الخطاب ٥٠

السكنى في المحبة

"كَمَا أَحَبَّنِي الآبُ كَذَلِكَ أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا. اُثْبُتُوا فِي مَحَبَّتِي. إِنْ حَفِظْتُمْ وَصَايَايَ تَثْبُتُونَ فِي مَحَبَّتِي كَمَا أَنِّي أَنَا قَدْ حَفِظْتُ وَصَايَا أَبِي وَأَثْبُتُ فِي مَحَبَّتِهِ. كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا لِكَيْ يَثْبُتَ فَرَحِي فِيكُمْ وَيُكْمَلَ فَرَحُكُمْ. «هَذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ. لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ. أَنْتُمْ أَحِبَّائِي إِنْ فَعَلْتُمْ مَا أُوصِيكُمْ بِهِ. لاَ أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيداً لأَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ سَيِّدُهُ لَكِنِّي قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ لأَنِّي أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي. لَيْسَ أَنْتُمُ اخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ لِكَيْ يُعْطِيَكُمُ الآبُ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ بِاسْمِي. بِهَذَا أُوصِيكُمْ حَتَّى تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً" (يوحنا ١٥: ٩- ١٧).

لقد أعطانا الروح القدس امتيازاً عظيماً بأن سمح بتدوين هذا الخطاب الرائع الأخير لربنا يسوع المسيح وحفِظه على مدى القرون والعصور، لكيما نستمع اليوم إلى الأمور العظيمة الحانية المباركة التي قالها لتلاميذه قبيل خروجه إلى الجثسيماني ومن هناك إلى قاعة المحاكمة فالصليب.

هل فكرتم يوماً في عظمة هذا الأمر أنه بعد مضي أكثر من أربعين أو خمسين سنة على الرسول يوحنا نجده يكتب سرداً كمثل هذا بكل تفصيل. هذه الكلمات نطق بها ربنا حوالي العام ٣٠ ميلادية، ومن المفترض أن يوحنا قد كتب هذا الإنجيل في مكان ما خلال العقد الثامن أو التاسع من القرن الأول في العهد المسيحي عندما كان شيخاً طاعناً في السن يعيش في أفسس. لقد ذكرت قبلاً أن أحد آباء الكنيسة الأوائل يخبرنا أن يوحنا كان مراهقاً عندما دعاه يسوع، ولذلك فإننا لا ننذهل عندما نعلم بأنه عاش مطولاً أكثر من بقية التلاميذ. فبطرس، على سبيل المثال، أمضى حوالي ثلاثين أو أربعين سنة بعد المسيح عندما كتب يوحنا هذا الإنجيل. وبولس، الذي لم يعرف يسوع على الأرض، مات شهيداً قبل سنة أو سنتين. ونعلم أن متى كان قد قُتل برمح في سكيثيا، وتوما قُتل في الهند حيث كان قد مضى ليكرز بالمسيح. وكل بقية الجماعة المسيحية كانوا قد ذهبوا إلى المسيح في السماء منذ فترة طويلة. كان يوحنا هو الوحيد المتبقي، وأمكنه أن يرجع بذاكرته إلى الوراء وأن يفكر في ذلك الزمن عندما كان يرافق الرب يسوع المسيح هنا على الأرض. وبحث من الروح القدس جلس وكتب هذا التدوين الرائع.

يقول: "وَﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً". يعطينا يوحنا تفاصيل عن محادثات المخلص لا نجدها في أي مكان آخر؛ فنرى حواره الطويل مع نيقوديموس، ومع المرأة عند البئر ومع شخصيات أخرى كثيرة. والآن في هذا الأصحاح الرائع، ١٣ إلى ١٦، لدينا خطابه الأخير، وصلاته كرئيس كهنة في الأصحاح ١٧، جميعها مدونة بتفاصيل مذهلة كتبها يوحنا بعد انقضاء حوالي نصف قرن من حدوثها. هل تساءلتم يوماً: "كيف أمكنه ذلك؟" إننا في حاجة لأن نتذكر كلمات الرب نفسه: "وَأَمَّا الْمُعَزِّي الرُّوحُ الْقُدُسُ الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ". وهكذا فعندما جلس يوحنا ليكتب هذا الإنجيل، لا شك أن هذه الأشياء التي كانت قد صارت باهتة بمرور السنين قد حضرت إلى ذهنه بقوة بإرشاد روح الله، الذي أمكنه أن يعيد صياغتها تماماً كما نطق بها الرب يسوع.

لقد سمح لنا هذا الإنجيل بأن نتخيل أننا جالسون في تلك العلية مع الرب وتلاميذه وأننا نطأ معه إلى بستان الآلام. وهنا نسمع ما يكشفه لنا من أمور مباركة تنبع من قلبه المحب الحنون. لاحظوا الآيات ٩ و١٠، التي ظهرت فيها محبة المخلّص لهم. إنه يقول: "كَمَا أَحَبَّنِي الآبُ كَذَلِكَ أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا. اُثْبُتُوا فِي مَحَبَّتِي. إِنْ حَفِظْتُمْ وَصَايَايَ تَثْبُتُونَ فِي مَحَبَّتِي كَمَا أَنِّي أَنَا قَدْ حَفِظْتُ وَصَايَا أَبِي وَأَثْبُتُ فِي مَحَبَّتِهِ". يقول يسوع: "كَمَا أَحَبَّنِي الآبُ كَذَلِكَ أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا". ونجد الجانب الآخر في الأصحاح ١٧ عندما يقول: "وَلِيَعْلَمَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي". الله، الآب، يحبنا- نحن المؤمنين بالرب يسوع- كما يحب ابنه. الرب يسوع المسيح يحبنا كما يحب أباه. يا لها من حلقة رائعة من الحب!

"في تلك الحلقة من حنو الله،
حلقة محبة الآب؛
الجميع يسكن ويستقر إلى الأبد،
وكل شيء بملء كمال العلا".

أن تتكلم عن المحبة شيء وأن تظهرها شيء آخر. قد أقول أني أحب أمي، ومع ذلك أرفض أن أفعل أي شيء من أجلها عندما تكون مريضة. هكذا محبة ليس لها كبير قيمة. أنا أب، وأقول إني أحب أولادي، ولكني قد أكون مأخوذاً بأمور الدنيا كثيراً حتى أعجز عن رفع يدي لتقديم المساعدة لهم عندما يحتاجونها. المحبة تتجلى بعمل خير فعال وبالطاعة. يقول الرب يسوع: "إِنْ حَفِظْتُمْ وَصَايَايَ تَثْبُتُونَ فِي مَحَبَّتِي"، أي نثبت بشكل واع مدرك في معنى حبه. لقد كانت مسرة قلبه أن يصنع مشيئة الآب. وإنها لمسرة لقلوبنا أن نصنع إرادة الرب يسوع المسيح إن كنا فعلاً نحبه.

لقد سمعناه لتونا يقول: "سلامي أعطيكم". والآن في الآية ١١، يتكلم عن مشاركة الفرح معنا. "كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا لِكَيْ يَثْبُتَ فَرَحِي فِيكُمْ وَيُكْمَلَ فَرَحُكُمْ". نعلم من الكتاب المقدس أن فرح الرب هو قوتنا. الفرح هو أكثر من مجرد سلام. الفرح هو سلام يطفح. الرب يريدنا أن نكون أناساً سعداء فرحين. هو نفسه كان هكذا. صحيح أنه كان المتألم، رجل الأوجاع، ولكننا لا نشعر أبداً، خلال قراءتنا لأناجيل متى ومرقس ولوقا ويوحنا، أننا نقرأ عن رجل حزين، بل في كل جزء نقرأ عن ذاك الذي كان ممتلئ القلب بالفرح. مهما كانت الأحوال من الخارج أو كان يستطيع أن يجد فرحه في الآب، وفي نفس الوقت الذي اضطُر إلى إدانة المدن الذي أنجز فيها معظم أعمال اقتداره، نقرأ: "في ذلك الوقت قال يسوع: «أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال»". إنه يقول، بمعنى آخر: "إن أقمتم فيلا الشركة معي، وجعلتم من هدف حياتكم أن تمجدونني، فإنكم ستشاركونني فرحي؛ والفرح نفسه الذي لي يكون لكم، لكي يكون فرحكم كاملاً". لعلكم تقولون: "أي وصية يقصد؟" أي وصية؟ "هذه وصيتي، أن يحب بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم". أترون، إن حفظتم تلك الوصية، فكل شيء آخر سيكون على ما يرام، سوف لن تُحزِنوا قلب الله إن أحببتم بعضكم بعضاً. المحبة هي تحقيق الناموس. فليتنا نفحص أنفسنا أكثر. ليتنا نسأل أنفسنا: "هل أفعل ذلك الآن لأني أحب أخي؟ هل سأقول  ذلك لأني أحب أخي، أم أنني أقوم بالأشياء على هواي ولو تضاربت مع المحبة؟" المحبة تستر خطايا كثيرة كما يقول لنا الكتاب. إن كنت أحب أخي، فلن أريد له الأذى، ولن أخذله أو أجلب العار له. حتى إذا ما كان مذنباً وارتكب الخطأ، يجب أن أذهب إليه وأن أسعى لاسترجاعه بمحبة حانية. إننا ننسى ذلك كثيراً، ونتعامل مع بعضنا البعض بدون اهتمام، لو تعامل الله معنا كما نتعامل مع بعضنا البعض، فسيكون أمراً قاسياً صعباً علينا. ولكن يا لغزارة محبته! المحبة التي تستر، المحبة التي تعنى بنا بالنعمة. هل فكرتم يوماً أنه لو سُلط الضوء على ما تفعلون في الخفاء فستكونون عاجزين عن مواجهة العالم؟ أشياء كثيرة عليكم أن تذهبوا بها إلى الرب، وهو لطالما سترها. يا لرحمته! هل نتعامل مع إخوتنا بهذه الطريقة؟ بالمحبة التي تستر؟ "هَذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ. لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ". هنا إذاً يكمن الاختبار الأعظم لمحبته. يقول يوحنا الرسول: "علينا أن نضع حياتنا لأجل الأخوة". إن واجبنا أن نمضي في المحبة حتى لدرجة أن نضحي بأنفسنا لأجلهم. فهل نسلك على هذا الشكل؟ هذا ما فعله يسوع. وأمكن لبولس أن يقول: "أحيا في الإيمان، إيمان ابن الله، الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي" (غلا ٢: ٢٠).

قبل سنوات كثيرة كان مرسَل في الصين منشغل بالعمل على ترجمة العهد الجديد إلى اللغات الصينية. كان لديه تلميذ متفوق يساعده، وهو كونفوشيوسي لم يسمع بالمسيحية على الإطلاق إلى أن أشركه هذا المُرسَل في العمل على الترجمة. كان يجلس معه يوماً فيوماً، ومعاً كانا يمران على العهد الجديد صفحة صفحة وآية آية. كان التلميذ الصيني يقترح الكلمة الصينية المناسبة ليجعل المعنى واضحاً. كان المرسَل شخصاً مجتهداً وتواقاً لإنجاز ترجمة رائعة. كان يعتقد أن ثمة أمر يجب ألا يفعله، ألا وهو أن يتحدث بالدين إلى مساعده. ولذلك كان منتبهاً جداً، ولم يقل أي كلمة للرجل عن حاجته إلى المسيح وخلاص نفسه. ولكن عندما انتهيا من الترجمة في نهاية الأمر، رأى أن عليه أن يقول شيئاً. فقال: "لقد قدمت لي عوناً كبيراً ما كنت لأستطيع إنجاز العمل لولاك، والآن أود أن أسألك، إذ قد أنهينا العهد الجديد، ألا تروق لك المسيحية الجميلة؟ ألا تود أن تكون مسيحياً؟" نظر الدارس إليه وقال: "نعم، إنها تروق لي، إنها أروع نظام أخلاقي وفلسفي عرفته. أعتقد أني لو رأيت مسيحياً ولو لمرة لكنت صرت مهتماً بأن أصير مسيحياً". فقال المرسَل: "ولكني مسيحي!" فقال الدارس الصيني: "أنت مسيحي؟ لا. عذراً، لا أريد أن أجرحك، ولكني رأيتك وأصغيت إليك طوال الوقت. أنت لست مسيحي. لأنه إن كنت أفهم المسيحية فهماً صحيحاً، فإني أظن أن المسيحي هو تابع ليسوع، ويسوع يقول: إني أعطيكم وصية جديدة، أن يحب بعضكم بعضاً. ولكني استمعت إليك تتكلم عن الآخرين الذين ما كانوا حاضرين، فتستغيبهم وتقول عنهم أشياء سيئة. أنت لست بمسيحي. ثم لاحظت أيضاً أن المسيحية تعلّم الثقة المطلقة، وترجمت لك مقطعاً يقول: "يملأ إلهي كل احتياجكم بحسب غناه في المجد في المسيح يسوع"، فالمطلوب منك أن تثق بالله وأن لا تخاف، ولكنك لم تفعل كذلك. فإن تأخر وصول الحوالة المالية إليك تصبح قلقاً بشكل مخيف وتتساءل عما ستفعل". وتابع يسرد له عدداً من الاشياء على هذا النحو، وانتهى بالقول: "ومن هذا أستنتج أنك لست مسيحياً. وأعتقد أني لو رأيت مسيحياً لوددت أن أكون مثله".

يا للمرسَل البائس المحطم الفؤاد! راح يبكي أمام الرب قائلاً: "آهٍ، لقد كنت مهملاً". وجثى على ركبتيه وطلب المغفرة عن برودة إيمانه والإهمال. ذهب التلميذ وهو يقول: "أتساءل، في نهاية الأمر إن لم أكن قد رأيت مسيحياً". كما ترون، المسيحيون ليسوا كاملين كما يتوقع العالم، ولكن علينا أن ننمو أكثر لنشابه معلمنا كل يوم.

"لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ. أَنْتُمْ أَحِبَّائِي إِنْ فَعَلْتُمْ مَا أُوصِيكُمْ بِهِ". هكذا يقول يسوع. نحن لا نصبح مسيحيين بأن ننفذ وصاياه، ولكننا نصبح أصدقاءه بشكل جلي بإطاعة كلامه. إننا نظهر أننا أصدقاء حقاً للمسيح إن سلكنا في الطاعة.

"لاَ أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيداً لأَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ سَيِّدُهُ لَكِنِّي قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ لأَنِّي أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي". يريد يسوع أن يقول: "أريد أن أخذكم في عهدتي وأجعلكم موضع ثقتي". "قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ لأَنِّي أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي". أنتم تعرفون كيف تشعرون تجاه أصدقائكم. معظمنا ليس لديه الكثير من الأصدقاء. لدينا بضعة أناس نسكب ما في قلوبنا أمامهم، ونتحدث إليهم وعنهم كأصدقاء لنا. لا نحب أن نشارك أسرارنا مع أي إنسان. ولكن عندما يكون لدينا صديق حقيقي حميم، فإننا نحب أن نتشارك أسرار قلبنا مع ذلك الصديق. ومن هنا يقول الرب يسوع المسيح: "أدعوكم أصدقائي". آهٍ، كم يفتح يسوع قلبه ويعرف أصدقاءه بالأشياء الثمينة التي لديه.

وأمر آخر، نحن نعطي لأصدقائنا امتيازات لا نعطيها للغرباء. ومن هنا يقول الرب: "أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي. لَيْسَ أَنْتُمُ اخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ لِكَيْ يُعْطِيَكُمُ الآبُ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ بِاسْمِي". بمعنى آخر، إنه يريد خاصته أن تدخل إلى شركة عميقة حميمة ورفقة معه لكي يذهب إلى الآب باسمه، وكأصدقاء يرفعون باسمه طلباتهم، وسيُسر الآب بسماعها وتحقيقها، لأنها تمجد اسم يسوع.

قد يكون لدي صديق وأكتب ملاحظة صغيرة أقول له فيها: "سأعرفك إلى فلان، الذي هو أيضاً صديق لي. إن كنت تستطيع أن تفعل كل ما يُرضي هذا الصديق، فإني سأعتبر كأنك قد فعلت هذا من أجلي". فيذهب ذلك الشخص إلى صديقي الذي يقول له: "أنا صديق له، وسأكون صديقاً لك". هذا ما يقوله يسوع. إنه يقصد القول: "أخبروا الآب أني أرسلتكم". كما ترون، فإن بعض الناس يعتقدون أن الصلاة باسم يسوع تعني ختم الصلاة بالقول: "هذه الأشياء نطلبها باسم الرب يسوع المسيح وكرمى له". إن كنت غير مخلص فليس مسموحاً لك أن تذهب إلى الله باسم يسوع. وإن كنت في شركة مع الله فلست مخولاً لأن تذهب إلى الله على هذا الشكل. الناس الذين يعيشون في أنانية يعيشون دنيوياً فلا يسمح لهم بأن يذهبوا إلى الله على هذا الشكل. إن مكثتم فيه يمكنكم أن تذهبوا إلى الاب بسلطة ابنه وهو سيقود طلباتكم في الصلاة. إنه يُسر بأن يجيب صلواتكم، إذ بإجابته لها يظهر محبته لابنه المبارك وثقته به.

ولكن هناك شيئاً في الآية ١٦ يجب ألا أغفله. ما الذي يقصده؟ "لَيْسَ أَنْتُمُ اخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ". ألم يختاروه؟ ألم تختار المسيح؟ نعم، ولكن ليس قبل أن يختاركم.

"لست أنا الذي اخترتك،
فلا يمكن هذا يا رب؛
فهذا القلب سيبقى رافضاً لك،
ولكن أنت الذي اخترتني.
إنه نفس الحب الذي نثرته عند الوليمة،
ذاك أُخِذت به برفقٍ،
وإلا لبقيت رافضاً لك،
وهلكت في خطيئتي".

قبل أن يميل قلبي إلى المسيح، لمسني الرب بروح قدسه المبارك، وأخيراً عندما ركعت أمامه وأتيت إليه في توبة، وصرخت إليه في خزي أن: "خلصني يا رب وإلا فإني هالك"، أخذني إليه وجعلني خاصته.

ومن ناحية الخدمة، إنه هو الذي اختارني لهذه الخدمة أو لذاك العمل الخاص. وهو الذي يختار مجال خدمتي، سواء كنت في الوطن أو في الخارج. أنتم تذكرون ذلك الرجل الذي أراد أن يتبع المعلم، كيف أن الرب قال له: "لا. بل اذهب إلى بيتك، وأظهر كم عمل الرب معك من أمور عظيمة". يمكننا أن نمجد المسيح في أي مكان نكون فيه وعلينا أن ندرك أنه اختار لنا تلك المهمة لنؤديها. "لَيْسَ أَنْتُمُ اخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ وَأَقَمْتُكُمْ".

يقلق كثيرون من ناحية الإقامة (الرسامة). يسأل البعض: "هل يحق لمن ليس مرسوماً أن يعظ أو يكرز؟" في هذا السفر (إنجيل يوحنا) لا نقرأ عن أناس يُرسمون ليكرزوا بالإنجيل. لا نسمع أي ارتباط لكلمة "سيامة/ إقامة" بفرز أو تكريس فعلي لإنسان ما للكرازة بالإنجيل. ماذا عن الشهادة؟ ولا تستخدم كلمة "أقام" في حالة الشهادة. لعلكم تقولون: "ولكن هل نسيت بولس وبرنابا؟" لا. ذلك لأنهما كانا ما برحا يكرزان في أنطاكيا لزمن طويل قبل أن يضع الشيوخ عليهما الأيدي. لم يعطهما أحدٌ أي سلطان لخدمة سيامة لينطلقوا ويكرزوا بالإنجيل. كان هذا الحق مقصوراً على الرب يسوع. لقد قال: "أَنَا اخْتَرْتُكُمْ وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ". إن كلمة "أقمتكم" تعني "فرزتكم أو كرستكم". "اخترتكم". وحسنٌ لو نستطيع القول:

"المسيح، ابن الله، أرسلني،
خلال أراضي الظلمات؛
كرسني القدير
بيديه المثقوبتين".

تلك هي السيامة بحق. كل ما يمكن للشيوخ أو للآخرين أن يفعلوه هو أن يقروا أو أن يعترفوا بما يكون الله قد فعله لتوه. قال الرب فيما يخص بولس، عندما كان لا يزال شاول الطرسوسي: "هذا لي إناء مختار ليحمل اسمي أمام أمم وملوك وبني إسرائيل". وقال لبولس نفسه: "ظهرت لك لأنتخبك خادماً وشاهداً بما رأيت وبما سأظهر لك به". إن الرب نفسه هو الذي يصنع الخدام، هو الذي يعطي للناس أولاً أن يعرفوا المسيح مخلص لهم، ثم يكرسهم ويرسلهم للكرازة. "أَنَا اخْتَرْتُكُمْ وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ لِكَيْ يُعْطِيَكُمُ الآبُ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ بِاسْمِي".

ويختم هذا الجزء المعين بهذه الكلمات: "بِهَذَا أُوصِيكُمْ حَتَّى تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً". آهٍ، هذا هو الاختبار النهائي. المحبة هي الدليل على النعمة الفاعلة في نفوسنا. وهكذا يختتم المقطع كما بدأ.