الخطاب ١٣

في الجليل

"وَبَعْدَ الْيَوْمَيْنِ خَرَجَ مِنْ هُنَاكَ وَمَضَى إِلَى الْجَلِيلِ لأَنَّ يَسُوعَ نَفْسَهُ شَهِدَ أَنْ: «لَيْسَ لِنَبِيٍّ كَرَامَةٌ فِي وَطَنِهِ». فَلَمَّا جَاءَ إِلَى الْجَلِيلِ قَبِلَهُ الْجَلِيلِيُّونَ إِذْ كَانُوا قَدْ عَايَنُوا كُلَّ مَا فَعَلَ فِي أُورُشَلِيمَ فِي الْعِيدِ لأَنَّهُمْ هُمْ أَيْضاً جَاءُوا إِلَى الْعِيدِ. فَجَاءَ يَسُوعُ أَيْضاً إِلَى قَانَا الْجَلِيلِ حَيْثُ صَنَعَ الْمَاءَ خَمْراً. وَكَانَ خَادِمٌ لِلْمَلِكِ ابْنُهُ مَرِيضٌ فِي كَفْرِنَاحُومَ. هَذَا إِذْ سَمِعَ أَنَّ يَسُوعَ قَدْ جَاءَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجَلِيلِ انْطَلَقَ إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَنْزِلَ وَيَشْفِيَ ابْنَهُ لأَنَّهُ كَانَ مُشْرِفاً عَلَى الْمَوْتِ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لاَ تُؤْمِنُونَ إِنْ لَمْ تَرَوْا آيَاتٍ وَعَجَائِبَ!» قَالَ لَهُ خَادِمُ الْمَلِكِ: «يَا سَيِّدُ انْزِلْ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ ابْنِي». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ﭐذْهَبْ. اِبْنُكَ حَيٌّ». فَآمَنَ الرَّجُلُ بِالْكَلِمَةِ الَّتِي قَالَهَا لَهُ يَسُوعُ وَذَهَبَ. وَفِيمَا هُوَ نَازِلٌ اسْتَقْبَلَهُ عَبِيدُهُ وَأَخْبَرُوهُ قَائِلِينَ: «إِنَّ ابْنَكَ حَيٌّ». فَاسْتَخْبَرَهُمْ عَنِ السَّاعَةِ الَّتِي فِيهَا أَخَذَ يَتَعَافَى فَقَالُوا لَهُ: «أَمْسٍ فِي السَّاعَةِ السَّابِعَةِ تَرَكَتْهُ الْحُمَّى». فَفَهِمَ الأَبُ أَنَّهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ الَّتِي قَالَ لَهُ فِيهَا يَسُوعُ إِنَّ ابْنَكَ حَيٌّ. فَآمَنَ هُوَ وَبَيْتُهُ كُلُّهُ. هَذِهِ أَيْضاً آيَةٌ ثَانِيَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ لَمَّا جَاءَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجَلِيلِ" (يوحنا ٤: ٤٣- ٥٤).

"وَبَعْدَ الْيَوْمَيْنِ خَرَجَ مِنْ هُنَاكَ وَمَضَى إِلَى الْجَلِيلِ". لقد كنا لتونا نتأمل في خدمة ربنا في السامرة، ذلك الامتداد من البلاد الذي كان بين اليهودية في الجنوب والجليل في الشمال. في اليهودية في الأدنى كان الناس عموماً مكرّسين جداً، ومتديّنين بشكل متعصب، وفوق في الجليل كان كثيرون منهم خطاة، وكفّاراً، وجهّالاً، وكان هناك عدد كبير من الأمميين. في السامرة كانت لديهم ديانة تستند جزئياً على ناموس موسى وتأخذ جزئياً من الأنظمة الوثنية التي عرفها آباؤهم قبل أن يستقروا في المنطقة، بعد أن سبى ملك الآشوريين شعبَ إسرائيل الأصلي.

كان الرب يسوع قد جاء إلى بئر سوخار، حيث كرز بنعمته لتلك المرأة السامرية البائسة. فصارت مبشّرةً جدّيةً بعد أن عرَفَتْه مخلّصاً، وبنتيجة ذلك فإن عدداً كبيراً من الناس خرجوا ليصغوا إليه ويؤمنوا برسالته. ودعوه إلى القرية، حيث مكث هناك يومين، معلناً أمور النعمة والحق الثمينة. آمن كثيرون به وقالوا: "إننا نؤمن الآن، ليس بسبب شهادة المرأة التي قالت أنه أخبرها عن أمور فعلتْها، بل لأننا رأيناه وسمعناه بأنفسنا". لقد كان في كلمات يسوع شيءٌ يروق لكل نفس صادقة ساعية وراء الحق.

ولكن الرب لم يستطعْ أن يمكث أكثر من ذلك في السامرة. كان يجب أن يتابع طريقه نحو الجليل. وكان النبي قد تنبّأ قبل زمان بعيد أن في ذلك المكان سيكون جزء كبير من خدمته ورسالته. في الأصحاح التاسع من أشعياء، وفي الآيات الافتتاحية، يتم الإشارة إلى ذلك بشكل واضح. فهناك نقرأ: "وَلَكِنْ لاَ يَكُونُ ظَلاَمٌ لِلَّتِي عَلَيْهَا ضِيقٌ. كَمَا أَهَانَ الزَّمَانُ الأَوَّلُ أَرْضَ زَبُولُونَ وَأَرْضَ نَفْتَالِي يُكْرِمُ الأَخِيرُ طَرِيقَ الْبَحْرِ عَبْرَ الأُرْدُنِّ جَلِيلَ الأُمَمِ. اَلشَّعْبُ السَّالِكُ فِي الظُّلْمَةِ أَبْصَرَ نُوراً عَظِيماً. الْجَالِسُونَ فِي أَرْضِ ظَِلاَلِ الْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ" (أشعياء ٩: ١، ٢). هذه النبوءة وجدت تحقيقها العظيم عندما راح ذاك، الذي هو الحياة والنور، يشفي المرضى ويصنع آيات كثيرة تدلّ على اقتدار ويكشف الحقائق القيّمة المتعلقة بالإنجيل لأولئك الناس المحتاجين، رغم أن غالبيتهم كانوا يرفضون قبولها. لقد عاش في إحدى مدنهم، ونما وترعرع في وسطهم، وبعد أن بدأ خدمته انتقلت العائلة إلى كفرناحوم، وهذه دُعِيَتْ مدينته. لقد كانت الناصرة وكفرناحوم مدينتين بارزتين في الجليل. إننا نقول: "الألفة تولدُ قلّة احترامٍ". غالباً ما يحدث أنك عندما تتعرّف أكثر إلى الناس تفقد الإحساس بأنهم متميزون، وهذا هو الحال مع ربنا المبارك. فإذ كان يجول في تلك الأماكن حيث كان الناس يعرفونه جيداً، لم يستطيعوا أن يميّزوا فيه المسيّا الموعود. والمسيح نفسه شهد بأنه لا كرامة لنبي في وطنه. لقد قال ذلك، كما تذكرون عندما عاد إلى الناصرة، حيث كان قد نشأ، وذهب إلى المجمع في يوم السبت "على حسب عادته". أحبّ هذه العبارة، "على حسب عادته". إن يسوع الناصري، الذي نشأ وترعرع في تلك المدينة، ضرب مثلاً عن الحضور المنتظم إلى منابع النعمة. لا بدّ أنه كانت هناك أشياء كثيرة بغيضة بالنسبة إلى يسوع في خدمة ذلك المجمع، ولكنه كان المكان الذي يُعترفُ فيه باسم الله. لقد كان المكان الذي يتجمّع فيه الناس للصلاة والتسبيح في يوم السبت، ويسوع، طفلاً وشاباً ورجلاً، كان يشق طريقه دائماً إلى مجمع القرية، لأنه كان يرى فيه مكاناً يعترف بأمور الله. وَدَخَلَ الْمَجْمَعَ حَسَبَ عَادَتِهِ يَوْمَ السَّبْتِ" (لوقا ٤: ١٦). وهناك قرأ: "«رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ»" (لوقا ٤: ١٧، ١٨). ويخبرنا لوقا أنه بعد ذلك "طَوَى السِّفْرَ". إن رجعتم إلى أشعياء فستعتقدون أنه كان أمراً غريباً أن يقرأ ذلك المقطع. فبقية الجملة يرد فيها أن "ويوم انتقام ربنا". فلماذا أنهى السفر على ذلك النحو حيث وصل. ولماذا توقّف عن القراءة عند فاصلة بدل أن يتابع القراءة إلى نهاية الجملة؟ ذلك لأنه لم يأتِ ليعلن "يوم انتقام ربّنا". بل جاء ليعلنَ سنة ربنا المقبولة. وبناء على ذلك فقد بدأ رسالة نعمة الله إلى الناس في ذلك اليوم، ومع ذلك فإن الغالبية العظمى منهم أشاحوا عنه وقالوا: "أليس هذا هو النجار؟ أفلسنا نعرف أمه وإخوته وأخواته؟" "أنّى لهذا الرجل أن يعرف هذه الأشياء؟" "لماذا لا يقوم بأحد أعمال قدرته؟" لقد كانوا يأملون أن يروا بعض المعجزات التي كان يقوم بها. ولذلك فقد كان اندفع الناس نحوه وكانوا سيرمونه من فوق الجرف خارج المدينة، ولكنه تابع طريقه قائلاً: "«لَيْسَ لِنَبِيٍّ كَرَامَةٌ فِي وَطَنِهِ»".

هذا يعطينا فكرة صغيرة عن اتضاع أصل ربنا يسوع المسيح. لعله يمكننا أن نتخيل كيف أن مثل هكذا إنسان عظيم يترعرع في بلد ما ولا يعرفه الناس بشكل واضح ولا يقرّون بأنه رب الكل، لَكِنَّهُ "أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ" (فيلبي ٢: ٧). قليلون هم الذين أدركوا من كان. إني أتساءل إن كنا جميعاً قد عرفنا يسوع الناصري على أنه ابن الله السرمدي الذي صار إنساناً لأجل فدائنا؟

نقرأ بعد ذلك أنه عندما كان على وشك أن يدخل إلى الجليل فإنهم قبلوه؛ أي، تجمعوا لسماعه، ولكنهم لم يعرفوا أنه قدوس الله. لقد قبلوه، إذ رأوا كل الأشياء التي فعلها في العيد. لقد كان الرب قد  عاد لتوه من أورشليم. يجب أن ندرك أنه كانت هناك أشياء كثيرة وكثيرة قد فعلها الرب يسوع لم تُدوّن في هذا الأصحاح الرابع من إنجيل يوحنا. لقد رأوه يمنح البصر للأعمى، ويجعل الأعرج يثب.... الخ. والآن هم يأملون أن يروه يصنع معجزات أخرى، ولذلك تجمعوا حوله.

"فجَاءَ يَسُوعُ أَيْضاً إِلَى قَانَا الْجَلِيلِ حَيْثُ صَنَعَ الْمَاءَ خَمْراً". "وَكَانَ خَادِمٌ لِلْمَلِكِ ابْنُهُ مَرِيضٌ فِي كَفْرِنَاحُومَ"، على بعد خمسة وعشرين ميلاً شمال شرق قانا الجليل. هذا الأب، إما أن يكون قد جاء من مسافة بعيدة باحثاً عن يسوع، أو أنه كان متواجداً في قانا عندما وصله خبرٌ بأن ابنه كان مريضاً، فرأى الآن أن هذه فرصة مناسبة له ليعرض الحالة على صانع المعجزات العظيم. لم يكن لديه فهم لطبيعة الرب يسوع المسيح الحقيقية، ولكنه شعر بأن هذا الإنسان هو الذي يستطيع أن يلبي حاجته. عندما يكون الناس في محنة أو في مشكلة، كم يرغبون لو يصلون إلى يسوع على أمل أن يفعل شيئاً لهم، ومع ذلك فإنهم غالباً ما لا يعرفونه حقاً على أنه ابن الله متجلياً في الجسد، بل يشعرون أنه قادر على أن يصنع للناس ما لا يستطيع أي شخص آخر أن يفعله. يناشد الناس اسمَه في أوقات الشدة. ولعلّ هذه كانت حالة هذا الأب. لقد سمع أن يسوع كان خارجاً من اليهودية، ولذلك جاء يرجوه أن يشفي ابنَه. أترون ما يطلبه من يسوع: "يا يسوع، هلا تقوم برحلة لمسافة خمسة وعشرين ميلاً وتصنع شيئاً من أجل ابني؟ إن ابني يحتضر ولديك القدرة على شفائه. يمكنك أن تصنع المعجزات. أفلا تأتي وتصنع معجزة له؟" وتلاحظون أن يسوع أجابه بشكل يبدو قاسياً. فقد التفت الرب يسوع إليه وقال له: "«لاَ تُؤْمِنُونَ إِنْ لَمْ تَرَوْا آيَاتٍ وَعَجَائِبَ!»".

هناك أناسٌ كثيرون مثل هذا الرجل، الذين يريدون بعض الإظهار الخارجي لقوة الرب، ثم يعتقدون بأنهم سيؤمنون، ولكن الرب يسوع يريد الناس أن يقبلوه وأن يؤمنوا به بسبب ما هو في ذاته، بمعزل عن أي فائدة مؤقتة يمكن أن تتأتى عن معرفتهم له. أعتقد أن كثيرين يظنون أن مسيح الله عليه واجب مساعدتنا. إن كنا مرضى أو في ضائقة ما دية، فإننا نرجو أن يرينا طريقة تتحسن بها أحوالنا أو نكسب بها نقوداً. وإن كان بعض أفراد عائلتنا في ظروف صعبة وكنا نشعر بالقلق عليهم، فإننا كثيراً ما نفكر بأننا إذا ما ذهبنا ليسوع فإنه سيفعل شيئاً لأجلهم. ولكن الحقيقة هي أن هناك أشياء أسمى وأعلى من ذلك. إنه يريدنا أن نتعلّم أن نرى فيه ابنَ الله المتجسد المبارك، الذي جاء في نعمة ليعلن الآبَ وهو يطلب ثقتنا وإخلاصنا وولائنا، إذ أن علينا أن نعترف به وأن نسلم ذواتنا له، حتى ولو لم نتلقَّ أية فائدة زائلة مؤقتة مهما كان نوعها.

الإيمان الحقيقي بالمسيح يستند على حقيقة أنه إله صار إنساناً؛ وفي معرفتنا له، كابن، فإننا نعرف الآب. أتساءل إذا ما كان يمكن أن يقول لنا نحن أيضاً اليوم: "«لاَ تُؤْمِنُونَ إِنْ لَمْ تَرَوْا آيَاتٍ وَعَجَائِبَ!»". كم كانت الحالة مختلفة عند هؤلاء السامريين الذين قرأنا عنهم في الأصحاح السابق! فهم لم يروا أي معجزات تُصنع. لا نقرأ أن يسوع قد شفى أياً من مرضاهم أو فتح عيني أي من عميانهم، ولكنهم سمعوا رسالته ورأوا سلوكه، وكان هناك شيء أثّر فيهم لدرجة أنهم قالوا: "نحن نعرفه الآن، وقد رأيناه، وسمعناه بأنفسنا". هذا هو عمل روح قدس الله اليوم، أن يجعل المسيح معروفاً عند الناس، رجالاً ونساءً، لكي يؤمنوا به مخلّصاً ويعترفوا به رباً على حياتهم. أن نعرفه كابن لله، وقد صار إنساناً لأجل افتدائنا، هو الحياة الأبدية. في الواقع، يسوع نفسه يقول: "وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلَهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ" (يوحنا ١٧: ٣).

ولكن هذا الأب البائس كان مأخوذاً بحاجته الحاضرة وقلقاً على ابنه وخائفاً أن يفقده، حتى بدا أنه لم يفهم ما كان الرب يسوع يقوله. قال الرب: "«لاَ تُؤْمِنُونَ إِنْ لَمْ تَرَوْا آيَاتٍ وَعَجَائِبَ!»". ولكن الرجل قال: "«يَا سَيِّدُ انْزِلْ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ ابْنِي»". لم يدرك أن يسوع ما كان في حاجة لأن يذهب إلى كفرناحوم ليشفي ابنه. فكّروا في قائد المئة الروماني ذاك الذي لم يكن إسرائيلياً، الذي جاء إلى الرب يسوع وقال: "يَا سَيِّدُ لَسْتُ مُسْتَحِقّاً أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَ سَقْفِي لَكِنْ قُلْ كَلِمَةً فَقَطْ فَيَبْرَأَ غُلاَمِي" (متى ٨: ٨). لقد أدرك أن في كلمة المسيح قوة. ولكن هذا الإسرائيلي، الذي كان يجب أن يعرف أكثر بكثير من قائد المئة الروماني، كانت تعوزه تلك البساطة في الإيمان. قال الرب لقائد المئة الروماني: "لم ألتق بأحد أبهجني كمثل هذا الذي يؤمن بي ويعرف أن لدي كل القدرة والقوة". ومع ذلك فإن خادم الملك آمن بأن يسوع كان يمكنه أن يفعل شيئاً إن أمكنه أن يصل في الوقت الملائم إلى المكان حيث كان يرقد ابنه. هذا سؤال لطالما نطرحه. ليت يسوع يُسارع إلينا! قد نصلّي من أجل أحدهم، ونخشى أن يقضي ذلك الصديق ويذهب إلى حالة أبدية قبل أن يخلص، ونحاول أن نعجّل عملَ الرب. كثير من الناس يكتبون لنا ويطلبون صلاة خاصة من أجل مريض، ويقولون: "هلا تسارعون من فضلكم وتنقلوا طلب الصلاة هذا إلى الناس عندكم، لأنه مريض جداً جداً". إني أكتفي بالانحناء أمام الرب والقول: "أنت تعرف أني لا أستطيع أن أطلب هذا من الناس، ولكنك يا رب، لديك كل القدرة، وإني أضع هذا المطلب أمامك هنا"، وأعلم أنه يسمع ويستجيب. ينبغي عليكم ألا تحاولوا أن تستعجلوا أو تحثّوا الرب يسوع. تينك الأختين في بيت عنيا، كم كانت نفوسهما مضطربة! كان أخوهما مريضاً جداً، وفكّروا أنهم إذا ما أرسلوا رسالةً إلى يسوع، فإنه سيترك كل شيء ويهرع إلى بيت عنيا؛ ولكن مرت أربعة أيام ولم يأتِ يسوع. ثم قال: "لنمضِ إلى بيت عنيا". ولما وصل اعتقدت الأختان أن الوقت كان قد فات، ولكن يسوع كان قد أخبر تلاميذه للتو بأنه كان مسروراً لأنه لم يكن هناك أبكر من ذلك. لعلّكم كنتم تتوقعون أن يقول: "أنا آسف لأني لم أكن هناك". إنه لا يرتكب أي خطأ البتة، ويقول: "يسرني أني لم أكن هناك، لأن الله سيتمجّد بطريقة ما كانت لتصير لو أني هرعتُ للمجيء عندما تلقّيتُ الرسالة". عندما قال: "دحرجوا الحجر"، قالوا: "يا معلّم، ليس من فائدة من دحرجة الحجر. فقد مات منذ أربعة أيام". ولكن يسوع قال: "ألم أقل لكم أنكم إن آمنتم ستعاينون مجد الله؟" ثم دحرجوا الحجر، فصرخ يسوع: "لعازر، هلمّ خارجاً". لو لم يقل "لعازر"، في ذلك اليوم، لكان أفرغ كل المقبرة. وكما خرج لعازر، سيخرج كل خاصته يوماً ما ويُختطفون للقائه في الهواء. لسنا في حاجة لأن نحاول تعجيله أو تسريع عمله. ما نحتاج إلى معرفته هو أن نقيم في محبته وحكمته ونثق بما فنقدر على أن نقول مع كاتب المزامير: "إِنَّمَا لِلَّهِ انْتَظِرِي يَا نَفْسِي" (مز ٦٢: ٥).

ولكن كما ترون، هذا الأب المحب لابنه لم يفهمه. ما كان يعرف سوى أن ابنه كان يتقلّب على فراش الحمّى وأنه قد يفوت الأوان بالنسبة له في أية لحظة، فقال له: "يا رب، تعال! تعال سيراً لخمسة وعشرين ميلاً! لا تضيع الوقت! هلمّ انزل! أسرع! فابني يحتضر!" أما يسوع فنظر إليه بإشفاق وحنو وقال له: "ﭐذْهَبْ. اِبْنُكَ حَيٌّ". لم يكن في حاجة لأن ينزل إلى كفرناحوم ليقيم الغلام. "ﭐذْهَبْ. اِبْنُكَ حَيٌّ. ستجده سليماً معافى. عد إلى كفرناحوم. اترك خوفك وخشيتك جانباً. كل شيء سيكون على ما يرام". وهكذا آمن الرجل بالكلمة التي قالها يسوع. والآن يزداد ثقة به. لقد آمن أولاً أن يسوع يمكنه أن يشفي الغلام إن وصل إلى هناك، ولكنه الآن يؤمن أنه يستطيع أن يقيمه حتى ولو كان بعيداً.

يا عزيزي، هل آمنْتَ بكلمة يسوع؟ هل تعرف أن ذلك الخلاص- ليس  شفاء الجسد وحسب، ولو كان هذا يرضي الله- يأتي من الإيمان بكلمة يسوع؟ "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ" (يوحنا ٥: ٢٤). نقرأ في العهد القديم: "أَرْسَلَ كَلِمَتَهُ فَشَفَاهُمْ" (مز ١٠٧: ٢٠). وقال الرسول بطرس: "مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ اللهِ الْحَيَّةِ الْبَاقِيَةِ إِلَى الأَبَدِ" (١ بطرس ١: ٢٣).

أذكر جيداً عندما كنتُ فتى، وخلال ضيقة عظيمة في نفسي. لقد كنتُ دائماً أقرأ الكتاب المقدس. لقد قرأتُ عن الملائكة تظهر للناس وتتحدث مباشرةً إليهم. وأذكر أني عندما كنتُ في الثانية عشر من عمري، أني قد ذهبتُ إلى غرفتي وركعتُ على ركبتيّ وقلت: "يا رب، إني ما برحتُ أقرأ الكلمة فهلا تتفضّل، عندما أفتح عيني، أن تجعل ملاكاً يقف إلى جانبي هنا؟ وهلا جعلتَ ذلك الملاك يخبرني أن خطاياي قد غُفِرتْ؟" وكنت أخشى أن أفتح عيني. ولكن عندما فتحتهما هناك لم أرَ ملاكاً كل تلك السنين. ولكن دعوني أقول لكم بما لا يرقى إليه الشك بأن خطاياي جميعاً قد غُفِرتْ. كيف أعرف ذلك؟ لقد عرفتُ ذلك عندما آمنتُ بكلمته، وعندما قبلتُ شهادته. يقول الكتاب: "إِنِ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ اللهَ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ خَلَصْتَ. لأَنَّ الْقَلْبَ يُؤْمَنُ بِهِ لِلْبِرِّ وَالْفَمَ يُعْتَرَفُ بِهِ لِلْخَلاَصِ" (رومية ١٠: ٩، ١٠).

أيتها النفوس المضطربة، إن قلتم: "أتمنى لو عرفتُ أن خطاياي قد مُحِيَتْ وأن قلبي قد تطهّر"، فإني أشجعكم على أن تؤمنوا بكلمة يسوع. فقط آمنوا به. "إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ. وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ" (يوحنا ١: ١١، ١٢). وأن تؤمن يعني أن تثق به وتأتمنه.

وإذاً، آمن هذا الرجل بكلمة يسوع وعاد إلى كفرناحوم، وطوال تلك الأميال الخمسة وعشرين أتخيل أن الشكوك كانت تساوره: "لا أعرف ما يكون قد حلَّ بابني. لقد قال يسوع أنه سيكون على ما يرام، وأنه كان على قيد الحياة، وهذا حسن. ولكن هل سأجده حياً؟" ولكنه كان في غاية السرور، أخيراً، عندما وصل إلى كفرناحوم؛ فهناك تماماً وصل رسولٌ كان قد هرع إليه، وهتف بفرح قائلاً: "كل شيء على ما يرام. إِنَّ ابْنَكَ حَيٌّ". لقد آمن قبل أن يسمع شهادة خادمه. لقد آمن بيسوع وصدق كلامه عندما قال له: "اِبْنُكَ حَيٌّ". والآن لديه شهادة خدامه المعزِّزة. "اسْتَخْبَرَهُمْ عَنِ السَّاعَةِ الَّتِي فِيهَا أَخَذَ يَتَعَافَى فَقَالُوا لَهُ: «أَمْسٍ فِي السَّاعَةِ السَّابِعَةِ تَرَكَتْهُ الْحُمَّى»". ولعلهم أضافوا قائلين: "لقد كنا نسهر معتنين به وفجأةً غادرته الحمى. لقد انتبهنا إلى الساعة التي فارقته فيها الحمى، فقد راح يتصبب عرقاً، ووضعنا يدنا عليه، ومن تلك الساعة صارت صحته تتحسن أكثر فأكثر". فيقول الآب: "أكان ذلك في الساعة السابعة؟ لقد كانت تِلْكَ السَّاعَةِ الَّتِي كنتُ أتحدث فيها إلى يسوع. إنها الساعةُ التي قَالَ لَي فِيهَا يَسُوعُ: إِنَّ ابْنَكَ حَيٌّ".

"آمَنَ هُوَ وَبَيْتُهُ كُلُّهُ". ها إن هناك إيماناً أقوى من قبل. ففي البداية آمن أنه إن استطاع يسوع الوصول إلى هناك فإنه يستطيع أن يشفي فتاه؛ وبعدها آمن بكلمة يسوع، والآن يؤمن بيسوع (شخصياً). وعائلتُه كلها آمنتْ معه. وقالوا: "لا أحد سوى ابن الله يمكن أن يصنع هكذا آية، بينما هو بعيد عنا خمسة وعشرين ميلاً". ويقول الإنجيل: "هَذِهِ أَيْضاً آيَةٌ ثَانِيَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ لَمَّا جَاءَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجَلِيلِ". لقد أظهر نفسه لشعب موطنه بأنه المُرسَل من قِبَلِ الآب. كم هي بركة أن ندرك أن الرب يسوع، ولو بعد انقضاء حوالي ألفي سنة له في المجد، لا يزال يستطيع أن يسمع صرخاتنا في أوقات المحنة والشدة، تماماً كما يستطيع أن يشفي أجسادنا اليوم، وأن يسدّ احتياجاتنا، كما "فِي أَيَّامِ جَسَدِهِ" (عبرانيين ٥: ٧).