الخطاب ٢٧

نور العالم

"ثُمَّ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً قَائِلاً: «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ». فَقَالَ لَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ: «أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقّاً». أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ لأَنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ وَإِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فلاَ تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ آتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. أَنْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ تَدِينُونَ أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ أَدِينُ أَحَداً. وَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَدِينُ فَدَيْنُونَتِي حَقٌّ لأَنِّي لَسْتُ وَحْدِي بَلْ أَنَا وَالآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي. وَأَيْضاً فِي نَامُوسِكُمْ مَكْتُوبٌ: أَنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ حَقٌّ. أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي وَيَشْهَدُ لِي الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي». فَقَالُوا لَهُ: «أَيْنَ هُوَ أَبُوكَ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «لَسْتُمْ تَعْرِفُونَنِي أَنَا وَلاَ أَبِي. لَوْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً». هَذَا الْكلاَمُ قَالَهُ يَسُوعُ فِي الْخِزَانَةِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ. وَلَمْ يُمْسِكْهُ أَحَدٌ لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ" (يوحنا ٨: ١٢- ٢٠).

سوف تلاحظون كيف أن هذا الجزء من الإنجيل يرتبط بشكل محدد مع ذاك الذي تأمّلنا فيه لتونا. لقد ذكرتُ أنه في مخطوطات قديمة معينة لا توجد قصة تعامل ربّنا مع المرأة الزانية وإعتاقه لها من الدينونة، ولكن إن حذفْناها فإننا سنجد صعوبة في فهم النص الذي يلي هذه الحادثة.

هذه الكلمات، التي تبدأ بها الآية ١٢، مرتبطة بشكل محدد وأكيد بما حدث قبلاً. "ثُمَّ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً قَائِلاً"، أي أنه كلَّمهم مباشرة بعد حادثة ما، والتي من الواضح أنها القصة الواردة في الآيات ١- ١١. بما أننا ختمنا الأصحاح ٧ بالآية "فَمَضَى كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى بَيْتِهِ"، فالآية الأولى من الأصحاح ٨ هي "أَمَّا يَسُوعُ فَمَضَى إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ". ولو كانت الآية ١٢ هنا هي بداية الأصحاح ٨ لكان الرب يسوع في الجبل وليس من أحد حوله يتحدث إليه، ولكن من الواضح أنه كان في باحة الهيكل حيث جرى حادث مدهش ما لتوه، ما يوحي بأن نوراً أشرق منه إلى داخل قلوب الناس الذين كانوا يسمعونه، ويُتْبِع ذلك بقوله: "«أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ»". عندما جاؤوه بتلك المرأة البائسة وقالوا له: "مُوسَى فِي النَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ تُرْجَمُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟"، انحنى يسوع إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ عَلَى الأَرْضِ، ثم، وقد انْتَصَبَ، َقَالَ لَهُمْ: "«مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ!»". لقد كان النور يشرق من شخصيته المقدسة المباركة، كان يضيء عليهم وفي قلوبهم، ويوضح ويجلي كل الشر والفساد والرياء الخفي المخبأ في قلوبهم. ولذلك فلم يجرؤ أحدٌ على أن يرجم المرأة الخاطئة البائسة، بل بدءاً من أكبرهم حتى أصغرهم راحوا يخرجون الواحد تلو الآخر، وتُركت المرأة لوحدها مع الرب يسوع الذي قال لها هذه الكلمات الرائعة: "ولاَ أَنَا أَدِينُكِ".

وهكذا يقول: "أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ". النور يسود، النور يكشف، وهذه هي أول طريقة يجب أن نعرف بها الرب يسوع المسيح. ليس له مثيل. حضوره نفسُه وسط الناس كان بحد ذاته إدانةً لكل الناس، إذ ها هنا، وأخيراً، كان ثمة رجل قدوس بشكل مطلق، صادق بشكل كامل، وبار على نحو تام. كل إنسان آخر كان يبدو إلى جانبه إنساناً خاطئاً مليئاً بالإثم. إنه "نور العالم"، ومع ذلك كان في العالم والعالم لم يعرفه. "ﭐلنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ" (يوحنا ١: ٥). لقد أشاح الناس عنه خوفاً من الاستنارة التي كان يأتي بها حضورُه. ولكن، مع ذلك، هو نور العالم وكل الناس سيخضعون للدينونة على أساس النور الذي أتى به الرب يسوع المسيح إلى هذا العالم. يقول: "مَنْ يَتْبَعْنِي فلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ". من خلال معرفة المسيح والخضوع له، يُعطى الإنسانُ ذاكَ الانعتاق من الظلمة ومن سلطتها المريعة. يتكلم الناس عن مشكلة يسوع، وما برحنا نرى كاتباً تلو الآخر يؤلّف كتباً محاولاً أن يفسر مشكلة يسوع. ولكن يسوع ليس مشكلة. يسوع هو الذي يحل كل المشاكل وكل التعقيدات التي تواجهنا. ثقوا به واقبلوه كما هو إلهاً وإنساناً في شخص واحد مجيد، ومشاكلكم سوف تُحَل. وهكذا يقول: "اتبعوني، ولن تسيروا في الظلمة. بل سيكون لكم نور الحياة". ولكن تذكروا، وحده القدوس يسوع هو الذي يمكنه أن يقول: "أنا نور العالم". في هذا الإنجيل، وفي مناسبات عديدة، نسمعه يستخدم ذلك الاسم الإلهي "أنا". قبل زمنٍ بعيد، عندما ظهر الله لموسى في العليقة المحترقة وأرسله إلى مصر ليحرر شعبَه، سأله موسى: "من أقول لهم أنه أرسلني؟ أي اسم سأعطي لشعبك إسرائيل عندما أظهر أمام فرعون لأقول له أنك أنت من أرسلني كي أحررهم؟"، فقال الله: "هَكَذَا تَقُولُ لِبَنِي اسْرَائِيلَ: اهْيَهْ أرْسَلَنِي إلَيْكُمْ»، أنا «اهْيَهِ الَّذِي اهْيَهْ»" (خروج ٣: ١٤). وهذا هو تفسير معنى الاسم "يهوه"، فهو يعني: "الدائم الوجود"، و"أنا الكائن". وهكذا فإن "أنا هو" هو لقب إلهي، ونطق به يسوع مراراً وتكراراً خلال مسيرة حياته هنا على الأرض. فيقول: "أنا هو خبز الحياة"، و"أنا هو الراعي الصالح"- أي راعي إسرائيل، و"أنا هو الباب"، وهنا يقول: "أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ". لو كان يسوع المسيح أقل من الله لكان تجديفاً أن يتكلم على هذا النحو. فكروا في خادم لله تعرفونه. فكروا في أفضل إنسان التقيتم به أو سمعتم عنه، في أعظم واعظ أو كارز، في أصدق تابع للمسيح، وتخيلوه يقف أمام الناس ويقول: "انظروا إليّ، أنا نور العالم. اتبعوني وسوف لن تسلكوا في الظلمة، بل يكون لكم نور الحياة". عندها ستقولون: من يظن نفسَه حتى ضخّم ذاته إلى تلك الدرجة، مسمّياً نفسه "نور العالم"؟ في الحالة هذه ستتّهمونه بجنون العظمة. ولكن ليس من دليل على جنون عظمة هنا. عندما يفكر يسوع في الملايين من الناس الذين جاؤوا إلى العالم وقالوا: "أنا نور العالم"، فإنه يقول عملياً: "انظروا إليَّ واخلصوا، لأني أنا الله وليس من إله آخر"، إذ نقرأ في مكان آخر: "الله نور، وليس فيه ظلمة على الإطلاق". انظروا إلى خادم مخلص للمسيح- إنه يدلكم على المسيح النور. إنه يقول: "إنه النور، انظروا إليه وستجدون نور الحياة". ولكن يسوع يقول: "تعالوا إليَّ وآمنوا بي، لأني أنا نور العالم". ولاحظوا الكونية والعالمية في قوله هذا. لم يكن فقط نورَ إسرائيلَ، بل النور الذي على الأمميين أيضاً.

وهكذا كان يسوع يتجول بينهم هناك ولم يعرفوه، بسبب قلوبهم العمياء. وهكذا هو الحال أيضاً اليوم. الناس يقولون لنا: "لا أدرك هذا الأمر. لا أفهم ما تقول. لا أعي ما تقول. لا أستطيع أن أستوعب كل هذه الأشياء التي تخبرنا بها عن الخطيئة والخلاص، عن حالة الإنسان الساقطة وتدبير الإنجيل لسد كل حاجات البشر. لا أستطيع أن أفهم ذلك". هذا هو تماماً ما تقوله الكلمة: "الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيّاً" (١ كورنثوس ٢: ١٤). يشبه هذا رجلاً أعمى تحاول أن تشرح له شروق الشمس بكل بهائه في السماء، فيلتفت بعينيه فاقدتي البصر نحوك ويقول: "لا أستطيع أن أتخيل المنظر". إنه بحاجة إلى نور كي يفهم شروق الشمس. آه أيتها النفس التي لم تعرف المسيح، إن كان مثلها بينكم، أعزائي الذين تسمعونني اليوم، فعليكم أن تفتحوا أعينكم بقدرة إلهية لكيما تروا جمال ومجد ربنا يسوع المسيح. ولكن إن تأتوا إليه، فإنه سيفتح أعينكم وينير أذهانكم وتفهمون أمور الله العميقة. فكروا في الملايين التي لا عدد لها التي مرت على الأرض خلال العشرين قرناً منذ تلفّظ يسوع بهذه الكلمات، والذين وجدوا فيه نور الحياة.

هل تريدون أن تتحرروا من الظلمة؟ هل ترغبون في معرفة النور؟ إذاً اذهبوا إليه وإلا فلن تجدوه. كتبت لي سيدة مرةً قائلة: "لقد ظللتُ أبحث عن النور لسنوات. إني باحثة عن الحقيقة، وإن استطعتَ أن تساعدني فإني سأكون في غاية السرور". قالت: "لقد استقصيتُ الثيوصوفية ١ ، وتحضير الأرواح، والفكر الجديد، ومختلف العبادات والطوائف. ودرستُ كل الأديان. ولا أزال في الظلمة". فكتبتُ لها قائلاً: "صديقتي العزيزة، إنك تسلكين في ممرات مظلمة لسنين. عودي إلى كتابك المقدس، اقرأي إنجيل يوحنا، وانظري الكشف الرائع للرب يسوع المسيح، وفيه ستجدين الإجابة على كل تساؤلاتك. ستُسرُّ نفسُك وتبتهج عندما تقبلينه مخلصاً لك". لسنا في حاجة إلى كل هذه الأشياء الأخرى. هل تذكرون ذلك الحادث الذي جرى هنا في شيكاغو خلال المعرض العالمي عام ١٨٩٣؟ كان هناك مؤتمر ديني ضخم حضر فيه ممثلون عن أغلب أديان العالم، وكل واحد منهم كان يعلّي قيمَ النظام الديني المعين الذي يتّبعه. وفي أحد الأيام قدّم جوزيف كوك، كارز بوسطن العظيم شهادته. كان من المفترض أن يقدّمَ خطاباً يوضح فيه وجهة النظر الكتابية حول موضوع الخلاص. فاستند على نص ليس من الكتاب المقدس، بل من مأساة ماكبث ٢ التي كتبها شكسبير، ذلك لأنه كان يعرف أن تلك الآلاف لم تكن مهتمة بالكتاب المقدس، بل على الأرجح أنهم جميعاً كانوا قد قرأوا شكسبير. وقال: "انظروا، ها هي ذي الليدي ماكبث، بعد موت دونكان، كما تذكرون. انظروا كيف تفرك يديها، وتقول: "أيتها اللطخة اللعينة انمحي! أفلن تنظف هذه الأيدي؟ كل العطور العربية ليست كافية لتغسل هذه اليد الضئيلة". وها هو زوجها، ماكبث، ينظر إليها ويصرخ: "هل يستطيع إله البحر نبتون العظيم أن يغسل الدم عن يدي؟ لا، بل إن هذه اليد سوف تصبغ كل بحار العالم بالأحمر، محولة زرقة البحر إلى لون أحمر!" وراحا يفركان ويمسحان أيديهما محاولين إزالة لطخات دم دونكان، ولكن كان ذلك أمراً مستحيلاً". وقال جوزيف كوك: "سأضع الليدي ماكبث إلى يميني وزوجها إلى يساري، وإذ أسير في ممرات هذا المجتمع الكبير من الأديان لدي سؤال واحد أطرحه: "من سيطهّر أيدينا الحمراء؟ أيدينا وقلوبنا ملطخة بالخطيئة. أخبرونا كيف نتخلّص من خطايانا!" ما من نظام ديني على الأرض يمكن أن يقدّم جواباً مقنعاً مرضياً، ولكنه قال: "عندما أتحول عن كل هذه أسمع كلمات تتصاعد من الكتاب المقدس وتقول: "دَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، ابْنِ الله، يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ" (١ يوحنا ١: ٧).

ذلك هو الجواب على كل مشاكلكم الروحية وارتباكاتكم: يسوع نور العالم، مخلص الخطاة الإلهي القدوس. ولكن عندما يكون الناس معاندين في رفضهم في حق الله وقلوبهم ممتلئة بالبر الذاتي، فإنهم سيذهبون إلى أقصى حد، فيكذّبوا الرسول ويضعفوا الثقة بالرسول. ما من شيء يعمي العيون والقلوب أكثر من التحامل والتحيز الديني.

ولذلك قال الفرّيسيون ليسوع: "أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقّاً". أو "شهادتك ليست صحيحة أو شرعية". لقد كانوا يشيرون إلى ما قاله عن نفسه (يوحنا ٥: ٣٧). فأجابهم يسوع قائلاً: "إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ". ولكن بعد أن أخبرهم عن يوحنا المعمدان، وعن أعمال قدرته، قال لهم: "يَشْهَدُ لِي الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي". يخبرنا الناموس أنه "عَلى فَمِ شَاهِدَيْنِ أَوْ عَلى فَمِ ثَلاثَةِ شُهُودٍ يَقُومُ الأَمْرُ" (تثنية ١٩: ١٥). فشهادة رجل واحد ما كانت كافية بالغرض أو شرعية. ولذلك سارع الفريسيون إدانته على هذا الأساس. ولكنه أجاب بإعلانه أنه لم يكن لوحده، بل إن الآب معه، ولذلك فالشهادة تصبح حقيقية.

"إِنْ كُنْتُ أَنَا أَدِينُ فَدَيْنُونَتِي حَقٌّ لأَنِّي لَسْتُ وَحْدِي بَلْ أَنَا وَالآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي". "الناموس يشترط وجود أكثر من شخص واحد لتثبيت حقيقية الشهادة. حسناً. أنا أشهد لنفسي، والآب الذي أرسلني يشهد لي". كيف شهد له الآب؟ عندما كان ربنا يعتمد جاء صوت من السماء يقول: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت". ومن جهة أخرى هناك الأعمال التي قام بها يسوع- لقد كانت هذه الأعمال بفعل الآب بالروح القدس من خلال الابن، وتلك كلها تحمل شهادة على أنه كان حقاً نور العالم. وهكذا قدم الله شهادة كبيرة على ألوهية ربنا يسوع المسيح، فليت الناس على استعداد لقبولها، ليتهم ما كانوا متحاملين أو متحيزين، وليتهم ما كانوا مصممين بعناد على رفض رسالة الله.

"فَقَالُوا لَهُ: أَيْنَ هُوَ أَبُوكَ؟" لا أدري كيف أفسر مدى الازدراء والإذلال الذي أظهره هؤلاء من خلال هذا السؤال. هل ترون ما يتضمنه هذا السؤال من معانٍ؟ يُقال أحياناً أن يوحنا الإنجيلي لم يُشِرْ بشكل محدّد إلى الولادة العذرية لربنا يسوع المسيح، ولذلك ذهب البعض إلى حد القول أن يوحنا لم يعرف شيئاً عن ذلك وأن ذلك قد ذُكر فقط في متى وفي لوقا، ومن هنا فقد لا يكون هذا الأمر صحيحاً. إن يوحنا الإنجيلي يتناول موضوع الألوهية الكاملة للمسيح. إنه يتتبعه رجوعاً إلى الأزل (يوحنا ١: ١)، ولكنكم تلاحظون هنا أن هناك تلميح إلى حقيقة تجسد ربنا يسوع المسيح وولادته العذرية. ما الذي كان وراء هذا السؤال الذي طرحوه والحافل بالإزدراء؟ قال لهم: "أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي وَيَشْهَدُ لِي الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي"، فقالوا: "أَيْنَ هُوَ أَبُوكَ؟" هل فهمتم المسألة؟ أترون مدى القسوة في فكرهم؟ هل ترون الخبث فيه؟ لقد كانوا يعرفون الخبر الذي تم تناقُلُه بأن هذا الإنسان (يسوع) لم يكن له أب بشري، وهم يلمّحون إلى أنه قد وُلِِدَ من زنى، حُمِلَ به خارج إطار الزواج- ولذلك فقد كان من الزيف تماماً بالنسبة لهم أن يتكلّم وكأنّه يعرف أبيه. في الآية ٤١ قالوا له: "«إِنَّنَا لَمْ نُولَدْ مِنْ زِناً. لَنَا أَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ»". انظروا ما قصدوه بقولهم. نعم، كانوا قد سمعوا بقصة الولادة العذرية، وتلك كانت الطريقة التي تناولوا بها هذا الموضوع.

ولكن الله كان أباه. الله كان والد ناسوته كما أيضاً والد لاهوته. وأجاب يسوع وقال: "لَسْتُمْ تَعْرِفُونَنِي أَنَا وَلاَ أَبِي. لَوْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً". دعونا نقدّر هذه الكلمات حقّ قدرها. يقول الناس أحياناً: "ليتني عرفْتُ الله وفهمتُ الله. أتمنى لو استطعتُ أن أعرف كيف ينظر الله إلى الأمور وكيف يشعر إزاء الأشياء، وما هو موقفه من الناس، ولكن الله، على ما يبدو، بعيدٌ جداً، وبالنسبة لي هو من لا يمكن معرفته. أعتقد أنه لا بد من وجود علة ما وراء هذا الكون، فذاك الذي صنع الأذن لا بد أنه قادرٌ على أن يسمع، وذاك الذي خلق الشفاه لا بد أن يكون قادراً على الكلام. وذاك الذي صنع الدماغ لا بد أنه يستطيع أن يفكّر. لا بد أنه يوجد إله شخصي خلف هذا الكون. ولكنه يبدو بعيداً جداً. ألا ليتني عرفتُهُ". لعله يمكنك أن تقول، مثل أيوب: "منْ يُعْطِينِي أَنْ أَجِدَهُ فَآتِيَ إِلَى كُرْسِيِّهِ" (أيوب ٢٣: ٣). أصغوا إلي! قد تجدونه في يسوع. قال يسوع: "من رآني فقد رأى الآب". فإن أردتم أن تعرفوا الله، تعرّفوا على المسيح. "بِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي الرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي الْمَجْدِ" (١ تيموثاوس ٣: ١٦). في وجه يسوع سترى وجه الله؛ في شخص يسوع ستجد شخص الله.

لكن يسوع يقول محزوناً: "لَسْتُمْ تَعْرِفُونَنِي أَنَا وَلاَ أَبِي. لَوْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً". ثم نقرأ: "هَذَا الْكلاَمُ قَالَهُ يَسُوعُ فِي الْخِزَانَةِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ. وَلَمْ يُمْسِكْهُ أَحَدٌ لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ". انظر من جديد، من الضروري بشكل مطلق أن تميزوا الآيات ١- ١١ كجزء من الإنجيل، وإلا فإننا لن نجد أي تسجيل لدخوله إلى الخزينة. "لَمْ يُمْسِكْهُ أَحَدٌ لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ". كما رأينا من قبل في تأملنا ببعض المقاطع السابقة، من غير الممكن أن يصيبَ أيُ ضررٍ يسوع، أو أن يتأذّى بأي شكل من الأشكال، أو أن يموت إلى أن تحين ساعتُه تلك التي من أجلها جاء إلى هذا العالم. قبل أن يغادر مجدَ الآب، كان قد تقرّر في المشورات منذ الأزل أنه في الفصح، وهو يوم محدد معين، أن يُقّدَّمَ يسوع، حمل الفصح، ذبيحةً. وإلى أن تأتي ساعتُه، ما كان يمكن للناس أن يمسكوه أو يقبضوا عليه. ولكن عندما جاءت تلك الساعة، فإنه وضع نفسَه في أيديهم وسمح لهم بأن يبصقوا في وجهه المبارك، وأن يجلدوه بسياطهم الخشنة القاسية، وفي النهاية أن يسمّروه على صليب العار، وهناك صالحَ الناسَ مع الله بعد التعديات والمعاصي التي كانوا قد وقعوا فيها، ولم يشرق النورُ أبداً بسطوع أكثر من تلك اللحظات كما في الظلمة عند الجلجثة. أما الآن وقد تمت تسوية مسألة الخطيئة، فإن الله يقدّم الخلاص لكل نفسٍ في كل العالم تقبل ابنَه وتؤمن به مخلِّصاً. أولئك الذين بيننا، الذين وضعوا ثقتهم فيه، وجدوا أنه أبعد مما كان يمكن لأي منا أن يحلم، وبسبب ما يعنيه لنا، فإننا نتوق لأن تتعرف عليه أنت أيضاً. ولذلك فإننا نرجو منكم جميعاً، من هم بعيدين عن المسيح، أن تأتوا إليه وأن تتخذوا منه مخلصاً لكم.


١. الثيوصوفية: ( theosophy ): الاعتقاد أن معرفة الله تأتي من خلال التبصر أوالكشف الصوفي أوالتأمّل الفلسفيّ. [فريق الترجمة].

٢. "ماكبث" ( Macbeth ): مسرحية لشكسبير تتحدث عن ماكبث ملك اسكتلندا (١٠٠٥- ١٠٥٧) الذي قتل دونكان ( Duncan ) عام ١٠٤٠، وظل متربعاً على العرش حتى قتَلَه مالكوم الثالث ( Malcolm III )، ابن دونكان، عام ١٠٥٧ [فريق الترجمة].