الخطاب ٧

تطهير الهيكل

"وَبَعْدَ هَذَا انْحَدَرَ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ هُوَ وَأُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ وَتلاَمِيذُهُ وَأَقَامُوا هُنَاكَ أَيَّاماً لَيْسَتْ كَثِيرَةً وَكَانَ فِصْحُ الْيَهُودِ قَرِيباً فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَوَجَدَ فِي الْهَيْكَلِ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ بَقَراً وَغَنَماً وَحَمَاماً وَالصَّيَارِفَ جُلُوساً. فَصَنَعَ سَوْطاً مِنْ حِبَالٍ وَطَرَدَ الْجَمِيعَ مِنَ الْهَيْكَلِ اَلْغَنَمَ وَالْبَقَرَ وَكَبَّ دَرَاهِمَ الصَّيَارِفِ وَقَلَّبَ مَوَائِدَهُمْ. وَقَالَ لِبَاعَةِ الْحَمَامِ: «ﭐرْفَعُوا هَذِهِ مِنْ هَهُنَا. لاَ تَجْعَلُوا بَيْتَ أَبِي بَيْتَ تِجَارَةٍ». فَتَذَكَّرَ تلاَمِيذُهُ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «غَيْرَةُ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي». فَأجاب الْيَهُودُ وَقَالُوا لَهُ: «أَيَّةَ آيَةٍ تُرِينَا حَتَّى تَفْعَلَ هَذَا؟» أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمُ: «ﭐنْقُضُوا هَذَا الْهَيْكَلَ وَفِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ». فَقَالَ الْيَهُودُ: «فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ هَذَا الْهَيْكَلُ أَفَأَنْتَ فِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ؟» وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ. فَلَمَّا قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ تَذَكَّرَ تلاَمِيذُهُ أَنَّهُ قَالَ هَذَا فَآمَنُوا بِالْكِتَابِ وَالْكلاَمِ الَّذِي قَالَهُ يَسُوعُ" (يوحنا ٢: ١٢- ٢٢).

بعد معموديته، خرج ربنا إلى البرية، حيث نعلم من أناجيل أخرى أنه تجرّب من الشيطان. ثم عاد إلى اليهودية وبدأ مسيرة بطيئة نحو الجليل. لقد تتبّعْناه لتونا وهو يدعو أول التلاميذ وتأملْنا في حضوره وما فعله في عرس قانا الجليل. والآن نجد ربَّنا يتابع سيرَه من قانا إلى كفرناحوم. كفرناحوم تُدعى في مكان آخر "مدينتَه". لم تكن هي مسقط رأسه، كما نعلم، ولم تكن تلك المدينة التي عاش فيها طفلاً وشاباً، بل كانت المدينة التي اختارها مكاناً لإقامته عندما بدأ خدمته. بالطبع لم يمكث هناك مطولاً، ولذلك أمكنه أن يقول: "«لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ»" (متى ٨: ٢٠). قلّما كان يسوع يتواجد في موطنه أو منزله، بل قلّما كان يمكث في منزل. ولكن إن أمكن القول أنه كان لديه منزل على الإطلاق، فيمكن أن نعتبر أن ذلك كان في كفرناحوم. ومن هنا فإن كفرناحوم كانت إحدى مدن الجليل المُنعَم عليها. فهناك كان غالباً ما يحضر إلى المجمع. لا يمكننا وصف مشاعرنا عندما نتخيل ذلك المجمع في كفرناحوم حيث كان يقف على تلك الأرضية المحجّرة، وعندما نتخيله يشفي الذراع المشلولة ويعتق المرأة المسكينة التي كانت محنية الظهر لسنوات كثيرة. ونتذكر أنه هناك ألقى تلك الخطبة الرائعة التي قال فيها: "أنا خبز الحياة". كان ليمكننا والحالة هذه أن ننظر من هناك إلى الشاطئ وأن نعرف أين كان متّى يجلس ليمارس مهنته كجابي ضرائب ونلاحظ الطريق الذي سلكه الرب يسوع في طريقه ليقيم ابنة ياييرس بعد شفائه المرأة التي شقّت طريقها إليه وسط الجموع وهي تبكي وتقول في نفسها بإيمان: "إن لمسْتُ هدبَ ثوبه فقط أُشفى".

كفرناحوم، المباركة دون سواها من مدن الأرض، التي اختارها يسوع لتكون مسكنه، والتي فيها علّم الناس وصنع أعمالاً مقتدرة، كانت هي نفسها، وللأسف، التي قال عنها فيما بعد: "وَأَنْتِ يَا كَفْرَنَاحُومَ الْمُرْتَفِعَةَ إِلَى السَّمَاءِ سَتُهْبَطِينَ إِلَى الْهَاوِيَةِ" (متى ١١: ٢٣). لقد حظيتْ تلك المدينة بامتياز عظيم. أتعرفون أن تلك المدينة نفسها قد زالت من الوجود؟ فلقرون عديدة لم يعرف أحدٌ موضعَها إلى أن تمّ الكشف عنها في السنوات الأخيرة تحت كومة من الرمال. إن مصير كفرناحوم، يجب أن يكون بالتأكيد تحذيراً مهيباً لنا اليوم. فكلما زادت امتيازاتنا، زادت مسؤوليتنا. إن كان الله، بمحبته الفائقة، قد سمح لنا أن نعيش في مكان يتوافر فيه الكتاب المقدس للجميع ومع ذلك أشحنا بوجهنا عنه وصممنا آذاننا عن سماع إعلانه واحتقرنا كلمته، فكم سيكون مخيفاً ومرعباً مصيرُنا في ذلك اليوم الذي سنواجه فيه بالدينونة ذاك الذي رفضناه عندما كنا على الأرض. لقد افترض الله أننا قد نستوعب درس كفرناحوم ذاك في قلوبنا.

انحدر الرب يسوع إلى كفرناحوم، واستمر هناك مع أمه وإخوته وتلاميذه لفترة قصيرة. ثم اتجه جنوباً ليعلن نفسَه في أورشليم. كان فصح اليهود قريباً. كان عيد الفصح يُدعى "فصح الرب"، في العهد القديم. ولكن كلما أتى الحديث عنه في العهد الجديد نسمع أنه يُدعى "فصح اليهود"، كما نقرأ أيضاً عن عيد المظال عند اليهود. فما سر هذا التغيير؟ لماذا ما عادت عبارة "أعياد الرب" تُستعمل؟ لماذا صار يُقال عنها "أعياد اليهود"؟ ذلك لأن اليهود قد أشاحوا عن الرب، وحفظ تلك الأعياد صار مجرد أمر شكلي. ولذلك فما عاد الرب يعتبرها خاصته. لنحذر بهذا من الخطر الذي يحدق بنا جميعاً، ألا وهو المحافظة الخارجية الشكلية بدل التمسك بالحقائق الروحية.

كان عيد الفصح عند اليهود قريباً. وصعد يسوع إلى أورشليم. وعندما وصل إلى الهيكل، صُدِمَ لرؤية أعمال التجارة تجري في ساحاته، وكأنه كان سوقاً دنيوياً أو بيتاً للصيرفة. ما كان قد بدأ بشكل بريء على الأرجح كوسيلة راحة لتسهيل تأمين الحملان لزوار عيد الفصح، وتصريف النقود لأولئك القادمين من بلاد بعيدة، انحدر إلى سعي محموم للاتجار بما كان يُحتاج إليه لحفظ خدمة الذبائح المتعلقة بعيد الفصح. كان الطمع والجشع قد سادا لدرجةٍ صار الله معها مَخْزِياً وصار الهيكل شائناً. فهناك غدا ثغاء الخراف وهديل الحمام يقلق عبادة الرب، وأولئك الذين كانوا يقدمونها للبيع ما كانوا يفكرون سوى في تحقيق الربح أنفسهم. لقد كانوا يتاجرون بأمور الله، وهذا دائماً أمرٌ بغيضٌ في عينيه. ولذلك فإن يسوع أكّد نفسه رباً للهيكل. ونقرأ في ملاخي أنه "يَأْتِي (الرب) بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ" (ملاخي ٣: ١)، ويطهّره.

لقد ظهر يسوع فجأة أمام الناس وبسوطٍ من حبال وراح يطرد الغنم والبقر. وقال: "لاَ تَجْعَلُوا بَيْتَ أَبِي بَيْتَ تِجَارَةٍ". منذ ذلك الحين، كم من متاجرات ظهرت بأمور كنيسة الله؟ إن كل ما يعطيه الرب، مجاناً يعطيه. وكل ما ينبغي على خدامه أن يقدموه في سبيل الخدمة للنفوس المحتاجة، يجب أن يقدموه مجاناً أيضاً. إننا نقدّم تقدمات وعطايا بدافع تقديرنا وامتنان قلوبنا. وما نفعله لمجد ربنا يسوع المسيح، يجب أن نقوم به لأننا نريد أن نفعل ذلك.

لا بد أنه كان أمراً مستغرباً رؤية يسوع بسوط من الحبال في يده وهو يصرخ عالياً قائلاً: "ارْفَعُوا هَذِهِ مِنْ هَهُنَا. لاَ تَجْعَلُوا بَيْتَ أَبِي بَيْتَ تِجَارَةٍ". "بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ!" (متى ٢١: ١٣). لاحظوا نبرة السلطة في كلامه. إنه يقول "بَيْتَ أَبِي" و""بَيْتِي". لقد كان رب الهيكل، لأنه كان رباً وسيداً على كل شيء. تذكّر التلاميذ ما كُتِبَ (في العهد القديم): "«غَيْرَةُ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي»". وكم كان هذا القول ينطبق عليه!

وراح اليهود يعترضون، وسألوه: "«أَيَّةَ آيَةٍ تُرِينَا حَتَّى تَفْعَلَ هَذَا؟»" لقد تحدوه ليقوم بأعجوبة ما يثبت لهم بها سلطانه؛ أن يصنع أمراً عجيباً لكي يصادق بها على نفسه. ولكنه قال: "«ﭐنْقُضُوا هَذَا الْهَيْكَلَ وَفِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ»". لكأنه بذلك كان يقول: "تريدون آية على أني ابن الله، أني الموعود به من قِبَل الآب- وستكون لكم علامة. في الوقت الذي يجده الله مناسباً، دمّروا هذا الهيكل ، وفي أيامٍ ثلاثة أقيمُه". لم يفهموا قصده، والتفتوا نحوه في غضب قائلين: "«فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ هَذَا الْهَيْكَلُ أَفَأَنْتَ فِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ؟»". لقد كان يقصد هيكل جسده. ولكنه لم يوضح لهم ذلك. فما كان ذلك ليفيد. فالناس يصيرون في حالة لا ينفع معها توضيح الروحانيات لهم.

ولذلك لم يقُلْ لهم شيئاً. لقد اختاروا طريقهم الخاص ولم يحاول أن يفسر لهم السر الكامن وراء كلماته. ولكن عندما قام من بين الأموات آمن به تلاميذُه. لعلنا نتأمل اليوم في هذه الكلمات فنستطيع معرفة المعنى. "ﭐنْقُضُوا هَذَا الْهَيْكَلَ". ما كان الهيكل؟ لقد كان مبنى مشيداً يُفترض في الرب (يهوه) أن يظهرَ فيه حضورَه. فهناك، في قدس الأقداس، كان النور غير المخلوق، مجد الشكيناه. كان هذا هو حضور الله المنظور المتجلي على الأرض. وكان الهيكل ببساطة يحجب ذلك المجد عن أعين الجمع في الخارج. وكان رئيس الكهنة يدخل قدس الأقداس مرةً واحدةً في السنة. وهكذا كان جسد ربنا يسوع المسيح، عندما جاء إلى هذا العالم، هو الهيكل الحقيقي لله. جسده يظهر للناس في الباحة الخارجية، ونفسه في المقدس، وروحه في قدس الأقداس. لقد تجلى المسيح في المسيح. لقد كان الله نفسه يقيم في المسيح، مصالِحاً العالم لنفسه، لأنه كان إلهاً وإنساناً في شخص واحد. لقد كان يتكلم عن هيكل جسده، إذ كان هناك الله والإنسان هناك في شخص واحد. ولذلك قال: "ﭐنْقُضُوا هَذَا الْهَيْكَلَ وَفِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ". لاحظوا القول: "أُقِيمُه". بمعنى آخر، كان سيموت، ولكن مات وكله ثقة بأنه سوف يقوم. هل لاحظتم كيف أن قيامة ربنا يسوع المسيح تُنسَب لكل أقنوم من الثالوث القدوس؟ وفي موضع آخر نسمعه يقول: "لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُ (نفسي) مِنِّي بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً" (يوحنا ١٠: ١٨). لقد وضع حياته وأخذها أيضاً إلى الحياة. لقد أقام الهيكل. وفي موضع آخر نقرأ أنه أُقيمَ من الأموات بمجد الآب، وأيضاً أن الروح القدس أقامَ يسوع، ربنا، من بين الأموات. كل أقنوم في الألوهية كان له دور في قيامة يسوع. والآن أُعلن أنه ابن الله بقوة قيامته من بين الأموات. ولولا هذه لما كان هناك إنجيل نكرز به إلى عالم ضال.

ولكن المسيح قام، ويخبرنا الكتاب أنه "إِنِ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ اللهَ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ خَلَصْتَ. لأَنَّ الْقَلْبَ يُؤْمَنُ بِهِ لِلْبِرِّ وَالْفَمَ يُعْتَرَفُ بِهِ لِلْخَلاَصِ" (رومية ١٠: ٩، ١٠).