الخطاب ٢١

خبز الحياة ١

"كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ الْحَيُّ وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ فَمَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي. هَذَا هُوَ الْخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. لَيْسَ كَمَا أَكَلَ آبَاؤُكُمُ الْمَنَّ وَمَاتُوا. مَنْ يَأْكُلْ هَذَا الْخُبْزَ فَإِنَّهُ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ». قَالَ هَذَا فِي الْمَجْمَعِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي كَفْرِنَاحُومَ. فَقَالَ كَثِيرُونَ مِنْ تلاَمِيذِهِ إِذْ سَمِعُوا: «إِنَّ هَذَا الْكلاَمَ صَعْبٌ! مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَسْمَعَهُ؟» فَعَلِمَ يَسُوعُ فِي نَفْسِهِ أَنَّ تلاَمِيذَهُ يَتَذَمَّرُونَ عَلَى هَذَا فَقَالَ لَهُمْ: «أَهَذَا يُعْثِرُكُمْ؟ فَإِنْ رَأَيْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ صَاعِداً إِلَى حَيْثُ كَانَ أَوَّلاً! اَلرُّوحُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي. أَمَّا الْجَسَدُ فلاَ يُفِيدُ شَيْئاً. اَلْكلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ وَلَكِنْ مِنْكُمْ قَوْمٌ لاَ يُؤْمِنُونَ». لأَنَّ يَسُوعَ مِنَ الْبَدْءِ عَلِمَ مَنْ هُمُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَمَنْ هُوَ الَّذِي يُسَلِّمُهُ. فَقَالَ: «لِهَذَا قُلْتُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يُعْطَ مِنْ أَبِي». مِنْ هَذَا الْوَقْتِ رَجَعَ كَثِيرُونَ مِنْ تلاَمِيذِهِ إِلَى الْوَرَاءِ وَلَمْ يَعُودُوا يَمْشُونَ مَعَهُ. فَقَالَ يَسُوعُ لِلاِثْنَيْ عَشَرَ: «أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً تُرِيدُونَ أَنْ تَمْضُوا؟» فَأَجَابَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «يَا رَبُّ إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كلاَمُ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ وَنَحْنُ قَدْ آمَنَّا وَعَرَفْنَا أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الْحَيِّ». أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «أَلَيْسَ أَنِّي أَنَا اخْتَرْتُكُمْ الاِثْنَيْ عَشَرَ؟ وَوَاحِدٌ مِنْكُمْ شَيْطَانٌ!» قَالَ عَنْ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ لأَنَّ هَذَا كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يُسَلِّمَهُ وَهُوَ وَاحِدٌ مِنَ الاِثْنَيْ عَشَرَ" (يوحنا ٦: ٥٧- ٧١).

هذا الأصحاح السادس من إنجيل يوحنا بآياته الواحدة والسبعين هو أطولُ أصحاحٍ في هذا السفر الرائع الذي يُخبرنا عن حياة وخدمة ربنا يسوع المسيح. لقد قال أحدهم أن إنجيل يوحنا هو أروع كتاب في العالم، وهذا الأصحاح هو أروعُ أصحاح فيه. سيكونُ مفيداً أكثر إن أخذنا كل الأصحاح دُفعةً واحدةً، ولكن هناكَ أفكار وأشياء كثيرة فيه تجعلُ من المستحيل أن ننهيه في خمسة وثلاثين أو أربعين دقيقة، ولذلكَ سنجزّئهُ إلى أقسام. ولكني أمل ألا يؤدي هذا إلى أن نخسر رؤية خلفية المشهد. كان يسوع قد أطعمَ الجموع وفي اليوم التالي جاءَ الناس إليه مشيرينَ إلى أنهم يودّونَ الحصول على وجبةٍ أخرى بنفس الطريقة. لقد قالوا: "أَيَّةَ آيَةٍ تَصْنَعُ لِنَرَى وَنُؤْمِنَ بِكَ؟ مَاذَا تَعْمَلُ؟ آبَاؤُنَا أَكَلُوا الْمَنَّ فِي الْبَرِّيَّةِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ خُبْزاً مِنَ السَّمَاءِ لِيَأْكُلُوا". لكن يسوع استغل المناسبة ليريهم أن هناك ما هو أهم بكثير من تأمين الطعام للجسد. نعلم من الكتاب أنه "لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللَّهِ".وكان هذا صحيحاً حتى بالنسبة لابن الإنسان الذي جاء ليقدّم حياته ذبيحة كفارية عن العالم. وفي هذا الأصحاح يكشف الرب يسوع عن سر تجسده. خبزُ الله هو الذي نزلَ من السماء. بمعنى آخر، لم يبدأ بالحياة فقط عندما حُمِلَ به في رحم العذراء مريم. لقد كان ابن الله السابق وجوده الذي صارَ إنساناً من أجل فدائنا. وبتجسده، أي الله والإنسان في شخص ربنا يسوع المسيح الرائع، يُقدمُ لنا بصورة خبز الله. ثم يتكلمُ عن شيءٍ أعمق، شيءٍ أكثر جديةٍ وأهمية. إنه يقول: "إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ" (يوحنا ٦: ٥٣). وبقوله هذا استخدم تعابير كانت لأول وهلة منفِّرة ومقزِّزة لبعض هؤلاء اليهود، إذ كانوا يعرفون أن الناموس كان يحرّم على الإنسان أكل الدم. ولكنه أعلن قائلاً أنه: "عليكم أن تأكلوا جسدي وتشربوا دمي إن كنتم تريدون أن تحيوا، وسأقيمكم في اليوم الأخير. إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدي وَتَشْرَبُوا دَميُ فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ على الإطلاق". وليس في هذا أي إشارة لما يُسمى سر العشاء الرباني. فما كان قد أسَّسَه بعد في ذلك الحين، ولكنه أشار إلى موته البدلي الكفاري عندما انفصل دمُه عن جسده، وأراق دمه من أجل الخطاة. وعلى الناس أن يأكلوا جسده ويشربوا دمه، بمعنى أن يكونوا ملائمين لقيمة عمله الكفاري كي ينتفعوا من خلاص الله.

أكلُ جسدِ ابن الله وشربُ دمه، هي تعابير استعارية مجازية، وهي تعني التمسك بهذه الحقائق الثمينة والاعتراف بها بإيمان وتَمثلها باقتناعٍ كامل. الأكلُ هو الإيمانُ الملائم. هل فعلتم ذلك جميعاً؟ هل قبلتم الربَّ يسوع المسيح بتلك الطريقة؟ هل وضعتم ثقتكم به من أجل الخلاص؟ هل تعرفون أنَّ موتهُ كان من أجلكم، وأن إهراقَ دمهِ كان لكي تُمحى خطاياكم؟ بينما تتأملونَ في ذلك الصليب - الصليب الفارغ الآن، فإن ذاك الذي عُلِّقَ مُسمراً عليه قد جلسَ الآنَ إلى يمين الله- وإذ تنظرونَ من ذلك الصليب الفارغ إلى عرش الله هل تستطيعون أن تقولوا: "أيها الربُ يسوع، إن دمكَ قد أُهرقَ من أجلي، فأؤمن بك مُخلِّصاً لي؟". هذا هو معنى أن نأكلَ جسدهُ ونشربَ دمهُ. إنه ليس أمراً مؤقتاً آنـياً وحسب. إنهُ ليسَ موقفاً نتّخذهُ في زمنٍ معين من حياتنا عندما نكون في ضيقة ونكون مُدانينَ بالخطيئة فنقتبلهُ بالإيمان، بل هو أن نعيش يوماً فيوماً في شركةٍ معهُ، مقدّرينَ كل ما هو المسيح وكل ما فعلَ. هذا بالفعل معنى أن نتغذى على خبز الحياة. ونفعل ذلك ونحنُ نتأمل في كلمة الله. لا أعرفُ أيَّ طريقٍ آخر يمكننا أن نتغذى فيه على خبز الحياة. من تآلفوا منا مع الكلمة في وقت الصحة الجيدة، يجدونَ تلك الذكرى تستحضرُ الكلمات عندما نكونُ مرضى وهكذا نتغذى على تلكَ التي نكون قد تعلّمناها لتَونا. كم هو مهم عندما نكون قادرين على قراءة الكلمة وعندما نكون أقوياء وفي صحة جيدة وعافية، كم هو مهمٌ أن نُكرسَ نفوسنا لدراسة مطولة لهذا السفر، وللتأمل فيه، ولنبني ونغذي أنفسنا، بما يقدم لنا الكتاب، من جهة الإيمان والتعليم الصحيح. إننا في حاجةٍ إلى هذا لكي ندخلَ إلى الشركة مع ربِّنا ونتمتعُ بها.

في الآية ٥٧ يقول: "كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ الْحَيُّ وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ فَمَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي". تلك هو الشركة. عاش الرب يسوع المسيح كإنسان هنا على الأرض في شركة يومية مع الآب، وإنه لأمر رائع أن نفكر أنه قد درس الكتاب المقدس تماماً كما يطلب منا أن نفتش الكتب. ونقرأ في المزمور ١٦ كيف كان ربنا المبارك يتكلم إلى الآب ويقول: "أَنْتَ سَيِّدِي. خَيْرِي لاَ شَيْءَ غَيْرُكَ. الْقِدِّيسُونَ الَّذِينَ فِي الأَرْضِ وَالأَفَاضِلُ كُلُّ مَسَرَّتِي بِهِمْ" (مز ١٦: ٢، ٣). لقد كان هنا، وهو إنسان على الأرض، يرفع بصره نحو الآب، لا يطلب من أجل ذاته، بل من أجل الآخرين، ومع ذلك يعيش في شركة يومية مع الله. ويقدم النبي أشعياء (الأصحاح ٥٠) صورة رائعة عن عن عيشه بالإيمان. فهناك يقول في الآية ٢: "لِمَاذَا جِئْتُ وَلَيْسَ إِنْسَانٌ نَادَيْتُ وَلَيْسَ مُجِيبٌ؟ هَلْ قَصَرَتْ يَدِي عَنِ الْفِدَاءِ وَهَلْ لَيْسَ فِيَّ قُدْرَةٌ لِلإِنْقَاذِ؟ هُوَذَا بِزَجْرَتِي أُنَشِّفُ الْبَحْرَ. أَجْعَلُ الأَنْهَارَ قَفْراً. يُنْتِنُ سَمَكُهَا مِنْ عَدَمِ الْمَاءِ وَيَمُوتُ بِالْعَطَشِ". من الذي يتكلم هنا؟ إنه الله السرمدي، خالق وضابط الكل. ولكن أي أقنوم إلهي هو؟ إنه ربنا المبارك يسوع المسيح، الله الابن، بدلالة ما نقرأ في الآيات التالية (٤- ٦)، حيث يتكلم كإنسان. وفي الآيات ٢، و ٣ يتكلم كإله. ولكننا نسمعه الآن قائلاً: "أَعْطَانِي السَّيِّدُ الرَّبُّ لِسَانَ الْمُتَعَلِّمِينَ لأَعْرِفَ أَنْ أُغِيثَ الْمُعْيِيَ بِكَلِمَةٍ. يُوقِظُ كُلَّ صَبَاحٍ يُوقِظُ لِي أُذُناً لأَسْمَعَ كَالْمُتَعَلِّمِينَ" (أش ٥٠: ٤). هذا هو نفس الشخص الذي قال: "أُلْبِسُ السَّمَاوَاتِ ظَلاَماً وَأَجْعَلُ الْمِسْحَ غِطَاءَهَا" (أش ٥٠: ٣). لقد اتخذ مكانة تلميذ يتعلم كيف يقول الكلمة في موضعها للمحزونين والمتعبين. تعجبني هنا ترجمة أخرى للنص تقول: "لأعرف كيف أُعزّي بالكلمة أولئك المكروبين". فكروا في ذلك. الرب يسوع هنا على الأرض يدرس الكتاب المقدس يوماً فيوماً لكي يعرف كيف ينطق بالكلمة المناسبة في مكانها المناسب للنفوس الحزينة المثقلة بالهموم لكي يريحها ويعزيها ويعينها. ثم يضيف قائلاً: "يُوقِظُ كُلَّ صَبَاحٍ يُوقِظُ لِي أُذُناً لأَسْمَعَ كَالْمُتَعَلِّمِينَ" (أش ٥٠: ٤). لثلاث مرات نقرأ في الكتاب المقدس عن الأذن المثقوبة أو المفتوحة. ونسمع عن ذاك العبد الذي أنهى خدمته وصار أهبة لإطلاق سراحه. ولكن في سفر الخروج ٢ نقرأ أنه "إنْ قَالَ الْعَبْدُ: أحِبُّ سَيِّدِي وَامْرَاتِي وَأوْلادِي. لا أخْرُجُ حُرّاً، يُقَدِّمُهُ سَيِّدُهُ إلَى اللهِ وَيُقَرِّبُهُ إلَى الْبَابِ أوْ إلَى الْقَائِمَةِ وَيَثْقُبُ سَيِّدُهُ أذْنَهُ بِالْمِثْقَبِ فَيَخْدِمُهُ إلَى الأبَدِ. وإن رأت إحدى بناته أذنه وقالت: يا أمي، لماذا هناك هذا الثقب البشع في أذنه؟ فإنها ستقول لها: لا تقولي أنه بشع. فهذا يدل على مدى محبته لك ولي. فكما ترين، قد كان عبداً وأمكنه أن يمضي حراً ولكنه اختار أن يبقى معنا وألا يتركنا، ولذلك ثُقِبَتْ أذنُه بمخرز". هذه صورة عن ربنا المبارك في المجد وآثار المسامير لا تزال في يديه، والندوب تخبرنا كم هي عظيمة وثابتة محبته لأبيه ولكنيسته. نعم هو العبد ذو الأذن المثقوبة.

ثم يقول من جديد في المزمور ٤٠: "أُذُنَيَّ فَتَحْتَ" (مز ٤٠: ٦)، وفي العهد الجديد تبدل هذا إلى: "ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً لَمْ تُرِدْ، وَلَكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَداً" (عب ١٠: ٥). وهذا يعني ما يلي: عندما كان الرب يسوع واحداً مع الآب قبل التجسد، ما كان يتلقى أوامر من أحد، وما كان في حاجة إلى أذن عبد؛ ولكن عندما صار إنساناً أخذ مكانة العبد وصار يتلقى تعليمات من الآب يوماً فيوماً. "لاَ أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي" (يوحنا ٥: ٣٠). وهنا في أشعياء ٥٠ يقول: "السَّيِّدُ الرَّبُّ فَتَحَ لِي أُذُناً وَأَنَا لَمْ أُعَانِدْ. إِلَى الْوَرَاءِ لَمْ أَرْتَدَّ" (أش ٥٠: ٥). كم نحن معاندون في الواقع. الله يشرع في إظهار ما يريدنا أن نفعل بينما نحن نعاند ونتمرد. لم يكن الحال هكذا مع يسوع، ذلك لأنه عاش شركة مع الله في كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة وكان يُسَرُّ بتحقيق مشيئة الله. لاحظوا ما كانت نتيجة ذلك عليه. يقول (في أش ٥٠: ٦): "بَذَلْتُ ظَهْرِي لِلضَّارِبِينَ وَخَدَّيَّ لِلنَّاتِفِينَ. وَجْهِي لَمْ أَسْتُرْ عَنِ الْعَارِ وَالْبَصْقِ". لنفكر في الأمر. من استطاع أن يقول: "أُلْبِسُ السَّمَاوَاتِ ظَلاَماً وَأَجْعَلُ الْمِسْحَ غِطَاءَهَا" (أش ٥٠: ٣)، يقول الآن: "وَجْهِي لَمْ أَسْتُرْ عَنِ الْعَارِ وَالْبَصْقِ" (أش ٥٠: ٦). فهكذا نراه في طبيعتيه كإله وإنسان. وكإنسان عاش على الأرض هنا كان في شركة مع الآب. "أَنَا حَيٌّ بِالآبِ" (يوحنا ٦: ٥٧). وهكذا فمن كان يلائم نفسه بالإيمان يوماً فيوماً عليه هو نفسه أن يحيا به. ويعبّر بولس عن ذلك بقوله: "مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ" (غلاطية ٢: ٢٠أ). كان هذا هو معنى تناول المسيح- معنى أن يجعل المسيحَ خاصَّتَه وجزءاً منه، على حد قوله- "فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي" (غلاطية ٢: ٢٠ب).

إننا نصبح وبمقياس كبير مثل الطعام الذي نتناوله. قال أحدهم: "نحن ما نأكل". من يتغذى حقاً على المسيح سيصير مثله. وهكذا إنسان سيظهر نقاء المسيح وصلاحه وحنانه وحنوه واهتمامه الحقيقي بالآخرين. إذا رأيتَ مسيحياً معترفاً قاسي الطبع وميّالاً إلى انتقاد الآخرين فستعرف أنه مضى عليه وقت طويل لم يتغذَّ فيه على المسيح. وهذا يفسر الأمور. وإن التقيتَ بمسيحي منساق وراء الدنيويات والعبثية وقد غدا مختالاً متعجرفاً ومتمحوراً على ذاته- فستعرف أنه لا يتغذى على المسيح. تقول الكلمة: "ليَكُنْ فِيكُمْ هَذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضاً" (فيلبي ٢: ٥). ذلك هو الفكر المتواضع، الفكر الوديع. إنه الفكر الذي يعتبر الآخرين، ويقول: "لا بأس". هذا ليس طبيعياً فينا، بل ينشأ وينمو فينا ونحن نتغذى على ربنا المبارك. وهذا سيكون نصيبنا إلى الأبد. ومن هنا يتابع يسوع كلامه قائلاً: "هَذَا هُوَ الْخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. لَيْسَ كَمَا أَكَلَ آبَاؤُكُمُ الْمَنَّ وَمَاتُوا. مَنْ يَأْكُلْ هَذَا الْخُبْزَ فَإِنَّهُ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ" (يوحنا ٦: ٥٨).

ولكن الناس عندما سمعوا هذا الكلام انزعجوا. كثيرون ساروا معه كل ذلك الشوط ووجدوا فيه نبياً رائعاً، وكانوا يتساءلون في داخلهم: "أليس هذا هو المسيا؟" لقد كانوا يستمعون إلى تعاليمه ويتبعونه، ولكن عندما تكلّم عن أكل جسده وشرب دمه، عندما كشف حقيقة ذبيحته الكفارية هذه، بدأ كلامه يزعجهم. لقد كانوا يبحثون عن حاكم عالمي عظيم يحررهم من حكم الرومان ويجعل منهم الأمة الأولى في العالم. ما كانوا مستعدين لما كان يتحدث عنه- موته، وبذل حياته لأجل العالم. عندما سمعوا ذلك قالوا: "إِنَّ هَذَا الْكلاَمَ صَعْبٌ! مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَسْمَعَهُ؟" (يوحنا ٦: ٦٠). ونجد مثل ذلك الكثير في أيامنا الآن. إنهم مستعدون لاتخاذ يسوع معلّماً عظيماً. وهم على استعداد للإقرار بأنه في حياته قد أعطانا مثالاً رائعاً، ويتكلمون عن محاولة إتّباع خطواته، ولكن لا يعترفون به مخلصاً، ولا يريدون كفارته البدلية، وهم غير راغبين أو مستعدين للإيمان بأن يسوع إلهٌ وإنسانٌ معاً في شخص واحد مبارك. إنهم مستعدون للنظر إليه على اعتباره شهيداً للحق، ولكنهم غير مستعدين للاعتراف بأن المسيح قد مات عن خطايانا كما جاء في الكتب. ليس في هؤلاء حياة في أنفسهم لأنه ما من ولادة جديدة ما لم يقتبل المرءُ المسيحَ باعتباره ابن الله المتجسّد الذي مات على الصليب من أجل فدائنا. ولذلك فإن كثيرين اليوم يشيحون بوجههم عن هذه الحقيقة قائلين: "إِنَّ هَذَا الْكلاَمَ صَعْبٌ! مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَسْمَعَهُ؟"

لقد كان يسوع يعرف ما يقولون فقال لهم: "أيزعجكم هذا؟ أَيُعْثِرُكُمْ أن أقول أني نزلتُ من السماء وصرتُ إنساناً؟ ولأني أخبركم أني سأموت لكي يخلص الإنسان؛ أَهَذَا يُعْثِرُكُمْ؟ سأقول لكم المزيد: في أحد الأيام سأصعد، كإنسان، إلى السماء". أتلاحظون، عندما يرفض الناس الحقيقة يصعِّبُ الرب يسوع المسألة عليهم، بينما يسهّل فهمهم للأمور عندما يقبلون الحقيقة. ولذلك، فإنه الآن يجعل المسألة أصعب بكثير من ذي قبل: "ماذا إِنْ رَأَيْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ صَاعِداً إِلَى حَيْثُ كَانَ أَوَّلاً؟" كانوا ليقولون: "لا يمكننا أن نصدّق ذلك، أن يسوع سيصعد، كإنسان، إلى السماء". ومع ذلك فإن هذا هو ما حدث في الوقت الذي كان الله قد حدده. لقد أقامه الله من بين الأموات وأُصعِدَ إلى السماء. لأربع مرات في الأصحاح الأول من سفر أعمال الرسل تتكرر هذه العبارة. وهو يجلس الآن إلى يمين الله. يعتقد بعض الناس أن تغيراً كبيراً طرأ على جسد المسيح عندما أُصعِدَ بعد موته. فيعتقدون أنه روح غامضة غريبة ما بدون جسد بشري مادي، ولكن تذكروا أنه قال بنفسه: "اُنْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ: إِنِّي أَنَا هُوَ. جُسُّونِي وَانْظُرُوا فَإِنَّ الرُّوحَ لَيْسَ لَهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ كَمَا تَرَوْنَ لِي" (لوقا ٢٤: ٣٩). لقد كانت له هيئة جسدانية. لقد سَفَك دمَه من أجل فدائنا، ولكنه في السماء هناك بالجسد- بنفس ذاك الجسد الذي عُلِّقَ على الصليب. إنه يسوع المسيح الإنسان الجالس على يمين الله اليوم، وعندما سنراه سنعاين وجه ذلك الإنسان، وسنمسك بيد ذلك الإنسان، وسنميز في يديه آثار المسامير. فسوف تبقى في يديه إلى الأبد.

"فماذا إِنْ رَأَيْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ صَاعِداً إِلَى حَيْثُ كَانَ أَوَّلاً؟" أكنتم تستطيعون أن تصدقوا ذلك؟ ولكنه يقول: "اَلرُّوحُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي. أَمَّا الْجَسَدُ فلاَ يُفِيدُ شَيْئاً. اَلْكلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ". فقط عندما نقتبل كلماته بالإيمان نحصل على الحق الأبدي بإحكام. إن الجسد، ما لم يتحرك بالنعمة الإلهية، سوف لن يفهم. كلماته جهالة للإنسان الطبيعي، لأنه لا يمكن تمييزها إلا بطريقة فائقة الطبيعة. ولكن هذه الكلمات رُوحٌ وَحَيَاةٌ وعندما تفتح قلبك لاقتبالها، فإن حياة جديدة تُخلق، ويمكنك أن تتمثّلها.

"«وَلَكِنْ مِنْكُمْ قَوْمٌ لاَ يُؤْمِنُونَ». لأَنَّ يَسُوعَ مِنَ الْبَدْءِ عَلِمَ مَنْ هُمُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ". لقد كان يعلم ما يدور في قلوب البشر. وكان يعلم أي اعتراف من قِبَلِ الإنسان لا يكون صادقاً أو حقيقياً. إنه يعرف اليوم. ابن الله يعرف إذا ما كنت مؤمناً حقيقياً أم لا. أصدقاؤك قد لا يعلمون ذلك. والمقربون إليك قد لا يعلمون. ولكنه يعلم إذا كنت قد وضعتَ ثقتك فيه فعلاً أم لا، وهو خبز الله النازل من السماء. لنسعَ لأن نكون مؤمنين حقيقيين صادقين أمامه. دعونا لا نتّكل على مجرد الاعتراف به، فهذا لن يفيدنا في ذلك اليوم. يجب أن يكون هناك صدق وإيمان حقيقي. "فَقَالَ: «لِهَذَا قُلْتُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يُعْطَ مِنْ أَبِي»". فهل يعني هذا أن يُغلَق على أحد خارجاً؟ هل يستحيل بهذا على بعض الناس أن يأتوا إلى المسيح؟ وهل يعني هذا أن بعض الناس الذين خلقهم الله يمكن أن يُقبلوا إلى المسيح دون البعض الآخر؟ لا. "مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجاً". الجميع يستطيعون أن يقبلوا إليه إذا شاءوا. ولكن بمعزل عن اجتذاب الآب لا يأتي أحد.

ولنتابع. هنا نجد ما يمكن أن نعتبره "طعاماً قوياً"، ونقرأ: "مِنْ هَذَا الْوَقْتِ رَجَعَ كَثِيرُونَ مِنْ تلاَمِيذِهِ إِلَى الْوَرَاءِ وَلَمْ يَعُودُوا يَمْشُونَ مَعَهُ". لقد استمروا في رفقته حتى ذلك الوقت. وكانوا يأملون يوماً فيوماً أنه سينصّب نفسَه رئيساً على اليهود، وأن يقودهم إلى انتصارات ظافرة، ولكن آمالهم خابت الآن. لم يفهموا كلامه عن موته وصعوده إلى السماء. ليس هذا هو المسيا الذي كانوا يبحثون عنه. وهنا التفت الرب يسوع إلى الإثني عشر الذين كان قد اختارهم بنفسه رسمياً وسألهم: "أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً تُرِيدُونَ أَنْ تَمْضُوا؟" لقد رأوه وهو يصلي. واستمعوا إلى تعليمه واقتبلوا كلمته ظاهرياً في قلوبهم. ولقد عرفوا قدرته. ومع ذلك، للأسف، كان بينهم من فيه شيطان.


١. بما أن هذا الخطاب قد ألقيتُه أمام كثيرين لم يكونوا حاضرين في مناسبات سابقة، فإنكم تجدون بعض التكرار هنا فضّلتُ ألا أغير فيها. (هـ. أ. آ).

٢. (خروج ٢١: ٥).