الخطاب ٣٩

"سيروا ما دام لكم النور"

"فَالْجَمْعُ الَّذِي كَانَ وَاقِفاً وَسَمِعَ قَالَ: «قَدْ حَدَثَ رَعْدٌ». وَآخَرُونَ قَالُوا: «قَدْ كَلَّمَهُ ملاَكٌ». أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: «لَيْسَ مِنْ أَجْلِي صَارَ هَذَا الصَّوْتُ بَلْ مِنْ أَجْلِكُمْ. اَلآنَ دَيْنُونَةُ هَذَا الْعَالَمِ. اَلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هَذَا الْعَالَمِ خَارِجاً. وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ». قَالَ هَذَا مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُوتَ. فَأَجَابَهُ الْجَمْعُ: «نَحْنُ سَمِعْنَا مِنَ النَّامُوسِ أَنَّ الْمَسِيحَ يَبْقَى إِلَى الأَبَدِ فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَفِعَ ابْنُ الإِنْسَانِ؟ مَنْ هُوَ هَذَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ﭐلنُّورُ مَعَكُمْ زَمَاناً قَلِيلاً بَعْدُ فَسِيرُوا مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ لِئَلاَّ يُدْرِكَكُمُ الظّلاَمُ. وَالَّذِي يَسِيرُ فِي الظّلاَمِ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ. مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ آمِنُوا بِالنُّورِ لِتَصِيرُوا أَبْنَاءَ النُّورِ». تَكَلَّمَ يَسُوعُ بِهَذَا ثُمَّ مَضَى وَاخْتَفَى عَنْهُمْ" (يوحنا ١٢: ٢٩- ٣٦).

في ختامنا للخطاب السابق كنت نتأمل في تلك الكلمات المدونة في الآيات ٢٤- ٢٨: "إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ". لقد كان يتحدث عن نفسه، إذ أنه جاء إلى هذا العالم، وهو ابن الله المتجسد، إنسانٌ ذو حالةٍ مختلفة عن أي أحدٍ آخر، خالياً تماماً وبشكلٍ مطلق من الخطيئة، وقدوسٌ وبلا عيبٍ. لو لم يكن قد مضى بالنعمة إلى الصليب ومات من أجلنا، فكان ولا بد سيبقى مجرد إنسانٍ إلى الأبد. ولكن بنتيجة موته هناك الآن حصادٌ مجيدٌ عظيمٌ من المفتدين رجالاً ونساءً. حبة الحنطة وقعت في الأرض وماتت، وملايين خلصوا بموته.

بالنسبة لهؤلاء الذين يخلصون لديهم هذا التحدي: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي فَلْيَتْبَعْنِي"، وبعد ذلك، وإذ يدرك ربنا أن الصليب ماثل أمامه، وأنه على ذلك الصليب سوف يشرب كأس الدينونة التي استحقتها خطايانا، نجده يقول: "اَلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ؟ أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هَذِهِ السَّاعَةِ". إلا أنه بالحري لم يطلب ذلك، بل قال: "وَلَكِنْ لأَجْلِ هَذَا أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ السَّاعَةِ. أَيُّهَا الآبُ مَجِّدِ اسْمَكَ. فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ: «مَجَّدْتُ وَأُمَجِّدُ أَيْضاً»". لقد تمجّد الله في الحياة المثالية الكاملة للرب يسوع المسيح. وسيتمجد في موته الكفاري وفي قيامته العجيبة المجيدة.

لقد سمع الناس الضجة والصوت ولكنهم لم يفهموا الكلمات، ولذلك فقد قالوا أنه صوتُ رعدٍ. هناك بضعةٌ قليلةٌ فقط لديهم أُذنٌ يسمعون صوت الله. والحال نفسه اليوم كما كان عندئذٍ. عندما يتكلم الله بقوة، وعلى الأرجح من خلال أحد خُدّامه في تجمعٍ كبيرٍ ما حيث تستحوذ الرسالة على أفرادٍ جديين في سعيهم وراء الحقائق الروحية، فإن الغالبية العظمى تقول: "«قَدْ حَدَثَ رَعْدٌ»". إنهم لا يسمعون صوت الله. بينما آخرون ارتفعوا أكثر في الفكر. فكان هناك من قال: "«قَدْ كَلَّمَهُ ملاَكٌ»". ولكن لم يكن ذاك صوت رعد ولا صوت ملاك، بل كان صوت الآب نفسه.

قبل ذلك بوقت طويل، وبعد معمودية المسيح في نهر الأردن، سُمِعَ صوتُ الآب قائلاً: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت، فله اسمعوا". ومرة أخرى على جبل التجلي جاء نفس الصوت مصدقاً على أعمال ورسالة وكمال الابن؛ وأيضاً في مناسبة أخرى عند قبر لعازر تكلّم الآب من السماء. وها هو يتكلم عن يسوع من ناحية مجده ويقول: "«مَجَّدْتُ وَأُمَجِّدُ أَيْضاً»"، ويعني به العمل الذي يزمع أن يقوم به يسوع على الصليب. ويتجاوب يسوع مع هذا الصوت قائلاً: "لَيْسَ مِنْ أَجْلِي صَارَ هَذَا الصَّوْتُ بَلْ مِنْ أَجْلِكُمْ". ويعلن هنا ذلك الإعلان الرهيب: "اَلآنَ دَيْنُونَةُ هَذَا الْعَالَمِ. اَلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هَذَا الْعَالَمِ خَارِجاً. وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ".

هناك أربعة أجزاء في هذه العبارة العظيمة التي نطق بها يسوع. إنه يتكلم عن عالمٍ مُدان، وأميرٍ أو رئيسٍ مقهورٍ مهزوم، ومخّلصٍ مُقام، وقاضٍ ديّان آتٍ. الأمر الأول، "اَلآنَ دَيْنُونَةُ هَذَا الْعَالَمِ". إلامَ كان يشير؟ لقد تمت تسوية دينونة هذا العالم على الصليب الذي سُمّر عليه المسيح. قال العالم عن الرب يسوع: "لا نريده". لقد جاء وأظهر نفسه بأنه ملكٌ يريد أن يسويّ كل شيءٍ إذا ما اقتبله الناس، ولكنهم صرخوا قائلين: "ليس لنا ملكٌ سوى قيصر"، وهكذا رفضوه، وبرفضهم إياه، استجلبوا دينونةً على أنفسهم، والعالم كله قد صار تحت دينونةٍ منذ ذلك الحين.

هل تتساءلون أحياناً لماذا يسمح الله بحدوث بعض الأشياء المريعة في هذا العالم؟ ذلك لأن الناس رفضوا أمير السلام. فكروا كم كان الأمر سيكون مختلفاً لو أن يسوع قد اقتُبِلَ، أو أن الناس في أيامه قبلوهُ، أو أنه أرسا مملكته في قوةٍ ومجد. عندئذٍ ما كانت الحروب لتصير بل كانت ستختفي عن وجه الأرض والحزن والتنهد والمرض كان سيتلاشى، وبركاتٍ مؤلفةٍ كانت ستكون من نصيب الناس خلال كل القرون الثلاثة الماضية. برفضهم المسيح استمطر الناس على أنفسهم دينونةً، ولذلك ما من حاجةٍ للاستغراب من هذه الأمور الرهيبة التي تأتي إلى العالم. بل إن المذهل هو أن يكبح الله غضبه ولا يتعامل بدينونةٍ عاجلةٍ مع الناس بسبب خطاياهم. إن العالم هو كمثل شخصٍ حُكِم عليه بالموت، ولكن لم يُنفّذ هذا الحكم بل سُمح له أن يعيش إلى أن يأتي أوان تنفيذ الإعدام. وعاجلاً سيأتي يومُ سماء الله الحمراء؛ سرعان ما سيصب الله جامات غضبه على هذا العالم، وعندها سيعرف الناس فعلاً دينونته بأكملها.

أما الآن فالنعمةُ والرحمةُ ممتزجةٌ مع الدينونة. إن الله يرسل رسالة رحمةٍ. إنه يدعو الناس لأن تتوب وأن تقتبل المخلص الذي كانوا قد رفضوه يوماً. هل فعلتَ ذلك؟ هل قبلت الرب يسوع؟ هل تتذكر تلك الكلمات الصاعقة التي قالها بطرس الرسول لليهود: "«اخْلُصُوا مِنْ هَذَا الْجِيلِ الْمُلْتَوِي»" (أع ٢: ٤٠). ما الذي كان يعنيه؟ لعلكم تتساءلون: "ألا يمكننا أن نخلص بأنفسنا؟" لا. لا نستطيع أن نُخلِّصَ أنفسَنا، طالما أن الخلاص متعلق بالخلاص من الجحيم. يمكننا أن نخلُص من ذلك بواسطة عمل المسيح المنجز على الصليب. "لَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ. لأَنْ لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ". فما الذي قصد به بطرس بقوله: "اخْلُصُوا مِنْ هَذَا الْجِيلِ الْمُلْتَوِي"؟ إنها طريقةٌ أخرى وحسب للقول أن: "اقطعوا علاقتكم مع العالم الذي هو تحت الدينونة؛ اخرجوا من هذا العالم وقفوا إلى جانب ذاك الذي رُفِض. إن فعلتم ذلك، فعندئذٍ تكونون في مأمنٍ من الدينونة الآتية على هذا العالم". قد يحزن المرء في أغلب الأحيان لرؤية المسيحيين الذين يبدو بأنهم يفهمون هذا بشكلٍ ضعيف. لماذا لا يهتم بعض المسيحيين بالانفصال عن هذا العالم؟ ذلك لأنهم لم يدركوا أبداً أن العالم عالم مدان، وأن كل الناس المنغمسين فيه سرعان ما سيحترقون في يوم غضب الرب، وأن الله يدعو شعبه ليسلك بشكلٍ منفصلٍ عن العالم. يعتقد بعض شباننا أحياناً أن رعاتهم الأتقياء ومعلميهم وآباءهم قساةٌ متشددون لأنهم يحاولون تحذيرهم ضد الأشياء ذات الطبيعة الدنيوية. تذكروا، من هذا السِفر المبارك من كلام الله تعلّموا نهاية كل هذه الأشياء، وإنهم إنما يحذرون الشُبان لكي يتجنبوا الآلام التي سيعانون منها خلال الدينونة الآتية، ولذلك فإنهم يدعونهم لأن ينفصلوا ويعتزلوا عن هذا العالم. "اخْلُصُوا مِنْ هَذَا الْجِيلِ الْمُلْتَوِي". أعرف شيئاً مؤكداً- في ذلك اليوم عندما ستسكب جاماتُ غضب الله السبع على هذا العالم، ما من أحد سيكون آسفاً لأنه عاش حياةً منفصلةً عن العالم وسلك خِلافاً للعالم الذي سيدينه الله. "اَلآنَ دَيْنُونَةُ هَذَا الْعَالَمِ". إن العالم مُدان لتوه، ولكن الدينونة لن تنفذ الآن.

الأمر الثاني الذي يقوله المخلص هو: "اَلآنَ دَيْنُونَةُ هَذَا الْعَالَمِ". من هو رئيس هذا العالم؟ إنه الشيطان. كيف صار رئيس هذا العالم؟ إنه مغتصبٌ. لقد وضع الله هذا العالم في عهدة جديّنا الأوليين. قال لآدم: "سُد على العالم؛ لقد أعطيتُه كله لك، واعتنِ به من أجلي". ولكن آدم تخلى عن لقبه كرئيس لهذا العالم للشيطان، ومن ذلك الحين صار الشيطان رئيس هذا العالم، وليس فقط رئيساً للعالم بل إله هذا العالم.

ولكنكم تذكرون الوعد الذي قطعه الرب عندما أصدر حكم الدينونة على الحيّة، إذ قال: "نسلُ المرأةِ يَسْحَقُ رَأسَكِ وَأنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ". على صليب المسيح، عَقِب يسوع، نسلُ المرأة، جُرِح. ولكن على نفس ذاك الصليب سُحِقت رأس الحيّة. ومن هنا فإن الشيطان رئيسٌ مهزوم، ومع ذلك لا يزال هناك آلافٌ وملايين من الناس الذين يخضعون لسلطانه. وفي ذلك اليوم الآتي، عندما سيطرد من السماء إلى الهوة الصحيحة التي لا قرار لها، وفي النهاية إلى بحيرة النار، سيخضع لدينونة الله الكاملة له.

لاحظوا الآن الأمر الثالث: "وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ". إلامَ كان يشير الرب بقوله هذا؟ يمكن قراءة الجملة بشكل كامل على نحو آخر كما يلي: "وأنا إن رُفِعتُ، سأجتذبُ كل الناس إليّ". أعتقد أن هذه الآية غالباً ما يُساء تطبيقها. لطالما سمعت أنها تستخدم بهذا المعنى: " إلامَ رفع الكارز يسوع، فإن كل الناس سيُّجذبونُ إليه". نعتقد جميعاً أن الطريقة الوحيدة لجذب الناس إلى المسيح هي أن نكرز بالإنجيل، وأن هذه هي رسالتنا- أن نكرز بالإنجيل. ولكن هل أمكن لأي أحدٍ أن يجتذب كل الناس إلى يسوع من خلال الكرازة بالإنجيل؟ لطالما شعرت بالأسى في قلبي لخمسين سنةٍ لأن الناس لا يُجذبون عندما أرفع يسوع بالكرازة والوعظ. أتذكر منذ خمسين عاماً عندما قبلتُ المسيح وأنا راكعٌ على ركبتيَّ في غرفتي في لوس أنجلوس، وكيف أني بعد ثلاث ليالٍ وقفتُ أمام مجموعة من الناس في الهواء الطلق لأقدم شهادتي الأولى للمسيح. بشكلٍ أو بآخر، عندما بدأتُ أتكلم، نسيتُ كل الظروف. لم أكن قد درست عظةً، ولكنه وجدتُ أني قد وعظت لنصف ساعة عندما استوقفني قائد الاجتماع وقال أنه كان علينا أن نكون في الصالة منذ عشرين دقيقة.

كان عليَّ أن أتوقف، ولكن قلبي كان ممتلئاً. وفكرت: "هؤلاء الناس في حاجة إلى أن يعرفوا عن يسوع، وسيخلصون جميعاً". وأتذكّر النص الذي فكرتُ به وخطر على ذهني وكأن الحادثة كانت البارحة. "هُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا". لقد وعظت بكل حماس واتقاد قلبي الفتي، وكنت أفكر أن: "إنهم في حاجة إلى أن يعرفوا، وسوف يأتون إلى المسيح". ولكنهم لم يأتوا. كان هناك حشدٌ كبيرٌ مجتمعٌ حولي وبعضهم كان ينظر إليّ بفضول ويقول: ما الذي يتحدث عنه هذا الشاب الفتي؟ ما الذي يعرفه فتىً في الرابعة عشر من عمره عن هذا؟" واستداروا ومضوا، وواحدٌ فقط جاء إليَّ وقال: "يا بني، يبدو أنك وجدتَ شيئاً لطالما كنتُ أبحث عنه طوال حياتي، ولم أستطع أن أجده". لقد كان رجلاً ملوناً طاعناً في السن، ذا شعرٍ أبيض كالثلج يتوّج وجهه الأسود، وقدتُه إلى المسيح- وكان هذا أول مهتدٍ علي يديّ. ولكن البقية عبرت وبدوا غير مبالين، ولخمسين سنةٍ أحاول أن أرفع يسوع وآمل أن أقول أمام الله أنه لم يكن لدي أي رسالةٍ أخرى. أدرك أن هناك معانٍ كثيرة وهامة وراء هذه الكلمات المباركة، ورسالتي ليست في أن أكرز الإنجيل بل أن أكرز بالكلمة، لأن كل هذه الأسطر المختلفة للحق تتمحور حول يسوع. وأتمنى لو أستطيع أن أقول مع بولس: "الذي به نكرز".

إن لي ثقة أنه لن يأتِ يومٌ أجد نفسي أكرز بالقول "ما" بدلاً من "به". ولكن أشهد لهذا، أني بعد خمسين سنةً من محاولة رفع المسيح بالوعظ، لم أرَ كل الناس منجذبين إليه. وأحياناً، وإذ أنظر إلى الحضور هنا ليلة الأحد حيث يحتشد حوالي ٣٥٠٠ إلى ٤٠٠٠ شخصاً، أشعر أن قلبي يرتجف، وأقول لنفسي: "يا لها من فرصةٍ"! ومن جديد أفكر بأن ذلك الحشد الكبير الحاضر هناك فيه حوالي ٢٠٠ أو ٣٠٠ شخصاً فقط لم يؤمنوا بيسوع- أما الغالبية العظمى فهي من الناس الذين هم مسيحيون لتوهم. ولكن أين الآخرون؟- الناس الذين نود أن نصل إليهم. إنهم في الشوارع، وفي المسارح، وفي بقية أماكن التسالي الدنيوية. إنهم لا يبالون ولا يكترثون. هل نرفع يسوع؟ نعم؛ ولكن هذا لا يجتذب كل الناس إليه. لعلك تقول "حسناً، إذاً الكتاب المقدس خطأ؟" لا. ولكن أحياناً تفسيرنا له يكون خطأ. إن الكتاب المقدس لا يقول هنا، أنه إذا ما رفع الواعظ يسوع، فإن كل الناس سينجذبون إليه. لاحظوا بانتباه ما يقوله هنا: "وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ". ثم انظر إلى تفسير الروح القدس لذلك في الآية ٣٣- "قَالَ هَذَا مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُوتَ".

ها هي الفكرة. إن الرفع هنا لا يشير إلى الكرازة أو الوعظ. ذلك الرفع هو إشارة إلى الجُلجثة. إنه الأمر نفسه الذي أدرَكه نيقوديموس عندما قال يسوع: "وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ. لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ" (يوحنا ٣: ١٤- ١٥). وعندما لسعت الحيات الخطرة شعب إسرائيل في البرية، قال الله لموسى: "«اصْنَعْ لكَ حَيَّةً مُحْرِقَةً وَضَعْهَا عَلى رَايَةٍ فَكُلُّ مَنْ لُدِغَ وَنَظَرَ إِليْهَا يَحْيَا»". فكأن يسوع يقول عملياً لنيقوديموس: "حيّة النحاس تلك هي صورةٌ عني". أتكون حيّة ملتوية ملتفة صورة ليسوع؟ نعم، إنها صورةٌ عن يسوع وقد جُعِل خطيئةً من أجلنا، لكيما نصبح برّ الله فيه. أترون، الحيّة هي التي سببت المشكلة. لقد لسعَتْهم الحيّة المُحرقة، والحيّة هي رمزٌ واضحٌ في الكتاب المقدس إلى الشيطان والخطيئة، وهكذا بدأت كل المشاكل في العالم. جميعنا أصابتنا سموم الخطيئة، وسم الصّلّ تحت شفاهنا. كلٌ منا ناله سم الأفعى، ولكن يسوع جاء، وعندما رُفِعَ على الصليب جُعِلَ خطيئة لأجلنا:

"مكان الخاطيء الأثيم قد أخذَ،
وتألم بدلاً عنا،
لأجل الإنسان- يا لمعجزة النعمة-
المخلص نزف الدم عن الإنسان".

صُنِعتْ الحية في البرية من النحاس، والنحاس رمز الدينونة. لقد كانت ترمز إلى المسيح الذي حمل دينونتنا. لقد كانت حية لا سمّ فيها. ما كانت لتؤذي أحداً، ويسوع، القدوس الذي كان بلا عيب أو لوم، ولم يُمس، قد رُفِعَ، وهو الذي قال: "وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ (أي على الصليب) أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ".

يسوع هو المخلص المرفوع. بالطبع، على الواعظ أن يقول لكل الناس أن يسوع مات عنهم. وعليه أن يشير أيضاً إليه كمصلوب:

لكم حياة بنظرة إلى المصلوب،
لكم حياة في ذي اللحظة،
فانظروا، يا خطاة، إليه واخلصوا،
انظروا على ذاك الذي سُمِّرَ على العود.
هل كان حامل الخطايا ليُصلبَ هناك،
لو أن يسوع لم يحمل خطاياكم هناك؟
وهل كان ليهراق من جنبه الدم الذي يطهّر من الخطيئة،
لو لم يدفع الدين المستحق عليكم؟"

"وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ". ولكن لن ينجذب الجميع إليه الآن. الغالبية العظمى يتابعون سيرهم غير مبالين. يبدو الله وكأنه يصرخُ للجنس البشري: "ألا يعنيكم الأمر أنتم الذين تجتازون دونما اكتراث؟" انظروا واعرفوا هل من حزنٍ يماثل ما في قلبي من حزن عندما ابتلاني الرب في يوم غضبه الشديد؟ ما هو جوابك؟ هل تمضي في طريقك قائلاً: "الأمر لا يعنيني"؟

سأحيا لذاتي لنفسي وحسب،
فقط لأجل ذاتي.
كما ولو لم يكن يسوع موجوداً،
وكما لو لم يمت من أجلي"

يمكنك أن تشيح عنه إن رغبت. يمكنك أن ترفض نعمته وتنبذ محبته وتزدري بإنجيليه، إن كان هذا ما تريد أن تفعله. ما من أحد سيُجبرك على قبول المسيح. يمكنك أن تمضي في خطاياك وأن تبقى ضالاً إلى الأبد. ولكن أمراً واحداً لا يمكنك أن تفعله- أن تتهرب منه في خاتمة المطاف. "وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ". يوماً ما ذاك الذي رُفِعَ على الصليب سيجلس على عرش الدينونة. يوما ما ذاك الذي أخذ مكاننا بالنعمة على عود الصليب سيكون متربعاً على العرش الأبيض العظيم، وعندها كل الناس سيُجذبون إليه. إن الكلمة المترجمة "أجذِب" هنا توحي بقوةٍ ساحقةٍ. إنها نفس الكلمة تماماً التي تُستخدم في الأصحاح الأخير من هذا الإنجيل، حيث تتكلم عن الشبكة التي أمسكت مئةً وثلاثة وخمسين سمكةً كبيرةً، ويقول الإنجيل أنهم جاؤوا "يسحبون" الشبكة إلى اليابسة. أترون، الأسماك كانت عاجزةً لا حول ولا قوة لها؛ لقد كانت تُسحب في الشبكة إلى اليابسة. "وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ (أسحب) إِلَيَّ الْجَمِيعَ". قد يقول الناس: "ولكنني لا أريد أن أجيء إليه؛ لا أريد أن أواجهه؛ لا أريد أن أقدم حساباً أمامه". ولكنك لن تُسأل إذا ما كنت تريد أو لا تريد؛ سيتوجب عليك أن تواجهه وأن تقف في حضرته وهو الذي يقول: "وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ".

آهٍ، كم هو أفضل أن نُسحب بالمحبة الإلهية وأن نأتي إليه في يوم نعمته، بدل أن ننتظر إلى أن نُسحب إليه في دينونةٍ عندما يكون الأوان قد فات على الخلاص!

ولكن علينا الآن أن نلاحظ مسؤوليتنا إزاء كل هذا. نقرأ في الآية ٣٤: "فَأَجَابَهُ الْجَمْعُ: «نَحْنُ سَمِعْنَا مِنَ النَّامُوسِ أَنَّ الْمَسِيحَ يَبْقَى إِلَى الأَبَدِ فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَفِعَ ابْنُ الإِنْسَانِ؟ مَنْ هُوَ هَذَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟»". لكأنهم يقولون عملياً: "إننا لا نعرف عما تتكلم. إننا نبحث عن مسيا سيأتي إلى الأرض ليُهلك أعداءنا، والشخص الذي تتكلم عنه هو ابن الإنسان. إننا لا نفهم ذلك. أنت تتكلم عن ابن الإنسان. من هو ابن الإنسان؟" إنه يسوع، الذي هو "إله الجميع المبارك أبداً" الذي صار إنساناً بالنعمة لافتدائنا. قال لهم يسوع: "ﭐلنُّورُ مَعَكُمْ زَمَاناً قَلِيلاً بَعْدُ". وكان قد سبق أن قال لهم: "«أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. سأمكُث مَعَكُمْ زَمَاناً قَلِيلاً بَعْدُ ثم سأخرجُ كي أموتَ. فَسِيرُوا مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ لِئَلاَّ يُدْرِكَكُمُ الظّلاَمُ. وَالَّذِي يَسِيرُ فِي الظّلاَمِ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ. مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ آمِنُوا بِالنُّورِ لِتَصِيرُوا أَبْنَاءَ النُّورِ». تَكَلَّمَ يَسُوعُ بِهَذَا ثُمَّ مَضَى وَاخْتَفَى عَنْهُمْ".

هذه الكلمات يجب أن تدخل إلى قلوبنا اليوم. لدينا دليلٌ واضحٌ جداً على أننا نقترب من خاتمة الدهر التدبيري الحالي لنعمة الله، الذي ستتبعه ظلمةٌ لم يعرفها العالم على الإطلاق. لعل كلمات ربنا تحمل رسالة خاصة لنا جميعاً. "سِيرُوا مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ". اقبلوا حق الرب طالما لديكم هذه الفرصة؛ آمنوا بالرسالة طالما أنها ما تزال تُعلن، لأن الظلمة آتية، "وَالَّذِي يَسِيرُ فِي الظّلاَمِ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ. مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ آمِنُوا بِالنُّورِ لِتَصِيرُوا أَبْنَاءَ النُّورِ". يقول لنا الكتاب: "كلمتُك سِرَاجٌ لِرِجْلِي كَلاَمُكَ وَنُورٌ لِسَبِيلِي"، و"دخول كلماتك يعطي النور". ومن هنا فإن النور يسطع اليوم، وكل من يرغب فإنه يستطيع أن يسلك في النور . "وَلَكِنْ إِنْ سَلَكْنَا فِي النُّورِ كَمَا هُوَ فِي النُّورِ، فَلَنَا شَرِكَةٌ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ، وَدَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ" (١ يو ١: ٧).

"تعالوا إلى النور، فهو يشرق لأجلكم.
لقد حل النور علي بكل لطف،
عندما كنت أعمى، ولكني أستطيع أن أرى الآن،
ونور العالم ما هو إلا يسوع".

ولكن هذه الرسالة، أن "سِيرُوا مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ"، ليست للآخرين، دونكم، أيها المسيحيون. فهذه الكلمة أُعطيت لتنير طريقكم، ومع ذلك فكم من مؤمنين هناك يعاندون النور، ويسلكون في طرقهم الخاصة المعوجة، رافضين الخضوع لحقيقة كلمة الله. لم يعد أمامنا إلا وقت يسير نكون فيه مخلصين وصادقين مع الرب الذي خلصنا. فلنسلّم حياتنا كليةً له لنسلك في النور ما دام لنا النور. "يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ" (يوحنا ٩: ٤).