الخطاب ١٩

الطعام الذي يبقى

"وَفِي الْغَدِ لَمَّا رَأَى الْجَمْعُ الَّذِينَ كَانُوا وَاقِفِينَ فِي عَبْرِ الْبَحْرِ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ سَفِينَةٌ أُخْرَى سِوَى وَاحِدَةٍ وَهِيَ تِلْكَ الَّتِي دَخَلَهَا تلاَمِيذُهُ وَأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَدْخُلِ السَّفِينَةَ مَعَ تلاَمِيذِهِ بَلْ مَضَى تلاَمِيذُهُ وَحْدَهُمْ - غَيْرَ أَنَّهُ جَاءَتْ سُفُنٌ مِنْ طَبَرِيَّةَ إِلَى قُرْبِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَكَلُوا فِيهِ الْخُبْزَ إِذْ شَكَرَ الرَّبُّ - َلَمَّا رَأَى الْجَمْعُ أَنَّ يَسُوعَ لَيْسَ هُوَ هُنَاكَ وَلاَ تلاَمِيذُهُ دَخَلُوا هُمْ أَيْضاً السُّفُنَ وَجَاءُوا إِلَى كَفْرِنَاحُومَ يَطْلُبُونَ يَسُوعَ. َلَمَّا وَجَدُوهُ فِي عَبْرِ الْبَحْرِ قَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ مَتَى صِرْتَ هُنَا؟» أَجَابَهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ: «ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: أَنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي لَيْسَ لأَنَّكُمْ رَأَيْتُمْ آيَاتٍ بَلْ لأَنَّكُمْ أَكَلْتُمْ مِنَ الْخُبْزِ فَشَبِعْتُمْ. اِعْمَلُوا لاَ لِلطَّعَامِ الْبَائِدِ بَلْ لِلطَّعَامِ الْبَاقِي لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّذِي يُعْطِيكُمُ ابْنُ الإِنْسَانِ لأَنَّ هَذَا اللَّهُ الآبُ قَدْ خَتَمَهُ». فَقَالُوا لَهُ: «مَاذَا نَفْعَلُ حَتَّى نَعْمَلَ أَعْمَالَ اللَّهِ؟» أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «هَذَا هُوَ عَمَلُ اللَّهِ: أَنْ تُؤْمِنُوا بِالَّذِي هُوَ أَرْسَلَهُ». فَقَالُوا لَهُ: «فَأَيَّةَ آيَةٍ تَصْنَعُ لِنَرَى وَنُؤْمِنَ بِكَ؟ مَاذَا تَعْمَلُ؟ آبَاؤُنَا أَكَلُوا الْمَنَّ فِي الْبَرِّيَّةِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ خُبْزاً مِنَ السَّمَاءِ لِيَأْكُلُوا». فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَيْسَ مُوسَى أَعْطَاكُمُ الْخُبْزَ مِنَ السَّمَاءِ بَلْ أَبِي يُعْطِيكُمُ الْخُبْزَ الْحَقِيقِيَّ مِنَ السَّمَاءِ لأَنَّ خُبْزَ اللَّهِ هُوَ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ الْوَاهِبُ حَيَاةً لِلْعَالَمِ». فَقَالُوا لَهُ: «يَا سَيِّدُ أَعْطِنَا فِي كُلِّ حِينٍ هَذَا الْخُبْزَ». فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ. مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فلاَ يَجُوعُ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فلاَ يَعْطَشُ أَبَداً. وَلَكِنِّي قُلْتُ لَكُمْ إِنَّكُمْ قَدْ رَأَيْتُمُونِي وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ. كُلُّ مَا يُعْطِينِي الآبُ فَإِلَيَّ يُقْبِلُ وَمَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجاً. لأَنِّي قَدْ نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ لَيْسَ لأَعْمَلَ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي. وَهَذِهِ مَشِيئَةُ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَانِي لاَ أُتْلِفُ مِنْهُ شَيْئاً بَلْ أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ. لأَنَّ هَذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَى الاِبْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ»" (يوحنا ٦: ٢٢- ٤٠).

في هذا القسم الطويل نوعاً ما لدينا ثلاثة أجزاء متميزة. في الآيات ٢٢- ٢٥ يطرح الناس سؤالاً حول كيفَ أمكنَ للرب يسوع أن ينتقلَ مبتعداً من ذلك الجزء من الأرض حيثُ أطعمَ الخمسة آلاف وكيف أمكنهُ أن يكونَ في كفرناحوم في اليوم التالي. لقد كانوا يعرفون، إذ أنه كان قد شاع الخبر بشكلٍ واسع، أنه في نهاية النهار، وبعد أن أطعمَ ذلك الحشد الكبير العدد، أنه أرسلَ تلاميذه، ولكنه نفسهُ كان قد ذهبَ إلى جبلٍ ليُصلّي. لم يستطيعوا أن يفهموا كيف قطعَ تلك المسافة من المنطقة حيثُ كانوا إلى المكان الذي وجدوه فيه في المرة التالية.

"وَفِي الْغَدِ لَمَّا رَأَى الْجَمْعُ الَّذِينَ كَانُوا وَاقِفِينَ فِي عَبْرِ الْبَحْرِ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ سَفِينَةٌ أُخْرَى سِوَى وَاحِدَةٍ وَهِيَ تِلْكَ الَّتِي دَخَلَهَا تلاَمِيذُهُ وَأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَدْخُلِ السَّفِينَةَ مَعَ تلاَمِيذِهِ بَلْ مَضَى تلاَمِيذُهُ وَحْدَهُمْ - غَيْرَ أَنَّهُ جَاءَتْ سُفُنٌ مِنْ طَبَرِيَّةَ إِلَى قُرْبِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَكَلُوا فِيهِ الْخُبْزَ إِذْ شَكَرَ الرَّبُّ - َلَمَّا رَأَى الْجَمْعُ أَنَّ يَسُوعَ لَيْسَ هُوَ هُنَاكَ وَلاَ تلاَمِيذُهُ دَخَلُوا هُمْ أَيْضاً السُّفُنَ وَجَاءُوا إِلَى كَفْرِنَاحُومَ يَطْلُبُونَ يَسُوعَ".

هذه تبدو كحركة ذات اهتمام حقيقي، ولكنَّ المرء لا يمكنهُ دائماً أن يعتمدَ على المظاهر الخارجية. لقد بدا مُشجعاً رؤية حشدٍ من الناس يسعون وراء يسوع على هذا الشكل، الذين كانوا مستعدونَ ليذهبوا ويتحملوا مشقةَ عبورِ البحر لكي يصلوا إليه. لقد بدا وكأن هذا يُشير إلى اهتمام حقيقي عميق وثابت. ولكن في نهاية الأمر كان ذلك الاهتمام من النوع الضحل جداً. إذ أنهم ما كانوا مهتمينَ بالمسيح نفسه، ولم يكن لديهم أيَّ إحساس بالحاجة إلى مخلِّص، رغمَ أنهم ربما كانوا يرجونَ أن يبرهن على أنهُ المسيا الموعود، إذ ظنوا أنَّ ذاك الذي كان بإمكانهِ أن يعطيهم بركاتٍ وقتيةٍ، كان يمكنهُ أيضاً أن يقدّمَ لهم خبزاً ليُشبِعَ جوعهم.

ولذلك جاؤوا يطلبون يسوع، وعندما وجدوه قالوا: "«يَا مُعَلِّمُ مَتَى صِرْتَ هُنَا؟»". ما كانوا يعرفونَ شيئاً عما حدث خلال الليل؛ أي صلاته على الجبل أو اضطراب التلاميذ وسط البحر، ومجيء الرب يسوع إليهم، ثم سيره على المياه نحوهم، واستقبالهم لهُ في السفينة، الذي جاءَ قبل وصولهم إلى المرفأ المرجو. كلُّ هذا ما كان يعرفه هذا الحشد الذي جاءَ يطلب يسوع ويسألونه:"«يَا مُعَلِّمُ مَتَى صِرْتَ هُنَا؟»".

ولكنَّ يسوع استغلّ هذه الفرصة ليقوّي شهادتهُ ويشرحَ السبب الحقيقي وراء مجيئه إلى الأرض. لقد رأى من خلال موقفهم اهتماماً ظاهرياً. وعَرفَ ما كان حقيقياً في قلوبهم. غالباً ما يأتي الناس، على سبيل المثال، إلى اجتماع للكتاب المقدس، ويبدأونَ بالحديث بتدين، ولكن سرعانَ ما تكتشف حقيقة ما في قلوبهم ألا وهو البحث عن حاجة مؤقتة، طعام أو كِساء، ونوعاً ما يشعرونَ أن المسيحيينَ يجب أن يكونوا مهتمين بتأمين هذه الأشياء. والمسيحيون مهتمون ويسرهم سدُّ هذه الحاجات، ولكنَّ قدرتهم غالباً ما تكون ضئيلة جداً. عندما يأتي الناس مدَّعين التدين فإن هذا الاهتمام الذي لديهم يتبدى في أدنى مستوياته. ومن الأفضل لهم بكثير أن يكونوا صريحين وأن يقولوا: "ليست نفسي هي ما أهتمّ بها، بل معدتي الخاوية، أو إن حاجتي هي إلى معطف". وعندها سيعرف المرء ما يمكن أن يفعل من أجلهم بأقصى طاقته. ليس من الضروري للناس أن يدّعوا اهتماماً بالدين لكي يحصلوا على معونة مؤقتة زائلة. ولكن هذا ما فعلهُ أولئك الناس. لقد ادّعوا اهتماماً حقيقياً بالمسيح، ولكنه كان يعرف أنهم كانوا يفكرون فقط بأرغفة الخبز والسمك.

في القسم الثاني، الآيات ٢٦- ٣٤، لدينا جواب يسوع. لقد قال: "ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: أَنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي لَيْسَ لأَنَّكُمْ رَأَيْتُمْ آيَاتٍ بَلْ لأَنَّكُمْ أَكَلْتُمْ مِنَ الْخُبْزِ فَشَبِعْتُمْ". ليس لأن الآيات أظهرت شيئاً لهم، بل بسبب حصولِهم على وجبة طعام جيدة. لقد أمَّن لهم ما كانوا يحتاجون إليه البارحة ويودّونَ أن يفعلَ الأمر نفسهُ اليوم. لقد كانوا يرجون أن يستمرّ في سدِّ حاجاتهم الزائلة المؤقتة، ولكنهُ كان مهتماً بحاجتهم الروحية، إذ أنَّ الحاجة المؤقتة الزائلة، أولاً وأخيراً، هي فقط لبرهةٍ أو فترةٍ محدودة، ولكن إن عاش الناسُ وماتوا بدون سد حاجتهم الروحية، فإن إعوازهم سيستمرُ إلى الأبد. ولذلك قال: "اِعْمَلُوا لاَ لِلطَّعَامِ الْبَائِدِ بَلْ لِلطَّعَامِ الْبَاقِي لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ". ما كان قصده بذلك؟ هل كان يعني أنه ليس من الضروري لنا أن نكدَّ في عملنا اليومي لتأمين حاجات الحياة الأساسية؟ أبداً على الإطلاق. أيضاً وأيضاً يُطلب منا أن نكون مجتهدين وحريصين بخصوص هذه الأمور. فلماذا قال، إذاً، أن "اِعْمَلُوا لاَ لِلطَّعَامِ الْبَائِدِ"؟ لقد كان يقصد أن يقول لنا أنه لا ينبغي لنا أن نجعل هذا أمراً أسمى. الأمر الوحيد الأهم الذي لا يجب أن ننساه هو أن هذه الحياة ما هي إلا بخار وسرعان ما ستتلاشى. "اِعْمَلُوا لاَ لِلطَّعَامِ الْبَائِدِ بَلْ لِلطَّعَامِ الْبَاقِي (الغذاء الروحي) لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّذِي يُعْطِيكُمُ ابْنُ الإِنْسَانِ لأَنَّ هَذَا اللَّهُ الآبُ قَدْ خَتَمَهُ".

الناسُ غيرُ الأتقياءِ في هذا العالم يقولون أحياناً: "الدينُ هو مجرد أفيون للشعب ليشغِلهم بالأمور الروحية ويخبرهم عن الخبز السماوي ليُشبعَ نفوسهم، وهكذا ينسونَ جوعَ أبدانِهم". ولكنَّ هذه صورةٌ تجديفيةٌ زائفةٌ عن المسيحية. فطوال العصور ما كان أحدٌ مهتماً بخدمة حاجات الناس المؤقتة الزائلة أكثرَ من أولئك الذين عرفوا الرب يسوع المسيح حقاً وأحبّوهُ. لقد كانوا دائماً هم المهتمّين أكثر بالتخفيف من وطأة الظروف التي يُعاني منها أخوتهم البشر، ومع ذلك فإننا لن نضع الراحة الزائلة قبل الراحة الروحية. علينا ترتيب الأمور حسب أولويتها: "اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللَّهِ وَبِرَّهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ" - هذه الأشياء التي يعرف أبوكم السماوي أنكم في حاجة إليها. هذه الأشياء كلها مهمة، وفي غاية الأهمية، وهذا حق، ولكن هناك أمر أكثر أهمية ألا وهو "الطَّعَامِ الْبَاقِي لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ". وها هو الرب يسوع يعلن هنا أن ابن الإنسان وحده هو القادر على إعطاء هذا القوت الذي يشبع الروح. فهذا هو ما جاء من أجله، أن يطلب ويخلّص من ضلّ. لقد نزل من السماء باتضاع وصار ابن الإنسان لكيما يسدّ حاجات الخطاة الضالين.

"هَذَا اللَّهُ الآبُ قَدْ خَتَمَهُ". عندما كرّس نفسَه علانيةً ليقدّمَ حياته لأجلنا عند اعتماده في نهر الأردن، بدا الروح القدس نازلاً إليه على هيئة حمامة وحلَّ عليه، وسُمِعَ صوت الله يقول: "هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ" (متى ٣: ١٧). وكان هذا هو ختمه.

قال يسوع أنه لا ينبغي أن نعمل فقط من أجل الأشياء الزائلة المؤقتة. لقد أكّد على ضرورة العمل بكدّ من أجل القوت الذي يبقى للحياة الأبدية. وفي محاولة منهم لتفادي ذلك، سألوه: "مَاذَا نَفْعَلُ حَتَّى نَعْمَلَ أَعْمَالَ اللَّهِ؟" لقد كانوا يفكرون في الناموس الذي أعطاهم الله إياه في سيناء. إنهم يقولون: "أخبرْنا مَا نَفْعَلُ حَتَّى نَعْمَلَ أَعْمَالَ اللَّهِ، فنحصل على الحياة الأبدية. ما الذي يجب أن نفعله؟" ويجيب يسوع، فيكشف لهم غنى رحمة ونعمة الله. فيقول لهم: "هَذَا هُوَ عَمَلُ اللَّهِ: أَنْ تُؤْمِنُوا بِالَّذِي هُوَ أَرْسَلَهُ". لعلّك تقول: "ولكن الإيمان ليس عملاً". نعم معك حق. ولكن هذا هو الدليل على عمل الله في النفس. ومن هنا يُقال لنا: "لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ" (أفسس ٢: ٨، ٩). ما هي عطية الله؟- الخلاص أم الإيمان؟ لعله يمكننا القول أنها كلاهما معاً. نعلم من موضع آخر أن عطية الله هي الحياة الأبدية، ولكن من الواضح تماماً أيضاً أن الإيمان هو عطية الله. وليس من إنسان لديه إيمان في نفسه بشكل طبيعي. "لأَنَّ الإِيمَانَ لَيْسَ لِلْجَمِيعِ" (٢ تسالونيكي ٣: ٢).     

ولكن قد يقول أحدهم: "إن كان الإيمان عطية من الله، فأنّى لي، أنا الخاطئ البائس، أن أقدر على أن أؤمن؟" يقول الكتاب المقدس: "لإيمان يأتي من السماع، والسماع يكون بكلمة الله"، أو "الإِيمَانُ بِالْخَبَرِ وَالْخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللهِ" (رومية ١٠: ١٧). بمعنى آخر، لقد أرسل الله رسالةً إلى الإنسان، وينبغي أن نؤمن بذاك الذي تتحدث عنه الرسالة، ومن هنا يقول يسوع: "إن كنتم تتحدثون عن عمل، فإن هذا عمل الله، أَنْ تُؤْمِنُوا بِالَّذِي هُوَ أَرْسَلَهُ". عبثاً نتحدث عن إرضاء الله ما لم نتلقى عطية الله. ولذلك يقول الكتاب أن الخلاص "لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ"(أفسس ٢: ٩). ولكن الروح القدس سرعان ما يضيف قائلاً: "مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا"(أفسس ٢: ١٠).

ومن هنا فليس صحيحاً القول باكتساب الخلاص عن طريق الأعمال. فنوال الحياة الأبدية لا يكون بجهد منا. "هَذَا هُوَ عَمَلُ اللَّهِ: أَنْ تُؤْمِنُوا". لقد كان عليهم أن يثقوا بكلمة الله.

ولكن أولئك الناس لم يكونوا جديين. ما كانوا مهتمين حقاً بخيرهم الأبدي. لقد كانوا مهتمين بالحصول على طعام جيد، كمثل الوليمة التي أفردها لهم يسوع في اليوم السابق. ولذلك سألوه: "فَأَيَّةَ آيَةٍ تَصْنَعُ لِنَرَى وَنُؤْمِنَ بِكَ؟ مَاذَا تَعْمَلُ؟". لقد كانوا يعرفون ذلك سابقاً. كانوا يعلمون أنه سيشفي المرضى، وأنه سيخلّص الرجال والنساء من كل أنواع الأمراض الرهيبة، وأنه سيعيد السمع إلى الصمّ. وبعضهم سمع أنه قد أقام موتى. ولكنهم كانوا يفكرون بمصلحتهم الآنية الزائلة كما هو الحال اليوم مع الكثير من الناس الذين يظنون أن المسيحية هي وسيلة لتحسين ظروفهم الدنيوية أو المادية.

قالوا ليسوع: "أَيَّةَ آيَةٍ تَصْنَعُ؟" ثم أردفوا قائلين (معتقدين أنه لم يفهم ما وراء كلماتهم): "آبَاؤُنَا أَكَلُوا الْمَنَّ فِي الْبَرِّيَّةِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ خُبْزاً مِنَ السَّمَاءِ لِيَأْكُلُوا". تلاحظون أنهم يستطيعون الاستشهاد بالكتاب المقدس. "أَيَّةَ آيَةٍ تَصْنَعُ؟" "هل من منّ هنا أو هناك؟ إننا نبحث عن الخبز. لقد أطعم موسى الشعب لأربعين سنة خبزاً من السماء. أوتستطيع القيام بذلك؟ سمعنا أنك صنعتَ ذلك البارحة. فهل تستطيع أن تفعل ذلك اليوم؟ فعندها نستطيع أن نؤمن أنك المسيا. أليس مكتوباً أن المسيا سيطعم الناس خبزاً؟ حسناً إذاً. ها نحن هنا، فأعطنا خبزاً من السماء". ولكن يسوع أجابهم قائلاً: "«ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَيْسَ مُوسَى أَعْطَاكُمُ الْخُبْزَ (بمعنى الخبز الحقيقي الذي له أهمية من دون شك) مِنَ السَّمَاءِ بَلْ أَبِي يُعْطِيكُمُ الْخُبْزَ الْحَقِيقِيَّ مِنَ السَّمَاءِ، لأَنَّ خُبْزَ اللَّهِ هُوَ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ الْوَاهِبُ حَيَاةً لِلْعَالَمِ»". لقد نزل يسوع من السماء. المنّ أقاتَ بني إسرائيل مدة أربعين عاماً في البرية. يسوع هو القوت الذي يغذي الإنسان في هذا الدهر وفي الأبدية. لنتأمّل في المنّ، كم كانت جميلة، كمثل الثلج الذي يتساقط من السماء. وتلك كانت ترمز إلى يسوع، القدوس، الطاهر، الذي لا عيب فيه ولا خطيئة ولا نقص من أي نوع. ذلك المن كان ينزل من السماء على الندى، رمز روح الله، مشيراً إلى اليوم الذي سيفيض فيه الله روحه على بني إسرائيل. فيقول: "سأكون كالندى لإسرائيل". أي أن روح الله سينزل عليهم بقوة مجدّدة محيية منعشة. لقد كان المنّ ينزل على الندى ويسوع جاء بقوة الروح القدس. لقد وُلِدَ من الروح القدس، من أمّ عذراء. وعاش حياته بقوة الروح القدس، وعندما مات في نهاية الأمر، فإنه قدّم نفسه لله (ذبيحة) بالروح الأبدي بلا عيب. وعندها- لاحظوا ذلك- عندها نزل المنّ، ليس فوق الجبال العالية حيث كان الناس سيضطرون للصعود إلى هناك للحصول عليه، وليس في وهدٍ حيث كان الناس سيضطرون للنزول إلى هناك للحصول عليه، بل سقط على الأرض حولهم وغطى السّهل حيث كانت خيام بني إسرائيل، ولذلك فكان أمام كل إسرائيلي، ما إن يستيقظ في الصباح ويخطو خارج باب خيمته، إما أن يطأ المنّ أو ينحني إلى الأرض فيلتقطه كعطية من الله.

هذه الصورة تمثل المكانة التي اتخذها يسوع في اتضاعه. هل دستم على محبته بعدم اكتراث؟ أم أنكم اقتبلتموه في قلوبكم بالإيمان مخلِّصاً شخصياً لكم؟ انهضوا وتغذوا به، هو خبز الله النازل من السماء. ما هو موقفكم اليوم؟ "أَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ بَلْ مِنَ اللَّهِ" (يوحنا ١: ١٢، ١٣).

وهكذا ينحّي يسوع جانباً كل تلميحاتهم حول الطعام والخبز الزائل البائد الذي لإشباع الإنسان الطبيعي، ويقول: "ثمة شيئاً أكثر أهمية بكثير من طعام الإنسان الجسداني، ألا وهو خبز الروح للإنسان، خبز الحياة. ولكنهم كانوا متبلدي الحس وبطيئي الفهم، كما حال رجال ونساء هذا الدهر اليوم، وكما كنا سابقاً، إلى أن انفتحت أعيننا. قالوا له: "«يَا سَيِّدُ أَعْطِنَا فِي كُلِّ حِينٍ هَذَا الْخُبْزَ»"، ولكن كل ما كانوا يفكرون فيه هو المعونة المؤقتة الآنية البائدة. لم يفهموا ما قاله لهم.

في القسم الثالث، الآيات من ٣٥ إلى ٤٠، يوضح الأمر أكثر لهم فيقول: "أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ. مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فلاَ يَجُوعُ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فلاَ يَعْطَشُ أَبَداً". يا له من إعلان مذهل! ما برح يسوع يحقق هذا الوعد منذ أكثر من ألفي سنة. كثيرون مضوا إليه، جائعين، مكتئبين، مثبطين، واقتبلوه بالإيمان ووجدوا سرور القلب.

لاحظوا بساطة المسألة: "أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ". الخلاص هو في شخصٍ، في ربنا يسوع المسيح نفسه. تذكّروا عندما كان سمعان يصلي في الهيكل ودخلت مريم ويوسف ومعهما الطفل الصغير، حيث قال يوسف: "ها هو خلاص الله"، وهرع نحو الطفل وأخذه بين ذراعيه وقال: "الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ" (لوقا ٢: ٢٩، ٣٠). نعم، إن خلاص الله هو في شخص، وهذا الشخص هو ابنه المبارك. وباقتباله ننال الخلاص. باقتباله ننال الحياة الأبدية. ولكن من المحزن أنه، ورغم وضوح الرسالة، فإن قليلين يؤمنون: "وَلَكِنِّي قُلْتُ لَكُمْ إِنَّكُمْ قَدْ رَأَيْتُمُونِي وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ".

وهنا ينكبّ يسوع على كشف ذلك السر العظيم المتعلق بجلال الله القدير. فيقول: "كُلُّ مَا يُعْطِينِي الآبُ فَإِلَيَّ يُقْبِلُ وَمَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجاً". الحمد لله على هكذا تطمين وتوكيد! الله لن ينهزم أبداً. ولن يخفق أبداً في تحقيق هدفه. كل من يعطيهم الله ليسوع سيأتون إليه. لعلكم لا تتقبّلون ذلك. لعلكم تقولون أنكم لا تؤمنون بالاختيار أو التقدير المسبق. ولكنكم في هذه الحالة ستضطرون لتمزيق عدد من الصفحات من كتابكم المقدس، لأن الكثير منها يعظّم نعمة الله الاختيارية الجليلة. ولكن حذارِ أن تسيئوا فهمها. فما من مكان في الكتاب المقدس يقول أن الله قد قدّر للإنسان قبل ولادته أنه سيكون ضالاً هالكاًَ أو مُخلَّصاً، ولكن الكتاب يقول: "لأَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ لِيَكُونَ هُوَ بِكْراً بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ" (رومية ٨: ٢٩). لقد أصاب مودي عندما اعتاد على القول: "كل من يريد هم المختارون ومن لا يريد هم غير المختارين". وها هو يسوع يقول: "كُلُّ مَا يُعْطِينِي الآبُ فَإِلَيَّ يُقْبِلُ وَمَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجاً".

ولكن يجب ألا نغفل مسؤوليتنا الشخصية، "مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجاً". فلا يقولنَّ أحدٌ: "أخشى ألا أكون مختاراً فلا أخلص". السؤال هو: هل أنت راغبٌ في أن تُقبِلَ إلى يسوع؟ فهو لن يخرجك خارجاً. كائناً من تكون اليوم، إن كنت ترغب أو تريد أن تأتي إليه فإنه سيستقبلك ويقبلك. لا حاجة بك لتلقي بالاً أو تحل مسألة التقدير المسبق أو التعيين المسبق ثم تأتي ليسوع. وعندما تأتي إليه فإنه يقتبلك، وإذ تكون قد جئتَ إليه، فإنك تعلم أنك أحد الذين أعطاهم الله الآب للرب يسوع المسيح.

يقول يسوع في الآية ٣٨: "لأَنِّي قَدْ نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ لَيْسَ لأَعْمَلَ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي". لقد كان جزءاً من إرادة الله أن يخلّص المسيحٌ إلى الأبد كل من يأتي إليه. هذه هي مشيئة الآب، ألا يخسر أياً ممن أعطاهم له. ومن هنا نرى أنه ينبغي أن يكون لدينا ثقة كاملة ويقين أكيد كبير بأننا ننال خلاصاً كاملاً ونهائياً بمجرد اقتبالنا ليسوع المسيح، الخبز المبارك النازل من السماء. "وَهَذِهِ مَشِيئَةُ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَانِي لاَ أُتْلِفُ مِنْهُ شَيْئاً بَلْ أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ". لاحظ الفردانية في القول "كُلَّ". فكل رجل، وكل امرأة، كل فرد لوحده، "كل من يرى الابن"- ويراه طبعاً بالإيمان، بالكلمة إذ جُعِلَ متجلياً بالروح- "كُلّ مَنْ يَرَى الاِبْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ". وإذاً ما معنى التغذي بخبز الحياة؟ معنى ذلك هو اقتبال الرب يسوع المسيح بالإيمان كمخلص شخصي لك وأن تتمتع بالشركة معه يوماً فيوماً. إذ تقرأ هذه الكلمة المباركة، التي تكشف حقائق مباركة رائعة الواحدة تلو الأخرى، فإنك تتغذى على الخبز الحي إذ تجعل نفسُكَ هذه الحقائق خاصة بك. أفلا زلتَ تجوع أو تعطش؟ أتريد الخبز الحي؟ حسناً إذاً، اقبلْه الآن بالإيمان، وإن كنت تصدّق الشهادة التي يقدّمها الله، فإنه سيقبلك، وهو يعدك بأن يهبَك حياةً أبدية وأن يقيمَك فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ.


١. (متى ٦: ٣٣).

٢. بمعنى آخر: "الإيمان ليس من نصيب جميع الناس"، أي أنه" ليس كل الناس مؤمنين" [فريق الترجمة].