الخطاب ٨

لقاء ربنا بنيقوديموس

"وَلَمَّا كَانَ فِي أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ آمَنَ كَثِيرُونَ بِاسْمِهِ إِذْ رَأَوُا الآيَاتِ الَّتِي صَنَعَ. لَكِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ لأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ الْجَمِيعَ. وَلأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجاً أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ عَنِ الإِنْسَانِ لأَنَّهُ عَلِمَ مَا كَانَ فِي الإِنْسَانِ. كَانَ إِنْسَانٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ اسْمُهُ نِيقُودِيمُوسُ رَئِيسٌ لِلْيَهُودِ. هَذَا جَاءَ إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً وَقَالَ لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ اللَّهِ مُعَلِّماً لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هَذِهِ الآيَاتِ الَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ مَعَهُ». أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللَّهِ». قَالَ لَهُ نِيقُودِيمُوسُ: «كَيْفَ يُمْكِنُ الإِنْسَانَ أَنْ يُولَدَ وَهُوَ شَيْخٌ؟ أَلَعَلَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنَ أُمِّهِ ثَانِيَةً وَيُولَدَ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللَّهِ. اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ. لاَ تَتَعَجَّبْ أَنِّي قُلْتُ لَكَ: يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ. اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا لَكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هَكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ الرُّوحِ». أجَابَ نِيقُودِيمُوسُ وَقَالَ لَهُ: «كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا؟» أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ مُعَلِّمُ إِسْرَائِيلَ وَلَسْتَ تَعْلَمُ هَذَا! اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّنَا إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ بِمَا نَعْلَمُ وَنَشْهَدُ بِمَا رَأَيْنَا وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَ شَهَادَتَنَا. إِنْ كُنْتُ قُلْتُ لَكُمُ الأَرْضِيَّاتِ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ فَكَيْفَ تُؤْمِنُونَ إِنْ قُلْتُ لَكُمُ السَّمَاوِيَّاتِ؟ وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ. وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ" (يوحنا ٢: ٢٣- ٣: ١٥).

يبدأ المقطع الحالي على الأرجح بالآيات الثلاث الأخيرة من الأصحاح ٢. فنقرأ: "وَلَمَّا كَانَ فِي أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ آمَنَ كَثِيرُونَ بِاسْمِهِ إِذْ رَأَوُا الآيَاتِ الَّتِي صَنَعَ". الإيمان الذي يستند على المعجزات ليس هو الإيمان الذي يخلِّصُ. الإيمان الذي يستند على آيات وأعاجيب لا يُؤْتي بالخلاص لأي أحد. ومن هنا فإنه لا يفيدنا أن نجادل غير المؤمنين حول اعتراضاتهم على الوحي في الكتاب المقدس. قال يسوع: "اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا" (مرقس ١٦: ١٥). ويقول بولس: "كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ" (١ كورنثوس ١: ١٨). و"لَسْتُ أَسْتَحِي بِإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ لأَنَّهُ قُوَّةُ اللهِ لِلْخَلاَصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ: لِلْيَهُودِيِّ أَوَّلاً ثُمَّ لِلْيُونَانِيِّ" (رومية ١: ١٦). الله يصنع معجزات ليصادق على الكلمة، ولكن الإيمان يجب أن يعتمد على شيء أفضل بكثير من المعجزات. فهل هنا أناسٌ كانوا ينتظرون مجيء المسيا نجدهم يقولون: "حسناً. لو جاء المسيا، فهل كان سيستطيع أن يقوم بمعجزات أكثر مما فعل يسوع؟ لا بد أن هذا الإنسان (يسوع) هو المُرسَل الذي تحدّث عنه الأنبياء". بهذا المعنى آمنوا بأنه كلن المسيا، ولكنهم لم يعترفوا بأنهم نفوس آثمة خاطئة في حاجة إلى خلاص ولم يروا في يسوع المخلّصَ الذي كانوا يحتاجون إليه. لقد آمنوا باسمه عندما رأوا معجزاته؛ لكن تكملة الآية تقول أن يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ. وكلمتا "يَأْتَمِن" و"يصدّق" مترادفتان في الأصل. ولعله يمكننا أن نقرأ النص كما يلي: "آمَنَ كَثِيرُونَ بِاسْمِهِ ولكن يسوع لم يصدّقهم". لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ لأنه كان يعلم أنهم ليسوا صادقين أو مؤمنين حقيقيين. لقد كان يعرف ما في داخل الإنسان وما كان بحاجة لأية شهادة من إنسان. لقد كان يعرف الشر واللاموثوقية التي في قلب البشر. أنا وأنت نحاول أن نعظّم من أنفسنا. ويرينا الكتاب المقدس مدى ضآلتنا عندما نتبجّح ونتفاخر، إن كنا صادقين مع الله. عندما نفكر بأن عيني ابنه تنظران إلى داخل قلوبنا فأي فساد وشهوات وضلال وعارٍ يجد هناك! اَلْقَلْبُ أَخْدَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ نَجِيسٌ مَنْ يَعْرِفُهُ. أَنَا الرَّبُّ فَاحِصُ الْقَلْبِ مُخْتَبِرُ الْكُلَى لأُعْطِيَ كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ طُرُقِهِ حَسَبَ ثَمَرِ أَعْمَالِهِ" (إرميا ١٧: ٩، ١٠). بما أن يسوع كان الله متجلياً في الجسد، فقد كان يعرف ما في الإنسان. إنه كلي المعرفة حقاً كما الآب. إنه يعرف ما في داخلك وفي داخلي ومع ذلك، ورغم معرفته بكل ذلك، أحبَّنا وبذلَ نفسَه عنّا. ولكنه لا يثق بنا، أو يعول على قلوبنا الشريرة تلك. إنه يعرف أنه لا يمكن الاعتماد علينا. إننا ضالون ومنهارون ومدمّرون وفاسدون. فما نحتاج إليه، إذاً، هو حياة جديدة. إننا في حاجة لأن نُولَدَ ثانيةً، وتلك هي الحياة الجديدة التي يعطيها لنا.

هناك كلمة يونانية صغيرة أُسقِطت من ترجمتنا للكتاب المقدس (في بداية الآية يوحنا ٣: ١). هذه الكلمة تعني "و" وتعني "لكن" (كما نجدها في بداية الآية يوحنا ٢: ٢٤). ومن هنا، فإننا، إن وضعنا الكلمة في مكانها الصحيح تصبح لدينا الترجمة التالية للآية: "لكنْ كَانَ إِنْسَانٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ اسْمُهُ نِيقُودِيمُوسُ". فقد وضع روحُ قدس الله هذا الرجل في تضاد ومغايرة مع الناس الوارد ذكرهم في يوحنا ٢: ٢٣- ٢٥. ها هنا إنسانٌ عرف يسوعُ فيه شخصاً صادقاً وأصيلاً وجدياً في سعيه وراء الحق، وكلما وجد ربنا إنساناً جاداً حقاً، سوف يرى أن ذلك الإنسان سيصل إلى الحق. لعلّكم تتساءلون: وماذا عن الوثنيين الذين لم يسمعوا أبداً (بالبشارة)؟ هل سيدينهم الله إلى قصاص أبدي لأنهم لم يؤمنوا بالمخلّص الذي لم يسمعوا عنه أبداً؟ بالطبع لا. ولكن ما سيفعله هو ما يلي: سيدين الوثنيين على كل الخطايا التي لم يتوبوا عنها، ولكنه سيحاول أن تحصل كل نفسٍ تائبة على نورٍ كاف لتخلص. سوف لن يترك الإنسان ساقطاً ضائعاً ضالاً إن كان يسعى وراء الحقيقة.

ولذلك فها هو نيقوديموس هنا ساعٍ صادق وراء الحقيقة، ويعامله يسوع على هذا الأساس. كَانَ إِنْسَانٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ (المجموعة الأكثر تديناً وتعصباً بين اليهود) اسْمُهُ نِيقُودِيمُوسُ رَئِيسٌ لِلْيَهُودِ". ولكن هذا الإنسان، الذي يواجه مسيحَ الله وجهاً لوجه الآن، يكتشف أن عنده نقص هائل. وهناك أناسٌ كثيرون مثل نيقوديموس. إنهم أناسٌ طيّبون صالحون، ويجلّون الأمور الروحية، ومع ذلك فهناك كثيرون لم يعترفوا بحظاياهم أمام الله ولا يعرفون الولادة الثانية. ألم تقولوا، كما قال تينيسون: "هلا من إنسان ينهض فيَّ لكي لا أبقى كما أنا عليه كإنسان؟" إنك لستَ راضياً عن نفسك، ومع ذلك فإنك لم تلتفتْ إلى المسيح لكي تُولَدَ ثانية. لنتابع حوار ربنا يسوع مع نيقوديموس. دعونا نصغي وكأننا لم نسمع بها من قبل.

ها هنا نيقوديموس "نفسه الذي جَاءَ إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً".  سوف لن ألومه على ذلك. بعض الكارزين يتخذون هذا الموقف. ولكني لا أجد أي دلالة على الجبن هنا. فسلوكه لا يدل على أنه جبان. أعتقد أن يسوع كان مشغولاً طوال النهار، وأن نيقوديموس قال في نفسه: "أود أن أتحدث إلى هذا الرجل عن كثب وبحميمية، ولن يتسنَّ لي ذلك مع وجود كل ذلك الجمع في النهار. فلعلي أسأل بطرس أو يعقوب أو يوحنا عن مكان إقامته وهكذا أستطيع أن أحظى بحديث منفرد معه". وهكذا يرتب لأن يرى يسوع ويلتقي معه ليلاً بعد أن يكون الرب قد انسحب من وسط الجموع. إنه لموقفٌ مشرّفٌ من نيقوديموس أنه كان مهتماً بأن يذهب إلى يسوع. ولا أجد أنه من المعيب أنه ذهب تحت جنح الليل.

استهل نيقوديموس حديثه بالقول: "«يَا مُعَلِّمُ نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ اللَّهِ مُعَلِّماً لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هَذِهِ الآيَاتِ الَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ مَعَهُ»". لم تكن هذه خاتمة حديثه. لقد قاطعه المخلّص وأعلن: "«ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللَّهِ»". هل قال "يُولَدُ ثانيةً" أم "يُولَدُ مِنْ فَوْقُ"؟ أعتقد أن التركيز هو على الجدّة. هذا ما أعطى الانطباع بأن نيقوديموس لم يفهم الكلمة بمعنى أن "يُولَد من فوق" بل أن "يُولَد من جديد"، أي أن "يُولَد ثانيةً". لكأن يسوع كان يقول: "لن يفيدك، يا نيقوديموس، أن تقول أشياء ظريفة. أنت في حاجة إلى شخص هو أكثر من معلّم، أنت في حاجة إلى مخلّص- شخص يمكن أن يعطيك حياة جديدة. إنك في حاجة إلى ولادة ثانية!" "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللَّهِ".

هناك فكرة واسعة الانتشار اليوم أن الناس يمكن أن يتعلّموا فيدخلوا إلى المسيحية. إن الثقافة الدينية هي أحد الأمور الأكثر بغضاء في العصر الحالي. الفكرة هي أنه يمكنك أن تأخذ طفلاً وتعلّمه من خلال خطوط الفلسفة المسيحية، وهكذا تعلّمه وتثقّفه حول موضوع الخلاص. لستُ أعترض على اصطلاح "التعليم المسيحي". أعتقد أنه أمرٌ صحيح وسليم وملائم. إنه صحيحٌ وملائم أن تعلّمَ المسيحي الأساسيات المسيحية. ولكن التعليم الديني الذي يحاول أن يجعل الناس مسيحيين فحسب عن طريق التعليم، على ما أعتقد، سيكون وسيلة لخلق آلاف من المرائين بدلاً من جعلهم مسيحيين حقيقيين. "يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ". يجب أن يكون هناك تواصل في الحديث عن حياة جديدة.

قال نيقوديموس: "ولكني لا أفهم الأمر. أنى لإنسان أن يُولد وهو طاعن في السن؟ هل يمكنه أن يمرّ خلال كل تلك العملية الطبيعية من جديد؟ إن هذا يبدوا أمراً غامضاً لا أستطيع تخيله: هل أستطيع أن أعود فأُولَد من والدتي ثانيةً؟" ويقول له يسوع: "يا نيقوديموس، أصغِ إلي؛ لن يشكل الأمر فارقاً إن استطعت ذلك؛ سوف لن تكون في هذا الحالة أفضل مما كنتَ قبلاً. إن الولادة الطبيعية لا نُؤخذ بالاعتبار. يجب أن تكون الولادة روحية". "ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللَّهِ. اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ. لاَ تَتَعَجَّبْ أَنِّي قُلْتُ لَكَ: يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ". يا لها من كلمات ذات وزن هذه التي يقولها الرب يسوع! في البداية قال: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللَّهِ". فما الذي قصده بذلك؟ أعلمُ أن هناك من يقولون لنا بأن الولادة من الماء تعني الولادة بالمعمودية. ولكن ما من أحد نال حياة جديدة عن طريق معمودية الماء. عبثاً تبحثون في كتابكم المقدس لتجدوا ما يشير إلى هذا الأمر. ليس فيه أي شيء من هذا القبيل. هذه الفكرة ليست من كلمة الله. وليس من مكان في الكتاب المقدس تُشبّه فيه المعمودية بالولادة. بل إنها ترمز بالأحرى إلى الموت. فنحن نُدفَن معه بالمعمودية لموته. إن معمودية الماء هي صورة عن دفن الإنسان العتيق لا عن الولادة الجديدة. وإذاً، ما هو الماء الذي به نُولَد ثانية؟ لنمعن النظر في كلمة الله. ما من مكان فيه يقول أن الناس يُولَدون بالماء الحرفي. تتبّعوا كلمة "الماء" في كتابات يوحنا. ستجدون أن الماء هو رمز لكلمة الله. طرح داود هذا السؤال في المزمور ١١٩: ٩: "بِمَ يُزَكِّي الشَّابُّ طَرِيقَهُ؟ بِحِفْظِهِ إِيَّاهُ حَسَبَ كَلاَمِكَ". وفي الأصحاح الرابع من يوحنا يقول يسوع، خلال حديثه إلى المرأة السامرية: "كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً. وَلَكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ" (يوحنا ٤: ١٣، ١٤). ما هو الماء الذي يعطيه يسوع؟ إنه ماء الكلمة. إنه شهادة الإنجيل. "مِيَاهٌ بَارِدَةٌ لِنَفْسٍ عَطْشَانَةٍ الْخَبَرُ الطَّيِّبُ مِنْ أَرْضٍ بَعِيدَةٍ" (أمثال ٢٥: ٢٥). "وَمَنْ يُرِدْ فَلْيَأْخُذْ مَاءَ حَيَاةٍ مَجَّاناً" (رؤيا ٢٢: ١٧). ما هو ماء الحياة؟ إنه رسالة الإنجيل. نقرأ في أفسس ٥: ٢٥- ٢٧: "أَيُّهَا الرِّجَالُ، أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ كَمَا أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضاً الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا، لِكَيْ يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّراً إِيَّاهَا بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ، لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ". ويقول يسوع لتلاميذه: "أَنْتُمُ الآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ الْكلاَمِ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ" (يوحنا ١٥: ٣). ولذا فإن علينا أن نُولَدَ من فوق بكلمة الله إذ يكون الروح القدس قد عمل في قلوبنا وضمائرنا.

ها هنا رجلين يجلسان جنباً إلى جنب إذ يعلن كارزٌ إنجيلَ الله، مستشهداً، ربما، بآية ما من الكتاب، كمثل هذه أن "الْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ الَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا" (١ تيطس ١: ١٥). أحد الرجلين لا ينتبه. ولكن الآخر يرفع بصره ويقول: "ماذا؟ جاء لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ؟ أنا خاطيء. فلأضعنَّ عليه ثقة إيماني". ما الذي قاده لفعل ذلك؟ إنه الروح القدس الذي يستخدم الكلمة وسيلةً لتساعد الإنسان على الولادة الجديدة. "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللَّهِ". ويميز الرب بشكل واضح جداً بين الجسد والروح. "اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ". بمقدورك أن تفعل ما يحلو لك للجسد، ولكن لا يمكنك أن تحوله إلى روح. إن عمَّدْتَه فإنه يصير جسداً مُعمَّداً. وإن جعلتَه متديناً يصبح جسداً متديناً. الجسد يبقى جسداً إلى المنتهى. "اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ. لاَ تَتَعَجَّبْ أَنِّي قُلْتُ لَكَ: يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ". قال نيقوديموس: "كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا؟" فشرح له الرب بأن هناك أسراراً في الطبيعة لا نستطيع أن نفهمها. "اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا لَكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هَكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ الرُّوحِ". لا يمكنك أن ترى الريح، ولكنك تستطيع أن تدرك قوتها. ولا يمكنك أن ترى الروح القدس، ولكن يمكنك أن تلاحظ قدرته. إنه غير منظور، ولكنه يُشعِرُكَ بحضوره بطريقة مقتدرة عندما يدين ويجدّد الخطاة. إنه يغير الناس بشكل كامل. إنكم تدركون القوة والقدرة، رغم أنكم لا ترونها تعمل فعلياً. إنكم ترون امرأة دنيوية مزهوة، وفجأة تصبح امرأة صلاة هادئة. وترون رجلاً شريراً فاجراً يتحول إلى قديس. هذا هو عمل الروح القدس. إنكم لا ترون الروح ولكنكم ترون قدرته متجلية في الحياة.

إذ يبقى نيقوديموس حائراً ويقول: "«كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا؟»"، يقول يسوع له: "أَنْتَ مُعَلِّمُ إِسْرَائِيلَ وَلَسْتَ تَعْلَمُ هَذَا!" كان لا بد أن يعرف عن الولادة الجديدة. فقد كان لديه الكتاب المقدس. ففي أشعياء ٤٤: ٣ نجد هذه الكلمات: "لأَنِّي أَسْكُبُ مَاءً عَلَى الْعَطْشَانِ وَسُيُولاً عَلَى الْيَابِسَةِ. أَسْكُبُ رُوحِي عَلَى نَسْلِكَ وَبَرَكَتِي عَلَى ذُرِّيَّتِكَ". ما معنى ذلك؟ لكأن الله يقول: "بماء كلمتي وبقوة روحي القدوس سأصنع معجزة الولادة الجديدة".

وفي حزقيال ٣٦: ٢٥ لدينا نفس الموضوع: "أَرُشُّ عَلَيْكُمْ مَاءً طَاهِراً فَتُطَهَّرُونَ. مِنْ كُلِّ نَجَاسَتِكُمْ وَمِنْ كُلِّ أَصْنَامِكُمْ أُطَهِّرُكُمْ". فهناك نجد نفس الحقيقة: "الولادة مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ". فيقول الرب يسوع: "يا نيقوديموس، أَنْتَ مُعَلِّمُ إِسْرَائِيلَ، وتستغرب أن أتكلّم عن الولادة مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ. كان يجب أن تعرف ذلك". "إِنْ كُنْتُ قُلْتُ لَكُمُ الأَرْضِيَّاتِ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ فَكَيْفَ تُؤْمِنُونَ إِنْ قُلْتُ لَكُمُ السَّمَاوِيَّاتِ؟" ما معنى ذلك؟ هذه الأَرْضِيَّاتِ كان العهد القديم قد تحدّث عنها. لقد كان من الضروري دائماً أن يُولَدَ المرء من جديد لكي يدخل ملكوت الله. وهذا الملكوت كان حكم السماء على الأرض. ولكن يسوع كان يعلم أن الملكوت الأرضي لم يكن موضوعاً للحديث آنذاك. فقال: "لدي أسرار كثيرة (كنت لأحدّثكم عنها) ولكنكم لن تفهموها، فحتى الأرضيات لا تفهمونها". أعتقد أن الرب كان يقصد القول أن نيقوديموس لم يكن مستعداً لكشفٍ عن الملكوت السماوي، لأنه لم يكن يدرك الأرضيات.

"لَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ". دعوني أقول هنا، وبصراحة، أني لا أعرف إذا ما كان يسوع قد قال ذلك أو كان يوحنا هو من كتب هذا بوحي من الروح القدس. لو كان النص مكتوباً كأي نص أدبي، لوجدنا علامات اقتباس في نهاية الآية ١٢، وعندها تأتي الآية ١٣ كجملة اعتراضية. لا أعرف إذا ما كان الأمر هكذا أم لا. لعلّ يسوع قال ذلك، ولعل يوحنا قد قال ذلك في محاولة منه لشرح السر الغامض. ما هو السر؟ ما من أحد صعد إلى السماء بملء اختياره وإرادته. أخنوخ كان قد اختُطِفَ وإيليا صعد في زوبعة. إن كان الرب يسوع قد نطق بهذه الكلمات، فإنه كان ينظر إلى المستقبل عندما سيصعد. وإن كان يوحنا هو الذي كتبها، فلا بد أن الصعود كان في ذهنه. ولكن العجيب في الأمر هو أن الرب يسوع الذي نزل من السماء وكانت له القدرة على أن يصعد إلى السماء، كان في كل الأوقات ابن الإنسان في السماء، لأنه كان الكلي الوجود.

في الآية ١٤ لدينا جواب ربنا على أسئلة نيقوديموس. إنه يوجه فكره إلى حادثة جرت قبل سنين طويلة سابقة في البرية، ويقول له: "كَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ". هذا هو الجواب على سؤالك يا نيقوديموس. لكأن يسوع يقول له: "أنا ماضٍ إلى الصليب وهناك، على ذلك الصليب، سأصير المرموز إليه بالحية النحاسية. هناك سأُجعل خطيئةً لكي يصبح الخطاةُ بِرَّ الله بالإيمان به". في البرية كان الشعب قد ابتُليَ بالأفاعي. وسمُّ تلك المخلوقات المرعبة كان يجري في عروق بني إسرائيل المحتضرين. وكان العلاج هو حية نحاسية تُرفع، وكل من ينظر إليها يشفى. الخطيئة هي التي سبّبت الإزعاج والقلق للبشرية. والحية كانت رمزاً للشيطان والخطيئة. ولكن ما الذي حدث على الصليب؟ ذاك الذي كان بلا خطيئة جُعل خطيئةً من أجلنا. إنه المرموز إليه بتلك الحية النحاسية. تلك الحية التي رُفِعَت على عود الصليب لم يكن فيها سمٌ على الإطلاق. لم تُؤْذِ أحداً البتة. لقد كانت صورةً عن ذبيحة الخطية العظيمة. عندما كانوا ينظرون إليها كانوا يُشفون. لم تكن في الرب يسوع أيةُ خطيئة، ولكنه بنعمته ورحمته أخذ مكان الخاطئ، وعندما ينظر الناس إليه بإيمان فإنهم يُولَدون ثانيةً؛ وينالون حياةً أبدية. هل نظرْتَ إليه؟ هل نظرْنا جميعاً إليه؟ كل من يؤمن به لن يموت بل تكون له حياة أبدية.