الأصحاح ١٨
رعايا مثاليون للملكوت،
والتأديب في الكنيسة
هناك أمران يُوضعان بشكل متجاور في هذا الأصحاح: الملكوت بجانبه الروحي، والكنيسة التي سيوجِدُها الرب بعد موته وقيامته، ولكن تُرى هنا من الجانب المحلي كتجمع من المؤمنين المسؤولين عن حفظ مبادئ البرّ، وبالتالي التعامل بتأديب مع أعضاء عنيدين أو آثمين يرفضون التوبة.
المقطع المتعلق بالملكوت يشتمل على الآيات ١ إلى ١٤.
"فِي تِلْكَ السَّاعَةِ تَقَدَّمَ التَّلاَمِيذُ إِلَى يَسُوعَ قَائِلِينَ: «فَمَنْ هُوَ أَعْظَمُ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ؟» فَدَعَا يَسُوعُ إِلَيْهِ وَلَداً وَأَقَامَهُ فِي وَسَطِهِمْ وَقَالَ: «اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَرْجِعُوا وَتَصِيرُوا مِثْلَ الأَوْلاَدِ فَلَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. فَمَنْ وَضَعَ نَفْسَهُ مِثْلَ هَذَا الْوَلَدِ فَهُوَ الأَعْظَمُ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَمَنْ قَبِلَ وَلَداً وَاحِداً مِثْلَ هَذَا بِاسْمِي فَقَدْ قَبِلَنِي. وَمَنْ أَعْثَرَ أَحَدَ هَؤُلاَءِ الصِّغَارِ الْمُؤْمِنِينَ بِي فَخَيْرٌ لَهُ أَنْ يُعَلَّقَ فِي عُنُقِهِ حَجَرُ الرَّحَى وَيُغْرَقَ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ. وَيْلٌ لِلْعَالَمِ مِنَ الْعَثَرَاتِ. فَلاَ بُدَّ أَنْ تَأْتِيَ الْعَثَرَاتُ وَلَكِنْ وَيْلٌ لِذَلِكَ الإِنْسَانِ الَّذِي بِهِ تَأْتِي الْعَثْرَةُ. فَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ أَوْ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْرَجَ أَوْ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي النَّارِ الأَبَدِيَّةِ وَلَكَ يَدَانِ أَوْ رِجْلاَنِ. وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي جَهَنَّمَ النَّارِ وَلَكَ عَيْنَانِ. ﭐُنْظُرُوا لاَ تَحْتَقِرُوا أَحَدَ هَؤُلاَءِ الصِّغَارِ لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ مَلاَئِكَتَهُمْ فِي السَّمَاوَاتِ كُلَّ حِينٍ يَنْظُرُونَ وَجْهَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ. مَاذَا تَظُنُّونَ؟ إِنْ كَانَ لإِنْسَانٍ مِئَةُ خَرُوفٍ وَضَلَّ وَاحِدٌ مِنْهَا أَفَلاَ يَتْرُكُ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ عَلَى الْجِبَالِ وَيَذْهَبُ يَطْلُبُ الضَّالَّ؟ وَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ يَجِدَهُ فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَفْرَحُ بِهِ أَكْثَرَ مِنَ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ الَّتِي لَمْ تَضِلَّ. هَكَذَا لَيْسَتْ مَشِيئَةً أَمَامَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ هَؤُلاَءِ الصِّغَارِ" (الآيات ١- ١٤).
بما أنهم ما كانوا بعد قد تحرروا من الرغبة في الشهرة والبروز في الملكوت الآتي, عندما سيتأسس سلطان السماء على كل الأرض, فإن التلاميذ جاؤوا إلى يسوع ولديهم هذا السؤال: "«مَنْ هُوَ أَعْظَمُ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ؟»". إنه سؤال ما من نفسٍ نبيلةٍ حقاً يمكن أن تطرحه, أو تهتم به. ولكن، ورغم أن هؤلاء التلاميذ كانوا مكرسين، كانت ستخطر على بالهم فكرة أن الملكوت كان سيكون مكاناً وزماناً للجسد ليعرض نفسه, رغم أن الرب قد وبخهم على هذا في مناسبات سابقة.
هذه المرة أجابهم بالكلمة وبدرسٍ عياني عملي بآنٍ معاً. فدعا أحد الأطفال الصغار. وبالتأكيد فإن هذا الطفل الصغير استجاب وأتى إليه دون أي تردد. وإذ أقامه في الوسط قال يسوع بجلالٍ ومهابةٍ: "اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَرْجِعُوا وَتَصِيرُوا مِثْلَ الأَوْلاَدِ فَلَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ". بمعنى آخر, إن الرعية الحقيقة للملكوت هم الأشخاص الذين يمتازون بالطواعية والتواضع والذين يسمعون صوت يسوع ويُلبّون نداءَهُ, قانعين بالمكان الذي يكون قد عيّنهم فيه. إن الأعظم في الملكوت سيكون ذاك الذي على استعداد لأن يأخذ أدنى مكان (المكان الأكثر تواضعاً), وبهذا يبرهن على أنه تابعٌ لذاك الذي جاء من مجد الله ليكون خادماً في هذا العالم من المعاناة والألم.
أن نقبل طفلاً صغيراً باسمه هو أن نقتبله هو بالذات, ذلك لأنه يطابق نفسه مع كل أولئك الذين يثقون به. إنه ليس فقط مخلص أولئك الذين يدركون, بسبب السنوات الضائعة في الخطيئة والفسوق, حاجَتَهم إلى المغفرة والتطهير, بل هو مخلصٌ لأولئك الصغار أيضاً الذين, في براءتهم التي لا مثيل لها, ينجذبون إليه بسبب اهتمامه الحاني والمحب بهم.
سواءَ كان الأمر حقيقياً بشكلٍ مطلقٍ بتفاصيل أم لا, فإن هناك الكثير من الحق عامةً في تلك القصة التي غالباً ما تُروى عن قِسٍّ عابس الملامح كان يكرز بعظةٍ حول موضوع "دموع يسوع". يُقال أنه هتف قائلاً "ثلاثُ مراتٍ نقرأ أن يسوع قد بكى, ولكننا لا نقرأ أبداً أنه ابتسم". وإذا بطفلة صغيرة تحت المنبر صرخت قائلةً وقد نسيَتْ أين هي: "ولكني أعلم أنه فعل". وإذ صُعِق من هذه المقاطعة, سألها القِس: "لماذا تقولين ذلك, يا طفلتي؟". وإذ شعرت الآن بالخوف كلياً، وإذ أدركت أن جميع العيون كانت عليها, كان جوابها: "لأن الكتاب المقدس يقول أنه دعا طفلاً صغيراً وجاء إليه. ولو كان يسوع قد بدا مثلك, أعرف أن الطفل كان ليخاف أن يأتي". لم تكن تقصد أن تكون وقحة. لقد كانت صراحةَ الأطفال, ولكنها تخبُر أيضاً عن الحقيقة الرائعة. إن الأطفال ما كانوا أبدا ليخافوا من يسوع, وكان دائماً على استعداد لأن يباركهم ويقبَلهم.
ولم يتحدث يسوع أبداً بتجهمٍ أكثر منه عندما تحدّث عن أُولئك الذين سيكونون سبباً في تعثّر أُولئك الصغار الذين يؤمنون به. فهؤلاء, كان من الأفضل لو أن حجر رحى قد رُبط إلى أعناقهم وأُلقيوا في أعماق البحر. فأحجار العثرة هذه التي تنبّأ عنها إنما كان يُحذّر بها مستمعيه لئلا يكونوا من بين هؤلاء. لكان أفضل للمرء أن يَبتُرَ نفسه بأن يقطع يده أو رجله من أن يكون مذنباً باستخدام أيٍّ من أعضائه الجسدية ليدلَّ أو يقود أحدَ أولئك الأطفال الصغار إلى طريق الضلال. أن يفعل المرءُ ذلك كان يعني أن يعرِّض نفسَه للنار الأبدية. وعلى نفس المنوال يتحدث في ما يخص العينين اللتين, وللأسف, لطالما قادتا أناساً فاسدين فاسقين في أغلب الأحيان إلى أن ينظروا نظرةً شريرة إلى براءة الأطفال.
لأن الآب له اهتمامٌ خاصٌ بالأطفال, وفي السماء يكون ملائكتهم الحارسين دائماً مستعدين ليظهروا أمام وجهه, فإن هذا كله يحذّر من أن يحتقر أيُّ امرئ أحداً من أُولئك الصغار. لعلَّنا نفهمُ من ذكر "الملائكة" هنا, أرواحَ الأطفال الذين رحلوا. إن كلا الرأيين قد كان له من يؤيده من الرجال الأتقياء, ولعلّه من الأفضل ألا نكون حازمين دوغماتيين بخصوص ذلك, لأن كلا الأمرين حقيقيٌ، في الواقع، بما لا شكَّ فيه, مهما كان المقصود به هنا.
عند الحديث عن راشدين في لوقا ١٩: ١٠، قال يسوع: "ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ". هنا, وإذ يتحدث عن الأطفال, فإنه يقول ببساطة أنه جاء ليخلّصهم. بينما هم أعضاء في جنسٍ ضالٍ ساقطٍ, فإنهم لم يجولوا بإرادتهم في طرق الخطيئة؛ ولذلك فليسوا في حاجة لأن يذهب إليهم كي يردّهم إلى الطريق القويم.
إن مَثَل الخروف الضال, الذي يتيه شارداً على جبل الخطيئة, يأتي بعد ذلك, لأنه ليس لخلاص الأطفال قد جاء. فهناك ابتهاجٌ في السماءِ, عندما تتجمعُ أعدادٌ وافرةٌ من القديسين بأمان فرِحةً بضالٍ يُستعاد ويخلُص. ولكن كم تكون الفرحةُ عظيمةً عندما يخلصُ المرء وهو في بداية طفولته, فلا يضيّع سنينَ طوالاً في التمرد ضد الله.
الآية ١٤ تعطينا التأكيد على أن كل الأطفال الذين يموتون قبل أن يصلوا إلى سن المسؤولية هم مخلّصون إلى الأبد من خلال عمل المسيح. إن الله الآب لا يريد لأيٍّ من هؤلاء أن يهلكوا؛ ونظراً إلى أن إرادتهم لم تكن ضد إرادة الله فلعلّنا نكون على يقين بأنهم مع المسيح في بيت الله الآب.
في المناسبة، عندما أدلى بطرس باعترافه العظيم، تحدّث الرب لأول مرة عن الكنيسة التي كان سيبنيها. والآن يعطي تعليمات تتعلق بالتأديب والترتيب الإلهي في تلك الكنيسة, التي, وفي حين أنها واحدة في كل أرجاء العالم, كان يجب أن تتجلى محلياً من خلال جماعاتٍ متمايزة في أماكن مختلفة.
«وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَاذْهَبْ وَعَاتِبْهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ وَحْدَكُمَا. إِنْ سَمِعَ مِنْكَ فَقَدْ رَبِحْتَ أَخَاكَ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ فَخُذْ مَعَكَ أَيْضاً وَاحِداً أَوِ اثْنَيْنِ لِكَيْ تَقُومَ كُلُّ كَلِمَةٍ عَلَى فَمِ شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ فَقُلْ لِلْكَنِيسَةِ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الْكَنِيسَةِ فَلْيَكُنْ عِنْدَكَ كَالْوَثَنِيِّ وَالْعَشَّارِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَا تَرْبِطُونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطاً فِي السَّمَاءِ وَكُلُّ مَا تَحُلُّونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي السَّمَاءِ. وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضاً: إِنِ اتَّفَقَ اثْنَانِ مِنْكُمْ عَلَى الأَرْضِ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَطْلُبَانِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمَا مِنْ قِبَلِ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ»" (الآيات ١٥- ٢٠).
في بعض أفضل المخطوطات, إن الكلمة "إليك" محذوفةٌ بعد "أخطأ", وهذا يعني أن هناك ارتكابٌ للخطيئة ضد أكثر من شخصٍ واحد. "إن أخطأ أخوك". من يدرك هذا ويهتم بذلك يتعلّم ألا يذيع أو ينشر في كل مكان أمر خطيئة هذا الأخ, وهكذا لا يشوّه صورته أمام الآخرين الذين قد لا يكونون قد عرفوا بأي شيء عن هذا الأمر, ولكن يجب على الأخ أن يذهب إلى الخاطئ بشكل فردي شخصي وأن يتحدث إليه عن المسألة, محاولاً أن يأتي به إلى التوبة.
كان هذا يتوافق مع شريعة موسى التي تأمر أن: "لا تُبْغِضْ أخَاكَ فِي قَلْبِكَ. إنْذَاراً تُنْذِرُ صَاحِبَكَ وَلا تَحْمِلْ لأجْلِهِ خَطِيَّةً" (لاويين ١٩: ١٧). وفي غلاطية ٦: ١، نعلم أن: "أَيُّهَا الإِخْوَةُ، إِنِ انْسَبَقَ إِنْسَانٌ فَأُخِذَ فِي زَلَّةٍ مَا، فَأَصْلِحُوا أَنْتُمُ الرُّوحَانِيِّينَ مِثْلَ هَذَا بِرُوحِ الْوَدَاعَةِ، نَاظِراً إِلَى نَفْسِكَ لِئَلاَّ تُجَرَّبَ أَنْتَ أَيْضاً". فأن نتصرف على هذا النحو مع الخاطئ هو تحقيق لوصية الرب أن: "يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ" (يوحنا ١٣: ١٤). فسكب مياه الكلمة على قدمي أخٍ آثمٍ هو واجب العالِمِ بالإثم الذي يرتكبه هذا الأخ. وهذا المبدأ يُطبّقُ في كلا الزمنين التدبيريين القديم والجديد.
ولكن إن كان فاعلُ الإثم معانداً ومتعمداً، وإن لم يُظهر ميلاً لتصويب الأمور, فعلى المرء أن يأخذ واحداً أو اثنين من الإخوة وأن يراه من جديد. هؤلاء الشهود سيسمعون فاعل الخطيئة ويحكمون بحسب الوقائع التي تُعرض أمامهم. فإن وافقوا على أن هذا الأخ قد ارتكب خطأً ما، فعليهم أن ينضموا إلى الأخ الأول في محاولته لأن يأتي بهذا الأخ الحرون إلى الاعتراف بخطيئته وطلب المغفرة. وإن لم يُفلح هذا, وظلَّ المتعدي والآثم متصلباً في رأيه ورافضاً لأن يقبل نصيحتهم, فإن الأمر يرجع إلى الجماعة الكنسية المحلية لتسمع القضية، وإن اقتنعت ببر جانب الإدعاء, فإن المتَّهم من جديد يُنصح بأن يقرَّ بخطئه وأن يحاول أن يقوّم اعوجاجه. فإن رفض أن يسمع إلى الكنيسة فإنه يجب أن يُوضع تحت التأديب ويُعامل كأنه غريبٌ عن الجماعة- كوثنيٍّ أو منغمسٍ في شؤون الدنيا, أو عشّار.
في هذا المكان فقط لدينا هذه الكلمات التي تُرددها روما كثيراً: "يسمع من الكنيسة". إنها لا تدعونا لأن ننحني أمام تعليم الكنيسة بقدر ما تعالج موضوع تأديب الإنسان المسؤول عن تقبّل حكم الجماعة الكنسية. ليس من مكان يُقال فيه أن الكنيسةَ هي المعلم الموثوق وذو السلطان. بل بالعكس, إن الكنيسة يُطلب إليها أن تسمع ما يقوله الروح القدس من خلال الكلمة.
إن الربط والحل الوارد ذكرهما في الآية ١٨ يتم توضيحهما في الرسائل إلى كورنثوس. إن لها علاقة بالكنيسة, أو الجماعة, والتأديب. ما أمر به بولس الجماعة الكنسية في كورنثوس, هو أن يرفعوا من وسطهم الشرير- الذي كان يرتكب سفاح القربى- في ١كورنثوس ٥, كان يربط خطيئته به إلى أن يتوب. وعندما يطلب في ٢ كورنثوس ٢: ٥- ١١ من الكنيسة أن تسامح هذا الرجل بناءً على الدليل الذي يُبديه على توبته فإنه كان يُحلّه. هكذا أفعال, عندما تكون في توافق كامل مع كلمة الله, تكون مربوطةً في السماء.
الآية ١٩ توحي بشيء أرفع وأعلى من هذا. لنفترض حالةً أو قضيةً حيث الحكم البشري يكون على خطأ, والقديسون يكونون في ارتباكٍ كاملٍ. قد ينشدون الرب نفسه طلباً للاستنارة والمعونة.
حيث يتفق اثنان أو ينسجمان, كما تعني الكلمة حقاً- وهذا, حيث يأتي اثنان أمام الله في الصلاة في انسجام مع روحه القدوس ومع بعضهم البعض, فإنه سوف يستجيب لهما, فاعلاً ما يناسب مشيئته في الكنيسة على الأرض كما في السماء. وعلى كل جماعة محلية من المؤمنين المجتمعين معاً باسم الرب يسوع أن يكونوا متأكدين من حضوره وسطهم. هذا لا يشير إلى جماعة معينة ما تدّعي أنها أكثر ارتباطاً وصلة وثيقة مع المسيح من غيرها, ولكن حضور الرب أمر مؤكد لكل جماعة تجتمع باسمه, مهما كانت صغيرة تلك الجماعة. هذا ما يُشجعنا ويُعزينا الآن في هذه الأيام حيث الكنيسة في حالة انهيار ومع ذلك ففي حالة غرور ديني كبير.
إن بقية الأصحاح يتناول، بشكل خاص، موضوع المغفرة من أوجه مختلفة عديدة. إن المشكلة كلها يمكن حلها بالنسبة للمسيحيين. علينا أن نُسامِحَ كما سامَحَنا الله في المسيح (أفسس ٤: ٣٢؛ كولوسي ٣: ١٣). من وجهة نظر الملكوت, إن المغفرة تستند على توبة المذنب الآثم. إن تلاميذ المسيح عليهم أن يتخذوا موقف مغفرة في جميع الأوقات ونحو كل الناس. ولكن عليهم أن يمنحوا ذلك الغفران لكل من يقول "أنا أتوب" (لوقا ١٧: ٣, ٤). أن نُخفِق في فعل ذلك سيجلب الشخص الذي لا يغفر تحت يد المعاقَبة والتأديب من قِبَل الله في سيادته, كما نرى في مَثل الخادم القاسي القلب الذي رفض طلب رفيقه المدين للرحمة. هذا المبدأ يبقى حتى في زمن نعمة الله التدبيري, لأن نعمته وسيادته تسيران معاً. ما من أحد أكثر مسؤولية لأن يُظهر رحمةً أمام الآخرين من ذاك الذي نفسه كان موضع رحمة. إن الكثير من التأديب الذي يجب أن نخضع له نحن المسيحيين يمكن أن يكون مردّه إلى مواقفنا القاسية العديمة الشفقة في معظم الأحيان نحو أُولئك الذين أثموا إلينا. إننا نوفر على أنفسنا الكثير من الألم بالشكل الذي يعالج فيه أبونا خطيئتنا مؤدباً إيانا (عبرانيين ١٢: ٦- ١١) لو كنا أكثر حرصاً وأكثر مراعاةً للآخرين.
"حِينَئِذٍ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ بُطْرُسُ وَقَالَ: «يَا رَبُّ كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ؟ هَلْ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ؟» قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لاَ أَقُولُ لَكَ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ بَلْ إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ. لِذَلِكَ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً مَلِكاً أَرَادَ أَنْ يُحَاسِبَ عَبِيدَهُ. فَلَمَّا ابْتَدَأَ فِي الْمُحَاسَبَةِ قُدِّمَ إِلَيْهِ وَاحِدٌ مَدْيُونٌ بِعَشْرَةِ آلاَفِ وَزْنَةٍ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُوفِي أَمَرَ سَيِّدُهُ أَنْ يُبَاعَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَأَوْلاَدُهُ وَكُلُّ مَا لَهُ وَيُوفَى الدَّيْنُ. فَخَرَّ الْعَبْدُ وَسَجَدَ لَهُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ الْجَمِيعَ. فَتَحَنَّنَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْعَبْدِ وَأَطْلَقَهُ وَتَرَكَ لَهُ الدَّيْنَ. وَلَمَّا خَرَجَ ذَلِكَ الْعَبْدُ وَجَدَ وَاحِداً مِنَ الْعَبِيدِ رُفَقَائِهِ كَانَ مَدْيُوناً لَهُ بِمِئَةِ دِينَارٍ فَأَمْسَكَهُ وَأَخَذَ بِعُنُقِهِ قَائِلاً: أَوْفِنِي مَا لِي عَلَيْكَ. فَخَرَّ الْعَبْدُ رَفِيقُهُ عَلَى قَدَمَيْهِ وَطَلَبَ إِلَيْهِ قَائِلاً: تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ الْجَمِيعَ. فَلَمْ يُرِدْ بَلْ مَضَى وَأَلْقَاهُ فِي سِجْنٍ حَتَّى يُوفِيَ الدَّيْنَ. فَلَمَّا رَأَى الْعَبِيدُ رُفَقَاؤُهُ مَا كَانَ حَزِنُوا جِدّاً. وَأَتَوْا وَقَصُّوا عَلَى سَيِّدِهِمْ كُلَّ مَا جَرَى. فَدَعَاهُ حِينَئِذٍ سَيِّدُهُ وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ كُلُّ ذَلِكَ الدَّيْنِ تَرَكْتُهُ لَكَ لأَنَّكَ طَلَبْتَ إِلَيَّ. أَفَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّكَ أَنْتَ أَيْضاً تَرْحَمُ الْعَبْدَ رَفِيقَكَ كَمَا رَحِمْتُكَ أَنَا؟. وَغَضِبَ سَيِّدُهُ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْمُعَذِّبِينَ حَتَّى يُوفِيَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ. فَهَكَذَا أَبِي السَّمَاوِيُّ يَفْعَلُ بِكُمْ إِنْ لَمْ تَتْرُكُوا مِنْ قُلُوبِكُمْ كُلُّ وَاحِدٍ لأَخِيهِ زَلاتِهِ»" (الآيات ٢١- ٣٥).
"كَمْ مَرَّةً ..... أَغْفِرُ لَهُ؟" لم يَتَسَامَ بطرس إلى مستوى الفهم الحقيقي للنعمة الذي أظهره الله له، والذي كان يجب عليه أن يُظهره نحو أخيه.
"إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ". إن ٧ هو عدد الكمال. إن ربنا يرفع هذا إلى أعلى طاقة. إن مغفرتنا وصفحنا يجب أن تكون كمثل تلك المغفرة التي عامَلنا بها الله. سبعين مرة سبع مرات تبدو مثل عدد مستحيل من الآثام التي تنتظر المغفرة, ولكن ألم نتجاوز ذلك العدد مرات كثيرة في علاقتنا مع الله؟
"إِنْسَاناً مَلِكاً أَرَادَ أَنْ يُحَاسِبَ عَبِيدَهُ". في هذا المثل يُرى التلميذ على أنه من رعايا الملكوت, وتحت سيادة الله, الذي, ورغم أنه أبونا, يُخضعُ شعبَه إلى تأديبٍ تقويمي (ا بطرس ١: ١٧).
"وَاحِدٌ مَدْيُونٌ بِعَشْرَةِ آلاَفِ وَزْنَةٍ". لقد كان هذا المبلغ هائلاً, سواء كانت الدنانير من الذهب أم فقط من الفضة. إنها توحي بذاك الشخص الذي يكون مذنباً بآثام كثيرة وتعديات كثيرة ضد السيادة الإلهية.
"لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُوفِي". إن الآثم مفلس أخلاقياً. وما من إنسان بمقدوره أن يعوض لله عن الخطأ الذي ارتكبه (بحقه). "أَمَرَ سَيِّدُهُ أَنْ يُبَاعَ". فبحسب الشريعة التي كانت سائدة آنذاك كان يُمكن أن يُباع المدينُ العاجزُ عن الدفع في سوق النخاسة كعبدٍ.
"تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ الْجَمِيعَ". بينما لا يستطيع أي إنسان أن يلبّي المطالب الكاملة لناموس الله المقدس, ومع ذلك فإن موقف هذا المدين هو موقف ندم وتوبة.
"فَتَحَنَّنَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْعَبْدِ وَأَطْلَقَهُ وَتَرَكَ لَهُ الدَّيْنَ". ورغم ذلك فإن الله يتعامل مع خدامه الخاطئين عندما يواجهون خطاياهم في حضوره ويقرون بمطالب سيادته البارة العادلة المحقة. لاحظوا, ليست الحالة هنا هي مغفرةٌ لإنسانٍ غير مخلّص, بل خادم لله كان قد أخفق على نحوٍ جسيم.
"وَجَدَ وَاحِداً مِنَ الْعَبِيدِ رُفَقَائِهِ كَانَ مَدْيُوناً لَهُ بِمِئَةِ دِينَارٍ". لقد كان هذا المبلغ تافهاً جداً, مقارنةً بذلك الديّن الآخر العظيم الكبير. ما من أحدٍ يمكن أن يُزعج أياً منا بأي شيء كما أزعجَتْ خطايانا اللهَ القدوس.
"أَوْفِنِي مَا لِي عَلَيْكَ". أن نطلب الرضا الكامل من أخٍ أخطئ إلينا, عندما عاملنا الله بكرمٍ وسماحة نفسٍ رغم خطايانا الأعظم, هو في توافق وانسجام مع مبدأ الرحمة.
"فَخَرَّ الْعَبْدُ رَفِيقُهُ عَلَى قَدَمَيْهِ وَطَلَبَ إِلَيْهِ". إنه يتخذ نحو دائنيه نفس الموقف الذي اتخذه الآخر نحو سيده, وكان يجب أن يكون عنده نفس الاعتبارات.
"فَلَمْ يُرِدْ بَلْ مَضَى وَأَلْقَاهُ فِي سِجْنٍ". لقد كان الدائن قاسي الفؤاد. ليس فقط أنه رفض المغفرة, بل أيضاً ألقى برفيقه العبد إلى سجن المدينين, راجياً، وبلا شك، أن أصدقائه سيأتون لمساعدته ويدفعون الديّن عنه.
"فَلَمَّا رَأَى الْعَبِيدُ رُفَقَاؤُهُ مَا كَانَ حَزِنُوا جِدّاً. وَأَتَوْا وَقَصُّوا عَلَى سَيِّدِهِمْ كُلَّ مَا جَرَى". إذ صُدِموا بهذا التصرف، تم نقل الخبر عن هذا السلوك الشرير الذي أبداه الدائن غير المستحق إلى سيده من قِبَلِ أولئك الذين عرفوا بمجريات الأمور بدقة.
"أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ". استشاط السيد غضباً من جراء هذا التصرف الخؤون الذي قام به من مَدَّ له السيدُ يدَ الرحمة والرأفة.
"وَسَلَّمَهُ إِلَى الْمُعَذِّبِينَ حَتَّى يُوفِيَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ". إن مغفرة الله قد تُلغى, كما في هذا المثل, حيث المتلقي للمغفرة يخسر كل حق بالاعتبار بسبب انقلابه فيما بعد. لاحظوا أن هذه المغفرة ليست هي المغفرة الأبدية التي يمنحها الله للخطاة الذين يؤمنون هنا, بل إنها مغفرة لمن يكون لتوّه في الملكوت وقد أخفق على نحوٍ كبير.
"فَهَكَذَا أَبِي السَّمَاوِيُّ يَفْعَلُ بِكُمْ إِنْ لَمْ تَتْرُكُوا مِنْ قُلُوبِكُمْ كُلُّ وَاحِدٍ لأَخِيهِ زَلاتِهِ". إن الآب هو الذي يتعامل مع أعضاء عائلته, وهو الذي لن يغفل القسوة أو نقص الحنو من جهة أولاده نحو إخوتهم الذين يخطئون. هناك الكثيرون من أولاد الله الواقعون تحت التقويم التأديبي في كل أيامهم, وذلك، ببساطة، لأن هناك أحداً لم يغفِروا له. دعونا نبحث ونحاول بطرقنا سعياً لتجنب هذه المسألة.
أُولئك الذين دخلوا إلى الملكوت بالولادة الجديدة (يوحنا ٣: ٥) هم كلهم خطاةٌ مغفورةٌ خطاياهم ويقفون أمام الله على أساس الرحمة والنعمة الصِرفة. ومع ذلك, كأولاد في عائلة الله, إنهم خاضعون لتأديب الآب وهم تحت سيادته. إن اللحظة التي تنتهي فيها مسؤوليتنا كخطاة, إذ نكون فيها تحت دينونة الله, تبدأ مسؤوليتنا كأولاد مرتبطين بالعلاقة مع الآب. في هذه العلاقة الجديدة علينا أن نُظهر أفعالاً تدلُّ على الطبيعة الإلهية, ولذلك فإننا مدعوون لأن نسلك في رحمةٍ نحو كل من يُخطئ إلينا. إن أخفقنا في القيام بذلك, فإننا سنُؤدَّب بشكل صارم لكي تُحفظ سيادة الله في عائلته الخاصة.
جوانب مختلفة من المغفرة: إن كنا لا نميز الجوانب المختلفة من الصفح الموضوعة أمامنا من خلال كلمة الله, فعلى الأرجح أننا نكون في تشوشٍ فكري عظيم بسبب معاملات الله التأديبية معنا بعد اهتدائنا إلى المسيح. عندما يخلّصنا فإنه يغفر لنا بشكل كامل وإلى الأبد, وسوف لن يتذكر, كقاضٍ, خطايانا من جديد (عبرانيين ١٠: ١٧). ولكن كأولاد له, علينا أن نعترف بخطايانا كلما سقطنا, وهو يعطينا مغفرةً مجدِّدةً وشافيةً (١يوحنا ١: ٩). إن السيادة الأكيدة تنتج عن ذلك, وتتبع إخفاقاتنا هذه, التي لا تُفسر على أنها إشارة إلى أن الله لا يغفر, بل إلى أنه سيعرّفنا من خلال التأديب على شناعة الخطيئة في نظرهِ (٢ صموئيل ١٣, ١٤). إذ غُفِرت خطايانا, فإن علينا أن نُصفح عن إخوتنا الذين يُخطئون إلينا (كولوسي ٣: ١٣). إن أعضاء الكنيسة الذين ينتهكون مبادئ الله البارة يجب أن يتأدّبوا, ولكن يُغفر لهم عندما يُظهرون بالبرهان توبتهم (الآية ١٧؛ ٢ كورنثوس ٢: ٧).
درجات الإثم: إن تعليمَ ربِّنا يُرينا بشكلٍ واضح أن هناك درجات متفاوتة إثمية الخطيئة. إن كلَّ خطيئةٍ هي شرٌ في عينيّ الله. ولكن كلما عَظُمَ نور وامتيازات المرء, كلما ازدادت مسؤوليته. وبالتالي, إن خطيئة ذاك الذي يعرف كلمة الله وقد تمتع لسنوات بالصحبةِ والشركةِ مع الرب تكون أسوأ بكثير من تلك التي لذاك الذي كان جاهلاً نسبياً وغيرَ ناضجٍ روحياً. ودرجات القصاص تتباين تبعاً لذلك. انظر لوقا ١٢: ٤٧، ٤٨؛ يوحنا ١٣: ١٧؛ رومية ٢: ١٢؛ يعقوب ٤: ١٧؛ ١ يوحنا ٥: ١٧.
وفيما يلي أمثلة نرى بها سيادة الله وحكمه:
يعقوب- خدعَ أباه (تك ٢٧: ١٨- ٢٤)؛ فخدعه أبناؤُه (تك ٣٧: ٣١- ٣٥).
موسى- أخفق في تمجيد الله في مَرِيبَةَ (عدد ٢٠: ١١)؛ فلم يسمح له الله بالدخول إلى الأرض (عدد ٢٠: ١٢).
داود- أخفق من ناحية زوجة أوريا (٢ صموئيل ١١: ١- ٢٦)؛ ولم يُفَارِقُ السَّيْفُ بيتَه (٢ صموئيل ١٢: ٩، ١٠).
أهل كورنثوس- أخزوا الله في مائدة الرب (١ كو ١١: ٢٠- ٢٢)؛ فنجم عن ذلك مرض وموت كثيرين (١ كو ١١: ٣٠).