الخطاب ٤١

ليس ديّاناً بل مخلّصاً

"فَنَادَى يَسُوعُ وَقَالَ: «ﭐلَّذِي يُؤْمِنُ بِي لَيْسَ يُؤْمِنُ بِي بَلْ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي. وَﭐلَّذِي يَرَانِي يَرَى الَّذِي أَرْسَلَنِي.أَنَا قَدْ جِئْتُ نُوراً إِلَى الْعَالَمِ حَتَّى كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِي لاَ يَمْكُثُ فِي الظُّلْمَةِ. وَإِنْ سَمِعَ أَحَدٌ كلاَمِي وَلَمْ يُؤْمِنْ فَأَنَا لاَ أَدِينُهُ لأَنِّي لَمْ آتِ لأَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لأُخَلِّصَ الْعَالَمَ. مَنْ رَذَلَنِي وَلَمْ يَقْبَلْ كلاَمِي فَلَهُ مَنْ يَدِينُهُ. اَلْكلاَمُ الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ هُوَ يَدِينُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ لأَنِّي لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنْ نَفْسِي لَكِنَّ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ أَعْطَانِي وَصِيَّةً: مَاذَا أَقُولُ وَبِمَاذَا أَتَكَلَّمُ. وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ وَصِيَّتَهُ هِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. فَمَا أَتَكَلَّمُ أَنَا بِهِ فَكَمَا قَالَ لِي الآبُ هَكَذَا أَتَكَلَّمُ»" (يوحنا ١٢: ٤٤- ٥٠).

هناك بعض الحقائق التي هي في غاية الأهمية نأتي عليها في بضعة الآيات هذه. إنها تشكل خاتمة تقديم ربنا يسوع المسيح لنفسه للعالم. لقد أشرنا لتونا إلى أن هذا السفر (إنجيل يوحنا) مؤلفٌ فعلياً فعلينً من قسمين أو جزأين، الجزء الأول هو الأصحاحات الاثني عشر الأولى وفيها يقدم ربنا يسوع المسيح نفسه للعالم، وفي هذا الجزء يُوضح الرب يسوع بكل طريقةٍ ممكنة بأن الناس غير المخَلَّصين كان في مقدورهم أن يفهموه. ثم بدءاً من الآية الأولى في الأصحاح الثالث عشر وما تلا حتى نهاية الإنجيل، لدينا تقديم نفسه إلى قلوب شعبه الخاص به الذي يحبه. في هذه الأصحاحات الإثني عشر الأولى لدينا القول: "إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ" ولكننا نقرأ أيضاً: "وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ" (يوحنا ١: ١١). إذ نفتح الأصحاح ١٣ نقرأ: "إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى". التعبير الأول، في الآية السابقة، "خاصته" ينطبق على كل أولئك الذين أتى بهم إلى العالم بقدرته. "إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ". أما في الأصحاح ١٣ فإن تعبير "خاصته" يشير إلى جماعة مميزة معينة أُخِذَت من العالم، وهم أولئك الذين قبلوه مخلِّصاً واعترفوا به رباً.

لقد رأيناهُ على أنه الكلمة الأزلي، النور الآتي إلى العالم، حامل الله ٢٠ : ٢٠الذي يرفع خطيئة العالم، ذبيحة الخطية العظيم، مانح الحياة الأبدية، الماء الحيّ، الذي يتمتع بقدرةٍ على أن يقيم الموتى، الحق والحياة، خبز الحياة النازلُ من السماء، دياّن الأحياء والأموات، وفي ظواهر وجوانب أخرى كثيرة. وفي ختمه لهذا التقديم في هذه الجوانب وفي ختمه لتقديمه لنفسه بهذه الجوانب المتنوعة، يقول: "ﭐلَّذِي يُؤْمِنُ بِي لَيْسَ يُؤْمِنُ بِي بَلْ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي. وَﭐلَّذِي يَرَانِي يَرَى الَّذِي أَرْسَلَنِي". في هذه الكلمات يسعى ربنا يسوع المسيح إلى أن يُبِعد انتباه الناس عن ناسوته المجرد. لا يريد من الناس رجالاً ونساءً أن يفكروا به فقط على هذا النحو. لو كان يسوع إنساناً فقط، لكان من غير الممكن أن يكون مخلص الخُطاة. لقد صار إنساناً حقاً؛ واللقب الذي كان يُسرّ بأن يستخدمه كان "ابن الإنسان"، وإذ صار ابن الانسان جاء يطلب ويسعى ليُخلص ما قد هلك (من قد ضلَّ)، ولكن ما كان ليمكنه أن يُخلص الضالين والخُطاة لو كان مجرد ابن إنسانٍ فقط. لقد كان إنساناً حقاً وإلهاً حقاً. في المزمور ١٤٦: ٣ مكتوب: "لا تَتَّكِلُوا عَلَى الرُّؤَسَاءِ وَلاَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَيْثُ لاَ خَلاَصَ عِنْدَهُ". ورغم أنه يسوع كان أفضل الناس، إلا أنه ما كان ليقدر على تخليص الخطأة لو كان مجرد إنسان وحسب.

ولذلك فإنه يُبعد انتباه الناس عن ناسوته ويركز انتباهنا وتركيزنا على حقيقة أنه كان ابن الله متجلياً في الجسد. إنه يقول: "لا تؤمنوا بي فقط، بل بذاك الذي أرسلني". "ﭐلَّذِي يَرَانِي يَرَى الَّذِي أَرْسَلَنِي". كان العهد القديم يؤكد على هذا في سفر أشعياء. بعد ذلك الوعد الرائع في الأصحاح السابع بأن عذراء ستحبلُ وتلدُ ابناً، وسيدعى اسمه عمانوئيل، والذي يعني الله معنا، نقرأ في الأصحاح ٩: ٦ (من أشعياء): "لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ (أي ناسوته) وَنُعْطَى ابْناً (أي لاهوته)". لقد كان ابن مريم، مولوداً من نسلٍ مقدس؛ ولكنه كان أيضاً ابن الله الأزلي الذي جاء إلى هذا العالم كإنسان، من خلال الولادة. "وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيباً مُشِيراً إِلَهاً قَدِيراً أَباً أَبَدِيّاً رَئِيسَ السَّلاَمِ". يبدو لي أن كل قارئٍ يهودي مستنير يتأمل في هذه الكلمات، ما كان ليُمكن أن يخفق في أن يرى فيه المسيا الموعود والذي يجب أن يكون كائناً فائق الطبيعة. ما كان لهذه الكلمات أن تنطبق تماماً على أي إنسانٍ ولو كان عظيماً، أو على أي نبي يكون قد جاء لينفذ أوامر الرب الإله. إنها تخبرنا بوضوح على أن الابن المعطى هو "إلهٌ قدير".

وبعد ذلك، ومن جديد، في إعلان مولده، نجد في ميخا ٥: ٢، التأكيد على سرمديته لكونه ابن الله: "«أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمَِ أَفْرَاتَةَ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ»". كيف كان ليمكن لهذه الكلمات أن تجد تحقيقاً لها في شخصٍ كان مجرد إنسانٍ فقط وليس إلهاً أيضاً؟ لقد ولِد في بيت لحم كإنسان، هذا أمرٌ حقيقي، ولكن وجوده كان منذ القديم، منذ الأزل. وأكد الرب يسوع المسيح على هذا. في الآية ١٠: ٣٠ من هذا الإنجيل نسمعه (المسيح) يقول: "أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ". وعندما قال له فيلبس: "«يَا سَيِّدُ أَرِنَا الآبَ وَكَفَانَا»" (يوحنا ١٤: ٨)، يقول له يسوع: "اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا الآبَ؟ أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ؟ الْكلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي لَكِنَّ الآبَ الْحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ الأَعْمَالَ. صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ وَإِلاَّ فَصَدِّقُونِي لِسَبَبِ الأَعْمَالِ نَفْسِهَا". وهذا يعني، أن أعماله قد برهنت أنه كان ابن الله الأزلي الإلهي. مَن غيره كان ليملك قدرة على أن يهدّئ الأمواج، ومن غيره كان ليستطيع أن يسلُب القبر ضحيته؟ وحده أمكنه أن يقول: ""أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ". ومنذ البدء كان هذا اعتراف كنيسة الله؛ الرب يسوع المسيح كان يُعترف به دائماً وأبداً على أنه الله متجلياً في الجسد.

في ٢ كور ٥: ١٨ نقرأ: "وَلَكِنَّ الْكُلَّ مِنَ اللهِ، الَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ الْمُصَالَحَةِ". فما هي هذه الخدمة؟ "أَيْ إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحاً الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعاً فِينَا كَلِمَةَ الْمُصَالَحَةِ". لقد كان الله هو المسيح، وليس بمعنى أنه كان يقوي المسيح أو يتملك المسيح، بل كان هو نفسه ذاته بنفس الطبيعة، لقد كان إلهاً وإنساناً في شخصٍ واحدٍ. (١٠:٠٧)

ومن جديد نعلم من ١ تيموثاوس ٣: ١٦: "عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي الرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي الْمَجْدِ". وفي الآيات الافتتاحية من الرسالة إلى العبرانيين نقرأ أن: "اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ - الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ الْعَالَمِينَ" (عب ١: ١- ٢). أكان يمكن قول هذا عن إنسان فقط؟ "الَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ الْعَالَمِينَ، الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيراً لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي". دعوني أقرأ هذه الكلمات بترجمة مختلفة قليلاً: "هو شعاع مجده وصورة جوهره، يحفظ كل شيء بقوة كلمته. وبعدما قام بالتطهير من الخطايا، جلس عن يمين ذي الجلال في العلى". ذاك هو ربنا يسوع المسيح، ولذلك فإن من يؤمن به لا يؤمن فقط بيسوع المسيح الإنسان فقط، بل أيضاً بالذي أرسله، أي الله الآب، إذ أن يسوع قال: "ﭐلَّذِي يَرَانِي يَرَى الَّذِي أَرْسَلَنِي".

"ثم يتابع يسوع كلامه ليقول لنا: "أَنَا قَدْ جِئْتُ نُوراً إِلَى الْعَالَمِ حَتَّى كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِي لاَ يَمْكُثُ فِي الظُّلْمَةِ". هذه هي إحدى الأشياء البارزة في إنجيل يوحنا؛ إنه إنجيل نور وحياة الإنسان. نقرأ في الأصحاح الأول: "الْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ. وَﭐلنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ". النور هو الذي يوضح الأمور، ويقول الإنجيل أن الله نور وليس فيه ظلمة على الإطلاق. يقول يسوع: "«أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ»". ولذلك فأن نتنحى عنه يعني أن نتنحى عن النور. وأن نتبعه وأن نصغي إلى كلمته يعني أن نسلك في النور. نقرأ: "إِنْ سَلَكْنَا فِي النُّورِ كَمَا هُوَ فِي النُّورِ، فَلَنَا شَرِكَةٌ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ، وَدَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ" (١ يوحنا ١: ٧).

ربنا يسوع المسيح ليس هو نور العالم فحسب، بل هو أيضاً نور السموات. في الأصحاح ٢١ من سفر الرؤيا، حيث نجد ذلك الوصف ذلك الوصف الرائع للمدينة الجديدة، المدينة القائمة على أساس، والتي الله هو بانيها وصانعها، نقرأ في الآيات ٢٢، ٢٣: "لَمْ أَرَ فِيهَا هَيْكَلاً، لأَنَّ الرَّبَّ اللهَ الْقَادِرَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ هُوَ وَالْحَمَلُ هَيْكَلُهَا. وَالْمَدِينَةُ لاَ تَحْتَاجُ إِلَى الشَّمْسِ وَلاَ إِلَى الْقَمَرِ لِيُضِيئَا فِيهَا، لأَنَّ مَجْدَ اللهِ قَدْ أَنَارَهَا، وَالْحَمَلُ سِرَاجُهَا". يسوع هو نور كل السموات وأيضاً نور العالم. والشكر لله، فكثيرون منا يمكنهم القول أن "اللهَ الَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لِإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (٢ كور ٤: ٦).

إني أتساءل إذا ما كان من بينكم يا قُرائي من هو مُرتبكٌ بسبب أحوال الدنيا الحالية؛ مضطرباً ومرتبكاً ومحزوناً وهو يفكر ببؤس وأسى في ما يحيط به. في شكٍ وارتباكٍ وحيرةٍ قد تتساءلون على الدوام: "لماذا، وماذا، ومن أجل ماذا؟" آهٍ، يا صديقي العزيز، الجواب على كل أسئلتك هذه قد تجدها في معرفة ربنا يسوع المسيح، لأنك عندما تعرفه، فإنه يكشف ويُوضح كل شيءٍ لك، ويشرح كل شيء. ففيه تكمن كل كنوز الحكمة والمعرفة. أصغوا إلى كلماته من جديد وهو يقول: "كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِي لاَ يَمْكُثُ فِي الظُّلْمَةِ". عندما تضع ثقتك وإيمانك به، عندما تقتبله بالإيمان كمخلصٍ شخصيٍ لك، وتسلم حياتك له، وتعترف به رباً لك، عندما تتخذه معلماًًً إلهياً لك، فإنه يفتح ويكشف كل الأسرار الغامضة التي تربكك وتحيرك. نوره يشع ويسطع على الظلمة ويزيلها.(١٢:٢٨) في دانيال ٢: ٢٢ نقرأ: "يَعْلَمُ مَا هُوَ فِي الظُّلْمَةِ وَعِنْدَهُ يَسْكُنُ النُّورُ". وعندما تؤمن به، تأتي إلى النور، ونوره يجعل كل الأشياء واضحة. يقول الرسول يوحنا في رسالته الأولى (١ يو ٢: ٨): "الظُّلْمَةَ قَدْ مَضَتْ، وَالنُّورَ الْحَقِيقِيَّ الآنَ يُضِيءُ".

وفي يوحنا ١٢: ٤٧ يقول الرب (يسوع): "وَإِنْ سَمِعَ أَحَدٌ كلاَمِي وَلَمْ يُؤْمِنْ فَأَنَا لاَ أَدِينُهُ لأَنِّي لَمْ آتِ لأَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لأُخَلِّصَ الْعَالَمَ". لقد جاء الرب يسوع المسيح إلى هذا العالم كتعبير عن نعمة الله المطلقة التي لا نظير لها. لقد احتمل كل العار الذي راكمه الناس عليه. وتساهل معهم إذ أشاحوا عن شهادته. ولكن سيأتي يوم يظهر فيه كدياّن، وعندها إذا ما كان الناس قد رفضوا نعمته فإنهم سيعرفون غضب الحمل. عندما يُفتح الختم السادس، كما تقول الآية ١٢:٦ من سفر الرؤيا، يرى يوحنا انهيار ما نسميه حضارةً في يوم الضيقةِ الذي سيلي هذا الدهر التدبيري الرائع من نعمة الله.(١٣:٥٧) وفي الآيات (رؤيا ٦: ١٥- ١٧)، نقرأ: "وَمُلُوكُ الأَرْضِ وَالْعُظَمَاءُ وَالأَغْنِيَاءُ وَالأُمَرَاءُ وَالأَقْوِيَاءُ وَكُلُّ عَبْدٍ وَكُلُّ حُرٍّ، أَخْفَوْا أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَغَايِرِ وَفِي صُخُورِ الْجِبَالِ، وَهُمْ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ وَالصُّخُورِ: «اُسْقُطِي عَلَيْنَا وَأَخْفِينَا عَنْ وَجْهِ الْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ وَعَنْ غَضَبِ الْحَمَلِ، لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ يَوْمُ غَضَبِهِ الْعَظِيمُ. وَمَنْ يَسْتَطِيعُ الْوُقُوفَ؟" يا له من تعبير: "غَضَبِ الْحَمَلِ"! لا نربط في العادة بين كلمتي "غضب" و"حمل"؛ إذ نعتقد أن الحمل هو رمز اللطف والوداعة، وصحيح ما نفعل. ونقرأ: "كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ" (أشعياء ٥٣: ٧). لقد سمح للخُطاة بأن يعصبِوا عينيه ويلطموه بأيديهم، وأن يسببوا له الكرب الشديد، وأخيراً أن يُسمروه على صليب العار. ولكن أيام اتضاعه، كمرفوضٍ مرذولٍ على الأرض قد انتهت، وها هو يجلس ممجداً على عرش الآب. إنه يتكلم بسلامٍ الآن لكل الذين يؤمنون به. ولكن إذا ما أصر الناس وعاندوا مصممين على رفض رسالته، وإن رفضوا أن يسمعوا، فكما يقول الكتاب، سيقع عليهم غضب الحمل الذي سيلي يوم النعمة. يا لحماقةِ أولئك الناس الذين ينحون بوجههم عنه. يقول لنا في الآية ٤٨ (من إنجيل يوحنا) أن: "مَنْ رَذَلَنِي وَلَمْ يَقْبَلْ كلاَمِي فَلَهُ مَنْ يَدِينُهُ. اَلْكلاَمُ الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ هُوَ يَدِينُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ". يا لحماقة الذين يرفضون المسيح! ليت الناس يدركون أنهم برفضهم له (للمسيح) إنما يخطئون تجاه مصالحهم و فائدتهم هم أنفسهم!

في أمثال ١ نسمع الحكمة تناشد الإنسان ليترك طريق الحماقة ويصغي إلى صوتها. فما هي الحكمة؟ إنها تشير حقاً إلى ربنا يسوع المسيح، لأنه حكمة الله. هل تشيح بوجهك عن ذاك الذي هو أحكم الحكماء وأفضل الجميع؟ تقول الحكمة: "إن تنحيتم عني، فسيأتي يومٌ عندما ستطلبون الرحمة ولكن عبثا". في أمثال ١: ٢٢- ٢٣ نقرأ: "أَنَا أَيْضاً أَضْحَكُ عِنْدَ بَلِيَّتِكُمْ. أَشْمَتُ عِنْدَ مَجِيءِ خَوْفِكُمْ. إِذَا جَاءَ خَوْفُكُمْ كَعَاصِفَةٍ وَأَتَتْ بَلِيَّتُكُمْ كَالزَّوْبَعَةِ إِذَا جَاءَتْ عَلَيْكُمْ شِدَّةٌ وَضِيقٌ". متى سيكون هذا؟ ذلك سيكون في نهاية المطاف عندما يأتي يومُ غضب الله العظيم. والآن في هذا اليوم من نعمته، تناشد الحكمة الناس ليسلكوا طريق التوبة، ويقبلوا رسالة النعمة، ويؤمنوا بالرب يسوع المسيح. ولكن إن رفضه الناس ورفضوا كلمته، فعندها الرسالةُ نفسها سوف تشهد ضدهم في يوم الدينونة الآتي ذاك.

هناك آية أخرى صادمة جداً في أمثال ٨: ١٦- ١٧ (حيث الحكمة تتكلم) تقول: "بِي تَتَرَأَّسُ الرُّؤَسَاءُ وَالشُّرَفَاءُ كُلُّ قُضَاةِ الأَرْضِ. أَنَا أُحِبُّ الَّذِينَ يُحِبُّونَنِي وَالَّذِينَ يُبَكِّرُونَ إِلَيَّ يَجِدُونَنِي". الحكمة التي هي المسيح، يقول: "أَنَا أُحِبُّ الَّذِينَ يُحِبُّونَنِي". ولعلك تقول: "ألا يحب (يسوع) الذين لا يحبونه؟" بلى، إنه يحب جميع الناس وبذل حياته عن الجميع، ولكنه بطريقة خاصة جداً يحب الذين يحبونه. ولكن بالبر يجب أن يدين أولئك الذي يرفضون نعمته بازدراء. "مَنْ رَذَلَنِي وَلَمْ يَقْبَلْ كلاَمِي فَلَهُ مَنْ يَدِينُهُ. اَلْكلاَمُ الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ هُوَ يَدِينُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ". عندما نرفض المسيح فإننا لا نخطئ تجاه المسيح والله وحسب بل تجاه أرواحنا ذاتها أيضاً.

في إنجيل لوقا ٧: ٣٠ نقرأ: "وَأَمَّا الْفَرِّيسِيُّونَ وَالنَّامُوسِيُّونَ فَرَفَضُوا مَشُورَةَ اللهِ مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهِمْ غَيْرَ مُعْتَمِدِينَ مِنْهُ". واليوم عندما نجد الناس يرفضون رسالة الإنجيل الكاملةَ الواضحةَ، المرسلةَ بقوة الروح القدس، المتعلقة بربنا يسوع المسيح، فإنهم إنما يُخطئون تجاه أرواحهم أنفسهم. إن كنتَ يا قارئي العزيز، تسلك هكذا نحو المسيح، فإني أناشدك أن تنعطف إليه وأن تجد نصيباً مُرضياً لروحك، لئلا يأتي يومٌ تجد نفسَك وسط من يكونون عبثاً طالبين الرحمة. "مِنْ بَعْدِ مَا يَكُونُ رَبُّ الْبَيْتِ قَدْ قَامَ وَأَغْلَقَ الْبَابَ وَابْتَدَأْتُمْ تَقِفُونَ خَارِجاً وَتَقْرَعُونَ الْبَابَ قَائِلِينَ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ افْتَحْ لَنَا يُجِيبُكُمْ: لاَ أَعْرِفُكُمْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمْ!" (لوقا ١٣: ٢٥).

والآن في الآيات ٤٩ و ٥٠ من الأصحاح ١٢ (في إنجيل يوحنا) نجد يسوع يقول: "لأَنِّي لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنْ نَفْسِي لَكِنَّ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَنِي". إن ربنا يسوع المسيح، عندما غادر مجد الآب ونزل إلى هذا العالم، لم يتوقف عن أن يكون إلهاً؛ لم يتوقف عن أن يكون كليّ القدرة ولكن اختار ألا يستخدم قدرته الإلهية الكلية، بل أن يتعلم من الآب. لقد اختار أن يكون محدوداً بمكانٍ محددٍ معينٍ، كإنسانٍ، هنا على الأرض. واختار ألا يستخدم قدرته الكاملة. بل أن يأخذ مكان الإنسان، الخاضع لله. لذلك فإن الإنجيل يقول لنا أن الأعمال التي عملها، إنما فعلها بقوة الروح القدس، والكلمات التي نطق بها، إنما تكلم بها لأن الله أعطاهُ إياها ليقولها. لقد تم التنبؤ عنه (عن المسيح) قبل سنين كثيرةٍ من مجيئه إلى هذا العالم، إذ أن أشعياء ٢:٥٠ تشير إلى لاهوته وناسوته كليهما معاً. نقرأ: "لِمَاذَا جِئْتُ وَلَيْسَ إِنْسَانٌ نَادَيْتُ وَلَيْسَ مُجِيبٌ؟ هَلْ قَصَرَتْ يَدِي عَنِ الْفِدَاءِ وَهَلْ لَيْسَ فِيَّ قُدْرَةٌ لِلإِنْقَاذِ؟ هُوَذَا بِزَجْرَتِي أُنَشِّفُ الْبَحْرَ. أَجْعَلُ الأَنْهَارَ قَفْراً. يُنْتِنُ سَمَكُهَا مِنْ عَدَمِ الْمَاءِ وَيَمُوتُ بِالْعَطَشِ" (أشعياء ٥٠: ٢). من هو المتحدث هنا؟ كل من يقرأ هذه الآية سيدرك حقيقة أن المتكلم هو الله نفسه. إنه خالق كل الأشياء، فالله وحده هو القادر أن يقول: "أُلْبِسُ السَّمَاوَاتِ ظَلاَماً وَأَجْعَلُ الْمِسْحَ غِطَاءَهَا" (أشعياء ٥٠: ٣). الله هو الذي أحدث ظلمة على مصر. الله وحده هو الذي يقدر أن يقول: "بِزَجْرَتِي أُنَشِّفُ الْبَحْرَ" (البحر الأحمر). الله وحده يستطيع أن يقول: "أَجْعَلُ الأَنْهَارَ قَفْراً". ما من أحد سوى الله بمقدوره أن يفعل كل هذه الأشياء.

ولكن لاحظوا الآيات التالية. إن المتكلم هو نفسه، ولكن لاحظوا اختلاف اللغة. "أَعْطَانِي السَّيِّدُ الرَّبُّ لِسَانَ الْمُتَعَلِّمِينَ لأَعْرِفَ أَنْ أُغِيثَ الْمُعْيِيَ بِكَلِمَةٍ. يُوقِظُ كُلَّ صَبَاحٍ يُوقِظُ لِي أُذُناً لأَسْمَعَ كَالْمُتَعَلِّمِينَ" (أشعياء ٥٠: ٤). وفي ترجمة أخرى: "أعطاني السيد الرب لسان تلميذ". لا حظوا أن المتحدث بقي نفسه، الذي أمكنه أن يقول: "أُلْبِسُ السَّمَاوَاتِ ظَلاَماً" يقول الآن: "أَعْطَانِي السَّيِّدُ الرَّبُّ لِسَانَ الْمُتَعَلِّمِينَ لأَعْرِفَ أَنْ أُغِيثَ الْمُعْيِيَ بِكَلِمَةٍ". هنا تجدون ناسوته. الخالق جاء إلى خليقته خاصته. كم من ملايين من النفوس المتعبة القلقة سمعت صوته! ما أكثر الذين سمعوه يقول: "تعالوا إلي أيها المتعبون والثقيلو الأحمال". وقد جاؤوا إليه وتأكدوا بأنفسهم بأنه يمكنه أن يفي بوعوده التي يقطعها على نحو رائع.

بمتابعة قراءة أشعياء ٥٠: ٥، نجد القول: "السَّيِّدُ الرَّبُّ فَتَحَ لِي أُذُناً وَأَنَا لَمْ أُعَانِدْ. إِلَى الْوَرَاءِ لَمْ أَرْتَدَّ. بَذَلْتُ ظَهْرِي لِلضَّارِبِينَ وَخَدَّيَّ لِلنَّاتِفِينَ. وَجْهِي لَمْ أَسْتُرْ عَنِ الْعَارِ وَالْبَصْقِ". إنه يسوع هو الذي يتكلم بلسان النبي (أشعياء) قبل مجيئه إلى هذا العالم بسبعمائة سنة.

وهكذا يقول: "لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنْ نَفْسِي لَكِنَّ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ أَعْطَانِي وَصِيَّةً: مَاذَا أَقُولُ وَبِمَاذَا أَتَكَلَّمُ". يوماً فيوماً كان ربنا المبارك يعلم من الآب ما يقول لأولئك الذين كانوا يسمعونه يكرز. "هُوَ أَعْطَانِي وَصِيَّةً: مَاذَا أَقُولُ وَبِمَاذَا أَتَكَلَّمُ". وهكذا، فإن الحياة الأبدية نجدها في اقتبال الكلمة. "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ" (يوحنا ٥: ٢٤).

"وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ وَصِيَّتَهُ هِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. فَمَا أَتَكَلَّمُ أَنَا بِهِ فَكَمَا قَالَ لِي الآبُ هَكَذَا أَتَكَلَّمُ". وفي هذا القول ختام لتقديم الرب نفسه للعالم. إن رفضَ الشهادة المقدمة في هذه الأصحاحات الإثني عشر الأولى من إنجيل يوحنا، فليس لدى الله المزيد ليقوله لهم. لقد أعطى فيها كامل إعلانه. هل اقتبلتَ الرب يا عزيزي القارئ، أم أنك لا تزال ترفضه؟