الخطاب ٤٩

الكرمة الحقيقية

"أَنَا الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَأَبِي الْكَرَّامُ. كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لاَ يَأْتِي بِثَمَرٍ يَنْزِعُهُ وَكُلُّ مَا يَأْتِي بِثَمَرٍ يُنَقِّيهِ لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ. أَنْتُمُ الآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ الْكلاَمِ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ. اُثْبُتُوا فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ. كَمَا أَنَّ الْغُصْنَ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَأْتِيَ بِثَمَرٍ مِنْ ذَاتِهِ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْكَرْمَةِ كَذَلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً إِنْ لَمْ تَثْبُتُوا فِيَّ. أَنَا الْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ. الَّذِي يَثْبُتُ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هَذَا يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ. لأَنَّكُمْ بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئاً. إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَثْبُتُ فِيَّ يُطْرَحُ خَارِجاً كَالْغُصْنِ فَيَجِفُّ وَيَجْمَعُونَهُ وَيَطْرَحُونَهُ فِي النَّارِ فَيَحْتَرِقُ. إِنْ ثَبَتُّمْ فِيَّ وَثَبَتَ كلاَمِي فِيكُمْ تَطْلُبُونَ مَا تُرِيدُونَ فَيَكُونُ لَكُمْ. بِهَذَا يَتَمَجَّدُ أَبِي أَنْ تَأْتُوا بِثَمَرٍ كَثِيرٍ فَتَكُونُونَ تلاَمِيذِي" (يوحنا ١٥: ١- ٨).

ظهر اقتراح، ووراءه سبب معقول، بأن ربنا المبارك قد تلفظ بهذه الكلمات بينما كان وتلاميذه يعبرون مدينة أورشليم بعد أن تركوا العلية ليخرجوا إلى جثسيماني. وإذ مروا بجانب الهيكل لاحظوا كرمة مذهبة منقوشة مشغولة جميلة على أحد أبواب الهيكل، فالتفت الرب يسوع إلى تلاميذه وقال لهم: "أَنَا الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ". التركيز هو على كلمة "حقيقية". كان إسرائيل كرمة الرب. في المزمور ٨٠ نقرأ: "كَرْمَةً مِنْ مِصْرَ نَقَلْتَ". صورة الكرمة تلك تُستخدم مراراً وتكراراً في المزامير وفي الأنبياء لتُصور شعب إسرائيل. في فصل إسرائيل عن عالم الأمم كانت إرادة الله لكيما يكونوا شهادة له على الأرض، وليحملوا ثمراً له.

ليس للكرمة فائدة كبيرة إلا كحامل للثمار. لا يمكنك أن تبني منازل باستخدام خشب الكرمة. لا يمكنك أن تصنع منها أثاثاً. واستخدامها قليل جداً حتى كوقود، إذ عندما تلقيها في النار فإنها تلتهب لدقيقة أو اثنتين ثم تنتهي. خلق الله الكرمة لحمل الثمار فقط. والله أراد من بني اسرائيل أن يحملوا ثمراً له ليُمجدوا اسمه أمام كل شعوب العالم. ولكنه يقول بحزن، من خلال النبي هوشع: "إِسْرَائِيلُ جَفْنَةٌ مُمْتَدَّةٌ. يُخْرِجُ ثَمَراً لِنَفْسِهِ". أي أنه استنفد كل الخشب والأوراق، وليس فيه ثمار حقيقية لله. ويرسم أشعياء صورة الكرمة في الأصحاح ٥، حيث يقول الرب: "انْتَظَرَ أَنْ يَصْنَعَ عِنَباً فَصَنَعَ عِنَباً رَدِيئاً".

وهكذا فإن الله رفض تلك الكرمة الأرضية الدنيوية. فما عادت تقدم له شهادة للعالم. منذ دمار أورشليم صار شعب إسرائيل يعاني وتبعثر وسط الأمميين وحاول رغم ذلك أن يشهد للآخرين عن وحدة الله. كانوا يعترفون بإله حقيقي حي رغم ما عانوه من عبدة الأصنام. ولكن لم يؤدوا أي شهادة للرب من ناحية أن المسيّا هو المخلص الموعود الذي سيُرسل إلى العالم. لقد اكتفوا بحمل ثمار لأنفسهم.

متنبئاً بكل هذا مسبقاً، يقول الرب يسوع: "أَنَا الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ". كان هناك إخفاق في كل شيء، ولكن يسوع كان ليشهد لله في العالم. كان عليه أن يحمل ثماراً لنفسه. إلا أنه كان ماضياً؛ لقد كان في طريقه لتوه إلى بستان الآلام، ومن ثم إلى قاعة المحاكمة، فالصليب، ومن ثم العودة إلى المجد. فكيف سيأخذ مكان إسرائيل في الشهادة وفي حمل الثمار في العالم؟

حسنٌ. إنه يقول: "جميع خاصتي هم أغصان في الكرمة، وسيحملون ثماراً لله هنا في العالم"، وهكذا يُصور نفسه على أنه الكرمة الحقيقية، ومن ثم فإن كل أولئك المفتدين لله بدم يسوع الثمين الذين وجدوا فيه مخلِّصاً ورباً، هم كأغصان في الكرمة الحيَّة هنا في هذا العالم وعليهم أن يحملوا ثماراً للآب.

والآن لاحظوا، الفكرة الأهم في هذه الآيات الثمانية هي حمل الثمار، وهذا مشروط بالشركة أو الصداقة مع الرب. إنه أمر مألوف لدى الناس الذين لديهم آراء عقائدية معينة في فكرهم، أن يحاولوا أن يُطبقوا تلك العقائد على كل جزء من الكتاب المقدس. فعلى سبيل المثال، الكالفينيون المتطرفون يعتبرون أن من المُسلّمات أن أي جزء من الكتاب المقدس يتناول ويؤيد عقائدهم الخمسة. ومؤخراً سمعت أنهم حولوا الأصحاح ١٥ من لوقا عن معناه الصحيح، فصار مثل الابن الشاطر يرمز إلى استرداد الإنسان المتردد في الإيمان. يقولون أن الابن كان دائماً ابناً، ومهما كانت الفترة التي كان فيها وسط الخنازير فقد ظل ابناً، إلى أن تاب أخيراً ورجِع إلى أبيه. لم يكن الرب يسوع يتكلم عن عقيدة الضمان الأبدي في لوقا ١٥. شخصياً ليس لدي أي شك في كتابية هذه العقيدة، ولكن في لوقا ١٥نقرأ أن الكتبة والفريسيين تذمروا وقالوا: "هذا الإنسان يستقبل خطأة، ويأكل معهم"، وأظهر يسوع أن في ذلك مجداً له، لأنه جاء يبحث عن الخطأة ويُخلّصهم. ثم أعطى مثل الخروف الضال ذي الجوانب الثلاثة وذهاب الراعي للبحث عنه؛ الدرهم الضائع والمرأة التي تبحث عنه، والابن الضال وترحيب الأب به عندما عاد. كل هذه قصد الرب بها أن يُشير إلى اهتمام السماء بالخطاة التائبين. ما الذي يقوله؟ "هَكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي السَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارّاً لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ"(لوقا ١٥: ٧). لم يكن يتحدث عن استعادة المتردد، بل خلاص الخاطئ.

حسناً، لقد كان فكر الكالفينيين المتطرفين منشغلاً جداً بأحد جوانب عقيدة الضمان الأبدي للمؤمن لدرجة أنهم كانوا يعتقدون أن المسيح حتى في لوقا ٥ كان يتناول تلك القضية.

أصدقاؤنا الأرمن الأعزاء، الذين يأخذون الجانب المتطرف الآخر، يخشون أن من يخلص، إن لم يكن شديد الحذر، قد يتعرض لأمر يُدمر علاقته مع الله، ولذلك يقولون: "ألا ترون، إن كان الغصن لا يحمل ثمراً فإنه يُقطع من الكرمة"، ولذلك يُصورون المسيحي على أنه ضال هالك إلى الأبد إن لم يحمل ثماراً. من جهة كان الرب يظهر نعمة الله نحو الخطأة، وفي هذه الحالة هنا كان يتكلم عن أهمية الشركة مع القديسين، وحمل الثمار كنتيجة لهذه الشركة. ولذلك يقول الرب يسوع: "أَنَا الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَأَبِي الْكَرَّامُ". الكرمة هو في الأعلى هناك، ولكننا على ارتباط بذاك الذي في السماء.

إنه يقول: "كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لاَ يَأْتِي بِثَمَرٍ يَنْزِعُهُ وَكُلُّ مَا يَأْتِي بِثَمَرٍ يُنَقِّيهِ لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ". "بِثَمَرٍ" و" بِثَمَرٍ أَكْثَرَ". إن كنا أغصاناً في الكرمة الحية، إن كنا قد آمنا بالرب يسوع المسيح مُخلِّصاً، فعندها هناك أمر عظيم نُترك لأجله في هذا العالم ألا وهو أن نحمل ثماراً لمجد الله. ولكن قد يقول قائل: "ما الذي تقصده بالثمار؟" تخطر في بالنا معانٍ كثيرة لهذه الكلمة. في غلاطية ٥: ٢٢ نرى ثمار الشخصية المسيحية التي يضعها الروح القدس في حياة المؤمن: مَحَبَّةٌ، فَرَحٌ، سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ، لُطْفٌ، صَلاَحٌ، إِيمَانٌ. كل هذه تُشكل ثماراً لمجد الآب. هل تُقر بأنك قد خلُصت بالإيمان بالرب يسوع؟ هل ثمر الروح القدس بادٍ في حياتكم؟ سيكون الأمر كذلك إن عشتم في شركة مع المسيح. ولكن إن تبدى عكس ذلك، فكونوا على ثقة بأنكم، ولو كنتم قد وضعتم على المسيح رجاء خلاصكم، فإنكم لا تعيشون في شركة مع الله. إن لم تكن هناك محبة بل قسوة ومكر وحقد، إن لم يكن هناك فرح بل كآبة، إن لم يكن هناك سلام بل اضطراب، إن لم يكن هناك طول أناة بل تململ، إن لم يكن هناك لطف بل فظاظة، إن لم يكن هناك صلاح بل شر أخلاقي، إن لم يكن هناك إيمان بل قلق ونقص بالثقة، إن لم يكن هناك حلم بل تكبر وتعجرف، إن لم يكن هناك ضبط نفس بل استسلام للَّذات ورغبات الجسد- فعندها تفهمون أنه مهما كان ما تعترفون به، فإنكم لا تعيشون في شركة مع الله. لأنه إن كنا نعيش في شركة معه ونسلك بقوة الروح القدس، فإن ثمر الروح القدس يتجلى في حياتنا.

ولكن عندها، الثمر سيكون أيضاً نتيجة الخدمة. نسمع أحياناً أن علينا أن نميز بين الثمر والخدمة، وهذا صحيح بمعنى ما من معاني الكلمة، ولكن إن كنتم تذكرون فإن الرسول بولس يكتب إلى أهل رومية قائلاً: "أود أن أزوركم ليكون لي بعض ثمار بينكم أيضاً". إنه يفكر في ربح النفوس الثمينة وبناء المؤمنين، وهذا أيضاً ثمر لأجل مجد الله. بالتأكيد، إن خلصنا فإن علينا أن نهتم بهذا الجانب من الثمار. علينا أن نسعى بذلك لتمجيد الله لكيما نحظى بفرح ربح الآخرين للرب يسوع المسيح. الخدمة شيء والثمر شيء لآخر، ولكن نتائج الخدمة المخلصة الصادقة ستكون ثماراً ثمينة تبقى إلى ذلك اليوم عندما سنقف أمام كرسي دينونة المسيح. كأغصان في الكرمة، نحن مسؤولون عن أن نأتي بثمر. علينا أن نعيش بحسب حالتنا أو وضعنا الحقيقي. علينا أن نكون حريصين بخصوص الاعتراف الذي نقدمه إن لم تكن حياتنا تدعم ما نعترف به. إن سمعنا الناس نتكلم عن خلاصنا بالنعمة، ولم يكن هناك دليل على ذلك، فإن الناس سيلقون بنا إلى النار ونحترق، فيما يختص بشهادتنا.

يقول أحدهم: "أرجو بالنعمة أن أحمل بعض الثمر لله، ولكنه يبدو ضئيلاً جداً". نعم، كلما تواضعنا أكثر، كلما أدركنا ذلك أكثر، وكلما شعرنا بأن الثمار ضئيلة. دعونا نتشجع من قول الرب يسوع: "كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لاَ يَأْتِي بِثَمَرٍ يَنْزِعُهُ وَكُلُّ مَا يَأْتِي بِثَمَرٍ يُنَقِّيهِ لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ". الآب هو الكرام، وهو دائما يُعنى بأغصان الكرمة الحيّة، وإن رأى بعض الثمار يقول: "هذا حسنٌ جداً، حتى الآن، ولكني أريد المزيد من الثمار أيضاً". إنه يُقلم ويطهر برذاذ الأسى والأسف العميق والحزن، لكي يجتذب قلوبنا إليه فتزداد ثمارنا لمجده.

أفترض أنه إن كان الغصن شيئاً مدركاً، وهو شيء حي، وإذ يدنو الكرام إليه بشفرات المجزّة ليقص ويقطع، ثم لينشر الرذاذ باستخدام مادة سامة ما لكيما تهلك كل أنواع الشر المنغرسة في النفس، فعندها يقول الغصن: "يا عزيزي، صارت المسؤولية عليَّ الآن. كم سأعاني، وكم سأتألم، وكم سأتعذب بسبب التقليم، وكم من خطر سأتعرض له من وطأة الرش!" ولكن الغصن سيتعلم بمرور الوقت أن ذلك كان لأجل بركة متزايدة وثمار أفضل.

هكذا هي الحال في كل تعاملات الله معنا. يجب أن لا نتثبط إذا ما دُعينا للمرور بمحن قاسية جداً. أنتم قلتم أنكم تريدون أن تسلكوا مع الله، أنتم أردتم أن تعيشوا لأجله، أنتم أردتم أن يتعظم المسيح في خبراتكم، سواء في الحياة أو في الموت. لعل الله يعطيكم خبرات معينة غريبة ومريرة جداً لكيما تتحقق أمنيتكم هذه.

"سألت الله أن أنمو
في الحياة والإيمان وكل نعمة،
وأن أعرف المزيد من خلاصه
وأن أطلب وجهه بجد أكبر.
هو الذي علمني أن أصلي هكذا،
وأثق أنه يستجيب لصلواتي،
ولكنها كانت بطريقة عجيبة
إذ كنت على وشك أن أيأس".

إننا نسمع صوت روح الله يقول: "أيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لاَ تَسْتَغْرِبُوا الْبَلْوَى الْمُحْرِقَةَ الَّتِي بَيْنَكُمْ حَادِثَةٌ، لأَجْلِ امْتِحَانِكُمْ، كَأَنَّهُ أَصَابَكُمْ أَمْرٌ غَرِيبٌ، بَلْ كَمَا اشْتَرَكْتُمْ فِي آلاَمِ الْمَسِيحِ افْرَحُوا". إنه أمر ممتع جداً، إنه أمر لافت للانتباه، أن الله في هذا العالم يبدو وكأنه يعامل أفضل أصدقاءه بأسوأ طريقة، وفوق ذلك فإنه يعامل ابنه أسوأ من الجميع. ولذلك عندما نضطر للمرور بمحنة شديدة، مياه غائرة وأحزان كثيرة، فهذا لا يكون دليلاً على أنه لا يحبنا، أو أنه لا يُعنى بنا أو يهتم لأمرنا. لقد أحب ابنه- أليس كذلك؟- أكثر مما أحب أي إنسان آخر في نفس تلك اللحظة التي صرخ فيها يسوع: "إلهي إلهي لماذا تركتني؟" ولكن الثمر الثمين كان:

"موته من الألم والأسى،
كما ولادته،
لا يعوزها مجدٌ،
ولا جلال من الأرض".

وهكذا يُقلّم الآب ويُطهر الأغصان في الكرمة الحية لكي نأتي بمزيد من الثمار. قال يسوع: "أَنْتُمُ الآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ الْكلاَمِ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ". لقد كان يخاطب تلاميذه. لقد كانوا أنقياء بغسل الماء بالكلمة، من خلال غسل التجديد والتجدد بالروح القدس. كانوا أنقياء، وتوجب عليهم الآن أن يثبتوا فيه، مُطهرين بالكلمة، مدركين أهمية الشركة. "اُثْبُتُوا فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ". "الثبات" (في المسيح) يعني "الشركة". "كَمَا أَنَّ الْغُصْنَ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَأْتِيَ بِثَمَرٍ مِنْ ذَاتِهِ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْكَرْمَةِ كَذَلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً إِنْ لَمْ تَثْبُتُوا فِيَّ".

كم ننسى ذلك! يخرج الكارز إلى جمهوره ليواجه جمهوره الذين طالما كرز لهم عبر السنين، وغالباً من نفس المقطع الكتابي. يخرج بثقة بالنفس، متناسياً الحاجة إلى الصلاة، وأن يكون في حضرة اللهن لبعض الوقت وهو يسبر أغوار قلبه لئلا يكون هناك أي شيء أو أي تجذر للكراهية والمرارة قد يعيق عمل روح قدس الله. يهرع إلى المنصة ويلقي عظته- ولكن لا يحدث شيء. لا شيء يحدث لأنه لم يكن مقيماً عن وعي في الكرمة الحية.

لعلكم سمعتم قصة كارز شاب دُعي ليرعى كنيسته الأولى. كان قد خرج لتوه من كلية اللاهوت وكانت لديه ثقة كبيرة بقدرته الذاتية. كان قد تخرج بدرجة شرف، وكان الجميع يشعرون بأنه سيكون بمستوى هنري وارد بيشر. راح الناس ينظرون إليه وهو يدخل إلى منبر الوعظ موحياً بشعور العظمة لديه. فقرأ النص الإنجيلي، وفجأة طارت العظة من رأسه. نسي كل شيء. فقرأ النص من جديد، ومع ذلك لم يستطع أن يتذكر العظة التي كان ينوي تقديمها. وحاول للمرة الثالثة قائلاً: "أريد أن أقرأ النص مرة أخرى"، آملاً أن يتذكر العظة. ولكن دون جدوى، فنظر إلى الجمهور وقال: "أنا آسف، ولكني لا أستطيع أن أتكلم إليكم هذا الصباح". ونزل عن الدرج ورأسه محني وخطواته متعثرة. اقترب موظف في الكنيسة كبير في السن منه وقال له: "يا بني، لو صعِدت إلى المنبر كما نزلت، فربما نزلت كما صعِدت".

أترون، إنه لمن السهل بمكان أن نكون واثقين بأنفسنا وأن نعتقد، وبما أننا قد فعلنا الأمر قبلاً، أنه يمكننا أن نفعله من جديد، وهكذا ننسى الحاجة إلى السكنى الدائمة، وأن نكون دائماً أمام الله في الشركة. والحال نفسه هو في كل تفصيل من تفاصيل الحياة المسيحية. لقد تمتعنا ببركة ويوم انتصار عظيم، وبقوة ذلك نحاول أن نحيا في اليوم التالي، متناسين في زحمة الأمور الحاجة الماسة لأن نكون أمام الله، لأن نمضي وقتاً هادئاً أمامه. ثم يأتي الفشل والإخفاق والتحطم، فينكسر فؤادنا ونتساءل عن ماهية الأمر. إلا أن يسوع يقدم لنا الجواب: "كَمَا أَنَّ الْغُصْنَ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَأْتِيَ بِثَمَرٍ مِنْ ذَاتِهِ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْكَرْمَةِ كَذَلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً إِنْ لَمْ تَثْبُتُوا فِيَّ. أَنَا الْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ. الَّذِي يَثْبُتُ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هَذَا يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ".

لاحظوا الترتيب في الآية ٢: "كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لاَ يَأْتِي بِثَمَرٍ"، ثم في الجزء التالي: "يُنَقِّيهِ لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ". وانظر الآية ٥: "الَّذِي يَثْبُتُ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هَذَا يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ". إذاً لدينا "ثمر"، "ثَمَرٍ أَكْثَرَ"، و"ثَمَرٍ كَثِيرٍ".

لطالما عرفنا أناساً ساروا مع الله في الأيام الأولى، وعاشوا متكلين على الرب، وتمتعوا بالشركة والصحبة معه بشكل رائع، مظهرين ثمر الحياة الروحية، فاستخدمهم الله، وربحوا نفوساً للمسيح، وهكذا قدموا ثماراً لحياة تُمجد الآب. ثم يحدث شيئاً ما. لا أحد يعرف ما يكون قد حدث. ففي الظاهر تكون الحياة على ما يرام، والعظات تكون واضحة ومؤثرة، ولكن فجأة لا يعود هناك نكهة للمسيح فيها، ولا يعود هناك ما يدل على السير في الشركة مع الرب؛ ولا نجد قوة ولا بركة. إن إرادة الله هي أن تزداد الثمار لا أن تقل مع مرور السنين. ويقول الرب عن القديسين القدماء الذين ساروا مع الله عبر السنين في المزامير: "أَيْضاً يُثْمِرُونَ فِي الشَّيْبَةِ". ولكن هذا يحدث فقط إذا ما تابعنا المسير باتضاع أمام الله.

يا له من أمر محبب أن نرى قديس الله، رجل أو امرأة ينمو في النعمة. هناك بعض من الناس الذين يكبرون في السن ويبدو أنهم يتخذون من تقدم العمر وأمراضه وأسقامه مبرراً لسرعة الغضب والنقد اللاذع وكل تلك الأشياء التي تجعل التعامل معهم أمراً صعباً. ولكن يا له من أمر جميل أن ترى الناس ينزلون إلى الوادي وينظرون إلى ما وراء النهر نحو المدينة السماوية ومجد السماء مشرق في وجوههم، والإيمان بالله يتملّك قلوبهم، ونعمة المسيح متجلية في حياتهم! كانت حياتهم حافلة بحمل الثمار. "ثمر"، "ثمر أكثر"، "ثمر كثير".

إن أخفق المرء هنا، إن لم يكن هناك شركة، إن لم تُحفظ الصداقة والعلاقة مع الرب، إن أُهملت كلمة الله، فإن الشهادة ساعتئذٍ تكون بلا قيمة. "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَثْبُتُ فِيَّ يُطْرَحُ خَارِجاً كَالْغُصْنِ فَيَجِفُّ وَيَجْمَعُونَهُ وَيَطْرَحُونَهُ فِي النَّارِ فَيَحْتَرِقُ". الناس يتجاهلون بالكامل شهادة أولئك الذين يعترفون بأنهم أتباع المسيح ولكن لا يعيشون في شركة مع الله، ولا يتجلى فيهم روح المسيح. فشهادتهم تصبح بلا أهمية.

كنت أحاول أن أتحدث إلى فتى عزيز نشأ في عائلة أفترض أنها مسيحية، فقلت له: "أليس والدك مسيحياً؟" فأجاب بحركة تهكم من شفتيه قائلاً: "هو يقول أنه كذلك؛ ولكني لا أعتقد ذلك". لقد كان واضحاً أن شهادة ذلك الآب لم تكن ذات قيمة بنظر ابنه. لطالما يحاول الناس أن يقولوا شيئاً لأجل المسيح، تدفعهم الرغبة لمساعدة نفس بائسة محتاجة، يريدون أن يقولوا الكلمة الصائبة، ولكن إن لم تكن حياتهم منسجمة مع الكلمة، فالحال يكون كما قال إميرسون مرة: "ما تقوله صوته أعلى مما أستطيع أن أسمع".

الحياة التي تُعاش في شِركة مع الله تعطي قوة للرسالة. "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَثْبُتُ فِيَّ يُطْرَحُ خَارِجاً كَالْغُصْنِ"، والناس يزدرون بهكذا اعتراف ويرفضون شهادته.

من جهة أخرى، "إِنْ ثَبَتُّمْ فِيَّ وَثَبَتَ كلاَمِي فِيكُمْ"- وهنا السر- "يَثَبَتَ كلاَمِي فِيكُمْ". من أين نحصل على تلك الكلمات؟ من هنا تماماً من كتاب الله المبارك. وهكذا فالمؤمن الذي يمكث في المسيح هو الذي يتغذى على الكلمة، وليس لديه حقائق نظرية فقط. بعض الناس، إذا ما انفصم عنقهم، يفقدون كل الحق عن الله؛ ولكن آخرين تنفصم رؤوسهم وتبقى الحقيقة في القلب.

"إِنْ ثَبَتُّمْ فِيَّ وَثَبَتَ كلاَمِي فِيكُمْ تَطْلُبُونَ مَا تُرِيدُونَ فَيَكُونُ لَكُمْ". فها هنا إذاً سرّ الصلاة المستجابة. لماذا نسأل الله أشياء كثيرة ولا يستجيب لنا؟ لماذا لا تصل الكثير من صلواتنا إلى السماء؟ حسنٌ، ذلك لأننا لا نمكث في المسيح. لم يعد الله أبداً بأن يستجيب لصلوات أولئك الذين هم خارج الشركة.

"بِهَذَا يَتَمَجَّدُ أَبِي أَنْ تَأْتُوا بِثَمَرٍ كَثِيرٍ فَتَكُونُونَ تلاَمِيذِي". أفلا نجابه قلوبنا ونتساءل: "هل أمكث أنا فعلاً في المسيح؟ هل أعي وأدرك ما يمنع الشركة مع الرب، وما الذي يطرأ فيجعل صلاتي صعب سماعها، وكأن السماء تصبح نحاساً صلداً؟" إن كان كذلك، فليعطنا الله النعمة لنعقُل ذلك، ولا نهتم بأي شيء يعيق علاقتنا معه فنكون على استعداد أن نقتلع عيننا أو يدنا إن اقتضى الأمر، فلا يبقى في حياتنا ما يعيق الشركة مع المسيح؛ وبذلك نحمل ثمراً كثيراً لمجد الآب.