الخطاب ٤٤

الوصية الحادية عشر

"فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ يَسُوعُ: «ﭐلآنَ تَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ وَتَمَجَّدَ اللَّهُ فِيهِ. إِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ تَمَجَّدَ فِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُمَجِّدُهُ فِي ذَاتِهِ وَيُمَجِّدُهُ سَرِيعاً. يَا أَوْلاَدِي أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً قَلِيلاً بَعْدُ. سَتَطْلُبُونَنِي وَكَمَا قُلْتُ لِلْيَهُودِ: حَيْثُ أَذْهَبُ أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا أَقُولُ لَكُمْ أَنْتُمُ الآنَ. وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضاً بَعْضُكُمْ بَعْضاً. بِهَذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضاً لِبَعْضٍ». قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «يَا سَيِّدُ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ؟» أَجَابَهُ يَسُوعُ: «حَيْثُ أَذْهَبُ لاَ تَقْدِرُ الآنَ أَنْ تَتْبَعَنِي وَلَكِنَّكَ سَتَتْبَعُنِي أَخِيراً». قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «يَا سَيِّدُ لِمَاذَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَتْبَعَكَ الآنَ؟ إِنِّي أَضَعُ نَفْسِي عَنْكَ». أَجَابَهُ يَسُوعُ: «أَتَضَعُ نَفْسَكَ عَنِّي؟ اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لاَ يَصِيحُ الدِّيكُ حَتَّى تُنْكِرَنِي ثلاَثَ مَرَّاتٍ»" (يوحنا ١٣: ٣١-٣٨).

كان ربنا وتلاميذه لا يزالون في العلية حيث أقام الفصح الأخير معاً، كما نعلم من الأناجيل الأخرى، هذا الذي أعقبه تأسيس عشاء الرب، عيد المحبة المقدس الذي حفِظه شعب الله المحبوب على مر الأجيال. غادر يهوذا المجموعة الصغيرة. ومدفوعاً بأسوأ الدوافع، وواقعاً تحت سطوة الاشتهاء، مضى خارجاً ليقابل رؤساء الكهنة وليأخذ المال الذي وعدوه به مقابل تسليم الرب يسوع إلى أيديهم بعد هُنيهة. والآن وإذ بقي المخلص لوحده مع الأحد عشر الذين اضطربت قلوبهم بشكل غريب بسبب الأمور الأكيدة التي أخبرهم عنها لتوه، تكلم بفرح جديد وقال: "ﭐلآنَ تَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ وَتَمَجَّدَ اللَّهُ فِيهِ".

لم يبدو الأمر وكأن الله كان على وشك أن يتمجد، وخلال الأيام الثلاث التالية ستكون لديهم الكثير من الشكوك بالفعل فيما يتعلق بتمجد الله من خلال الأحداث التي ستجري. كان الرب قد قال أنه سيخرج للموت، وأنه سيُسلم إلى أيدي الخطأة. هل كان في ذلك تمجيد لله؟ قال أنه سيُدفن وسيقوم ثانية وفي هذا، أي في موته وقيامته، سيتمجد الله. إذ في موته الكفاري على الصليب، سيقوم بتسوية مسألة الخطيئة بطريقة تحقق كل مطالب قداسة طبيعة الله وبر عرشه. ولعله يمكننا القول أن في موته ذاك على عود الصليب سينال الله مجداً أكثر من مما خسره آدم بسقوطه وبكل الإثم والعداوة والتعدي الذي دخل إلى العالم منذ ذلك الحين.

إذ في نهاية الأمر، الناس إنما هم خطأة محدودون ولأن هكذا فإنهم قد خذلوا الله وازدروا به. ويمكن القول عن أي إنسان: "الله الذي بيده نسمتك وله كل طرقك فلم تمجده". ولكن الرب يسوع كان غير محدود الذي جمع اللاهوت بالناسوت ليقدم نفسه كفارة عن نفوسنا. ولأنه كان غير محدود، فإن العمل الذي قام به على صليب الجلجثة كان له قيمة غير محدودة لا متناهية، ومن هنا فإننا نكون محقين بقولنا أن الله أخذ مجداً من ذلك العمل على الصليب أكثر مما فقده بخطيئة الإنسان المحدود. كدليل على أنه تمجد، أقام الله ابنه من بين الأموات، ممجداً يسوع، ذاك الذي أنجز العمل. "إن كان الله قد تمجد فيه فإن الله سيمجده في ذاته ويمجده سريعاً".

إن فكرة مجد الله كانت كبيرة في قلب يسوع في ذاك الوقت. في الحقيقة- قد يبدو غريباً للبعض منا أن يقول ذلك- ولكن من الواضح أن ربنا كان مهتماً بتمجيد ابن الله أكثر بكثير من تخليص الخطأة. كم نود أن نفكر بالعكس! إننا نحب أن نفكر بأن خلاصنا كان الأمر المهم وأن الأمر العظيم الذي جاء يسوع ليفعله هو أن يخلص نفوسنا. وقد جاء لأجل ذلك فعلاً. "ابن الإنسان لم يأت ليخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين". "أحب المسيح الكنيسة وبذل نفسه عنها". ولكن كان هناك شيء أعظم من خلاص الخطاة يشغل قلبه، وكان ذلك هو تمجيد الآب. ولذلك ففي الأصحاح السابع عشر عندما نراه أمام الله كرئيس كهنتنا العظيم، متحدثاً مسبقاً عن عمل الصليب، نسمعه يقول: "أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى الأَرْضِ. الْعَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ". مجد الله يأتي أولاً، ومن ثم ذلك العمل المكتمل على الصليب الذي به تخلص نفوسُنا.

أتذكر سماع أحد الخلاصيين، رجل كان يؤمن بأن كل الناس سيخلصون في نهاية الأمر، كان يقول مرة إلى أحد المسيحيين الجديين: "لدي مفهوم عن عمل الكفارة أعلى مما لديك، لأنك تؤمن بأنه حتى لو مات المسيح على الصليب فهناك آلاف وربما ملايين من الناس سيهلكون إلى الأبد. لدي فكرة أسمى من فكرتك عن كفارة عمل الصليب ذاك. أعتقد أنه إن هلكت نفس منذ أن مات المسيح، فإن كفارته ستكون أعظم إخفاق حدث في الكون".

فأجاب المسيحي قائلاً: "لا. بل إن لدي مفهوماً أسمى من مفهومك. لي الجرأة أن أقول أنه حتى ولو لم تخلص نفس واحدة، فإن الكفارة كانت أعظم نجاح في الكون، إذ بذلك العمل الكفاري تمجد الله وتعظم بطريقة لم تكن لتصير لولا ذلك".

إن الأمر الرائع هو أن خلاصنا مرتبط بمجد الله. أترون، إن قلب الله اتجه نحو الإنسان الخاطئ، ولكنه لم يستطع أن يخلص الخطأة إلى أن تمت تسوية مسألة الخطيئة، لأنها كانت ستنتهك بر عرشه. ما كان ليخلص الخطأة لو كان الأمر أن يسلك بما يتناقض مع قداسة طبيعته. ولذلك فإن ابنه الحبيب، السرمدي، ذاك الذي كان منذ القديم، منذ الأزل، قد تجسد. وباتضاعه فقد صار إنساناً ومضى إلى الصليب، ودفع ثمن الفداء الكامل عنا، وكل ادعاء كان لدى الله ضد الخاطئ تمت تلبيته، والآن يمكن لله أن يكون عادلاً وأن يبرر من يؤمن بيسوع. ولذلك فإن خلاصنا ومجد الله يثبتان معاً أو يسقطان معاً. لقد بذل المسيح نفسه عنا، تقدمة وقرباناً ذا عبق طيب الرائحة لله، وبسبب رضا الله عن عمل ابنه الذي أنجزه، يمكنه الآن أن يفتح ذراعيه وأن يدعوا كل خاطئ أثيم لأن يأتي غليه وأن يقدم له غفراناً كاملاً مكتملاً وتبريراً من كل خطاياه؛ نعم، هناك تطهير من كل وصمة إثم سيناله كل من أتى باسم يسوع. هلا أتيت؟

جاءت سيدة في إحدى المناسبات إلى خادم لله. وعندما سُئلتْ إذا ما كانت قد خلصت، فأجابت: "لا أفهم ذلك. أرى أن يسوع مات من أجلي، ولكن لا بد من أن هناك شيئاً ما علي أن أقوم به. تبدو هذه طريقة سهلة جداً لمعرفة عن كان المرء قد خلُص".

فقال ذاك: "يا صديقتي العزيزة، إن الله هو من أرسل ابنه ليموت. إن الله هو من وضع عليه كل ما كانت تستحقه خطايانا. المسيح حمل تلك الدينونة عنا، والآن غدا الله راضياً، وإن كان الله راضياً، فبالتأكيد لا بد من أن تكوني كذلك".

رفعت بصرها منذهلة نوعاً ما وقالت: "لم أفكر بالأمر على هذا النحو من قبل. بالتأكيد سأكون راضية بما يُرضي الله. نعم، أستطيع ان أومن به، أستطيع أن أثق بكلمته".

هل فعلت ذلك؟ هل تدرك أنه على الصليب تمت تسوية الخطيئة؟ والآن عندما تقتبل يسوع، إنك تقف مبرراً من كل تهمة.

من مجَّد الله على الصليب قد قام من بين الأموات، رُفِع إلى الآب، وهناك مجَّده الآب بذاته بالمجد الذي كان له مع الآب منذ قبل بدء العالم.

كان يسوع ينظر إلى كل هذا كحقيقة منجزة عندما تكلم على ذلك النحو الذي تدونه لنا الآيات ٣١ و٣٢. ثم أضاف: "يا أولادي"- بضعة ساعات أخرى وسيخرج ليموت- "يَا أَوْلاَدِي أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً قَلِيلاً بَعْدُ. سَتَطْلُبُونَنِي وَكَمَا قُلْتُ لِلْيَهُودِ: حَيْثُ أَذْهَبُ أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا أَقُولُ لَكُمْ أَنْتُمُ الآنَ". لقد كان على وشك أن يمضي وعلى وشك أن يترك تلاميذه في العالم ليكونوا شهوداً له. عندما كان هنا، قال: "أنا نور العالم". ولكنه كان عائداً إلى السماوات من حيث أتى، والتلاميذ بعد أن تركهم هنا، كان عليهم أن يشعوا كأنوار في هذا العالم المظلم. وهنا أعطى وصيته الجديدة: "وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضاً بَعْضُكُمْ بَعْضاً. بِهَذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضاً لِبَعْضٍ". لقد كانت هذه آخر مهمة يوكلها إلى قديسيه قبل أن يمضي إلى الصليب. إذ نظر مسبقاً عبر السنين، عرف أن العالم سيكون عدائياً لهم وسيكرههم كل الناس من أجل اسمه، فناشدهم أن: "لا تكرهوا بعضكم بعضاً. لا تكونوا حاقدين قساة أو محبين للخصام أو فظين أحدكم نحو الآخر. أنتم الذين افتُديتم بنفس الدم الثمين، مسكن الروح القدس نفسه، كونوا لطفاء بعضكم مع بعض، شفوقين، مسامحين بعضكم لبعض، كما أن الله كُرمى للمسيح قد غفر لكم. وصية جديدة أعطيكم، أن تحبوا بعضكم بعضاً". لعلنا لا نتجرأ أن نواجه أنفسنا بسؤال نطرحه على قلبنا ألا وهو: "كيف تجاوبتُ مع هذه الوصية لمخلصي؟ هل أتميز بالمحبة نحو أخوتي في المسيح؟ أو هل تجاهلتُ حتى الآن مسؤوليتي كمسيحي فسمحتُ للحقد والحسد والغيرة والكراهية أن تُعشعِش في قلبي؟ هل أبقيت هذه الأشياء الشريرة؟" هناك أولاد لله باردون وقساة وغير مبالين وميالون إلى النقد وفظون. حسن أن نواجه هذه الأشياء في حضرة الله.

كم من تعصب مرير نشأ عبر السنين بسبب الجدال الديني! أتذكر أني قرأت عن حادث فاجع في حياة رجل الله الرائع ذاك، صموئيل راذارفورد، الذي تجسدت كلماته الأخيرة في تلك الترنيمة الجميلة، "أرض عمانوئيل". كان راذارفورد، كاتب مجلد ضخم عن رسائل سماوية تحمل نكهة إلهية، خادم كنيسة سكوتلندا، وكان مكان خدمته هو بلدة اسكوتلندية صغيرة تُعرف باسم أنووث. عمل جاهداً هناك وسط جماعة بهجة من المؤمنين المخلصين. ولكن كانت هناك مشاكل في العلاقة مع الحكومة. كانت الحكومة البريطانية قد أعلنت أن الكنيسة الاسكوتلندية يجب ألا تتبع الكنيسة المشيخية بعد الآن، وبالتالي فهذا يجب أن يُطبق على كنيسة راذارفورد. وكان اسكوتلنديون على عادتهم يرفضون فرض الأشياء الغريبة عليهم. وكان راذارفورد أحد الخدام المخلصين الذين، وبوحي ضميرهم الحي، قد رفضوا الإذعان للأمر والاعتراف بسلطة أساقفة الملك.

ولأنه رفض أن يتكيف معهم، فإن راذارفورد طُرِد إلى أبردين ووُضِع في السجن هناك. كان يقول دائماً انه لن يسمح لأسقف أي كان أن يقف في منبره أو أن يُملي عليه ما يكرز به. ولكن قبل أن يغادر، وإذ كان لا يزال راعياً للكنيسة، جاء غريب في إحدى الليالي إلى منزل القس. وإذ قرع الباب، قام راذارفورد بنفسه باستقباله. لم يعرِّفه الغريب على اسمه، ولكنه قال له أنه كان عابر سبيل، وسيكون مسروراً إذا ما حصل على حاجته من مبيتٍ وطعام وشراب لتلك الليلة. أكلا معاً. وبعد ذلك، تكلم راذارفورد بكلمة الله ثم قال: "لدينا في مثل هذا الوقت التعليم المسيحي وقراءة من الكتاب المقدس والصلاة، ونتوقع من كل زوارنا أن يشاركونا فيها". كانت عادة قديمة جيدة. ليت لدينا المزيد منها هذه الأيام. وهكذا فقد تنادى الخدام إلى الدخول وقرأ راذارفورد النص الكتابي. ثم بدأ يعلم كل البيت والتفت في نهاية الأمر نحو الغريب وسأله: " كم وصية هناك؟"

رفع الغريب بصره، وبدون طرفة عين أجاب: "إحدى عشر".

بدا راذارفورد مرتبكاً: "سألتك كم عدد الوصايا".

"نعم، فهمت. إنها إحدى عشر".

"يدهشني أن شخصاً في هذا العالم الاسكوتلندي يجهل أن هناك عشر وصايا فقط".

وهنا رفع الغريب بصره وقال: "إني أعطيكم وصية جديدة، أن يحب بعضكم بعضاً".

فقال راذارفورد: "آهٍ. ما اسمك أيها الغريب؟"

فقال: "اسمي آشر. أنا أسقف ايرلندا".

أسقف في بيت راذارفورد! الرجل الذي قال أنه يأبى وجود أي شركة له وأي نظام كنسي آخر. وهنا، محبطاً، خجلاً من فظاظته، توسل راذارفورد إلى الغريب أن يقودهم في كل الصلاة، وكان متحمساً عندما رفعهم الأسقف جميعاً أمام الله في الصلاة.

كم نحتاج إلى أن نتذكر دائماً هذه الوصية الحادية عشر: "إني أعطيكم وصية جديدة أن يحب بعضكم بعضاً". لا يكفي، يا إخوتي أن تعرفوا أنكم خلصتم. لا يكفي أن تقفوا ثابتين راسخين، كما آمل، مستندين على الحقائق الأساسية. فقبل كل حقيقة أصلية هناك خبرة أصلية عظيمة يجب أن يمتلكها كل واحد منا.

"إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبة فقد صرت نحاساً يطن أو صنجاً يرن. وإن سلمت جسدي حتى أحترق ولكن ليس لي محبة فلا أنتفع شيئاً. وإن كانت لي نبوة وأعلم جميع الأسرار وكل علم وإن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال ولكن ليس لي محبة فلست شيئاً". يجدر بنا من حين إلى آخر أن نختبر أنفسنا على ضوء الأصحاح الثالث عشر من رسالة كورنثوس الأولى. "المحبة تتأنى وترفق. المحبة لا تحسد. المحبة لا تتفاخر ولا تنتفخ. ولا تقبح ولا تطلب ما لنفسها ولا تحتد ولا تظن السوء". أي أن المحبة لا تفعل الشر ولا تدين دوافع الناس. "ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق. وتحتمل كل شيء وتصدق كل شيء وترجو كل شيء وتصبر على كل شيء".

يمكننا أن نستخدم هذه الكلمات لرسم صورة عن شخصية ربنا يسوع المسيح. يمكننا أن نضع اسم يسوع المسيح بدلاً من كلمة المحبة، فتصبح الآيات كما يلي: "المسيح يتأنى ويرفق. المسيح لا يحسد. المسيح لا يتفاخر ولا ينتفخ. ولا يقبح ولا يطلب ما لنفسه ولا يحتد ولا يظن السوء، ولا يفرح بالإثم بل يفرح بالحق. ويحتمل كل شيء ويصدق كل شيء ويرجو كل شيء ويصبر على كل شيء. المسيح لا يسقط أبداً". وإن كان لك ولي نفس الفكر الذي للمسيح، فإن هذا الحب الإلهي سيتجلى فينا. إن لم يكن الأمر كذلك فإن كل كلامنا عن أننا متأصلين في الحقيقة، وكل كلامنا عن إخلاصنا للحقيقة، يكون لا معنى له في الواقع. قد نستمد في الجدال الدفاعي في حقائق عظيمة بارزة معينة، ولكن إن تجادلنا بروح سيئة فإننا إنما نسيء إلى القضية التي نمثلها وإن لم يكن في خلفية دفاعنا عن الإيمان حب صادق لإخوتنا، حبٌ لكل الناس، فإننا نُخزي ذاك الذي هو نفسه الطريق والحق والحياة. لقد قال: "بِهَذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضاً لِبَعْضٍ". هذا يعني أننا لا نبرهن أننا تلاميذ بمجادلتنا في دستور الإيمان، مهما كان دفاعنا كبيراً أو مهماً. ولا نبرهن عن أننا تلاميذه بإصرارنا على حقيقة نؤمن بها تتعلق بوحي الكتاب المقدس، مثلاً. ولا نبرهن عن أننا تلاميذ بأن نرفع صوتنا أعلى في التعبير عن إيماننا بالولادة العذرية والإنسانية الكاملة لمخلصنا، وعمله الكفاري، وقيامته بالجسد، وشفاعته الحالية لنا وهو على يمين الله. ولا نبرهن أننا مسيحيون حقاً بإصرارنا على إيمان بالمجيء قبل الألفي لربنا يسوع وكل تلك الحقائق الثمينة والعظيمة المتعلقة به، بل: "بِهَذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضاً لِبَعْضٍ". دعونا لا ننسى ذلك، ودعونا نختبر أنفسنا بصدق ونزاهة وأن نرى عن كنا نسمح للكراهية والحقد بأن تقيم في قلوبنا عندما ندعي أننا متشبثين بربنا يسوع المسيح.

لا يتحدثون فقط عن ذلك، بل في الأصحاح الخامس عشر، الآية عشرون، يقول: "هَذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ. لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ. أَنْتُمْ أَحِبَّائِي إِنْ فَعَلْتُمْ مَا أُوصِيكُمْ بِهِ". أترون، المحبة الحقيقية ليست أنانية. المحبة تُسر بأن تحتمل وأن تفعل. لا تتكلموا عن المحبة لبعضكم البعض إن كنتم لا تهتمون بخدمة بعضكم البعض بالمقدار الذي يريده الله.

أنظروا إلى رسالة يوحنا الأولى. التلميذ الحبيب الذي سمِع ربنا ينطق بهذه الكلمات لا ينساها أبداً. نعلم أنه عندما صار طاعناً في السن، وإذ أصبح عاجزاً عن المشي، اعتاد أن يُحمل إلى مكان اجتماع القديسين في أفسس، ثم كان يساعده اثنان من الشيوخ ليقف على قدميه ويقدم إرشاداً جديداً تقوياً رائعاً لشعب الله. ويُقال أنه كان دائماً يخدم كلامه بالقول: "أيها الإخوة، لست أكتب إليكم وصية جديدة، بل وصية قديمة كانت عندكم من البدء. الوصية القديمة هي الكلمة التي سمعتموها من البدء. أيضاً وصية جديدة أكتب إليكم، ما هو حق فيه وفيكم، أن الظلمة قد مضت، والنور الحقيقي الآن يضيء. من قال إنه في النور وهو يبغض أخاه، فهو إلى الآن في الظلمة. من يحب أخاه يثبت في النور وليس فيه عثرة".

انظروا إلى الآية ١٧من الأصحاح الثالث: "وأما من كان له معيشة العالم، ونظر أخاه محتاجاً، وأغلق أحشاءه عنه، فكيف تثبت محبة الله فيه؟يا أولادي، لا نحب بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحق!"

المحبة هي أمر عملي. إلى أي حد نظهرها نحو أولئك الذين هم في ظروف أصعب من ظروفنا؟ إلى أي حد نظهرها نحو أولئك الذين أخفقوا وخطئوا؟ هل نحن راضون ببساطة لتركيزنا على أخطاءهم وانتقادهم ولومهم بقسوة؟ أم أننا نحبهم بما يكفي لأن نذهب إليهم بروح المسيح وأن نطلب أن يُرجعهم إليه؟ "وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً".

ولكن الآن نجد سمعان بطرس في هذه اللحظة يسمع ولكن لا يصغي. ما قاله الرب، المدون في هاتين الآيتين، يبدو وكأنه لم يترك انطباعاً في نفسه على الإطلاق. فهو لا يزال يفكر بما كان قد قاله المخلص قبل برهة، "حَيْثُ أَذْهَبُ لاَ تَقْدِرُ الآنَ أَنْ تَتْبَعَنِي". وإذ أن ذهنه مشغول بهذه الأفكار، يقاطع تدفق الأفكار ويسأل: "قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «يَا سَيِّدُ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ؟» أَجَابَهُ يَسُوعُ: «حَيْثُ أَذْهَبُ (أي إلى الموت) لاَ تَقْدِرُ الآنَ أَنْ تَتْبَعَنِي وَلَكِنَّكَ سَتَتْبَعُنِي أَخِيراً»". كان ربنا يتحدث كنبي. فهو سيصلب. لم يكن بطرس مستعداً لذلك، رغم أنه لم يدركه. ولكن يسوع قال: "يوماً ما ستتبعني في ذلك" وقد فعل ذلك فعلاً. إذ يقال لنا أن بطرس وهو شيخ قد صُلِب أيضاً شهيداً على إنجيل الرب يسوع المسيح.

ولكن بطرس لم يفهم، لم يدرك مدى محدوديته. قال له بطرس: "يَا سَيِّدُ لِمَاذَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَتْبَعَكَ الآنَ؟ إِنِّي أَضَعُ نَفْسِي عَنْكَ". لقد قصد بذلك كل كلمة قالها. من الواضح أنه فكر أنه مستعد لذلك. ولكنه لم يعرف خداع قلبه.

"أَجَابَهُ يَسُوعُ: «أَتَضَعُ نَفْسَكَ عَنِّي؟ اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لاَ يَصِيحُ الدِّيكُ حَتَّى تُنْكِرَنِي ثلاَثَ مَرَّاتٍ»".

في النص الأصلي ليس من انقطاع بين الآية الأخيرة من الأصحاح ١٣ والآية الأولى من الأصحاح ١٤. ما الذي يريد يسوع أن يقوله فعلياً؟ أصغوا إلى ما قال، وتشجعوا إن كنتم قد أخفقتم.

"اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لاَ يَصِيحُ الدِّيكُ حَتَّى تُنْكِرَنِي ثلاَثَ مَرَّاتٍ. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ. أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَآمِنُوا بِي".

"بطرس، أعرف أنك ستخذلني. أنت لا تدرك كم أن قلبك غير جدير بالثقة، ولكن يا بطرس، عندما ستكتشف في النهاية الفساد الذي يعيث به قلبك وينفطر فؤادك لإدراكك لما تكون قد فعلته، فإني أريدك عندها أن تتذكر يا بطرس أني لا زلت أحبك، وسأعد مكاناً لك".

هل تعرف هذا المخلص؟ إن كنت لا تعرفه، فإني أناشدك أن تدنو إليه وستكون في سلام. إنه يريدك أن تعرفه، ويطلب منك أن تأتي إليه اليوم. إنه يقول: "من يأتي إلي لا أرده خائباً".