذهبوا إلى بيت الله وسألوا الكاهن إذا كان لديه شيء من الخبز فقال أنه لا يوجد سوى خبز التقدمة. فطلب داود بعضاً من ذاك لكي يسد جوع رجاله. فأذعن الكاهن، وأكل داود ورجاله من ذلك الخبز. قال يسوع لهم: "«أَمَا قَرَأْتُمْ وَلاَ هذَا الَّذِي فَعَلَهُ دَاوُدُ، حِينَ جَاعَ هُوَ وَالَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ؟ كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ اللهِ وَأَخَذَ خُبْزَ التَّقْدِمَةِ وَأَكَلَ، وَأَعْطَى الَّذِينَ مَعَهُ أَيْضًا، الَّذِي لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ إِلاَّ لِلْكَهَنَةِ فَقَطْ»". الفكرة التي كان الرب يسوع يؤكد عليها هو أن الإنسان أكثر أهمية في عيني الله من أي حفظ للطقوس. ومع ذلك فكم نحن بطيئون عن فهم ذلك! كان داود ورجاله يعانون، فيأمر يسوع رئيس الكهنة بأن يعطيهم خبز التقدمة. إلهنا يحب الناس، وأعطى لشعبه ترتيبات يستخدمونها للبركة، لا لتكون عبئاً عليهم. "وقَالَ لَهُمْ: «إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضًا»". بمعنى آخر، كان هو الذي أعطى السبت. كان هؤلاء الناس يحاولون أن يمسكوا خطأ على يسوع، ابن الإنسان، ربّ السبت. هنا كان الله متجلياً في الجسد يقف بينهم، ومع ذلك فلم يعرفوه.

الحادثة الثانية كانت ذات طابع مشابه. "وَفِي سَبْتٍ آخَرَ دَخَلَ الْمَجْمَعَ وَصَارَ يُعَلِّمُ. وَكَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ يَدُهُ الْيُمْنَى يَابِسَةٌ". الحادثة الأولى جرت خارجاً، في حقل القمح، وهذه حدثت في المجمع. لقد رأى يسوع رجلاً يَدُهُ الْيُمْنَى يَابِسَةٌ. يسوع يرى دائماً من هو في حاجة. إنه لا يتجاهل أبداً من يكون في محنة، ويتعاطف دائماً مع كل من كان في مشكلة. لقد رأى الصدّيقيون والفريسيون هذا الرجل أيضاً. وأستطيع أن أتخيلهم يقولون في أنفسهم: "هذا يوم السبت، فإن تجرأ على أن يشفي هذا الرجل في يوم السبت يمكننا أن نصنفه كمخالف لناموس السبت". تعرفون أن الناس عندما يتمسكون بدقائق التدين الصغيرة والتفصيلية فإنهم يصبحون قساة كالمتوحشين. كان هؤلاء الناموسيون يفضلون أن يتركوا ذلك الرجل في حالته البائسة على أن يُشفى في يوم السبت. ولذلك راحوا يراقبون ليروا ما سيفعله يسوع. لقد عرف أفكارهم، بالطبع، وهذا يدل على ألوهيته. لقد قرأ أعمق أفكارهم. وعرف كل ما يدور في أذهانهم. ولذلك التفت إلى الرجل وقال له: "قُمْ وَقِفْ فِي الْوَسْطِ". أعتقد أني أستطيع أن أرى ذلك البائس يقف هناك وتعابير ترقب تعلو وجهه! وراح يتساءل هل سيصنع يسوع شيئاً ما لأجله؟ كان الفريسيون والكتبة والكهنة جميعهم يراقبونه، والتفت يسوع إليهم وقال: "أَسْأَلُكُمْ شَيْئًا: هَلْ يَحِلُّ فِي السَّبْتِ فِعْلُ الْخَيْرِ أَوْ فِعْلُ الشَّرِّ؟ تَخْلِيصُ نَفْسٍ أَوْ إِهْلاَكُهَا؟" لم يجرؤ الناموسيون على الإجابة. ثم قال الرب يسوع لِلرَّجُلِ: "مُدَّ يَدَكَ. فَفَعَلَ هكَذَا. فَعَادَتْ يَدُهُ صَحِيحَةً كَالأُخْرَى". دبّت في لحظة قوة حياة جديدة في تلك اليد. ولعل المرء يعتقد بأن أقسى القلوب هناك كان ليهتف مسبّحاً الله، ولكن الواقع أن هؤلاء المتعصبون اليهود بدلاً من ذلك امتلأوا غضباً. وأرادوا أن يتخلصوا من يسوع، لأنه كسّر أعرافهم وقوانينهم ولم يتماشى مع معاييرهم الناموسية. لم يدركوا أنه كان يظهر محبة ورحمة الله. ولذلك ارتأوا أن يهلكوه، ولكن ما من أحد كان ليستطيع أن يمسّه بسوء إلى أن يحين وقت تسليمه لذاته على الصليب.

بدلاً من أن يجادل هؤلاء الناس، تركهم وخرج إلى الجبل ليتكلم مع الله، أبيه، في حديث ودّي ذاك الذي جاء ليحقق إرادته.