الخطاب ٣٩

الخدمة والشركة

"٣٨وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ دَخَلَ قَرْيَةً فَقَبِلَتْهُ امْرَأَةٌ اسْمُهَا مَرْثَا فِي بَيْتِهَا. ٣٩وَكَانَتْ لِهَذِهِ أُخْتٌ تُدْعَى مَرْيَمَ الَّتِي جَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَكَانَتْ تَسْمَعُ كَلاَمَهُ. ٤٠وَأَمَّا مَرْثَا فَكَانَتْ مُرْتَبِكَةً فِي خِدْمَةٍ كَثِيرَةٍ فَوَقَفَتْ وَقَالَتْ: «يَا رَبُّ أَمَا تُبَالِي بِأَنَّ أُخْتِي قَدْ تَرَكَتْنِي أَخْدِمُ وَحْدِي؟ فَقُلْ لَهَا أَنْ تُعِينَنِي!» ٤١فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهَا: «مَرْثَا مَرْثَا أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ ٤٢وَلَكِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ. فَاخْتَارَتْ مَرْيَمُ النَّصِيبَ الصَّالِحَ الَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا»" (لوقا ١٠٩: ٣٨- ٤٢).

المدينة المحددة التي دخلها يسوع كانت، كما نعرف من نصوص كتابية أخرى، بيت عنيا، حيث كان يعيش مرثا ومريم. يبدو أن بيتهم كان دائماً مفتوحاً للرب. لقد كان لديه محبة خاصة لهاتين الأختين المخلصتين وأخيهما لعازر. كم هو مبارك ذاك البيت الذي يتم به الترحيب بالمسيح على الدوام، وحيث القلوب المحبّة تستمتع باستضافة هكذا ضيف رائع!

من الواضح أن مرثا كانت الكبرى بين الأختين، إذ نقرأ: "قَبِلَتْهُ امْرَأَةٌ اسْمُهَا مَرْثَا فِي بَيْتِهَا". يبدو أنه مرثا يُعترف بها كصاحبة المنزل. جرت محاولات لمطابقة مريم، الأخت الصغرى، مع مريم المجلية، أو مع المرأة الأخرى التي لا يذكر اسمها في لوقا ٧، ولكن ليس من سبب يجعلنا نعتقد ذلك. ما من شيء يدل على أن مريم كانت امرأة غير عفيفة أو امرأة كانت ممسوسة بأرواح شيطانية. في الحوادث الثلاث المحددة حيث يأتي ذكرها في الكتاب المقدس، أي هنا وفي يوحنا ١١ و١٢، نرى مريم عابدة متأملة، وكان الرب المبارك يقدر محبّتها الكبيرة له. ليس هناك أي تلميح أو إشارة إلى أنها كانت امرأة ذات شخصية سيئة، رغم أنها كانت مثل كل الناس الآخرين إنسانة خاطئة تحتاج لأن تخلص بالنعمة الإلهية.

نقرأ في الآية ٣٠ أنه "كَانَتْ لِهذِهِ (لمرثا) أُخْتٌ تُدْعَى مَرْيَمَ، الَّتِي جَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَكَانَتْ تَسْمَعُ كَلاَمَهُ". كان يروق لمريم أن تتخذ مجلس التلميذة التي تريد أن تتعلّم. كانت تستمتع بالحق الذي جاء المسيح ليعلنه، وكانت تجد مسرة قلبها في الجلوس عند قدميه. بالنسبة للبعض تبدو مريم امرأة حالمة وغير عملية، ولكن يسوع كان يقدّر اهتمامها العميق لرسالته ومحبّتها له. وهذا هو الأمر الأكثر قيمة والأكثر أهمية. لعل هذا يخاطب قلوبنا. ما من شيء أهم في أولاد الله أكثر من أن يمضي وقتاً عند أقدام يسوع يتأمل في كلمته. وعلى هذا النحو ننمو في النعمة وفي معرفة المسيح. وهكذا تصبح مريم مثالاً لنا جميعاً. لعلكم تقولون أنه كان ينبغي عليها أن تساعد مرثا في إعداد العشاء. ولكن الرب كان يفضل أن تبقى جالسة عند قدميه. تذكرون عندما جلس عند بئر يعقوب والتلاميذ كانوا قد ذهبوا ليحضروا طعاماً. عندها جاء إلى المرأة السامرية ونقل إليها الكلمة، التي صارت، في الحقيقة، ماء حياةٍ لنفسها العطشى. يا لها من فرحة له أن يخدم رغبتها العميقة ويكشف لها غنى نعمة الله بطريقة نسيت معها جرّتها بدافع محبّتها له وعادت إلى المدينة لتبشّر رجالها. عندما عاد التلاميذ كانوا يتوقعون أن يجدوه جائعاً جداً وعلى استعداد أن يتناول في الحال الطعام الذي أحضروه معهم، ولكنه بدا لا مبالياً بالطعام على الإطلاق. تساءلوا في شأن يسوع: "أَلَعَلَّ أَحَداً أَتَاهُ بِشَيْءٍ لِيَأْكُلَ؟" فقال لهم يسوع: "طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ". لقد كان يرضيه أن يلتقي بخطاة بؤساء وأن يخلّصهم. وإنه لطعام لنا أن نجلس عند قدميه ونتعلم منه. وبعدها يمكننا أن ننطلق ونطعم الآخرين.

لكن مرثا لم تفهم معنى ذلك، ولذلك قالت له: "يَارَبُّ، أَمَا تُبَالِي بِأَنَّ أُخْتِي قَدْ تَرَكَتْنِي أَخْدُمُ وَحْدِي؟ فَقُلْ لَهَا أَنْ تُعِينَنِي!". إذ نعلم أن مرثا كانت "مُرْتَبِكَةً فِي خِدْمَةٍ كَثِيرَةٍ". من السهل جداً أن ننشغل بمسؤوليات حياتنا اليومية لدرجة كبيرة ننسى معها أن نمضي وقتنا عند قدمي يسوع. "فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَها:«مَرْثَا، مَرْثَا، أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ". أعتقد أنه كان لديه ولا بد تعاطف حقيقي عندما كرّر اسمها وأشار إلى همّها وقلقها واهتمامها بأن تعد وليمة طيبة ومطهوة جيدة.  لم يلمها على خدمتها، بل كان ذلك جزءاً صغيراً مقارنة بالجلوس عند قدميه. صرّح قائلاً أن: "مَرْيَم قد اخْتَارَت النَّصِيبَ الصَّالِحَ الَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا". ذلك كان الأمر الذي يحتاجون إليه، أو الأمر الوحيد الذي هو حاجتهم. لم يكن يشير يسوع إلى الخلاص الشخصي، أو عما اجتذب مريم إلى الجلوس عند قدميه. إن الحاجة الأساسية الأولية الوحيدة هي الخضوع للمسيح في كل الأمور. لقد كان هذا ما يميز مريم، وكان هذا ما سيجعلها تستمر في فرحها. بمعنى آخر، كانت مريم تستمتع بالشركة معه، وهكذا كانت ترضي قلبها المحب الكبير. إن الرب يتوق إلى الشركة مع شعبه.

"عند قدميك، يا ربي يسوع؛
هو المكان المخصص لي؛
فهناك أتعلّم أعذب الدروس، والحقيقة التي حرّرتني.
حرّرْ نفسي، يا ربي يسوع، حرّرني من طرق البشر؛
قيود الفكر التي قيّدتني
سوف لن تقيّدني من جديد.
لا أحد سواك، يا ربي يسوع،
غزا إرادتي المعاندة هذه؛ ولكن لأجل نعمتك، يا مخلّصي
سأتمسك بك بعناد".

أشعر بالخجل بأن أقول بأني في حياتي الحافلة بالانشغالات جداً، لم أمضي وقتاً طويلاً عند قدمي ربنا، بل كل ساعة أمضيتها هناك كانت تعني الكثير لي مما لو أمضيتها بأي مجال آخر.

أتذكر سماع أبٍ عزيز خسر زوجته. كانت قد تركت له ابنة، وقد أحبّ أن تبقى تلك الابنة معه؛ ولكن بما أنه كان رجلاً كثير المشاغل فما كان لهما سوى الأمسيات ليمضوها معاً. كان يأتي إلى البيت من العمل، وبعد العشاء كانا يمضيان بضعة ساعات معاً، وكان أحدهما يقرأ؛ ثم كانت الابنة تعزف أو تغنّي له. لقد وجد سلوى كبيرة في صحبة ابنته المحبوبة. ومضى الوقت واقتربت نهاية السنة، فقالت الابنة له في إحدى الأمسيات: "أريدك أن تعذرني اليوم يا والدي؛ لدي شيء علي أن أصنعه في غرفتي". في الليلة التالية كان الأمر نفسه، وبعدها، والليلة التي بعدها أيضاً، وليال كثيرة أيضاً كذلك ولخيبة أمله. ولكنه اضطُر على أن يعتاد على ذلك، ولم يشأ أن يسألها عما كانت تفعل عندما كانت تتركه لوحده. وأخيراً جاء صباح عيد الميلاد، فجاءت إلى غرفته وقالت: "عيد ميلاد سعيد ومجيد يا بابا!" وقدّمت له خُفّين محبوكين بالإبرة كانت قد صنعتهما له. فقال بعد أن شكرها: "كنت لأفضل أكثر يا ابنتي لو أمضيت الوقت معي بدلاً من أن تصنعي لي هذين الخفين وإن كانا جميلين ومريحين". أعتقد أن ربنا يقول لنا ذلك أيضاً. إننا نحاول أن نرضيه بخدمة كبيرة، ولكنني أخشى أن يقول لكثير منا: "لقد أمضيت ساعات كثيرة في الخدمة عندما كنتُ أفضّل أن تبقى عند قدمي. لم تكن هناك عندما أردت أن أشاركك بأسراري العديدة". ألا ليتنا نتعلّم أكثر فأكثر بركة الشركة معه!