الخطاب ٢

خدمة يوحنا المعمدان والتجسد

"كَانَ إِنْسَانٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ اسْمُهُ يُوحَنَّا. هَذَا جَاءَ لِلشَّهَادَةِ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ لِكَيْ يُؤْمِنَ الْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ. لَمْ يَكُنْ هُوَ النُّورَ بَلْ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ. كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِياً إِلَى الْعَالَمِ. كَانَ فِي الْعَالَمِ وَكُوِّنَ الْعَالَمُ بِهِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ. إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ. وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ بَلْ مِنَ اللَّهِ. وَﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً" (يوحنا ١: ٦- ١٤).

لقد رأينا لتونا أن يسوع هو الكلمة الأزلي المتحد مع الآب منذ بدء الماضي السحيق. بمعنى أنه عندما كان كل شيء قد بدأ يأتي إلى الوجود كان الرب يسوع هناك. فهو لم يبدأ، بل كان. لقد كان الكلمة. لقد كان مع الله. وكان هو الله. وكان ابناً من البدء مع الله. إنه لم يتعرض لأي تغيير في شخصيته على الإطلاق. لقد كان الابن منذ الأزل، بل حتى كان الابن قبل كل الخليقة. "كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ". هل مسَّ هذا الكلام قلوبَنا؟ هل ندرك أن ذاك الذي عُلِّقَ على الصليب كان هو نفسه خالق الأرض؟ أعتقد أن الناس غالباً ما يسيئون فهم ذبيحته القربانية التي قام بها لأنهم لا يعون من كان ذاك الذي صنعها. الدكتور و. بي. ماككي، في كتابه "النعمة والحق"، يخبرنا كيف أنه في إحدى المناسبات، وبعد كرازته بالكلمة وإعلانه للحق، جاءت سيدة إليه وقالت له: "لا أستطيع أن أقبل ذلك". فسألها الدكتور ماككي: "ما الذي لا تستطيعين قبوله؟" فقالت: "ذاك الذي تخبرنا عنه، أن الله سمح لإنسان بريء بأن يموت من أجل أناس خطاة آثمين مذنبين. فذلك لم يكن فيه عدل. إذ ليس من العدل أن يخلص الخطاة المدانون بهذه الطريقة". فقال لها: "يا سيدتي، لقد أسأْتِ فهم كل معنى الإنجيل. ليس الإنجيلُ هو أن إنساناً بريئاً مات عن أناسٍ آثمين. فالإعلان الأول في الإنجيل هو أن الله قد صار إنساناً. ذاك الذي خَطِئَ الإنسانُ إليه قد صار إنساناً بالنعمة الإلهية لكسي يموت عن خطيئة خلائقه. وعلى الصليب لا نرى إنساناً بريئاً يموت عن آثمين؛ بل إننا نرى الله المُساء إليه يقدّم نفسَه متخذاً عليه بشريتنا، لكي تُمحى ذنوبُ وآثامُ خلائقه". "ولكن هل هذا عادلٌ؟" سألت المرأة. فأجاب: "يا سيدتي. إنها المحبة. إنها المحبة غير المحدودة التي دفعته لأن يقدم ذاتَه عنا". ذلك هو التعليم الواضح في إنجيل يوحنا. فذاك الذي مات على الصليب كان خالقَ كل الأشياء وكان هو الذي أُسيءَ غليه وارتُكبت الخطيئةُ ضدّه من قِبَلِ المخلوق، ومع ذلك فعندما لم يستطع الإنسان أن يجد أية طريقة ليتبرر أو لينجو من الدينونة، جاء (الرب يسوع) بالنعمة ليعتِقَ أولئك الذين يؤمنون به.

والآن في الآية ٦ ندخل إلى قصة التجسد. فيلفتُ يوحنا (الإنجيلي) انتباهنا إلى سابقه (سابق المسيح: يوحنا المعمدان). "كَانَ إِنْسَانٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ اسْمُهُ يُوحَنَّا". كم كان هذا صحيحاً طوال قرون! عندما كان الله يرسل أناساً لينقلوا الإنجيلَ إلى الشعب الضال، كم من رجلٍ بينهم حمل اسم "جون" وفي العربية "يوحنا"! فلدينا في الكتاب المقدس يوحنا المعمدان، ويوحنا الرسول، ويوحنا مرقس. ومنذ ذلك الحين ظهر العديد من الأشخاص الذين يحملون اسم يوحنا والذين دعاهم الله ليعلنوا كلمته. عندما نصل إلى أيام الإصلاح نجد لدينا جون نوكس وجون كالفن، ولاحقاً في عصر النهضة العظيم في القرن الثامن عشر لدينا جون ويسلي المُرسَل من الله ليكرز بالإنجيل لأولئك الذين لم يعرفوا شيئاً البتة عن يقين الخلاص. أعتقد أن أحد أسباب كثرة عدد الأشخاص الذين يحملون اسم جون (يوحنا) هو أن هذا الاسم يروق لشعب الله. وأنتم تعلمون ما معنى اسم "جون". فهو يدل على "نعمة الرب وتحننه". لقد جاء يوحنا ليعدَّ الطريق أمام الآتي ألا وهو الرب يسوع المسيح. لقد كان يتمتع بمكانة مرموقة فريدة في شهادة الكتب. ونقرأ: "كَانَ النَّامُوسُ وَالأَنْبِيَاءُ إِلَى يُوحَنَّا" (لوقا ١٦: ١٦). وَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ يُبَشَّرُ بِمَلَكُوتِ اللهِ، ملكوت النعمة والحق. كان يوحنا آخر الأنبياء، وكان أول بشير في الدهر التدبيري الجديد. ويقول الرب يسوع عنه أنه لَمْ يَقُمْ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ. بأي معنى كان يوحنا أعظم إنسان تلده امرأة؟ ذلك لأنه أُعطِيَ له، ليس فقط أن يتنبأ، بل أيضاً أن يرحب بالمسيح ويستقبله- وأن يعمّدَه كعلامة على تطابق المسيح مع أولئك الذين جاء ليموت عنهم. ولأنه عمّد المسيح وكان هو من أعلن عن حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم، فقد احتل يوحنا أعلى مكانة بين الأنبياء. فلم يحظَ أيٌّ منهم بالامتياز الذي حظيَ به يوحنا. ومع ذلك يقول يسوع: "وَلَكِنَّ الأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ أَعْظَمُ مِنْهُ" (متى ١١: ١١). ما الذي يقصده بذلك؟ لقد أُعطيَ ليوحنا أن يدعو الناس إلى التوبة لتأسيس ملكوت الله هنا على الأرض. لقد فتح الباب للآخرين، ولكن لم يُسمَح له نفسه بأن يدخل، ومع ذلك، فقد كانت له مكانة مرموقة جداً في علاقته مع الرب يسوع المسيح. "مَنْ لَهُ الْعَرُوسُ فَهُوَ الْعَرِيسُ وَأَمَّا صَدِيقُ الْعَرِيسِ الَّذِي يَقِفُ وَيَسْمَعُهُ فَيَفْرَحُ فَرَحاً مِنْ أَجْلِ صَوْتِ الْعَرِيسِ" (يوحنا ٣: ٢٩). لقد كان يوحنا صديقَ العريس وفرح بمجيء الرب يسوع المسيح. لقد ابتهج للعمل المجيد الذي كان سينجزه والعظمة التي ستكون نصيبَه. فقال: "لستُ المسيا، أنا مجرد صديق للعريس". يا له من امتياز رائع كان يتمتع به! ولم يكن هناك خادم لله أكثر اتضاعاً وأقل رفعة من يوحنا المعمدان. عندما سألوه عن هويته، لم يرفّع أو يمجّد نفسه أبداً. عندما كان أي شخص يطلب أوراق اعتماده كان يقول: "أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ الرَّبِّ". لا يمكنك أن ترى الصوتَ، بل يمكنك أن تسمعه فقط. لم يُرِدْ يوحنا أن ينشغلوا به. لقد كانت مسرّته ببساطة هي في أن يُعلّي ويمجّد ذاك الذي كان هو بشيراً له، وبهذا يصبح يوحنا مثالاً وقدوة لكل خادم لله. إننا جميعاً ميالون إلى أن نريد جعل الناس ينشغلون بنا. إننا نرغب في أن نحتل فكر الناس، وننزعج، بعض الشيء، إذا ما أساء الناس فهمنا أو تحدثوا إلينا أو معنا بدون لطف. ولكن كل هذه الأفكار كانت بعيدة جداً عن ذهن يوحنا. لم يكن مهتماً بنفسه بل فقط في أن يكون المسيحُ وحدُه ممجداً. والرسول بولس كان أحد أولئك الذين دخلوا في تلك الروح. كان اهتمامه الوحيد هو أن يتعظّم المسيحُ، إما بالحياة أو بالموت؛ وكان هذا هو هدف يوحنا المعمدان الخاص- "إنسانٌ مرسَلُ من الله".

إنه لأمرٌ عظيم عندما ينظر الله إلى إنسان ويقول له: "أريدك أن تذهب في مهمة من أجلي". إني على يقين تام بأنه وضع يدَه عليَّ عندما كنتُ في الرابعة عشر من العمر. وقال لي: "لقد خلّصْتُ نفسَكَ؛ أريدك أن تمضي لتكرز بإنجيلي". يا لها من فرحة غمرتْني، لخمسين سنة، بحلوها ومرّها، إذ كنتُ أُعلن ذلك النبأ السار! تمضي على الإنسان أحياناً عدة سنوات قبل أن يضع الله يده عليه. شاول الطرسوسي كان رجلاً ناضجاً، فوق الثلاثين من العمر، عندما ظهر له ربُّنا المبارَك على طريق دمشق وقال له: "لقد ظهرْتُ لك لأجل هذا الهدف، وهو أن أجعلك رسولاً وشاهداً. وسأخلّصك من الشعب ومن الأمميين، الذين أرسلك الآن إليهم".

وجاء إلى بطرس عندما كان رجلاً يعمل في الصيد. وقال له: "يا بطرس، اترك السمك خلفك، وسأجعلك صياداً للناس". وجاء إلى متى عندما كان جالساً إلى مقعد الجباية. قال أحدهم أن متى كان هو ذلك الرجل الذي علّم بطرس أن يحلف. فمتى كان جابي ضرائب عند الرومان، وكان يهودياً، فكان يضع ضرائب ثقيلةً على شعبه نفسه، وكل مرة كان بطرس يأتي حاملاً ذلك الحمل من الأسماك، كان متى يذهب إليه ويقول له: "هاتِ ٢٠ بالمئة من هذه الأسماك". وأستطيع أن أتخيل بطرس ومتى يتجادلان حول النسبة التي كانت من نصيب الحكومة، وأجد بطرس يلعن ويسبّ ويشتم بسبب الابتزازات التي يتعرض لها بسبب جابي الضرائب هذا. ولكن الرب جاء إلى متى الجابي، وقال له: "اتبعني"، فترك متى متعة الجباية دون رجعة، وتم اختياره ليكتبَ الإنجيل الأول.

إني أتساءك إن كان من بين قراء هذه الأسطر من يشعر أن الله يتحدث إليه؟ في سكون ساعات الليل قد تسمعون صوتاً يقول: "أريدُك خادماً لي، مرسَلاً من أجلي. أريدك أن تعمل من أجلي بطريقة خاصة". هل تقول: "هائنذا يا رب؛ أرسلْني"؟ لا تخافوا أن تسلّموا حياتكم له. يوماً ما سيقول الناس عنكم: "كان هناك رجل (أو امرأة) مُرسَل من الله". لقد كان هذا صحيحاً بالنسبة ليوحنا، وهو سينال مكافأته لتلبيته النداء عندما يقف عند كرسي الدينونة أمام المسيح.

ها قد جاء يوحنا ليشهد. وهذا ما ينبغي على كل خادم أن يفعله أو أن يكونه- شاهداً. الشاهد لا يقول الأشياء التي يفكر بها، بل الأشياء التي يعرفها. لقد جاء للشهادة- ليشهد للنور. هل يحتاج النور إلى شاهد؟ نعم، في عالمٍ مظلمٍ كهذا، حيث الناس عميان. إنهم لا يستطيعون أن يروا، وهم في حاجة إلى شاهد على حقيقة أن النور قد جاء. لقد عرف يوحنا أن العالم كان أعمى وجاء ليخبر الناسَ عن النور، والأمر الرائع كان هذا: عندما كان الناس يَقْبَلون رسالَته ويؤمنون بها، كانوا يتخلّصون من العمى الذي كانوا مُبتَلين به ويصيرون قادرين على أن يروا. لقد رأوا المسيح، النور، "الذي يؤمن به كل الناس".

من كان النور؟ ربنا يسوع المسيح نفسه. "كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ". وإذ أننا في هذه النقطة، فدعوني أُلفتُ انتباهَكم إلى ترجمة مختلفة قليلاً لهذه الآية. فهنا نقرأ: "كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ". هناك أنوار زائفةٌ كثيرة للغاية. هناك أنوار كاذبة يتبعها الناس إلى الهلاك. "كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِياً إِلَى الْعَالَمِ". ما معنى ذلك؟ هل يعطي المسيح نوراً روحياً لكل إنسان يأتي إلى العالم؟ نعم، جزئياً. إنه يعطينا النور من خلال ضمائرنا، ومع ذلك، فإني أعتقد أن هناك أكثر من هذا المعنى في النص. أعتقد أنه على النحو التالي: "كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي، بمجيئه إلى العالم، يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ". فهو ليس النور الذي في الإنسان بل نوراً يشرق على الإنسان. أعني بذلك أن الرب يسوع المسيح قد جاء إلى عالم ممزوج بالشر- مكونٍ من بشر خطاة يلفّون الخطيئة كلقمة صغيرة حلوة تحت ألسنتهم. لقد جاء وكان الإنسان الوحيد القدوس الذي سار على هذه الأرض، وقد جال بين الناس، فظهر الناسُ على النقيض منه. لقد ألقى نوراً على كل إنسان.

إني أتساءل إذا ما كان هناك أحدٌ بين قرّائي يقول في نفسه: "لستُ في حاجة إلى هذا الإنجيل. فما أنا بخاطئ كبير. لم أقتلْ أحداً، لم أسرق. وأنا لا ألعن ولا أشتم ولا أحلف. ولستُ بخاطئ". مهلاً لحظة، يا صديقي! هلا تأتي وتقف بجانب الرب يسوع المسيح؟ فهناك تجد إنساناً كاملاً. كيف تقارن حياتك بحياته؟ كيف تقارن حياتك الروحية، وكلماتك، وطريقة نظرك إلى الأشياء به؟ آهٍ. عندما نقف جنباً إلى جنب معه، فإنه يلقي نوراً علينا، وذلك النور يُظهر كل نقائصنا الروحية والأخلاقية. "كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي، بمجيئه إلى العالم، يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ".

لقد أُعطيَ الناموس لشعب واحد. يُسمّي عاموسُ (الناموسَ) بالفادن الذي به يتم الكشف على الالتواءات والاعوجاجات والانحناءات. إن في ذهنه صورة بناء جدار، ينظر المرء إليه ويقول: "ذلك الجدار ليس مستقيماً". فيستاء البنّاء من هذا، ولكن عندما يأخذ فادناً ويلقي به إزاء الجدار، فإنه يُظهر الخللَ الذي فيه.

ها هنا إنسانُ يدّعي أنه كامل ويقول الله: "اختبروه بناموسي وستجدون أنه معوجّ". يقول الكتاب المقدس أنه إن حفظ إنسانٌ كل الناموس وأَثِمَ في واحدة فإنه سيكون مداناً ومذنباً بالجميع. ولكن يسوع حقّق كل الوصايا وكل المطاليب؛ لقد سدّ كل مطلبٍ. "ليس فيه خطيئة". "لم يعرف الخطية". "لم يرتكب خطيئة". هكذا ينبغي أن يكون الإنسان لأجل الله. عندما تأخذ مكانك إلى جانبه، ففي الحال تظهر نقائصَكَ وعيوبك. إنه يلقي نوراً عليك. "هذا هو النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي، بمجيئه إلى العالم، يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ". حسناً، هل جاء فقط ليكشفَ خطيئتي؟ هل جاء فقط ليظهرَ نقائصي وعيوبي؟ لا، في الواقع. إنه يجعلني أرى حاجتي، ولكنه يفعل ذلك فقط لكي يكشف لي ذاتَه ويقدّمَ نفسَه مخلصاً لي.

"كَانَ فِي الْعَالَمِ وَكُوِّنَ الْعَالَمُ بِهِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ". ما كان أحدٌ من أبناء قريته يتخيل أن الله نفسه كان لينزل ويسكن في وسطهم.

لك أن تتخيل كيف كانت قرية الناصرة حيث عاش يسوع ١. لقد كانت فقيرة ومريعة. ونما يسوع وسط كل تلك الظروف البائسة كمثل زهرة سوسن بيضاء نقية تطلع من مياه موحلة ملوثة في قاع بحيرة. يسوع النقي، يسوع القدوس. لقد كان في العالم وهو خالق كل الأشياء ولم يعرفه العالم. لقد صنع طاولاتهم وكراسيهم وقام بنجارة وتركيب أبواب ونوافذ بيوتهم، ولم يعرف أحدٌ على الإطلاق أنه كان الله بذاته يسير في وسطهم، إلى أن مضى بعد ذلك إلى الصليب ومات عن خطايانا، ووضعوه في القبر، وفي صباح اليوم الثالث مزّق رباطات الموت وقام منتصراً ظافراً. ولن يتعرض للهوان من بعد. إنه رأس الخليقة الجديدة- أولئك الذين وثقوا به وهم متحدون معه في حياة القيامة.

"إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ". عبارة "إلى خاصته" الأولى تأتي في المحيّر، وأما الثانية فشخصية. ولعله يمكننا قراءة النص كما يلي: "إِلَى أموره الخاصة جَاءَ وَشعبُه الخاص لَمْ يقْبَلْهُ". نعم لقد جاء إلى عالمه الخاص. لقد خلق هذا العالم. وجاء إلى العالم الذي صنعتْه يداه. جاء إلى دياره، إلى مدينته، أورشليم. جاء إلى هيكله- "في هيكلك، كل شيء يخبر بمجد الله"، كما يقول داود. لقد جاء إلى ما يخصه من أشياء، ولكن شعبه من اليهود، الشعب الذي طالما كان ينتظره كما يُفترض، وكل تلك المئات من السنين، لم يعترفوا به ولم يقتبلوه. هل اقتَبَلْتَه يا صديقي؟ كان هناك أناسٌ سمعوه يتكلّم وفتحوا قلوبَهم له. "وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ". لدينا بين أيدينا كل الحقيقة عن طريق الخلاص، إن كنا مهتمين. لقد أرسل الله الرب يسوع أميراً ومخلصاً، وعندما نقتبله فإننا نصبح خاصته. هل تتساءل: "كيف أنتفع من نعمته المخلِّصة؟" لديك الجواب: "وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ". أن تقبله يعني أن تؤمن به وأن تفتح قلبَك له. "وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ". هل تُصعّب عليك أمراً هو أسهل ما يكون؟ لقد استخدم الله كلمات في غاية الوضوح. فيسوع يقول: "تعالوا إلي وأنا أريحكم". آمنوا بي، فتكون لكم حياة أبدية. التفتوا إلي فتخلصون. اقبلوني فأجعلكم خاصتي. لكي نقبله يكفي أن نفتح له باب القلب على مصراعيه فيدخل. "هَئَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي" (رؤيا ٣: ٢٠).

هناك ترنيمة إنجيلية جميلة تقول: "عليك أن تفتح الباب". نعم عليك أنت أن تفتح الباب. سوف لن يقتحم يسوع الباب. فهلا تفتح له الباب؟ هلا تدعه يدخل؟ في هذه اللحظة يمكنكم أن تحني رأسك، وتفتح قلبك وتقول: "أريدك أن تدخل وأن تكون رباً على حياتي". أفلا تقبله؟ "وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ". هل ترى؟ ليس الناسُ أبناءً لله بالولادة الطبيعية. قال الرب يسوع لمجموعة معينة من الناس في أيامه: "أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ" (يوحنا ٨: ٤٤). ويقول الرسول عن أولئك الذين يخلصون: "كنتم في وقت ما أَبْنَاءَ الْغَضَبِ". إننا مولودون بجسد خاطئ. ولكي نصير أولاداً لله علينا أن نتجدد. "وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ". أن نقبله يعني أن نؤمن باسمه، وأن نثق بكلمته. إنها مسألة إيمان به. لا تحاول أن تجعل من الإيمان سراً عظيماً. الإيمان هو ببساطة أن تؤمن، أن تقول آمين لما يقوله الله. نحن نقبل شهادة الناس. ويأتي إنسانٌ إلينا ممن نثق بهم. ونصدّق كل ما يقوله لنا. إننا نقبل شهادة الناس. حسناً، لقد أعطانا الله شهادته التي تتعلق بابنه. فهل تقبل شهادته في قلبك؟ هل تجرؤ على اعتبار الله كاذباً برفضك أن تصدّق الشهادة التي قدّمها والمتعلقة بابنه؟

لاحظ ما يُقال عن أولئك الذين يؤمنون باسمه: "وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ". هنالك طرقٌ ثلاثة لا تستطيع بها أن تصبح ابناً لله:

الأولى: "اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ". وهذا يعني أنه حتى لو كان والداك من أفضل المسيحيين على وجه الأرض، فإنهما لا يستطيعان أن يمنحاك حياة مقدسة.لا يمكنهما أن ينقلا طبيعتهما الجديدة إليك. الله وحده هو الذي يستطيع أن يفعل ذلك. إنك لست ابناً لله بالدم.

الثانية: "اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ". لا يمكنك أن "تجعل" نفسَك مسيحياً بإرادتك الذاتية ببساطة: "لَيْسَ لِمَنْ يَشَاءُ وَلاَ لِمَنْ يَسْعَى بَلْ لِلَّهِ الَّذِي يَرْحَمُ" (رومية ٩: ١٦). ها هنا إنسان يقول: "حسناً. ليس لدي وظيفة، ولذلك سأصبح جندياً". ويجد أن عليه أن يمتلك بذلة نظامية، ولذلك يذهب إلى محل تجهيز الألبسة ويشتري البذلة وينزل إلى الشارع وهو يرتديها ويتخيل أنه جندي. لعلنا نسأل: "كيف أصبحتَ جندياً؟"، "لقد ارتديتُ بذلةً وهائنذا جندي". فهل يجعل هذا منه جندياً؟ قطعاً لا. إذ يجب تطويعه أو تجنيده. ما من إنسان يمكن أن يصير مسيحياً بمجرد أن يقول: "من الآن وصاعداً، أنا مسيحي". فهذا لا يجعلك مسيحياً. عليك أن تأتي إلى الله كخاطئ وتقبل المسيح. وهو سيجعلك مسيحياً. وسيعطيك حياة جديدة. وليس فقط بمحاولة أن تكون أفضل، بل بالسماح لله بأن يجعلك خليقة جديدة.

الثالثة: "اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ". ما من أحد على الأرض في مقدوره أن يجعلك مسيحياً. يظن الناس أن القس أو الكاهن يمكن أن يصنع مسيحيين بتعميدهم أو عن طريق الأسرار. ولكن هذا لا يخلّصك. "يجب أن تولد ثانيةً". "اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ بَلْ مِنَ اللَّهِ". الله وحده هو الذي يخلق تلك الحياة الجديدة في نفس كل مؤمن بابنه المبارك.

والآن الآية الأخيرة في هذا القسم: "وَﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً". ليست هذه الترجمة الأفضل للعبارة. ففي الواقع، وكما نوّهْنا للتو، فإن الكلمة لم يُصنع شيء منها. الكلمة صار جسداً. لنربط هذا بأول آية في الإنجيل: "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ"، "وَﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً". ذاك الذي كان متحداً مع الآب منذ البدء قد صار إنساناً. وهذا يعني أنه اتخذ بشريتنا، جسداً ونفساً وروحاً. لقد صار إنساناً، ومع ذلك فهو الله، "وَحَلَّ بَيْنَنَا". الكلمة "حلَّ" أو "سكن" هنا يمكن ترجمتها "أقام مسكنه" بيننا. كان الله في العهد القديم يقيم في خيمة العهد في البرية. والآن تجلى في ابنه. "وَﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَجعل مسكنه بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ"، وهو المجد الإلهي المشرق. لقد عاش يوحنا الإنجيلي معه، وسار معه، وصلى معه. لقد رأى في حياة الرب يسوع المقدسة "مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً".

هذه الكلمات كتبها شخصٌ عرف يسوع عملياً طوال حياته. وكانت تربطه به بعض أواصر القربى، و لا بد أنه عرفه عندما كان ينمو ويكبر هناك في الناصرة. يخبرنا أحد أوائل المؤرّخين في الكنيسة أن يوحنا كان مراهقاً عندما دعاه المسيح ليصير صياداً للناس. ولقد أمضى حوالي ثلاث سنوات ونصف في صداقة حميمة مع يسوع، وكان هو من اتّكأ على صدر يسوع ليلة العشاء السري. على الأرجح أنه كان في التسعين من العمر عندما كتب هذا السفر، وإذ عاد بذاكرته إلى ماضي الأيام نجده يقول: "وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً". وهذا الوحي يشاركنا به وهو يسطّر هذه الأصحاحات الرائعة.


١. قمنا بتصرف في النص في هذا الموضع لأن ما يسرده الكاتب هنا لا يفيد القارئ بشيء ولا يمت لواقع قرائنا حالياً بأية صلة. [فريق الترجمة].