الخطاب ٣٨

الدخول الظافر

"وَفِي الْغَدِ سَمِعَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ الَّذِي جَاءَ إِلَى الْعِيدِ أَنَّ يَسُوعَ آتٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ فَأَخَذُوا سُعُوفَ النَّخْلِ وَخَرَجُوا لِلِقَائِهِ وَكَانُوا يَصْرُخُونَ: «أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!» وَوَجَدَ يَسُوعُ جَحْشاً فَجَلَسَ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «لاَ تَخَافِي يَا ابْنَةَ صَهْيَوْنَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي جَالِساً عَلَى جَحْشِ أَتَانٍ». وَهَذِهِ الأُمُورُ لَمْ يَفْهَمْهَا تلاَمِيذُهُ أَوَّلاً وَلَكِنْ لَمَّا تَمَجَّدَ يَسُوعُ حِينَئِذٍ تَذَكَّرُوا أَنَّ هَذِهِ كَانَتْ مَكْتُوبَةً عَنْهُ وَأَنَّهُمْ صَنَعُوا هَذِهِ لَهُ. وَكَانَ الْجَمْعُ الَّذِي مَعَهُ يَشْهَدُ أَنَّهُ دَعَا لِعَازَرَ مِنَ الْقَبْرِ وَأَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ. لِهَذَا أَيْضاً لاَقَاهُ الْجَمْعُ لأَنَّهُمْ سَمِعُوا أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَنَعَ هَذِهِ الآيَةَ. فَقَالَ الْفَرِّيسِيُّونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «ﭐنْظُرُوا! إِنَّكُمْ لاَ تَنْفَعُونَ شَيْئاً! هُوَذَا الْعَالَمُ قَدْ ذَهَبَ وَرَاءَهُ!». وَكَانَ أُنَاسٌ يُونَانِيُّونَ مِنَ الَّذِينَ صَعِدُوا لِيَسْجُدُوا فِي الْعِيدِ. فَتَقَدَّمَ هَؤُلاَءِ إِلَى فِيلُبُّسَ الَّذِي مِنْ بَيْتِ صَيْدَا الْجَلِيلِ وَسَأَلُوهُ قَائِلِين: «يَا سَيِّدُ نُرِيدُ أَنْ نَرَى يَسُوعَ». فَأَتَى فِيلُبُّسُ وَقَالَ لأَنْدَرَاوُسَ ثُمَّ قَالَ أَنْدَرَاوُسُ وَفِيلُبُّسُ لِيَسُوعَ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَأَجَابَهُمَا قَائِلاً: «قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ. مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ. إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي فَلْيَتْبَعْنِي وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضاً يَكُونُ خَادِمِي. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي يُكْرِمُهُ الآبُ. اَلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ؟ أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هَذِهِ السَّاعَةِ. وَلَكِنْ لأَجْلِ هَذَا أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ السَّاعَةِ. أَيُّهَا الآبُ مَجِّدِ اسْمَكَ». فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ: «مَجَّدْتُ وَأُمَجِّدُ أَيْضاً»" (يوحنا ١٢: ١٢- ٢٨).

في الواقع ثمة حادثين مميزين مدونين في هذه الآيات، كلٍ منهما يمكن أن يكون موضوعاً لخطبةٍ كاملة؛ ولكني أريد أن أحاول أن أدمج الحادثتين معاً.

لدينا أولاً الرب يسوع يركبُ داخلاً إلى أورشليم ويتم الترحيب به ويتم مناداته بابن داوود، ثم لدينا اليونانيين يأتون ويطلبون أن: "نريد أن نرى يسوع".

إن رسالة مخلصنا لا تلبث أن تقترب سريعاً من نهايتها. فلثلاث سنوات ونصف رائعة كان ينتقل في أرجاء أرض فلسطين ويجترح أعمالاً معجزية ويشهد للناس. والآن وجب أن يأتي إلى أورشليم لكي يموت هناك، وليقدم نفسه كفّارةً عن خطايانا. بدا للوهلة الأولى وكأن الناس كانوا على استعدادٍ لاستقباله كملك، وأنه لن يُنبذ كما سبق أن تنبأ هو بنفسه. ولكن تبين أن هذه كانت حركة سريعة الزوال لم تدم طويلاً، وأن من شاركوا في ذلك الاستقبال كانوا أطفالاً وأيضاً أولئك الذين كانوا قد استفادوا أو انتفعوا من خدمته، وأولئك الذين أحبوه بسبب ماهيته وبسبب ما فعل. في اليوم التالي، اليوم الذي تلا الزيارة إلى بيت سمعان الأبرص، جاء كثيرٌ من الناس إلى عيد الفصح الذي كان على وشك أن يُحتفل به. عندما سمعوا أن يسوع كان آتياً إلى أورشليم خرجوا لملاقاته آخذين معهم أغصان النخل، النخل الذي هو الرمز المعروف للنصر، صارخين "أُوصَنَّا" أو "خلّص الآن". وهذه مقتبسة عن المزمور ١١٨، الذي هو مزمور مسياني، يعتبر الرب يسوع ابن داود المبارك. "أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!"

قد يقول أحدهم: "أخيراً تم الاعتراف بالمخلص لما هو عليه، وسيكون قادراً على أن يستلم العرش ويحكم بالبر، مزيلاً كل التعديات". جماعةٌ قليلةٌ بقية فقط من الناس هم أولئك الذين اعترفوا به حقاً. أما أغلبية القادة الدينيين فقد توحدوا لرفض دعواه وأقواله، ولم تمضِ فترة طويلة على صراخهم أن "أُوصَنَّا"، حتى حرك هؤلاء القادة أنفسهم الشعب في بلاط محكمة بيلاطس فجعلوهم يصرخون أن "ليس لنا ملك سوى قيصر". وهكذا رُفض تماماً في حين أنه جاء كملك.

لقد دخل يسوع كما جاء في الكلمة النبوية. فنقرأ أن: "وَجَدَ يَسُوعُ جَحْشاً فَجَلَسَ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ". خطوةٌ فخطوة، من ولادته وحتى النهاية، كان الرب يتحرك في توافق تام مع النبوءة. هذا الأسبوع الأخير نفسه كان هناك عدد لا حصر له من النبوءات التي تحققت، علماً أن هذه النبوءات قد جاءت قبل مئات السنين. في نبوءة زكريا نجده يُصوَّر داخلاً أورشليم راكباً على جحش وابن أتان. من هذا السفر يقتبس روح قدس الله الآن، فيقول: " كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «لاَ تَخَافِي يَا ابْنَةَ صَهْيَوْنَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي جَالِساً عَلَى جَحْشِ أَتَانٍ»". وحتى في هذا كان ثمة أمرٍ مثير. لماذا؟ يخبرنا إنجيلٌ آخر أن الرب كان قد أُجلسَ على جحش ابن أتان لم يركبه إنسانٌ قط، مهرٌ صحيحٌ سليمٌ. وليس من السهل بمكان في العادة أن يركب المرء مهراً صحيحاً سليماً، ولكن هذا المهر بدا وكأنه ميّز غريزياً سيده. فقد كان يسوع هو خالق كل الأشياء، الذي تنازل بالنعمة ليصير إنساناً، وهكذا أخذ زمام المهر وركبه منتصراً داخلاً المدينةَ حيث نشر الناسُ ثيابَهم أمامه وهتفوا مرحبين به. في البداية لم يفهم تلاميذه أياً من هذه الأشياء، ولكن بعد أن تمجد يسوع، وبعد أن مرّ بألم الصليب، وبعد أن قام من بيت الأموات، وصعد إلى يمين الآب في السماء، وحل الروح القدس، كما حدث في العنصرة، انفتحت أعينهم لفهم الحقيقة التي لم يفهموها قبلاً، وعندها تذكروا أن كل تلك الأشياء كانت قد كُتبت عنه، وأنهم فعلوا كل تلك الأمور له. إنه عمل روح القدس الله هو أن يجعل الناس يفهمون الأمور التي كتبها الله بكلمته لتعليمنا، لأنه كتب الكلمات التي تقول: "إنما تكلّم رجال الله القدّيسون محمولين بإلهام الروح القدس". وبالتالي فإنه أمرٌ في غاية البساطة بالنسبة للروح القدس أن يأخذ هذه الأشياء وأن يكشفها لشعب الله، مذكّراً إياهم بالنبوءات والوعود التي كانوا قد نسيوها منذ زمن طويل إلى أن رجع الروح القدس بها إلى مساحة الوعي والإدراك.

"وَكَانَ الْجَمْعُ الَّذِي مَعَهُ يَشْهَدُ أَنَّهُ دَعَا لِعَازَرَ مِنَ الْقَبْرِ وَأَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ. لِهَذَا أَيْضاً لاَقَاهُ الْجَمْعُ لأَنَّهُمْ سَمِعُوا أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَنَعَ هَذِهِ الآيَةَ". يبدو أن إقامة لعازر من بين الأموات كان لها أعظم تأثير على الشعب أكثر من أي معجزةٍ أخرى قام بها الرب يسوع. ولا حاجة لأن نتعجب من ذلك، إذ كانت أكبر معجزةٍ جسديةٍ قد قام بها، كما الحال عندما هدّأ العاصفة، تلك المعجزة التي كانت متعلقة بالطبيعة. بمناداته لذاك الرجل لأن يخرج من القبر، والذي كان قد مضى عليه أربعة أيام وهو ميت، أظهر يسوع نفسه على أنه القيامة والحياة. والناس الذين لم يُلقوا بالاً إلى دعواه من قبل بدأوا يتعجبون ويتساءلون إذا ما كان هو المسيا الموعود الذي كان سيأتي وذلك عندما دخل أورشليم راكبٍ على جحشٍ في تلك المناسبة. ولكن كان هناك أيضاً آخرون معارضون وهؤلاء نجحوا في نهاية الأمر في إبعاد الكثير منهم. "فَقَالَ الْفَرِّيسِيُّونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «ﭐنْظُرُوا! إِنَّكُمْ لاَ تَنْفَعُونَ شَيْئاً! هُوَذَا الْعَالَمُ قَدْ ذَهَبَ وَرَاءَهُ!»". وهكذا فإن كلمات أشعياء، التي نطق بها قبل سبعمئة سنة، وهو يتأمل في مجيء المسيا كانت تتحقق في تلك اللحظات: "«يَا رَبُّ مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا وَلِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟»" أولئك الذين كان يجب أن يؤمنوا، أولئك الذين كان ينبغي أن يكونوا أول من يقتبلوه، كانوا فعلياً أول من رفضه ونبذه.

ننتقل الآن إلى الحادثة الثانية. عندما كان الفريسيون يرفضون دعوى ومزاعم المسيح عن عمدٍ وعن قصد، كان من دواعي سرور الرب يسوع أن يلتقي بأولئك الأمميين المهتمين به وأن ينقل الرسالة إليهم. نقرأ في الآية ٢٠: "وَكَانَ أُنَاسٌ يُونَانِيُّونَ مِنَ الَّذِينَ صَعِدُوا لِيَسْجُدُوا فِي الْعِيدِ". عندما نقرأ أحياناً في كتابنا المقدس عن اليونانيين، فإن الكلمة تشير إلى الناس الذين لم يكونوا يونانيين بالطبيعة بل يهوداً وُلِدوا بين اليونانيين في العالم الأممي. ولكن هنا المقصود بهم اليونانيين فعلاً. هؤلاء الأمميون كانوا قد جاؤوا إلى عيد اليهود، الفصح. لعلهم كانوا مهتدين حديثاً. وربما وجدوا في أورشليم نظاماً دينياً أكثر نقاوةً وأكثر قداسةً وأفضل مما كانوا قد اعتادوا عليه وسط الشعوب الوثنية التي كانوا يشكلون جزءاً منها. كان هناك كثيرون في ذلك الزمن غير راضين وكانوا يتحولون عن آلهة آبائهم التي كانوا يعبدونها، كانت قلوبهم ترنو إلى شيء أفضل وأكثر نبلاً وأكثر نقاءً وأكثر حقيقيةً. وهكذا إذ كان اليهود مبعثرين في أرجاء العالم، حيث كانت لديهم مجامع وأماكن للصلاة، كثيرون من الأمميين المتسائلين الباحثين عن الحقيقة كانوا يزورون أماكن الاجتماع اليهودية وتعلموا شيئاً عن الله الحي الحقيقي، وعن الوعد الذي كان قد قطعه الله لإبراهيم بأن من نسله سوف يأتي من يبارك العالم. ولعل هؤلاء اليونانيين كانوا من بينهم. لقد صعدوا من أجل عيد الفصح. جو من العبادة، كما يخبرنا الإنجيل. وعندما كانوا في أورشليم سمعوا عن يسوع. لقد سمعوا عن ذلك الشخص المذهل العجيب الذي كان يعيش وسط الناس لثلاث سنوات ونصف، والذي كان يجول في كل مكان يصنع الخير، يشفي المرضى ويفتح أعين العميان. ما من شك في أنهم سألوا كثيراً أولئك الذين كانوا قد سمعوه وكانوا بالتأكيد سيتساءلون في أنفسهم أن: "أيمكن أن يكون هذا هو الموعود؟" وإذ كانوا يستمعون إلى القصص حول يسوع، يمكن للمرء أن يتخيلهم يقارنون بين الانطباعات التي تلقوها من الناس وأفكارهم ويقولون: "أيمكن أن يكون هذا هو اللوغوس الذي كان يتوق إليه أفلاطون، وهل من الممكن أن يكون هذا هو ذاك الذي تحدثت عنه الكتابات اليهودية، التي كنا نقرأُها، ووُعِدنا بها، والتي كانت تشير إلى مجيء المسيا إلى العالم؟"

وهكذا إذ علموا أن يسوع قد كان صار في المدينة لتوه، سعوا وراء صحبة التلاميذ. لقد َتَقَدَّمَ هَؤُلاَءِ إِلَى فِيلُبُّسَ، الَّذِي مِنْ بَيْتِ صَيْدَا الْجَلِيلِ. لماذا أتوا إلى فيلبس بالذات؟ لا بد أن هذا الاسم راق لهم. فهو اسم يوناني يعني "محبُّ الخيل". وكان أحد ملوك الإغريق، فيلبس المقدوني، قد حقّق شهرة عظيمة لنفسه، واعتقد هؤلاء أن فيلبس هذا سيفهمهم. لم يذهبوا إلى بطرس أو يوحنا أو يعقوب أو بقية التلاميذ. لقد ذهبوا إلى فيلبّس الذي كان يحمل اسماً يونانياً، وقالوا: "يا سيد، نريد أن نرى يسوع". لا بد أن ما كان يرغبون به قد سرى قلب فيلبُس، لأن هؤلاء اليونانيون كانوا غرباء. كانوا أممين من خارج المدينة يتوقون لرؤية ومعرفة يسوع. لا بد أن فيلبُس شعر في نفسه أن "آه، لا بد أنَّ يوم انتصر ربنا قد صار وشيكاً فالأمميون يأتون، كما قال العهد القديم ويعترفون برسالته".

نادى فيلبُس أندراوس، وذهب أندراوس وفيلبُس إلى الرب يسوع، وأتخيل أنهما كانا الأكثر توقاً ليقولا له: "يا سيد، هلاّ تأتي وتلتقي بهؤلاء الأمميين الذين صاروا هنا، والذين يريدون رؤيتك ومعرفتك، والمهتمين بالرسالة التي تنشرها؟" لا شك لدي أن يسوع كشف نفسه لأولئك اليونانيين، ولكن الإنجيل لا يخبرنا عن ذلك. ونعلم أنه أجاب قائلاً: "قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ". لقد رأى في هذا المطلب الصادر عن الأمميين نوعاً من بواكير ثمار الحصاد العظيم وسط الأمم. كان على وشك أن يرفضه شعبه ذاته، ولكن الكتاب المقدس كان قد قال أنه إذا ما رفضه شعب إسرائيل، فإنه سيصبح نوراً للأممين. ولذلك فها هنا نجد أول دليلٍ على هذا الكلام من خلال هؤلاء اليونانيين الذين جاؤوا يطلبون أن: "نريد أن نرى يسوع".

لقد رأى في طلبهم دليلاً على ما سيحدث في كل العالم الأممي في السنوات التي ستأتي لاحقاً. وأخبر تلاميذه عندئذٍ بجدٍ وبشكلٍ مهيبٍ جليل بأنه لم يستطع أن يكشف نفسه بشكل كامل لليهود أو للأمميين إلا أن يكون قد مرّ بالموت والقيامة. "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ". ما الذي كان يعنيه بالضبط؟ حسناً، لقد كان حبة الحنطة، وما لم يمت لن يكون هناك خلاص لأي خاطئٍ بائس. لم يأتِ يسوعُ ليخلِّصَ أناساً بتعليمه؛ لم يأتِ ليخلِّص الناس بمثال حياته. لم يقل للناس: "إن حاولتم أن تعيشوا بالطريقة التي أعيش بها، وأن تتبعوا خطواتي، فإنكم ستخلصون". دعوني أقول ثانية- كما قلت مراراً وتكراراً من قبل، ومع خوفي من أن يساء فهمي- لم يكن ممكناً لأحد أن يخلُص بإتباع يسوع. إننا نبدأ بإتباعه بعد أن نخلص (ننال الخلاص). لقد ترك لنا مثالاً نتبعه، ولكننا في حاجة لأن نعرفه كفادٍ، ونحتاج إلى أن نقتبل الحياة الإلهية منه قبل أن نستطيع أن نتبعه.

يسوع ليس معلِّماً عظيماً فحسب، وليس مثلاً فقط. كان لا بد ليسوع أن يتألم ويموت لكي يخلّص الناس رجالاً ونساءً. "إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ". لولا موته، ما كان ليمكن لحياة يسوع الجميلة أن تخلِّصَ ولو خاطئاً واحداً بائساً. وبدلاً من ذلك، كانت لتدين الناس فقط. إن كان هناك شيءٌ ليبهر فهو كم كانت حياة الناس حافلة بالخطيئة، ذلك الخط الذي يسير جنباً إلى جنب مع الرب يسوع. إن كنتم راضين تماماً عن أنفسكم، وتريدون أن تروا كم أنتم أشرار فاسدون خطاة في نظر الله اقرأوا هذه الأناجيل الأربعة، وتأملوا بالحياة التي عاشها يسوع، وسترون سريعاً كم أنكم بعيدون عن كل ذلك. "يبقى وحده". لقد كان الوحيد الذي بلا خطيئةٍ وبلا عيبٍ وبلا نجسٍ، الابن الوحيد للآب، والوحيد الذي أمكنه أن يقول: "إني أفعل دائماً هذه الأشياء التي ترضيه". لقد كان هو الإنسان الوحيد الذي يستطيع أن يقف في وجه أسوأ أعدائه وأن يقول لهم: "من منكم يبكّتني على خطيئة؟" لقد كانت إنسانيتُه (ناسوته) مقدسة بشكلٍ كاملٍ، و كان متفرداً لا مثيل له في حياته هنا على الأرض.

ويضيف قائلاً: "وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ". لقد مضى إلى الصليب، وعلى ذلك الصليب قدّم نفسه كفّارة عن خطايانا؛ لقد مات لكي يفتدينا؛ لقد أراق دمه الثمين لكيما نتطهر من كل معاصينا وآثامنا. أفكر الآن في ملايين الناس الذين دُعيوا مسيحيين على مدى القرون، الذين وجدوا حياةً وسلاماً وخلاصاً من خلال دمه الكفاري. حبة الحنطة سقطت فعلاً في أرض الموت، وكان هناك حصادٌ عظيمٌ. "إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ".

لاحظوا التحدي أمام أولئك الذين يؤمنون به ويثقون به، في الآيات التالية. إن اعترفنا بأننا اقتبلناه واتخذنا منه مخلصاً لنا، فمن الطبيعي أن نتبعه، وأن نصبح تلاميذ له. وهكذا فإنه يخبرنا أن: "مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ".

بالنسبة إلى مُحِبّي الدنيا يبدو الأمر دائماً وكأن المسيحي يتخلى عن حياته عندما يتخلى عن الحماقات والمسرات الدنيوية ويكرس نفسه لمجد الرب يسوع المسيح. ولكن ذلك الذي ينكر حياته بهذا المعنى يجدها فعلاً. الدنيوي يفكر بأنه يعرف الحياة على أفضل وجوهها. ولكن الحقيقة أن المسيحي هو الذي يدخل إلى الحياة الأعمق والأكثر بركة ويتمتع بها. إنه يدخل إلى الحياة في أعلى مستوياتها، وكامل غناها وعلى أفضل شكلٍ لها.

قال يسوع: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي فَلْيَتْبَعْنِي وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضاً يَكُونُ خَادِمِي". هناك وعد لكل مؤمنٍ. أنت وأنا أُعطينا الفضل ليس بأمن نؤمن باسمه فقط، بل أن نتألّم لأجله متبعين خطاه، حاملين العار والخزي لأجل المسيح، ويوماً ما سوف يكرم الله الآب كل أولئك الذين حملوا عار اسم ابنه المبارك.

والآن وقد تكلمنا عن عمل الصليب، يبدو وكأن روح يسوع بدأت لتوها تدخل إلى الظلام الدامس الذي كان يحيط به جُعِل خطيئةً، لأنه قال: "اَلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ". لماذا اضطرب؟ الحقيقة هي أنه لاقى على الصليب كل غضب الله الكامل، وكان عليه أن يخضع لتبعات الدينونة لكي نخلص نحن بنعمته. وكل هذا جعل نفسه تضطرب. ما كان يمكن أن يكون إنساناً كاملاً وقدوساً لو لم يرتعد من فظاعة أنه جُعِل خطيئةً عنا. "اَلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ؟ أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هَذِهِ السَّاعَةِ. وَلَكِنْ لأَجْلِ هَذَا أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ السَّاعَةِ. أَيُّهَا الآبُ مَجِّدِ اسْمَكَ»". وهكذا، فبدلاً من أن يطلب أن تبتعد عنه تلك الكأس وأن يتفادى تلك الساعة، نجده يصلّي لكي يتمجد اسم الآب. وعندها، كما يقول الإنجيل، جاء صوت من السماء، وكانت هذه هي المرة الثالثة في حياة ربنا يسوع المسيح أن يأتي صوتٌ من السماء يقول: "«مَجَّدْتُ وَأُمَجِّدُ أَيْضاً»".

عندما مر يسوع بالصليب تمجّد اسم الله بإقامته له من بين الأموات. لقد مجّد اسمه بأن جعل ابنه على يمينه في السماء. وسيتمجد اسمه أيضاً عندما يرسل يسوع من جديد إلى هذا العالم ليحكم كملك الملوك ورب الأرباب.