الأصحاح ٩
الملك يتابع إظهار قدرته ونعمته
لدينا أوراق اعتماد الملك وقد قُدِّمت خلال هذا الأصحاح والذي سبقه كما لاحظنا لتوّنا. لقد شهدتْ أعمال قدرته وصادقت على مزاعمه المسيانية. كل عجائبه كان قد قام بها، ليس لتمجيد نفسه، ولا ليجعل الناس يحيّونه قائلين: "«إِنَّهُ شَيْءٌ عَظِيمٌ!»" (أعمال ٨: ٩)، بل لكي يخفّفَ ويسكّن آلام وأمراض البشرية التي تعاني. لقد تُنُبِّئَ قبل زمنٍ طويل أن ملك الله الممسوح سيفتح عيني العميان، ويفتح أُذني الصم، ويجعل العُرج يقفزون كالأيّل، ولسان الأبكم يغني (أشعياء ٣٥: ٥، ٦). وكل هذه عملها الرب يسوع، وأكثر، مُقدِّماً خدمة للناس المحتاجين بدافع المحبة الكبيرة التي يفيض بها قلبه. ذكّر بطرس كورنيليوس بـ "يَسُوعُ الَّذِي مِنَ النَّاصِرَةِ كَيْفَ مَسَحَهُ اللهُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَالْقُوَّةِ الَّذِي جَالَ يَصْنَعُ خَيْراً وَيَشْفِي جَمِيعَ الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ لأَنَّ اللهَ كَانَ مَعَهُ" (أعمال ١٠: ٣٨). إننا نرى هذا الاهتمام بالإنسانية المبتلية متبدّياً في هذا الأصحاح. ومع ذلك علينا أن نتذكر أن هذه الخدمة كانت محصورة، مع بعض الاستثناءات الضئيلة جداً، على الخراف الضالة من بيت إسرائيل (متى ١٠: ٦) كشهادة للشعب المختار على أن ملكهم الذي انتظروه طويلاً كان في وسطهم (صفنيا ٣: ١٥). ولكن رغم أنهم شهدوا عدة براهين على سلطته الإلهية، فإن قادة الشعب كانوا يصرّون بشكل ثابت راسخ على مقاومة مزاعمه والازدراء بشهادته (يوحنا ٧: ٤٨) رغم أن عامة الناس كانوا يصغون إليه بسرور (مرقس ١٢: ٣٧)، ولكن حتى وسط هؤلاء كان هناك كثيرون ممن يؤمنون ولكن بطريقة سطحية لأنهم رأوا المعجزات التي كان قد اجترحها (يوحنا ٢: ٢٣). يجب أن يكون الإيمان بالمسيح نفسه، وليس بالآيات أو العجائب التي عملها. أن ترى فيه معلِّماً عظيما ونبياً أو صانع معجزات ليس نفس الأمر كما لو اقتبلته مخلِّصاً واعترفتَ به رباً على حياتك. إن الأحداث المدوَّنة هنا وفي الأصحاح السابق لا تأتي مرتبة بحسب التسلسل الزمني، بل هي مُجمَّعة بحسب معناها أو مغزاها لتكون شهادات تبرهن على أن يسوع المسيح هو المسيا. وعلى الأرجح أنها حدثت في السنة الثانية من خدمته العلنيّة.
مع بدء الأصحاح نرى ربنا، وقد رفضه الجرجسيون، يعود إلى الجليل، حيث سرعان ما يأتي إليه بعض الأصدقاء بمفلوج ليشفيه. يخبرنا مرقس ولوقا أن هذا حدث في منـزل وليس في الريف المفتوح؛ وأن الأربعة الذين ساعدوا المريض، وإذ وجدوا أنه من غير الممكن أن يشقوا طريقهم وسط الحشد المتجمهر أمام الباب، صعدوا إلى السطح، ونقبوا فتحةً في القرميد أو أزاحوا القش من السقف، وأنـزلوا المفلوج بالحبال إلى عند قدمي يسوع.
نعلم هنا أن:
"فَدَخَلَ السَّفِينَةَ وَاجْتَازَ وَجَاءَ إِلَى مَدِينَتِهِ. وَإِذَا مَفْلُوجٌ يُقَدِّمُونَهُ إِلَيْهِ مَطْرُوحاً عَلَى فِرَاشٍ. فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «ثِقْ يَا بُنَيَّ. مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ». وَإِذَا قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ قَدْ قَالُوا فِي أَنْفُسِهِمْ: «هَذَا يُجَدِّفُ!» فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ فَقَالَ: «لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِالشَّرِّ فِي قُلُوبِكُمْ؟ أَيُّمَا أَيْسَرُ أَنْ يُقَالَ: مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَامْشِ؟ وَلَكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لاِبْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَاناً عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا» - حِينَئِذٍ قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «قُمِ احْمِلْ فِرَاشَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ!» فَقَامَ وَمَضَى إِلَى بَيْتِهِ. فَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعُ تَعَجَّبُوا وَمَجَّدُوا اللَّهَ الَّذِي أَعْطَى النَّاسَ سُلْطَاناً مِثْلَ هَذَا" (الآيات ١- ٨).
لدى عودته إلى الشاطئ الشمالي الغربي من بحر الجليل دخل يسوع إلى بيتٍ في كفرناحوم حيث جرتْ هذه الحادثة.
"فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ". من الواضح أنه ليس فقط المفلوج بل أيضاً أصدقاءه الذين أتوا به كان لديهم كل الثقة بأن يسوع سيمنحه الشفاء بناءً على طلبهم. فتجاوب في الحال، ولكن بطريقة لم يتوقعوها، إذ قال: "«ثِقْ يَا بُنَيَّ. مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ»". وهكذا لبّى الحاجة الأعظم أولاً.
بالنسبة لبعض من الكتبة الذين كانوا على مقربة، كان هذا أسوأ أنواع التجديف. فهاهنا إنسان ينسب لنفسه امتيازاً إلهياً. فما من أحد سوى الله يمكنه أن يغفر الخطايا. فمن يكون يسوع هذا الذي يتجرّأ على استخدام هكذا لغة؟
لقد عرف أفكارهم ووبّخهم بسؤاله لهم: "أَيُّمَا أَيْسَرُ أَنْ يُقَالَ: مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَامْشِ؟". بالنسبة لهم كان كلا الأمرين مستحيلاً.
إن الناس ميالون أبداً إلى اعتبار الأمراض الجسدية أشد أهمية بكثير من الإثم في قلوبهم، ولذلك فهم مهتمون بالحصول على صحة جسدية والحفاظ عليها أكثر بكثير من أن يكونوا مستقيمين أمام الله. ولكن ربنا وضع الثقل على حالة النفس. لقد كان يريد أن يدرك البشر فساد قلوبهم (متى ١٥: ١٩) وحاجتهم إلى الانعتاق من الإثم والذنوب وسطوة الخطية (يوحنا ٨: ٣٤)، فهكذا يدخلون إلى حياة الشركة مع الله ويكونون على يقين من نيل حظوة أبدية لديه (يوحنا ١٤: ٢٣). بالنسبة له كان المريض جسدياً هو شهادة على حقيقة الخطية الكائنة في العالم، وما كان راضياً على أن يعالج النتيجة، بل كان يسعى للبحث عن السبب دائماً وأبداً.
ولكن لكي يعلموا أن ابن الإنسان كانت له القدرة على الأرض ليغفر الخطايا، فقد التفتَ إلى المفلوج وأمره أن ينهض، وأن يحمل سريره ويمشي. وبينما كان مُنتقدي الرب ينظرون في عجبٍ وذهول، هبَّ الذي كان عاجزاً قبلاً على قدميه وسار خارجاً وذهب إلى بيته، مُعافى ومفغور الخطايا. ابتهج الحشد المجتمع ومجّدوا الله على هكذا إظهارٍ لنعمته وقدرته. وهذا ما كان يسوع يرجوه. لقد كان يسرّه أن يقدّم الناس الكرامة والإجلال للآب، الذي كان يعمل في ومن خلال ابنه.
في القسم التالي نقرأ عن رجل آخر انضم إلى الجماعة المختارة من التلاميذ الذين كانوا يرافقون يسوع- هذه الجماعة التي كانت تشمل فيما بينها على بطرس وأندراوس ويعقوب ويوحنا الذين كانوا قد انضموا إليها للتو.
"وَفِيمَا يَسُوعُ مُجْتَازٌ مِنْ هُنَاكَ رَأَى إِنْسَاناً جَالِساً عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَةِ اسْمُهُ مَتَّى. فَقَالَ لَهُ: «ﭐتْبَعْنِي». فَقَامَ وَتَبِعَهُ. وَبَيْنَمَا هُوَ مُتَّكِئٌ فِي الْبَيْتِ إِذَا عَشَّارُونَ وَخُطَاةٌ كَثِيرُونَ قَدْ جَاءُوا وَاتَّكَأُوا مَعَ يَسُوعَ وَتَلاَمِيذِهِ. فَلَمَّا نَظَرَ الْفَرِّيسِيُّونَ قَالُوا لِتَلاَمِيذِهِ: «لِمَاذَا يَأْكُلُ مُعَلِّمُكُمْ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ؟» فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ قَالَ لَهُمْ: «لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى. فَاذْهَبُوا وَتَعَلَّمُوا مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً لأَنِّي لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ»" (الآيات ٩- ١٣).
"رَأَى إِنْسَاناً جَالِساً عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَةِ اسْمُهُ مَتَّى. فَقَالَ لَهُ: «ﭐتْبَعْنِي»". إن متى، الذي يُدعى لاويّ أيضاً (مرقس ٢: ١٤)، كان جابي ضرائب في مرفأ كفرناحوم. من الواضح أنه كان قد رأى وسمع الرب يسوع قبلاً. والآن آن الأوان لاتّخاذ قرار. وفي إطاعةٍ منه لدعوة المخلّص، رتّب مباشرة لأن ينهي عمله، ويصبح تلميذاً للمسيح لخدمة كاملة. وبإرشاد الله، صار كاتباً لهذا الإنجيل.
"وَبَيْنَمَا هُوَ (يسوع) مُتَّكِئٌ فِي الْبَيْتِ". كان هذا بيت متى، الذي أقام وليمة عشاءٍ وداعية لرفقائه السابقين قبل أن ينطلق في هذه المهنة الجديدة التي اختارها. وإلى هذا العشاء دُعي الرب يسوع المسيح وتلاميذه.
"«لِمَاذَا يَأْكُلُ مُعَلِّمُكُمْ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ؟»". لا يستطيع الناموسي أبداً أن يفهم نعمة الله نحو الضالّين تماماً وغير المُستَحقِّين. إذ كانوا معتادين على التفكير بأن الله يُؤثر البشر ذوي الاستحقاق, فقد صُدِموا إذ رأوا يسوع المسيح يعاشر الخطاة.
"لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى". لقد استخدم ربنا مثلاً توضيحياً كان يمكن لأي شخصٍ أن يفهمه في ردّه على الاعتراض الصادر عن هؤلاء المنتقدين من أصحاب البر الذاتي. إن المرضى هم الذين يحتاجون إلى طبيب، وكان هو الطبيب العظيم الذي أتى ليخدم نفوس المرضى بالخطيئة.
"إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً". لقد لفتَ يسوع انتباه هؤلاء الناموسيين مباشرة إلى إعلان كان الرب قد أعطاه عبر هوشع (٦: ٦). إن الرب ليهتمَّ برؤية الرحمة تمتد إلى المحتاجين أكثر من اقتباله للذبائح والقرابين. وهكذا جاء يسوع "لا ليدعو الأبرار"- أي، أولئك الذين يُفتَرض أنهم ليسوا في حاجة إلى الرحمة- بل كانت خدمته موجهَّة إلى الخطاة الذين دعاهم إلى التوبة.
في الآيات الأربع التالية نأتي إلى تمييز كبير بين مبدأ الناموس الذي يُقال لنا في غير مكان أنه ساد إلى أن جاء يوحنا المعمدان (لوقا ١٦: ١٦) والنعمة والحقّ اللذين جاءا بيسوع المسيح (يوحنا ١: ١٧).
"حِينَئِذٍ أَتَى إِلَيْهِ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا قَائِلِينَ: «لِمَاذَا نَصُومُ نَحْنُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ كَثِيراً وَأَمَّا تَلاَمِيذُكَ فَلاَ يَصُومُونَ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «هَلْ يَسْتَطِيعُ بَنُو الْعُرْسِ أَنْ يَنُوحُوا مَا دَامَ الْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ وَلَكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ الْعَرِيسُ عَنْهُمْ فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ. لَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ رُقْعَةً مِنْ قِطْعَةٍ جَدِيدَةٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيقٍ لأَنَّ الْمِلْءَ يَأْخُذُ مِنَ الثَّوْبِ فَيَصِيرُ الْخَرْقُ أَرْدَأَ. وَلاَ يَجْعَلُونَ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ عَتِيقَةٍ لِئَلاَّ تَنْشَقَّ الزِّقَاقُ فَالْخَمْرُ تَنْصَبُّ وَالزِّقَاقُ تَتْلَفُ. بَلْ يَجْعَلُونَ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ جَدِيدَةٍ فَتُحْفَظُ جَمِيعاً»" (الآيات ١٤: ١٧).
"حِينَئِذٍ أَتَى إِلَيْهِ تَلاَمِيذُ يُوحَنَّا" بسؤالٍ حول الصوم. من الواضح أ، كثيرين من الذين كانوا قد تعمّدوا على يد يوحنا لم يسلّموا أنفسهم ليسوع بل كانوا ينتظرون دليلاً أوضح على أنه كان المسيا الموعود. لقد انـزعجوا واضطربوا لأن التقشف الذي علَّمَ به يوحنا، والذي كان يُعتبر موضع تقدير من قِبَل الفريسيين، لم يكن تلاميذ يسوع يمارسونه.
وردّاً عليهم أوضح أنه طالما كان معه بشخصه فما من حاجة للصوم؛ ولكن في ذلك اليوم الآتي (والذي ما كانوا قد فهموه بعد) عندما سيُرفَع من بينهم، سيكون الصوم أمراً حسناً واجباً. إن حضور العريس يدعو إلى الغبطة والسرور. وغيابه سيجعل نفوس أتباعه تشعر بالحاجة إلى نكران الذات.
"لَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ رُقْعَةً مِنْ قِطْعَةٍ جَدِيدَةٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيقٍ". لم يكن قد أتى ليضيف شيئاً إلى التدبير الناموسي بل ليبطله ويضع مكانه تدبيراً جديداً بالكلية. فمحاولة الدمج بين مبدأي الناموس والنعمة سيلغي المعنى الحقيقي لكليهما (أنظر رومية ١١: ١٦).
إن خمر النعمة الجديد لم يكن ليُسكَب في زقاق الناموسية العتيقة. فهكذا محاولة ستُتلف كليهما. وإنه لأمر بالغ الأهمية أن ندرك هذا، إذ أننا نرى في العالم المسيحي اليوم الكثير من معلّمي الناموس الذين، كما يقول بولس عنهم، ليس لديهم فهم لما يؤكدون عليه عندما يحاولون فرض المبادئ الناموسية على أولئك المُخلَّصين بالنعمة (١ تيموثاوس ١: ٥- ٧).
وفي الآيات ١٨ إلى ٢٦ نجد أعجوبتين محبوكتين معاً بشكل متمازج. يُقصَد بكليهما إظهار قدرة وحنوّ الملك الذي كان وسط بني إسرائيل رغم أن الغالبية العُظمى لم تكن تعرفه أو تعترف به.
"وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُهُمْ بِهَذَا إِذَا رَئِيسٌ قَدْ جَاءَ فَسَجَدَ لَهُ قَائِلاً: «إِنَّ ابْنَتِي الآنَ مَاتَتْ لَكِنْ تَعَالَ وَضَعْ يَدَكَ عَلَيْهَا فَتَحْيَا». فَقَامَ يَسُوعُ وَتَبِعَهُ هُوَ وَتَلاَمِيذُهُ. وَإِذَا امْرَأَةٌ نَازِفَةُ دَمٍ مُنْذُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً قَدْ جَاءَتْ مِنْ وَرَائِهِ وَمَسَّتْ هُدْبَ ثَوْبِهِ لأَنَّهَا قَالَتْ فِي نَفْسِهَا: «إِنْ مَسَسْتُ ثَوْبَهُ فَقَطْ شُفِيتُ». فَالْتَفَتَ يَسُوعُ وَأَبْصَرَهَا فَقَالَ: «ثِقِي يَا ابْنَةُ. إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ». فَشُفِيَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ. وَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ الرَّئِيسِ وَنَظَرَ الْمُزَمِّرِينَ وَالْجَمْعَ يَضِجُّونَ قَالَ لَهُمْ: «تَنَحَّوْا فَإِنَّ الصَّبِيَّةَ لَمْ تَمُتْ لَكِنَّهَا نَائِمَةٌ». فَضَحِكُوا عَلَيْهِ. فَلَمَّا أُخْرِجَ الْجَمْعُ دَخَلَ وَأَمْسَكَ بِيَدِهَا فَقَامَتِ الصَّبِيَّةُ. فَخَرَجَ ذَلِكَ الْخَبَرُ إِلَى تِلْكَ الأَرْضِ كُلِّهَا" (الآيات ١٨- ٢٦).
"إِذَا رَئِيسٌ قَدْ جَاءَ". اسم هذا الرجل كان يَايِرُسُ (مرقس ٥: ٢٢). لقد كان رئيساً لمجمع محلّي في كفرناحوم. من الواضح أنه كان يؤمن بمزاعم يسوع المسيح ولذلك طلب منه أن يأتي لمساعدته، لأن ابنته الصغيرة كانت، كما يقول، قد "ماتت الآن"؛ أي كانت مريضة جداً حتى أنه أدرك أنها كانت عند حافة الموت، ما لم تتدخّل العناية الإلهية.
"فَقَامَ يَسُوعُ وَتَبِعَهُ". بدافع محبته الحانية، انطلق المخلّص في الحال إلى منـزل هذا الرئيس، ونعلم من النص أنه "تَبِعَهُ هُوَ وَتَلاَمِيذُهُ".
"وَإِذَا امْرَأَةٌ نَازِفَةُ دَمٍ مُنْذُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً قَدْ جَاءَتْ مِنْ وَرَائِهِ وَمَسَّتْ هُدْبَ ثَوْبِهِ".
"إِنْ مَسَسْتُ ثَوْبَهُ فَقَطْ شُفِيتُ". لقد كانت على ثقة بأنها إذا لمست يسوع على هذا النحو فإنها سوف تُشفَى في الحال.
"«ثِقِي يَا ابْنَةُ. إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ»".
لقد أدرك الربُّ إيمانَها وأعطاها اليقين أنه بسبب ذلك فإن كل ما تطلبه يُجابُ لها. لقد اعتُبرت مثالاً يُحتذى.
"جَاءَ يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ الرَّئِيسِ". في خلال هذه الأثناء، كانت الصبية، ولا بد، قد تجاوزت كل أمل بالنجاة والشفاء. لقد فارقت الحياةُ جسدَها، وبدت هذه الزيارة من يسوع وكأنها بلا جدوى. وكانت الإعدادات قد تمت من أجل دفنها، وكان الندّابون المأجورون قد بدأوا يقومون بدورهم في النحيب والعويل. إلا أن مجيء الرب يسوع المسيح كان ليغير كلَّ هذا، لأنه يعطي دهن فرح عوض الحزن (أشعياء ٦١: ٣).
"الصَّبِيَّةَ لَمْ تَمُتْ لَكِنَّهَا نَائِمَةٌ". هل كانت الصبية في حالة غيبوبة وحسب أم كانت ميتة فعلاً (عندما وصل الرب)؟ الإجماع في الرأي عند معظم الدارسين المسيحيين هو أن هذا كان رقاد الموت، ولكن حقيقة أن اللغة اليونانية تستخدم هنا كلمة تعني "نوم" مختلفة عنها في مقاطع أخرى حيث يكون فيها المعنيان نوم وموت مترادفان, قد قادت البعض إلى استنتاج أنها كانت فقط في حالة حياة معلقة. مهما يكن من أمر, لقد كانت ميتة وما من قدرة بشرية يمكن أن تفيد في حالتها.
"أَمْسَكَ بِيَدِهَا فَقَامَتِ الصَّبِيَّةُ". في مكان آخر نسمع أنه أمرها بحنو أن تنهض, وما أن أمسك بيدها حتى استجابت وعادت إلى الحياة, وأُعطِيَت طعاماً (مرقس ٥: ٤١- ٤٣؛ لوقا ٨: ٥٤, ٥٥).
"فَخَرَجَ ذَلِكَ الْخَبَرُ إِلَى تِلْكَ الأَرْضِ كُلِّهَا". انتشر الخبر من شخص إلى آخر, وتحدث الناس بانذهال عن هذا الحادث العجيب الذي جرى. لقد كان شهادة على قدرة يسوع المسيح, النبي العظيم الذي قام في الأرض.
وهناك حادثتان مدونتان في المقطع الذي يلي ذلك يُظهِران مسيانية يسوع, ولكن هذه الأعمال, وبدلاً من أن تُقنِع الفريسيين القساة ذوي البر الذاتي, فإنها أعطتهم الفرصة لاتهام يسوع بالتجديف واعتبار أنه كان متحالفاً مع بعلزبول رئيس الشياطين.
"وَفِيمَا يَسُوعُ مُجْتَازٌ مِنْ هُنَاكَ تَبِعَهُ أَعْمَيَانِ يَصْرَخَانِ وَيَقُولاَنِ: «ﭐرْحَمْنَا يَا ابْنَ دَاوُدَ». وَلَمَّا جَاءَ إِلَى الْبَيْتِ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ الأَعْمَيَانِ فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: «أَتُؤْمِنَانِ أَنِّي أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ هَذَا؟» قَالاَ لَهُ: «نَعَمْ يَا سَيِّدُ». حِينَئِذٍ لَمَسَ أَعْيُنَهُمَا قَائِلاً: «بِحَسَبِ إِيمَانِكُمَا لِيَكُنْ لَكُمَا». فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا. فَانْتَهَرَهُمَا يَسُوعُ قَائِلاً: «ﭐنْظُرَا لاَ يَعْلَمْ أَحَدٌ!» وَلَكِنَّهُمَا خَرَجَا وَأَشَاعَاهُ فِي تِلْكَ الأَرْضِ كُلِّهَا. وَفِيمَا هُمَا خَارِجَانِ إِذَا إِنْسَانٌ أَخْرَسُ مَجْنُونٌ قَدَّمُوهُ إِلَيْهِ. فَلَمَّا أُخْرِجَ الشَّيْطَانُ تَكَلَّمَ الأَخْرَسُ فَتَعَجَّبَ الْجُمُوعُ قَائِلِينَ: «لَمْ يَظْهَرْ قَطُّ مِثْلُ هَذَا فِي إِسْرَائِيلَ!» أَمَّا الْفَرِّيسِيُّونَ فَقَالُوا: «بِرَئِيسِ الشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ»" (الآيات ٢٧- ٣٤).
إذ عرفَ الأعميان أنه ابن داود الموعود، التمسا منه الرحمة على ذلك الأساس.
ولكي يختبرَ إيمانهما سألهما يسوع: "«أَتُؤْمِنَانِ أَنِّي أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ هَذَا؟»". وعند ردّهما بالإيجاب، لمس أعينهما وقال: "«بِحَسَبِ إِيمَانِكُمَا لِيَكُنْ لَكُمَا»".
وفي الحال نظرا إليه بعينين رأتا وجهه المبارك: وزال العمى عنهما. وندرك كم كان استعدادهما كبيراً ليُذيعا في كل الأرجاء خبر ما حدث وشهرة ذاك الذي أعمل قدرة عظيمة فيهما. ولكنه أمرهما أن "«ﭐنْظُرَا لاَ يَعْلَمْ أَحَدٌ!»". لم يكن ليرغب أن يُعرَف فقط كصانع معجزات.
لقد كانا في غاية الحماسة والفرح حتى لم يستطيعا أن يتمالكا أنفسهما, بل ذهبا في كل أرجاء المنطقة وأذاعا خبر ما فعل يسوع لهما.
لعلنا نتساءل لماذا أمرهما يسوع ألا يفعلا ذلك. لا بد أن السبب هو أنه كان يرغب أن يتبع الناس رسالته لا أن يتأثروا بأعماله. لقد كان, وهو على الأرض هنا, وكما نعلم من عبرانيين ١: ٣, الصورة المعبرة عن الشخص الإلهي: أي التعبير الدقيق عن شخص الله. إن الحنو الذي أظهره للجنس البشري المحزون المكتئب كشف قلب الله الذي ينظر إلى الآلام والمعاناة التي أتت بها الخطيئة إلى العالم. أينما ذهب الرب كان ينبري لإعتاق الناس من هذه الأدلة على الحقد الشيطاني. لقد شهدت معجزاته على حقيقة لاهوته ودلت على مسيانيته. إن الإيمان بالمعجزات لا يخلّص أحداً, على كل حال. ولكن الإيمان بذاك الذي قام بها كان في ذلك الحين, كما اليوم, هو وسيلة الخلاص من الخطيئة والتحرر من آثارها.
في الأعجوبة الأخرى نرى تجلياً آخر لسلطان يسوع على الشياطين. دعونا نتذكر أنه في الإنجيل حيث يكون هناك شياطين, بصيغة الجمع, فهي بالتأكيد ودائماً أرواح شريرة.
جيء إلى يسوع برجلٍ ممسوس بشيطان أبكم, أو شيطان كان يسيطر على قدرات النطق عند هذا البائس المسكين فيجعله عاجزاً عن الكلام. فأخرج يسوع الشيطان في الحال, ولفرحة ومسرة أصدقائه, ولدهشة الجموع, فإن ذاك الذي كان أبكم قد نطق. فصرخ الناس: "«لَمْ يَظْهَرْ قَطُّ مِثْلُ هَذَا فِي إِسْرَائِيلَ!»".
ولكن قادة الدين المتعجرفين المتكبرين, وقد ألحوا على مقاومة ورفض أي دليل مهما يكن على أن يسوع هو المسيا, أعلنوا قائلين: "«بِرَئِيسِ الشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ»".
في هذه الأثناء لم يوبخ أولئك المجدفين بل تابع سيره بهدوء مكملاً خدمته العظيمة, كما يخبرنا المقطع الختامي من هذا الأصحاح:
"وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ الْمُدُنَ كُلَّهَا وَالْقُرَى يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهَا وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ فِي الشَّعْبِ. وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ تَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا مُنـزعِجِينَ وَمُنْطَرِحِينَ كَغَنَمٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا. حِينَئِذٍ قَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: «ﭐلْحَصَادُ كَثِيرٌ وَلَكِنَّ الْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ. فَاطْلُبُوا مِنْ رَبِّ الْحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ فَعَلَةً إِلَى حَصَادِهِ»" (الآيات ٣٥- ٣٨).
هذه المدن والقرى التي دخل إليها يسوع كانت كلها في الجليل (الآية ٣٥). مع تلاميذه, انتقل من بلدة إلى أخرى, معلّماً بالمجامع, مبشراً بإنجيل الملكوت, كما يُقال لنا هنا, ويشفي كل أنواع الأمراض. هذا التعبير "بِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ" هو في غاية الأهمية. لقد كان إعلان البشرى الحسنة بأن الله كان على وشك أن يؤسس ملكوته في هذا العالم. لقد كان الملكوت قد قدمه الله لبني إسرائيل ولكن فقط بشرط توبتهم وقبولهم للملك. وكما نعلم, فقد أخفقوا في ذلك, فأُخِذَ الملكوت منهم وأُعطِيَ إلى آخرين كانوا على استعدا لتحقيق متطلباته الصحيحة المحقة. هناك فارق, بالطبع، بين "بِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ" و"إنجيل نعمة الله"؛ ومع ذلك فلا يجب أن نفرّق بينهما على أنهما إنجيلين مختلفين, إذ نعلم بشكل واضح من غلاطية ١: ٩ أن الكرازة بأي إنجيل آخر يختلف عن الذي كان يبشّر به بولس في كل أرجاء العالم كان يعني أن يستجلبَ المرء على نفسه اللعنة من الله. إن الإنجيل هو رسالة الله المتعلقة بابنه. إنه يأخذ مظاهر مختلفة في أزمان مختلفة, ولكنه كله إنجيل المسيح. في متى, كما رأينا, يُصوَّرُ المسيحُ كملك: أي أن التركيز هو على ملوكيته أكثر منه على عمله الفدائي, ومع ذلك فإن هذا الجاني الأخير ليس مُهملاً, كما سنرى في أصحاح لاحق؛ وفي الواقع، في بداية هذا الإنجيل، كان إعلان الملائكة أن يسوع سوف "يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ" (متى ١: ٢١). ولذلك, فإن الجوانب المختلفة من الإنجيل يجب أن تُميَّز ولكن دون أن يُخلط بينها أو تُشوَّش. إنها تتعلق جميعاً بتصوير مسيح الله على أنه العلاج الوحيد لحاجة العالم العظيمة.
لقد تأثر قلب ربنا المبارك وهو يرى الجموع التي ليس في إسرائيل من يقودها على نحو صحيح. لقد كانوا كغنم لا راعي لهم إلى أن جاء هو, الراعي الصالح, ليُطعِمها ويقوتها ويُعنى بها.
إنه يُلفِت انتباه تلاميذه إلى حقول الحصاد العظيمة الممتلئة بالنفوس الثمينة التي تحتاج إلى معرفة الحق المتعلق به. وإلى هذه الحقول كان عليهم أن يمضوا ويحصدوا. إنه يطلب منهم أن يصلّوا إلى رب الحصاد أن يرسل فعلة ليجمعوا القمح الذي نضح. لنقرأ ما قاله الرب عند بئر سيخار بنفس الفحوى فنفهم شيئاً من الاهتمام العميق الذي كان لدى يسوع بخلاص الضالين رجالاً ونساءً. في يوحنا ٤: ٣٥- ٣٧، يقول: "أَمَا تَقُولُونَ إِنَّهُ يَكُونُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَأْتِي الْحَصَادُ؟ هَا أَنَا أَقُولُ لَكُمُ: ارْفَعُوا أَعْيُنَكُمْ وَانْظُرُوا الْحُقُولَ إِنَّهَا قَدِ ابْيَضَّتْ لِلْحَصَادِ. وَالْحَاصِدُ يَأْخُذُ أُجْرَةً وَيَجْمَعُ ثَمَراً لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ لِكَيْ يَفْرَحَ الزَّارِعُ وَالْحَاصِدُ مَعاً. لأَنَّهُ فِي هَذَا يَصْدُقُ الْقَوْلُ: إِنَّ وَاحِداً يَزْرَعُ وَآخَرَ يَحْصُدُ".
إن هذه الكلمات تدخل إلى أعماق قلوبنا. إنه يريدنا أن نذهب إلى الحقول: اذهبوا وازرعوا واحصدوا وصلّوا لعل آخرين كثيرين يهبون ليقوموا بالعمل العظيم في تبشير العالم.