الخطاب ١٥

المعادلُ لله

"فَأَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ». فَمِنْ أَجْلِ هَذَا كَانَ الْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْ يَقْتُلُوهُ لأَنَّهُ لَمْ يَنْقُضِ السَّبْتَ فَقَطْ بَلْ قَالَ أَيْضاً إِنَّ اللَّهَ أَبُوهُ مُعَادِلاً نَفْسَهُ بِاللَّهِ. فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمُ: «ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَقْدِرُ الاِبْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاً إِلاَّ مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ. لأَنْ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهَذَا يَعْمَلُهُ الاِبْنُ كَذَلِكَ. لأَنَّ الآبَ يُحِبُّ الاِبْنَ وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْمَلُهُ وَسَيُرِيهِ أَعْمَالاً أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ لِتَتَعَجَّبُوا أَنْتُمْ. لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الأَمْوَاتَ وَيُحْيِي كَذَلِكَ الاِبْنُ أَيْضاً يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ. لأَنَّ الآبَ لاَ يَدِينُ أَحَداً بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلاِبْنِ لِكَيْ يُكْرِمَ الْجَمِيعُ الاِبْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ. مَنْ لاَ يُكْرِمُ الاِبْنَ لاَ يُكْرِمُ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَهُ. «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ" (يوحنا ٥: ١٧- ٢٤).

لقد كنا نتأمل في سرد رواية شفاء ربنا للمشلول عند بركة بيت حسدا، وختمنا الحديث بملاحظة سخط ونقمة اليهود الناموسيين في ذلك اليوم الذين كانوا منزعجين لأن الرب فعل ذلك في يوم سبتٍ. كان اليهود قد أضافوا الكثير من نواميسهم أو شرائعهم الخاصة إلى تلك التي جاءت في أسفار موسى. لقد كانوا مهتمين أكثر بالتقنيات في هذه القضية أكثر منهم بالبركة التي نالها ذلك الرجل المسكين الذي طال انتظاره للتحرر والانعتاق. "كَانَ الْيَهُودُ يَطْرُدُونَ يَسُوعَ وَيَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ لأَنَّهُ عَمِلَ هَذَا فِي سَبْتٍ".

لاحظوا دفاع ربنا: "فَأَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ»". ما الذي قصده يسوع بذلك؟ لماذا يريدهم أن يعودوا بذاكرتهم إلى الخلق؟  لقد خلق الله السموات والأرض خلال فترة لا تقاس في مدتها إزاء ما يستطيع الإنسان أن يدونه. إنهم لا يعرفون متى حدث ذلك. وأياً كان زمن حدوث ذلك، ما لا شك فيه هو أن الله خلق السموات والأرض آنذاك. ثم دخلت الأرض في حالة فوضى وتشوش، وأخذ الله على عاتقه مهمة إعادة خلق الأرض لكي تصبح مسكناً للإنسان ومسرحاً لأحداث دراما الفداء العظيمة. وهكذا لدينا عمل الأيام الستة التي فيها تم تحويل العالم من الفوضى والشواش إلى النظام، ونعلم من الكتاب أن الله استراح في اليوم السابع وذلك اليوم السابع كان مقدساً. لقد كان يومَ راحةٍ للرب. ولكن، ويا للأسف، فإن يوم راحة الله كان قصيراً جداً، إذ سرعانَ ما دخلت الخطيئة إلى تلك الخليقة الجميلة التي لم يكن قد مر زمنٌ طويل على إعلان أنها كانت حسنةٌ جداً. وعندما دخلت الخطيئة، عاد الله إلى العمل من جديد، ولم يجد راحةً أبداً بعد ذلك إلى أن استراح أخيراً في العمل الذي قام به ابنه الحبيب على صليب الجلجثة. خلال جميع آلاف السنين التي سبقت الصليب لم يحفظ الله السبتَ. لقد أعطى للإنسان يوم راحةٍ في الناموس لأجل بركة الإنسان وخيره. ويسوع نفسه يقول : "جُعل السبتُ للإنسان وليس الإنسانُ من أجل السبت". ولكن عندما أعطى الله للإنسان يوماً من أصل سبعة أيام، فإنه لم يتمتع بالراحة هو نفسه. لقد كان من غير المعقول أنه، وهو الله المحبُّ القدوسُ الحنون، أن يستريحَ بينما مسألةُ الخطيئة تبقى بدون حلٍ. ولذلك أجاب يسوع أولئك الرجال قائلاً: "أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ". ذلك لأنه كان واحداً مع الآب، وقام بالعمل مع الآب في كل ما عمله، وهكذا كان يعمل في العالم ليبطل نتائج الخطيئة؛ وهؤلاء انتقدوه لأنه أعتق إنساناً من آثار الخطيئة في يوم سبت. وهذا إنما يظهر مدى ضآلة فهمهم لفكر الآب. "أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ". لم يفهموا. وازدادت نقمتهم حتى فكروا بأن يقتلوه ليس لأنه لم يحفظ يوم السبت فقط بل أيضاً لأنه قال أن الله كان أباه. فهذا التعبير خاص نوعاً ما. ويعني أنه أعطى لنفسه الحق بأن يستخدم هذا الاسم بطريقة لم يجرؤ أي أحد آخر من الناس على أن يقوم بها. لقد قال أن الله أباه مساوياً بذلك بينه وبين الله. لقد فهموا من كلام يسوع في أنه ابن الآب على أنه يعتبر نفسه واحداً مع الله الآب- في ألوهية واحدة.

اليهود والأمميون كلاهما طالبا بقتل ابن الله. لقد جرّ اليهود يسوع إلى قصر بيلاطس قائلين: "لَنَا نَامُوسٌ وَحَسَبَ نَامُوسِنَا يَجِبُ أَنْ يَمُوتَ لأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ ابْنَ اللَّهِ" (يوحنا ١٩: ٧). كان ذاك اتهامهم له، ولكن بيلاطس أعطى الحكمَ بحيث يكون حسب رغبتهم، ولذلك وقف كممثلٍ عن العالم الأممي، متّهماً أمام محكمة الله بجريمة قتل ابنه المبارك. ومع ذلك كم هو سموحٌ وغفورٌ وكريمٌ إلهنا! إنه يقدم لليهود والأمميين كليهما خلاصاً من خلال ذاك الذي رفضوه، رغم أنهم أنكروه بازدراء واتحدوا في جريمةِ صلبِ ابن الله. كان لليهود أن يرجموه حتى الموت، ولكن بدفعه إلى الأمميين أُرسل إلى الصليب. مهما يكن من أمر، فبفضل ذبيحة نفسه القربانية على صليب العار، صارَ الخلاصُ ممكناً لليهود والأمميين، إذا ما عادوا إلى الله وآمنوا بابنه. لسنا في حاجة لأن نخاف عندئذ في أن نقرّ بأنه كان لنا دورٌ في قتلِ ابن الله. ولكن يمكننا أن نأتي إليه كخطأة تائبين وأن نضع ثقة إيماننا بذاك الذي رفضناه، جاعلين منه مخلصاً شخصياً لنا. "لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْيَهُودِيِّ وَالْيُونَانِيِّ لأَنَّ رَبّاً وَاحِداً لِلْجَمِيعِ غَنِيّاً لِجَمِيعِ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِهِ" (رومية ١٠: ١٢).

الناموسيون من كل نوعٍ يرفضون يسوع دائماً وأبداً. الناموسيون من كل نوع، يهوداً كانوا أم أمميين، سيصلبونه لو كان هنا من جديد. كيف لك أن تبرهنَ ذلك؟ لماذا لا يريدونه الآن؟ لو كانوا يريدونه لكانوا سيقبلونه ويؤمنون باسمه، ولكنهم يرفضون أن يؤمنوا، مظهرين بذلك أن قلوبهم هي نفسها اليوم كما قلوب أولئك الذين سعوا ليقتلوه. لقد سعوا ليقتلوه لأنهم أنكروا ألوهيته. لقد أعلن أنه كان والآب الأبدي واحداً. لقد جعل نفسه معادلاً لله. "فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمُ". وبدلاً من محاولة تسهيل الأمور لهم، فإنه يجعلها أصعب. إن أشاحَ الناسُ عنه ورفضوا أن يؤمنوا، فعندها سيعطيهم شيئاً أكثر صعوبة ليؤمنوا. ولكن إن جاءوا إليه في توبةٍ، فإنه سيجعل الأمور سهلةً بسيطةً لكي يستطيعوا بسهولةٍ أن يفهموا.

"قَالَ لَهُمُ: ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَقْدِرُ الاِبْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاً إِلاَّ مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ. لأَنْ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهَذَا يَعْمَلُهُ الاِبْنُ كَذَلِكَ". يا له من إعلانٍ رائع! إن الابن يرى كل ما يفعله الآب فيفعل مثله. هل في مقدور إنسان أن يجرؤ على قول ذلك؟ إن يفعل ذلك، أفلن يصنّف على أنه مصابٌ  بجنون العظمة؟ ولكن يسوع تكلّم هكذا لأنه ابن الآب.

يقول: "لاَ يَقْدِرُ الاِبْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاً إِلاَّ مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ". ما معنى ذلك حقاً؟ بعض الناس يظنون أنه يقول: "لديَّ قوة أقل من الآب. فاستطيعُ أن أحاكيه فقط". ولكن العكس تماماً هو الصحيح. إنه يقول: "يستحيلُ على الابن أن يسلكَ بمعزلٍ عن الآب". كل أقنوم من الثالوث القدوس قد يتكلم هكذا. لا يستطيع الآب أن يفعل شيئاً بدون الابن، والروح القدس لا يستطيع أن يفعل شيئاً بدون الابن، والآب لا يستطيع أن يفعل شيئاً بدون الروح القدس، والروح القدس لا يستطيع أن يفعل شيئاً بدون الآب، والابن لا يستطيع أن يفعل شيئاً بدون الآب، والابن لا يستطيع أن يفعل شيئاً بدون الروح القدس. بمعنى آخر، العلاقة بين الأقانيم الثلاثة في الله هي بحيث أنه ما من أحدٍ يمكن أن يسلك بمعزلٍ عن الآخَرين. مهما كان ما يفعله الروح القدس، فإنه يفعل ذلك بشركةٍ كاملةٍ مع الابن ومع الآب، وهكذا الحال مع كلِ أقنوم آخر من الثالوث القدوس السرمدي. لدينا هنا تصوير رائع لحقيقة وحدة الثالوث القدوس في جوهرٍ واحد. نتحدث أحياناً عن ثلاثة أقانيم للثالوث وهم الآب، الأقنوم الأول؛ الابن، الأقنوم الثاني؛ الروح القدس، الأقنوم الثالث. لكنَّ الكتاب المقدس لا يظهر هكذا تمييز أو تفريق. الله الآب، الله الابن، والله الروح القدس هم واحدٌ متساوين في القدرة ومتساوين في الأبدية، وما من أحدٍ يمكنه أن يتصرف بدون الموافقة الكاملة والشركة مع الآخَرين. فهنا، كإنسان على الأرض، أمكن للرب يسوع أن يواجه متّهميه في ذلك اليوم ويقول: "لاَ يَقْدِرُ الاِبْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاً إِلاَّ مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ". ويضيف قائلاً: "لأَنَّ الآبَ يُحِبُّ الاِبْنَ وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْمَلُهُ وَسَيُرِيهِ أَعْمَالاً أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ لِتَتَعَجَّبُوا أَنْتُمْ". كم هو أمر مستحيل كلياً بالنسبة لنا أن نفهم محبة الآب للابن كإنسان هنا على الأرض. لثلاث مرات شقَّ الله السموات فوقَ رأسِ يسوع ليُعلن محبته لابنه. قائلاً: "هذا هو ابني الحبيب". "لأَنَّ الآبَ يُحِبُّ الاِبْنَ وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْمَلُهُ". إنهما متحدين في المشورة والقصد و"سَيُرِيهِ أَعْمَالاً أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ لِتَتَعَجَّبُوا أَنْتُمْ". لقد كان ينظر بعيداً إلى انتصاراته على الصليب وفي قيامته.

لقد ادّعى ربُّنا أن له نفس القدرة تماماً كما الآب في إقامة الموتى. "لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الأَمْوَاتَ وَيُحْيِي كَذَلِكَ الاِبْنُ أَيْضاً يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ" (يوحنا ٥: ٢١). أن يُحْيِي يعني أن يمنح الحياة. والابن يعطي الحياة لكل من يشاء. عندما نفكر في القيامة،  فإننا نفكر في القدرة الكلية لله وقد استُخدمت لاستعادة الموتى من القبر. هذه القوةُ والقدرة تُنسب إلى الآب والابن والروح القدس. وهذا صحيحٌ فيما يتعلق بقيامةِ ربنا نفسِها. نقرأ أنه كان قد أُقيم من الأموات بمجدِ الآب. لقد قال: "انْقُضُوا هَذَا الْهَيْكَلَ وَفِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ" (يوحنا ٢: ١٩). وفي مزضع آخر يقول: "لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُ (حياتي) مِنِّي بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً" (يوحنا ١٠: ١٨). ومن ثم يُقال لنا أن الروح القدس الذي أقام المسيح من بين الأموات سوف يُحيي أجسادنا الفانية. الله الآب، حسبما يُقال، قد أقامه من بين الأموات. الثالوث القدوس كلهُ عَمِلَ كشخصٍ واحد ليُقيم الرب يسوع، والثالوث القدوس كله سيشاركُ في قيامة جميع أولئك الذين في المسيح عند مجيئه. إن الله الآب والله الروح القدس والله الابن هو الذي يدعو الأمواتَ ليخرجوا من القبور.

ثم قال الربُّ أمراً مروعاً: "لأَنَّ الآبَ لاَ يَدِينُ أَحَداً بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلاِبْنِ". يا له من إعلان مذهل! فذاك الذي جال تلال ووديان فلسطين، وفي الظاهر ما هو إلا حرفي من الجليل، يقول: "الآب ..... أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلاِبْنِ". "وَأَعْطَاهُ سُلْطَاناً أَنْ يَدِينَ أَيْضاً لأَنَّهُ ابْنُ الإِنْسَانِ" (يوحنا ٥: ٢٧). يقول الكتاب: "الله أَقَامَ يَوْماً هُوَ فِيهِ مُزْمِعٌ أَنْ يَدِينَ الْمَسْكُونَةَ بِالْعَدْلِ بِرَجُلٍ قَدْ عَيَّنَهُ مُقَدِّماً لِلْجَمِيعِ إِيمَاناً إِذْ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ" (أعمال ١٧: ٣١). نقرأ في الكتاب أن الله سيدين العالم، ولكننا هنا نقرأ أن الديان هو ذاك الذي صار إنساناً لأجل فدائنا. يا له من إعلان مدهش! هل أنت خارج المسيح اليوم؟ إن كنتَ ستموت على هذا النحو، فإنه سيتوجب عليك أن تقفَ أمام العرش الأبيض العظيم، حيث ستجدُ نفسكَ تنظرُ إلى وجه إنسان. سوف ترى المسيح يسوع الإنسان جالساً على ذلك العرش، ذاك الذي ذهب إلى صليبِ الجلجثة ليموت من أجلكَ. سوف تُقدّم حساباً عن نفسك أمامهُ، وشفتاهُ سوف تُعلنانِ حكم الدينونة. ونحن الذين نؤمن، سوف لن نضطر إلى المجيء إلى دينونةٍ عن خطايانا، ومع ذلك فإننا سنقفُ جميعاً أمام كرسي الدينونةِ الذي يتربع عليه المسيح. سوف ينظرُ الربُّ يسوع إلى كلِّ سلوكنا هنا على الأرض، لأن نعمته أعطتنا أن نعرف الله كأبانا والمسيح كمخلص لنا، ولسوف يفحص كلّ عملنا ويحكم على الأعمال التي قمنا بها في الجسد. ربنا يسوع المسيح سيقوم بذلك. فهو الذي سيجمع أَمَامَهُ جَمِيع الشُّعُوبِ للدينونة في خاتمة المطاف: "مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ" (متى ٢٥: ٣١). "الآب ..... أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلاِبْنِ".

"لِكَيْ يُكْرِمَ الْجَمِيعُ الاِبْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ. مَنْ لاَ يُكْرِمُ الاِبْنَ لاَ يُكْرِمُ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَهُ". أحد أكبر الانشقاقات التي حدثت في الكنيسة الأولى كانت بسبب بدعة آريوس. فقد كان آريوس يعلّمُ أنه من غير المعقول أن يكون الرب يسوع المسيح هو الابن السرمدي غير المخلوق للآب. بل أكّد أنه كان أول كائن مخلوق؛ فهو لم يكن أزلياً، ولم يكن هناك أحد مع الله الآب من الأزل. ووقف أثناسيوس ضد آريوس. وقال أن الرب يسوع هو من الأزل إلى الأبد، وهو ابن سرمدي كما أن الله الآب سرمدي هو وكذلك الروح القدس. تلك البدعة مزّقت الكنيسة لسنوات كثيرة، ولكن حدث في نهاية الأمر في مجمع نيقية أن تم الإعلان بشكل محدد بأن الكتاب المقدس يعلّم حقيقة أن الرب يسوع المسيح كان متحداً مع الله الآب منذ الأزل. وظلت الكنيسة بعد ذلك في حالة قلق لمدة قرن بسبب نفس الجدال الدائر.

ففي إحدى المناسبات، تم استدعاء أثناسيوس المدافع الشجاع عن حقيقة مساواة المسيح بالآب للمثول أمام أحد الأباطرة الذي كان قد منح ابنه الملكي شرف مشاركته السلطة الإمبراطورية وأن يشاطره الجلوس على العرش. ولدى حضور أثناسيوس إلى البلاط، انحنى مطولاً أمام الإمبراطور وتجاهل الابن كلياً. فصرخ الحاكم غاضباً: "ما هذا؟ أتدّعي احترامنا بينما تهين ابننا ولا تعيره انتباهاً، وهو شريكنا في السلطان؟" فأجابه أثناسيوس: "أفلا تدّعي أنت أيضاً أنك تكرم الله الآب بينما تنكر على ابنه المساوي له هذه الكرامة؟" لقد شاع انتشار هذا القول ولكننا لا نعلم إن كان الإمبراطور قد رأى الحقيقة أم لا؟

والآن نأتي إلى آيةٍ استخُدْمِت كثيراً كمثل باقي آيات إنجيل يوحنا في ربح النفوس: "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ" (يوحنا ٥: ٢٤). يا له من قول مذهل هذا الذي نجده هنا! أنى لأي مؤمن بالرب يسوع أن يشك في خلاصه الأبدي وهذه الكلمات موضوعة أمامه، كلمات تصل إلينا مباشرة من شفاه ابن الله نفسه؟ إنه يبدأ كلامه باليمين الإلهي: "اَلْحَقَّ الْحَقَّ". ورود هذه الكلمة مثنى (مرتين) لا نجده إلا في إنجيل يوحنا. و نجدها هناك مراراً وتكراراً، وهي دائماً تستهل حقيقة في غاية الأهمية. وفي إحدى ترجمات الكتاب المقدس نجد القول "آمين، آمين، أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يَسْمَعُ كلاَمِي وَيُؤْمِنُ بمَنْ أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ". فكروا في هذه الآية! يا له من إعلان رائع! "آمين، آمين"، "اَلْحَقَّ الْحَقَّ"! إنه يعني "مما لا جدال فيه: إن من يسمع كلامي........ ". هل سمعتَ كلامَه؟ هناك كثيرون يسمعون بأذنهم الخارجية، ولكن لا يسمعون بقلبهم. إنه يتحدث عن سماع الكلمة بمعنى اقتبالها في القلب. فهو يتحدث عمن يقتبل ما قاله الله بكلمته ويؤمن به- أي بما قاله الله فيما يخص حالتنا الساقطة وفدائنا- أي من يسمع كلمة الإنجيل، "وَيُؤْمِنُ بمَنْ أَرْسَلَنِي"- أي "يؤمن به ويصدّقه". الله هو الذي تكلّم. وعندما أقف وأنقل للناس شيئاً مما جاء في الكتاب، فإني إنما أكرز بما قاله الله. هل تؤمن بالله أو تصدّقه؟ يقول الناس أحياناً: "إني أحاول أن أؤمن". بمن تحاول أن تؤمن؟ الله تكلّم. فإما أن تصدق كلامه وتؤمن به وإما فلا. فإن آمنتَ بما قاله الله، يعلن ربنا أنك تنال حياة أبدية. ولاحظ أن الأمر ليس أنك تأمل أن تنال الحياة الأبدية، إن ثابرتَ على الإيمان. ليس الحديث عن حياة أبدية في نهاية الزمان (أي في المستقبل). بل الحديث هو بصيغة الزمن الحاضر (المضارع): "يُؤْمِنُ". ومن بين المعاني، هناك الحياة الأبدية في نهاية الزمان. فإن كنتُ مؤمناً بيسوع المسيح اليوم، فإني أعلم أني في يوم ما، عندما يأتي ثانيةً، سوف يُقامُ جسدي نفسه إلى الحياة الأبدية. إلا أن كل مؤمن، هنا والآن، يملك حياةً، حياةً أبدية. فحياةُ الله نفسها تُعطى لمن يؤمن بكلمة الله.

والآن لننظر إلى القول: "لاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ". هذه الكلمة تعني "محاكمة" حقاً. فما من محاكمة يخضع لها أولئك الذين هم في المسيح. لماذا؟ لأن الرب يسوع المسيح نفسه حمل دينونتنا عندما بسط يديه على الصليب. فهناك خطايانا جميعها قد أُلقيتْ على بديلنا المبارَك، ولذلك فما عدنا خاضعين لمحاكمة أو دينونة على خطايانا. فيوم دينونتنا كان يوم الصلب.

"لقد مات يسوع، ومُتنا معه،
وفي قبره دُفِنّا".

لقد تمت تسوية كل خطايانا عندما أخذ الرب مكاننا على عود الصليب، ولذا فلن نأتي إلى دينونة بل انتقلنا لتونا من الموت إلى الحياة.