الخطاب ٣٣

ضمان  خروف المسيح

"لِهَذَا يُحِبُّنِي الآبُ لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضاً. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً. هَذِهِ الْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي». فَحَدَثَ أَيْضاً انْشِقَاقٌ بَيْنَ الْيَهُودِ بِسَبَبِ هَذَا الْكلاَمِ. َقَالَ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ: «بِهِ شَيْطَانٌ وَهُوَ يَهْذِي. لِمَاذَا تَسْتَمِعُونَ لَهُ؟» آخَرُونَ قَالُوا: «لَيْسَ هَذَا كلاَمَ مَنْ بِهِ شَيْطَانٌ. أَلَعَلَّ شَيْطَاناً يَقْدِرُ أَنْ يَفْتَحَ أَعْيُنَ الْعُمْيَانِ؟». وَكَانَ عِيدُ التَّجْدِيدِ فِي أُورُشَلِيمَ وَكَانَ شِتَاءٌ. وَكَانَ يَسُوعُ يَتَمَشَّى فِي الْهَيْكَلِ فِي رِوَاقِ سُلَيْمَانَ فَاحْتَاطَ بِهِ الْيَهُودُ وَقَالُوا لَهُ: «إِلَى مَتَى تُعَلِّقُ أَنْفُسَنَا؟ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ فَقُلْ لَنَا جَهْراً». أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ. اَلأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا بِاسْمِ أَبِي هِيَ تَشْهَدُ لِي. وَلَكِنَّكُمْ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنْ خِرَافِي كَمَا قُلْتُ لَكُمْ. خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. أَبِي الَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي. أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ»" (يوحنا ١٠: ١٧- ٣٠).

هناكَ مو ضوعان بارزان في هذه الآيات، ولعلهُ يحسنُ بنا القول أن الآيات ١٧و ١٨ تنتمي حقاً إلى المقطع السابق، الذي يصورُ مخلِّصنا كراعٍ صالح قد وضع حياته عن خرافه. يؤكدُ ربُّنا على حقيقة أنهُ ليس الإنسان هو من أجبرهُ على أن يفعل ذلك. بمعنى آخر، ما كان يسوعُ مضطراً لأن يموت. كانت إنسانيته مختلفة عن إنسانيتنا في هذا الأمر، أننا نبدأ بالموت حالما نُولد. إنَّ بذار الموت، بالحقيقة، هي في جسد كل ابن لآدم. نحنُ جميعاً تحت اللعنة التي وقعت على آدم، "موتاً تموت". أجسادنا هذه زائلة فانية، أي خاضعة للموت. لم يكن الأمر كذلك مع جسد ربِّنا يسوع المسيح. نعلم من الكتاب أنَّ "الْخَطِيَّةُ إِذَا كَمُلَتْ تُنْتِجُ مَوْتاً" (يعقوب ١: ١٥). وهذا هو السبب في أننا نموت، ليس لأننا جميعاً ورثنا فيروس خطيئة آدم. إلا أن ربنا يسوع المسيح كان العديم الخطأ وحده، ولذلك، وبينما جاءَ إلى هذا العالم بجسدٍ كان ليموت، لم يكن من الضروري أن يموت حقاً. فقد كان يمتلكُ من ذاته قدرةً على أن يموت أو أن يحيا إلى ما لا نهاية. ولكنهُ مات بدافع المحبة عن نفوسنا الآثمة وبدافع المحبة نحو الله الآب، لأنه جاء ليصنعَ مشيئة الآب.

في المزمور ١١٨ نسمعه يقول على لسان صاحب المزامير: "الرَّبُّ هُوَ اللهُ وَقَدْ أَنَارَ لَنَا. أَوْثِقُوا الذَّبِيحَةَ بِرُبُطٍ إِلَى قُرُونِ الْمَذْبَحِ" (مز ١١٨: ٢٧). لقد كان هو نفسه الشخص الذي كانت كل رموز الناموسِ تشيرُ إليه؛ ولذلك فإنَّ هذه الآية تشيرُ إليه. لقد كان مذبح العهد القديم فيه أربعة قرون نحاسية، ولعلنا لم نعرف أبداً أنها كانت تُستخدم لولا هذه الكلمات. إلا أننا نعلم من هذا المزمور أنهم عندما كانوا يأتونَ ببهيمة،  كثورٍ أو حمل، ليقدموها ذبيحةً، فإنهم كانوا يربطونها إلى قرون المذبح، وكان دمها يراقُ على المذبح، إذ "بدونِ إراقة دم لا تحصل مغفرة".

ولذلك فقد كان ربُّنا يسوع المسيح موثوقاً بربطٍ إلى قرون المذبح. وماذا كانت الربط؟ نقرأ في هوشع ١١: ٤ أن الله قد اجتذبنا بربط المحبة: " كُنْتُ أَجْذِبُهُمْ بِحِبَالِ الْبَشَرِ بِرُبُطِ الْمَحَبَّةِ" (هو شع ١١: ٤). إن ربط المحبة قد اجتذبت قلوبنا البائسة إلى المسيح وقيدتنا إليه، وهي تلك الربط من المحبة التي قيدتهُ إلى الصليب.

"المحبةُ هي التي كانت وراء الجلجثة،
وإلا لما كان يهوذا قد وجدهُ؛
المحبةُ هي التي علقتهُ على الصليب،
وإلا ما كان الحديد ليمكنهُ أن يقيدهُ".

ولم يكن هناكَ رباطٌ واحدٌ فقط؛ بل كان هناكَ ربط. كان هناكَ رباطُ المحبة للآب، ورباطُ المحبةِ لنا. وإننا نسمعهُ يقول:"لِيَفْهَمَ الْعَالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الآبَ وَكَمَا أَوْصَانِي الآبُ هَكَذَا أَفْعَلُ. قُومُوا نَنْطَلِقْ مِنْ هَهُنَا" (يوحنا ١٤: ٣١). وقد مضى إلى بستان الآلام وإلى صليب الكفارة. المحبة نحو الآب أخذتهُ إلى هناك، وهذا لكي يضعَ حياتهُ من أجلنا. ولكنه مكتوبٌ أيضاً: "أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضاً الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا، لِكَيْ يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّراً إِيَّاهَا" (أفسس ٥: ٢٥، ٢٦). وأمكن للرسول (بولس) أن يقول: "ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي" (غلاطية ٢: ٢٠). وهكذا فإن محبته لنا، ونفوسنا المحتاجة، كانت هي الدافع الذي أخذه إلى هناك ودفعه للموت ذبيحة عن الخطية.

ولذلك يقول: "لِهَذَا يُحِبُّنِي الآبُ لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضاً"، رغم أنه صحيح تماماً أن الناس الخطاة أمسكوا به وسمّروه على الصليب. قال الرسول بطرس لليهود في أيامه: "مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ اللهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِقِ وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ" (أع ٢: ٢٣). وعن الأمميين وحكامهم يقول الرسول بولس: "لَمْ يَعْلَمْهَا أَحَدٌ مِنْ عُظَمَاءِ هَذَا الدَّهْرِ - لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْدِ" (١ كورنثوس ٢: ٨). الإنسان مسؤول عن رفض المسيح، ولكن ما كان الإنسان يستطيع أن يفعل شيئاً ليأخذ حياة المسيح. لقد وضع يسوع حياتَه بنفسه. يقول في الآية ١٨: "لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا". بمعنى أنه كانت وصية من الآب أن يضع حياته، وقد جاء ليصنع مشيئة الآب، وهذا يشتمل على تقديم نفسه ذبيحة عظيمة عن الخطية.

ثم لاحِظوا، كما أن له سلطان أن يضع حياته كذا فإن له سلطان أن يأخذها ثانيةً: "هَذِهِ الْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي". إن قيامة الرب يسوع المسيح تُنسب إلى كل أقنوم من الثالوث القدوس. نقرأ "أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ بِمَجْدِ الآبِ" (رومية ٦: ٤). وأيضاً: "الرُوحُ الَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ الأَمْوَاتِ" (رومية ٨: ١١). وبالتالي فإن الروح القدس أيضاً كان له دور في قيامة المسيح. وإضافة إلى ذلك يقول يسوع: "ﭐنْقُضُوا هَذَا الْهَيْكَلَ وَفِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ". وإذاً الآب والابن والروح القدس معاً كانوا معنيين ومشاركين بإقامة ربنا يسوع المسيح كما كانوا جميعاً معنيين ومشاركين في موته. لقد كانت إرادة الآب أن يموتَ الابنُ فداءً لنا. وكانت قوة الروح الأزلي هي التي جعلت المسيح يقدم نفسهُ بلا عيبٍ لله. وبمحبته الذاتية ونعمته وضع حياته كراعٍ صالح، وقامَ ثانيةً، لكي ما نجدَ فداءً وانعتاقاً من الإثم وسلطان الخطيئة.

أتذكرونَ أنكم استشهدتم من مقاطع عديدة من العهد القديم التي رأينا فيها راعي إسرائيل الصالح على أن راعي إسرائيل الآتي كان هو الله نفسه الذي كان ليتجلى هنا على الأرضِ. ولذلك فعندما قال يسوع:"أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ"، فإنه إنما كان يُعلن أنه هو الذي كان ليحقق كل تلك الكتابات.

ولكنَّ الناس ما كانوا مستعدين لاقتباله. كثيرون أعلنوا أن به شيطان. وآخرون قالوا: "لَيْسَ هَذَا كلاَمَ مَنْ بِهِ شَيْطَانٌ". لقد بدوا وكأنهم قد اختيروا بعناية، وفي غاية الوقار والقداسة. لم تبدو بالنسبة لبعض مستمعي ككلماتٍ صادرةٍ عن شخصٍ واقعٍ تحت سطوة روحٍ شريرة. ثم سألوه بعقلانية كبيرة: "أَلَعَلَّ شَيْطَاناً يَقْدِرُ أَنْ يَفْتَحَ أَعْيُنَ الْعُمْيَانِ؟" لقد تذكروا تلك المعجزة الرائعة التي كانَ قد صنعها بينهم. لقد بدا وكأن يسوع، في نهاية الأمر، من الممكن أن يكون المسيّا المتوقع.

والآن في الآية ٢٢ نعلم أنه: "كَانَ عِيدُ التَّجْدِيدِ فِي أُورُشَلِيمَ". كان هذا العيد يُحتفل به سنوياً منذُ أيام عودتهم تحت قيادة زر بابل، الذي من نسل داود، ويشوع، الكاهن الأعظم، والكاتب عُزرا والحاكم نحميا. لقد كان الوقتُ شتاءً، ويسوع كان يتمشى في الهيكل في رواق سليمان. "فَاحْتَاطَ بِهِ الْيَهُودُ وَقَالُوا لَهُ: إِلَى مَتَى تُعَلِّقُ أَنْفُسَنَا؟"

كان قد أخبرهم عدة مرات، ولكنهم من جديد يسألون، فأجابهم يسوع وقال: "إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ. اَلأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا بِاسْمِ أَبِي هِيَ تَشْهَدُ لِي". لماذا لم يفكروا في الآيات المعجزية التي صنعها، هذه التي تشكل دليلاً؟ لقد بدوا عميان عن هذه الأمور. وقال لهم سبب ذلك: "لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنْ خِرَافِي كَمَا قُلْتُ لَكُمْ". لقد أبوا أن يؤمنوا برسالته. خرافه هم أولئك الذين تحولوا إلى الله في توبة وقبلوا الرسالة التي أتى بها. يقول: "خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي".

والآن أُقبل إلى مقطعٍ حساسٍ نوعاً ما، كان مثارَ جدلٍ أكثرَ من أيِّ مقطعٍ آخر في إنجيل يوحنا. قد يسألني أحدهم: هل تعتقد أن هذا المقطع يُعلِمنا أنه إن كان إنسانٌ قد خَلُصَ مرةً، فإنه يَخلِصُ إلى الأبد؟- أي أنهُ من المستحيل أن يسقطَ إنسانٌ من النعمة؟- أو أن يستمر الإنسان في أن يبقى مسيحياً، مهما كانت الخطايا التي يرتكبها، إن كان مرةً قد أقرَّ بالإيمان بالمسيح؟ علينا أن نكون حريصين جداً في تفكيرنا وفي فهمنا للمسألة هنا. من الضروري أن نتابع كلمات يسوع نفسها بدقة لئلا نضل.

أولا، يقول الرب يسوع: "خرافي تسمع صوتي". وفي يوحنا ٥: ٢٤، يقول لنا: "مَنْ يَسْمَعُ كلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ". "أصغوا، فتحيا نفوسكم".ولذلك يقول: "خرافي تسمع صوتي". لا يمكن أن نقول أن الناس يُعتبرونَ من خرافه ببساطة لأنهم أبدوا اعترافاً به. فهناكَ أناس حتى في الكنائس الإنجيلية لا يُحصون من بين خِراف المسيح، لأنهم فعلياً لم يسمعوا صوتهُ. إنهم شكلانيونَ، أعضاءَ في الكنيسة خارجياً، ولكن ليس في الكنيسة التي هي جسدهُ. هكذا أُناس يبدونَ اعترافاً دينياً، وربما يكون ذلك بدافع العاطفة، ويندمجونَ مع الكنيسة ولبرهة من الوقت تسير أمورهم على ما يرام، ومن ثم، وبمرور الوقت، يتلاشى التجددُ وتختفي حماستهم، ويتفجرُ التوق الشديد إلى العالم في نفوسهم فيبدءون بالانجرافِ مع التيار. قد نقول: "يا لهذه النفوس البائسة، فإنهم مرتدونَ عن الإيمان". ولكن، وكما قالَ أحدهم بالصواب، "هؤلاء لم يكونوا أبداً مؤمنين حقيقيين". لقد ابتعدوا عن خطاياهم، وأصلحوا أنفسهم، ولكنهم لم يسمعوا صوتَ ابن الله في أعماقِ نفوسهم. قلوبهم كانت مثلَ ذلك البيت الذي كان مكنوساً ومزخرفاً، ولكنه تُرِكَ فارغاً بعد أن هاجرتهُ روح الشر. مثل هؤلاء هم أولئك الذين يتهجمونَ على عقيدة الضمان الأبدي للمؤمن في الرب يسوع المسيح. فهم لم يكونوا مؤمنين حقيقيين على الإطلاق. ومهما كان اعترافُ الناس، إن كانوا لا يسمعونَ صوتَ ابن الله، فإنهم ليسوا فعلياً من خرافه. آملُ أن يتضحَ ها الأمرُ بشكلٍ جلي. يقول عن كل خرافه: "خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي وَأَنَا أَعْرِفُهَا". ويمكننا أن نغاير بين هذا القول والمقطع في متى ٧: ٢١، حيث يقول: "لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ". إذاً يقول: "الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي"- لنتوقف هنا لوهلة. هل نخلص لأننا "نفعل"؟ لا. إننا نخلص بالإيمان. فما الذي يعنيه إذاً بقوله: "لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ"؟ نحن لا نخلص بالأعمال، بل نُظهر حقيقية وصدق إيماننا بعمل إرادة الله. أتذكرون ذلك المقطع في أفسس ٢: ٨، ٩: "لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ". ويضيف الرسول بولس قائلاً في الآية التالية مباشرة: "لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا".

لتكن هذه المسألة واضحة بالنسبة لكم. ليسَ لأعمالنا علاقة بالحصول على الحياة الأبدية، ولكن ما من إنسانٍ يحصل على حياة أبدية إن لم تتجلى فيه الأعمال الصالحة.

"لن أعملَ من أجلِ خلاصِ نفسي.
 فهذا العمل قد أتمهُ الربُّ عني؛
بل سأعمل مثل أيِّ خادمٍ<
بدافعِ المحبةِ نحو ابن الله العزيز".

"«لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ وَبِاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟" إنه يشير إلى يوم الدينونة، يوم الاستعلان.

يمكننا أن نضع هذه بصيغةٍ معاصرةٍ فنقول: "ألم نَكرز باسمك؟" لعَّل الناس من خلال كرازتهم قد تحرروا من قدرة الشيطان المرعبة، إذ أني أعتقدُ أن كارزاً غير مُخلَّصٍ ربما يستخدمه الله في خلاصِ نفوس البشر، حتى ولو كانت حياته نفسها كانت غير مقدسة سليمة. إن الله يستخدم كلمته من خلال أي شخص يُعلن أن "وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ؟". "فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ!".

سوف لن يقول لأيِّ أحدٍ في يوم الدينونة ذاك: "لقد كنتُ أعرفك، ولكني ما عدتُ أعرفك". بل يقول: "لم أعرفكَ أبداً". إلا أنه يقول لخاصته: "أنا أعرفها".

والآن إذا أبقيتم هذه المسألة في أذهانكم فإني لستُ أعتقد بأنه سيكون لديكم أي شك في الضمان الأبدي للمؤمن. إن الربَّ لم يعرف أولئك الذين لم يسمعوا صوته أبداً، رغم إبداءهم بأنهم عمال في كرمه.

وإذاً، بالدرجة الأولى، خرافه تعرفُ صوته. وبالدرجة الثانية، يقول: "أنا أعرفها". لاحظوا الأمر الثالث: "فتتبعني". ما من فائدة من الاعتراف بأننا خرافٌ للمسيح ما لن نتبعه. المسيحُ يعني الكثير بالنسبة لأولئك الذين يولدون حقاً من جديد إذ تبتهج نفوسهم بإتباعه. هل تتبعونه؟ هل إرادته ثمينةٌ بالنسبة لكم؟ إننا لا نصيرُ خرافاً بمجرد إتباع يسوع. بل العكس تماماً. إننا نتبعهُ لأننا ننتمي إلى قطيعه. أما وقد خَلُصنا فإننا نظهر ذلك بإتباعه. هناكَ أناسٌ كثيرون يحملونَ اسم المسيح وهم لم يولدوا حقاً من الله. وهذا نجده عند كثيرين أبدوا يوماً ما أنهم مسيحيون، ولكن لأنه لم يكن لديهم صدقية، فإنهم لم يعرفوا الرب، ولذلك لم يجدوا أيَّ رضا أو سرور في اتباعه ولذلك فإنهم ينهارونَ ويبتعدون.

وبحديثه عن خرافه يقول: "أَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي". أي نوع من الحياة؟ حياة أبدية. أخي وأختي، يا من شككتُم في الضمان الأبدي للمؤمن، أترون كم هي طويلة الحياة "الأبدية"؟ "أَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً". ألا ترون؟ إنها ليست حياة تجريبية، وليست حياة مؤقتة، بل هي "حياة أبدية".

جاءت إليَّ سيدة في سان فرانسيسكو حيثُ كنتُ أعظُ على يوحنا ٥: ٢٤، وقالت: "إني أوافقك الرأي على كل ما قلت الليلة ما عدا تلك العقيدة في أن الذي يَخلُص مرة يَخلصُ إلى الأبد. فلم أجد ذلك في الكتاب المقدس". فقلتُ لها: "ألا تؤمنين بكلمات الرب يسوع؟ دعيني أُظهر لك ما قال". فأجابت: "أعرف إلى أين ستذهب: يوحنا ١٠: ٢٨، ٢٩". فقلتُ لها: "حسنٌ ها إنك تعرفين. ولكن دعيني أقرأ هذه الآيات "أَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. أَبِي الَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي".

لقد سألتُها: "هل تصدّقين ذلك؟" فقالت: "ليسَ على طريقتك". فقلت: "ما هي طريقتي؟" فقالت: "إنك تعتقدُ أنه إن كان المرءُ قد خَلُصَ مرةً فلا يمكن أن يهلكَ أبداً". فقرأتُ المقطع عليها من جديد: "خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. أَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. أَبِي الَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي". فقلت: "أتصدقين ذلك؟". "ليس على طريقتك". فقلتُ: "ولكني لم أخبركِ عن طريقتي. لم أشرح لكِ على الإطلاق. ألا تصدقينَ بما قالهُ ابن الله؟" قالت: "ليس بالطريقة التي تفعل أنت". "حسناً، دعيني أقرأ المقطع عليكِ من جديد". وقرأتُ المقطع بأكمله مرة أخرى، مع إحداث تغيير بسيط. فقد استعملتُ كلمات "عشر سنوات" بدلاً من "حياةً أبدية". وسألتها: "ماذا يعني ذلك؟" فقالت: "إنه يعني أن المرء إذا خَلَصَ مرةً فإنه سيخلص لمدة عشر سنوات". فقلت: "تماماً؛ والآن دعيني أمط الوقت أكثر. "أُعطيكم حياةً أبديةً لأربعين سنة". ما معنى ذلك الآن؟" فأقرت بأن هذا يعني أن المرء إذا ما خلَصَ فسيكونُ مضموناً لأربعينَ سنةً. "لنفترض أنني قرأت: أُعطيكم حياةً طالما أنتم مُخلِصون". فأجابت: "هذا ما أؤمن به. ولكن ليس هذا ما يقوله النص. النص يقول: "خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. أَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. أَبِي الَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي". "ما مدة الوقت المقصودة؟" فقالت: "طالما بقيوا خرافهُ". ومضت. لم تكن تريدُ النور، ولذلك أدارت ظهرها إليه. ليتَ المرء يأخذُ كلمة الله على محملها الجدي وبقيمتها الحقيقية. "أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً". لا يمكن أن تكون أبدية إن كانت لها نهاية، وقال: "لَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ". "لاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي". ليس من تصريح أشد قوة من هذا. خرافهُ آمنةٌ في يدي الآب والابن. ما من قوةٍ في الأرضِ أو في الجحيم يمكن أن تخطفها، وما من قوةٍ في السماء ستريد أن تفعل ذلك. لعلك تقول: "ولكنك تعلم أني أستطيع أن أخذها". ولكنك لن تهلَك عندئذ؛ أليس كذلك؟ الأمرُ العجيب هو عندما يُخلِّصُ الربُّ شخصاً فإنه يضع فيه محبة كبيرة نحوه في قلبِ ذلك الإنسان حتى أنه ما من شيء سيفصلهُ عنه.

أتذكّرُ صديقاً عزيزاً لي، كان كارزاً بالإنجيل، رجلاً لطيفاً سموحاً، كان يناقشني حول هذه المسالة. فقال لي في نهاية الأمر: "يا أخي، إن كنتُ سأؤمن بما تؤمن به، لكانَ بمقدوري أن أخرج وأن أُخطئ كما يطيبُ لي، ولن يشكلَ هذا أي فرق". فقلتُ: "يا أخي العزيز، هل تريد أن تخطأ؟" فأجاب: "لا. لا أريد أن أخطئ". هذه هي المسألة. المسيحيون لا يريدوا أن يخطئ. ما من شيء يجعلهُ أكثر بؤساً من إخفاقاته أو سقوطه في الخطيئة. مسرته الوحيدة يجدها في السير في الشركة مع الله.    ما الذي يقصده يسوع بقوله: "أَبِي .... أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ"؟ لقد كانَ مساوياً للآب منذ الأزل. ولكن كإنسان هنا على الأرض، أمكنه أن يقول: "أبي أعظم من الكل". لقد جُعِلَ أقل من الملائكةِ بقليل من أجلِ ألم الموت، لكي ما يذوقَ الموتَ بنعمة الله من أجلِ كل إنسان. لقد أخذ طوعياً مكان الإنسان في أيام وجوده بالجسد.

أما وقد قال: "أَبِي .... أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ"، فإنه أردف مباشرة بالقول: "أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ".

يا لهُ من دليل على ألوهيته الحقيقة، ذاك الذي نجده هنا! "أنا وأبي". لماذا، يقول ذلك؟. لعلكم تقولون كان ينبغي أن يقول: "أبي وأنا".فكان هذا ليكون الأمر الطبيعي- أليس كذلك؟ -ذلك لأنه الثانوي. ولكن ليس من أحدٍ ثانوي هنا؛ فالله الابن، والله الآب، والله الروح القدس متساوون في الدرجة؛ ولذلك يقول: "أنا وأبي واحد".

أليست نعمة عجيبة! الآب، والابن، والروح القدس متحدونَ معاً يرسلونَ هذا الإنجيل إلى العالم ويدعون الخطاة في كل مكان ليؤمنوا بالعمل الذي فعله يسوع. وعندما تؤمنون به تنالون حياة أبدية، وستكونون مضمونين لأن الله نفسه يؤكد لكم في أكثر من مكان على ذلك ونقرأ في موضع آخر: "فَإِنِّي مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ وَلاَ مَلاَئِكَةَ وَلاَ رُؤَسَاءَ وَلاَ قُوَّاتِ وَلاَ أُمُورَ حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً وَلاَ عُلْوَ وَلاَ عُمْقَ وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى تَقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا" (رومية ٨: ٣٨، ٣٩).

يا لهُ من إنجيلٍ يُعلن للناس البؤساء الأموات! إن كان أحدٌ منكم يقرأ هذه الكلمات ولم يؤمن بالمخلِّص بعد، أفلا تأتونَ إليه اليوم؟ قبل سنوات، كان هناك عجوزٌ بائس عاش في كوخٍ فقير وكان يقتاتُ على ما يتسوله. وأخيراً أُخِذَ إلى مشفى، وهو في حالة مرضٍ شديدة، وعندما أزالت الممرضة ثيابه وجدت ورقة ممزقة كان قد وضعها منذ زمنٍ طويل في جيبه الداخلي. وعندما تفحصت الورقة وجدت أنها كانت أمراً من خزينة الدولة في الولايات المتحدة لإعطائه معاشاً تقاعدياً بسبب إخلاصه في الخدمة ككشاف في الجيش خلال الحرب بين الولايات. قال الرجل الفقير: "لا تأخذي هذه مني. فالرئيس لنكون أعطاني إياها، وإني أُقدرها أكثر من أي شيء آخر". ومع ذلك، لم يصرف الحوالةَ. لم يستفد أبداً من الامتيازات التي كان يتمتع بها.

هل تتعاملون مع خلاص الله على هذا الشكل؟ لديكم الحق بأن تأتوا إلى يسوع وأن تقبلوا الحياة الأبدية والمغفرة عن الخطايا.

"الْيَوْمَ إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ فَلاَ تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ" (عبرانيين ٣: ١٥).