الأصحاح ٢٠
معايير الملكوت
هذا الأصحاح يُفتَتح بمَثَلٍ عن الملكوت مخصَّص ليُظهِرَ أن خدمة الرّب ستُكافأ بحسب الفرص التي استُغِلّت، وليس بحسب مقدار العمل المُنجَز.
"«فَإِنَّ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ يُشْبِهُ رَجُلاً رَبَّ بَيْتٍ خَرَجَ مَعَ الصُّبْحِ لِيَسْتَأْجِرَ فَعَلَةً لِكَرْمِهِ فَاتَّفَقَ مَعَ الْفَعَلَةِ عَلَى دِينَارٍ فِي الْيَوْمِ وَأَرْسَلَهُمْ إِلَى كَرْمِهِ. ثُمَّ خَرَجَ نَحْوَ السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ وَرَأَى آخَرِينَ قِيَاماً فِي السُّوقِ بَطَّالِينَ فَقَالَ لَهُمُ: اذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضاً إِلَى الْكَرْمِ فَأُعْطِيَكُمْ مَا يَحِقُّ لَكُمْ. فَمَضَوْا. وَخَرَجَ أَيْضاً نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ وَالتَّاسِعَةِ وَفَعَلَ كَذَلِكَ. ثُمَّ نَحْوَ السَّاعَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ خَرَجَ وَوَجَدَ آخَرِينَ قِيَاماً بَطَّالِينَ فَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا وَقَفْتُمْ هَهُنَا كُلَّ النَّهَارِ بَطَّالِينَ؟ قَالُوا لَهُ: لأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْجِرْنَا أَحَدٌ. قَالَ لَهُمُ: اذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضاً إِلَى الْكَرْمِ فَتَأْخُذُوا مَا يَحِقُّ لَكُمْ. فَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ قَالَ صَاحِبُ الْكَرْمِ لِوَكِيلِهِ: ادْعُ الْفَعَلَةَ وَأَعْطِهِمُِ الأُجْرَةَ مُبْتَدِئاً مِنَ الآخِرِينَ إِلَى الأَوَّلِينَ. فَجَاءَ أَصْحَابُ السَّاعَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ وَأَخَذُوا دِينَاراً دِينَاراً. فَلَمَّا جَاءَ الأَوَّلُونَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَكْثَرَ. فَأَخَذُوا هُمْ أَيْضاً دِينَاراً دِينَاراً. وَفِيمَا هُمْ يَأْخُذُونَ تَذَمَّرُوا عَلَى رَبِّ الْبَيْتِ قَائِلِينَ: هَؤُلاَءِ الآخِرُونَ عَمِلُوا سَاعَةً وَاحِدَةً وَقَدْ سَاوَيْتَهُمْ بِنَا نَحْنُ الَّذِينَ احْتَمَلْنَا ثِقَلَ النَّهَارِ وَالْحَرَّ! فَأجَابَ وَقَالَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ: يَا صَاحِبُ مَا ظَلَمْتُكَ! أَمَا اتَّفَقْتَ مَعِي عَلَى دِينَارٍ؟ فَخُذِ الَّذِي لَكَ وَاذْهَبْ فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعْطِيَ هَذَا الأَخِيرَ مِثْلَكَ. أَوَ مَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَفْعَلَ مَا أُرِيدُ بِمَا لِي؟ أَمْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةٌ لأَنِّي أَنَا صَالِحٌ؟ هَكَذَا يَكُونُ الآخِرُونَ أَوَّلِينَ وَالأَوَّلُونَ آخِرِينَ لأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ»".
بما أن هذا هو تشبيه لملكوت السموات بشكله الرمزي, لا بد أن رب البيت يمثل الرب نفسه. وإن الفَعَلة أو الكرامين هم أولئك الذين يسمعون دعوته للخدمة في حقل الحصاد الكبير.
مع هؤلاء الذين تم تشغيلهم في البداية كان السيد قد اتفق معهم على دينار- أي دينار في اليوم. بينما يبدو هذا المبلغ ضئيلاً جداً, إلا أنه كان الأجر العادي لعمل نهار في ذلك الوقت, وكان للدينار قوة شرائية أعظم بكثير مما عليه الآن. وبالتالي فإن الأجر المُتّفَق عليه كان عادلاً بشكل كبير وكان هذا أعلى ما يمكن أن يتوقع هكذا عمّال أن يتلقّوه.
إذ انقضى النهار ذهب الوكيل إلى السوق في أربع مناسبات أخرى. في الساعة الثالثة والسادسة والتاسعة وحتى الحادية عشر, والتي يقابلها الساعة ٩ صباحاً, ١٢ ظهراً, ٣ بعد الظهر, ٥ بعد الظهر- أي قبل انقضاء النهار بساعة. وفي كل مرة كان يستأجر أي عمال يجدهم متوفّرين, قائلاً لهم أنه سيدفع لهم ما يستحقونه لقاء العمل الذي ينجزونه. لاحظوا السبب الذي أعطاه عمال الساعة الحادية عشر عن كونهم لم يُستَخدموا: ما من أحد استأجرهم. لقد كانوا مُستعدّين للعمل ولكن الفرصة لم تأتِ إليهم. وعندما جاءت الفرصة تجاوبوا في الحال مع الطلب بأن يذهبوا ويعملوا في الحقل.
بعد عناء النهار دُعي الجميع لينالوا ما كان يُعتَبر حقاً لهم. ولدهشة كل الجماعة فإن أولئك الذين عملوا قبل ساعة قد تلقّوا أجرة يوم كامل, وأولئك الذين في كل مجموعة قد تلقوا نفس الأجر. لقد كان يعتقد أولئك العمال الذين عملوا طوال النهار كأمرٍ مُسلَّم به أنهم سيتلقّون أجراً أكبر, وعندما أُعطي لهم دينارٌ واحدٌ فقط أبدوا تذمّراً على أساس أنهم تحمّلوا عبء حرّ النهار؛ بينما أولئك الذين جاؤوا مُتَأخرين قد جُعِلوا مُساوين لهم. لقد تجاهلوا حقيقة أنهم قد قَبِلوا الاتفاق بأن يعملوا لقاء دينار في اليوم. صاحب الكرم أوضحَ لهم ذلك, مؤكداً على أنه ليس من خطأ ارتُكِب في حقهم إذ أنه استوفى الجانب المطلوب منه من الاتفاقية. وكانت له الحرية بأن يكافئ الآخرين كما يشاء. لقد دفع لهم بحسب حاجاتهم وبحسب استعدادهم ليغتنموا الفرصة الأولى التي جاءت إليهم.
المبدأ واضح ويتم التأكيد عليه بالكلمات: "هَكَذَا يَكُونُ الآخِرُونَ أَوَّلِينَ وَالأَوَّلُونَ آخِرِينَ لأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ". إن جميع مَن انتبهوا إلى الدعوة هم مختارون, ولذلك ليس من أن أحدٍ يستطيع أن يلوم المُستخدِم إذا لم يُعطَوا فرصة الخدمة.
الدرس واضح بالنسبة لنا. كلُّ تلميذ للمسيح يُتوقَّع منه أن يسلك حسب ما يُطلَب منه وينتبه إلى دعوته للخدمة. وفي يوم الاستعلان كل إنسان سوف يُكافَأ على عمله بحسب طبيعته وليس فقط بحسب الزمن الذي قضاه فيه. يسوع نفسه لم يَعِش طويلاً, ولكنه عاش بعمق؛ وفي سنيه الثلاث ونصف من الخدمة أنجزَ أكثر بكثير مما يستطيع أي إنسان آخر أن ينجزه طوال حياته المديدة. وفي هذا قلَّدهُ كثيرون من أتباعه.
إنه لأمرٌ محزنٌ أن نلاحظ ذلك, فحتى بعد سماع هذا المثل, كان التلاميذ لا يزالون مهتمّين بمَن سيكون الأعظم في الملكوت.
"وَفِيمَا كَانَ يَسُوعُ صَاعِداً إِلَى أُورُشَلِيمَ أَخَذَ الاِثْنَيْ عَشَرَ تِلْمِيذاً عَلَى انْفِرَادٍ فِي الطَّرِيقِ وَقَالَ لَهُمْ: «هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى الأُمَمِ لِكَيْ يَهْزَأُوا بِهِ وَيَجْلِدُوهُ وَيَصْلِبُوهُ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ». حِينَئِذٍ تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ أُمُّ ابْنَيْ زَبْدِي مَعَ ابْنَيْهَا وَسَجَدَتْ وَطَلَبَتْ مِنْهُ شَيْئاً. فَقَالَ لَهَا: «مَاذَا تُرِيدِينَ؟» قَالَتْ لَهُ: «قُلْ أَنْ يَجْلِسَ ابْنَايَ هَذَانِ وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِكَ وَالآخَرُ عَنِ الْيَسَارِ فِي مَلَكُوتِكَ». فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَال: «لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مَا تَطْلُبَانِ. أَتَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا الْكَأْسَ الَّتِي سَوْفَ أَشْرَبُهَا أَنَا وَأَنْ تَصْطَبِغَا بِالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا؟» قَالاَ لَهُ: «نَسْتَطِيعُ». فَقَالَ لَهُمَا: «أَمَّا كَأْسِي فَتَشْرَبَانِهَا وَبِالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا تَصْطَبِغَانِ. وَأَمَّا الْجُلُوسُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ يَسَارِي فَلَيْسَ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ إِلاَّ لِلَّذِينَ أُعِدَّ لَهُمْ مِنْ أَبِي». فَلَمَّا سَمِعَ الْعَشَرَةُ اغْتَاظُوا مِنْ أَجْلِ الأَخَوَيْنِ. فَدَعَاهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ: «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ وَالْعُظَمَاءَ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ. فَلاَ يَكُونُ هَكَذَا فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ عَظِيماً فَلْيَكُنْ لَكُمْ خَادِماً وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ أَوَّلاً فَلْيَكُنْ لَكُمْ عَبْداً كَمَا أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ»" (الآيات ١٧- ٢٨).
"صَاعِداً إِلَى أُورُشَلِيمَ". إن خدمة التعليم والشفاء التي كان يقوم بها يسوع كانت تأتي إلى نهايتها بشكل مُتسارع. لقد ثبَّتَ وجهه الآن ليمضي إلى أورشليم, حيث سيقدّم أسمى ذبيحة من أجلنا.
"يَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ". إن قادة الدين, وقد أعمَتْهم أنانيتهم وبرّهم الذاتي, كانوا على وشك أن يضيفوا إلى خطاياهم الكثيرة خطيئة جديدة وهي تسليم يسوع للموت على الصليب. هكذا يسلك مُناصري التديّن المجرّد, بمعزل عن الحياة الروحية.
"وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ". أيضاً وأيضاً يُخبرنا الرب مسبقاً وبشكل قطعي مُؤكَّد عن قيامته في اليوم الثالث, ومع ذلك بدا وكأن لهذا النَبَأ تأثير أو انطباع ضعيف في ذهن تلاميذه.
"أُمُّ ابْنَيْ زَبْدِي". أي, أمُّ يعقوب ويوحنا. لقد كان واضحاً أنها كانت تتوقع من يسوع أن يعلن نفسه على أنه المسيّا الموعود الملك في أورشليم وكان لديها طموح من أجل ولديها لكي يكونا في أفضل المناصب في الحكومة الجديدة. ويخبرنا مرقس على أن يعقوب ويوحنا بأنفسهما كانا مُتَّفقَين معها في ذلك المطلب (١٠: ٣٥).
"وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِكَ وَالآخَرُ عَنِ الْيَسَارِ". لقد شعر بأن ولديها كانا يستحقان هكذا اعتراف خاص وتميُّز خاص, كمثل كثير من الأمّهات, اللواتي سيسعون لدفع أولادهنَّ إلى الأمام, لئلا ينال آخرون صفوة المناصب ويتم هكذا تجاهلهم.
"لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مَا تَطْلُبَانِ". لقد كان سيُرفَض ويُصلَب. فأن يشاركاه يعني أن يسلكا نفس الطريق- فيصيرا موضع سخرية وهُزء ورفض وكره أكثر من أن ينالا التكريم والتعظيم والمديح.
"أَتَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا الْكَأْسَ الَّتِي سَوْفَ أَشْرَبُهَا أَنَا وَأَنْ تَصْطَبِغَا بِالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا؟". سيكون عليهما أن يشاركا في كأس ألمه وأن يشاركا في معموديته إلى الموت. وبالنسبة إلى الاعتراف لاحقاً, عندما سيملك في البر, فإن الآب هو الذي يكون قد عيّنَ مَن يكون معه.
كأس معمودية المسيح: لقد أشار يسوع إلى كأس الرفض والكراهية التي كان سيشربها, ومعمودية الموت التي كان سيحتملها. وإلى حدٍّ ما يشاركه جميع تلاميذه في كليهما. هناك معنى آخر لن يمرّ به سواه. فكأس الدينونة التي شربها حتى الثمالة من أجلنا, ومعمودية الغضب الإلهي على الخطيئة التي احتملها على الصليب كانت له وحده.
هؤلاء الذين أُعِدَّ لهم: إن ملكوت الله المُعتَلَن على الأرض سيكون المجال الذي سيملك قدّيسوه معه فيه. في ذلك الملكوت كل واحد سيُكافَأ بحسب مدى تكرّسه خلال زمن احتكاكه مع ربنا في فترة رفض الناس له. ولهم كان الآب قد قرَّرَ إعطاء الأسبقية في يوم المجد ذاك.
"فَلَمَّا سَمِعَ الْعَشَرَةُ اغْتَاظُوا مِنْ أَجْلِ الأَخَوَيْنِ". رغم أن بقية التلاميذ قد غضبوا من تهوّر هذين الاثنين, إلا أنه كانت لهم نفس الطموحات. لقد شعروا بأن تلك كانت محاولة من التلميذين ليسبقاهم إلى إحراز أفضل الأماكن والمناصب.
"وَالْعُظَمَاءَ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ". في الممالك الأرضية, يستولي الناس على السلطة ويكرّمهم أولئك الذين هم أدنى منهم بسبب قدرتهم على أن يحكموا وعلى أن يُخضعوا الآخرين إلى إرادتهم. ولكن العكس تماماً هو في ملكوت الله. في العالم, الإنسان العظيم هو صاحب الإرادة المُصمِّمة والمبادرة الفعالة الذي يستطيع أن يتغلّب على إخوته البشر. ولكن في ملكوت المسيح, العَظَمة الحقيقية تتميّز بالاتضاع الشديد والاستعداد لخدمة الآخرين أكثر من أسياد عليهم.
"فَلاَ يَكُونُ هَكَذَا فِيكُمْ". في الملكوت السماوي, إن الاعتدال والخنوع والخدمة غير الأنانية هي التي لها الأولوية. أن تُفضِّل الآخرين على ذاتك, وأن تخُدمَ برحمة أكثر من أن تسود بقوة, هو أن تتمثل بروح قائدنا الملكيّ. ليس من مكان لأبّهةٍ أرضية أو مجد دنيويّ في حلقة أتباع المسيح. أن تسعى وراء تقدُّمٍ شخصيّ أو أن تحاول أن تفرضه على إخوتك هو أمر مناقض تماماً لروح ذاك الذي صار خادماً للجميع, رغم أنه خلق الكون. روح دِيُوتْرِيفِسَ (٣ يوحنا ٩) بعيدة جداً عن روح المسيح ويجب أن يتجنبها كل خدامه, أما روح أبفروديتس (فيلبي ٢: ٢٥- ٢٩) فهي مثال يجدر بالجميع أن يحاكوه.
"مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ عَظِيماً". حيث هناك تنافُس على ألا تكون الأعظم بل الأدنى, وألا تكون الأعلى بل الأقل شأناً؛ حيث الخدمة استثنائية والطموح المادي مُستَنكَر, فهناك روح المسيح تتجلى ومبادئ ملكوته تظهر وتتعاظم.
"يَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ". يخبرنا ربنا هنا تماماً عن سبب مجيئه إلى العالم تماماً. فهو لم يترك المجد الذي كان له مع الآب قبل أن تَكَوَّن العالم (يوحنا ١٧: ٥) لكي يسعى نحو مجد أعظم في هذا العالم. لقد جاء ليَخدِمَ البشرية, وهذا, ليس في خدمته لحاجاتهم المؤقتة أوحتى الروحية يوماً فيوماً, بل أيضاً ليفتدينا من الخطيئة وقصاصها ببذل حياته عنّا, وبموته موتاً كفّارياً, ليصنع كفارة استرضائية عن خطايانا (١ يوحنا ٤: ١٠).
لقد أعطى ربنا يسوع المسيح للبشرية نموذجاً جديداً. لقد أرانا أن الإنسان العظيم حقاً هو ذاك الذي يسعى لا لمصلحته الذاتية, بل لبركة الآخرين. وحتى هنا على الأرض, الحياة الغَيريّة هي الأكثر إرضاءً. بالنسبة لباروخ الذي في القديم جاءت الرسالة تقول: "وَأَنْتَ فَهَلْ تَطْلُبُ لِنَفْسِكَ أُمُوراً عَظِيمَةً؟ لاَ تَطْلُبُ!" (إرميا ٤٥: ٥). هذا يتناقض مع الغرور وتوكيد الذات الذي عند الإنسان الطبيعي: " يَحْمَدُونَكَ إِذَا أَحْسَنْتَ إِلَى نَفْسِكَ" (المزمور ٤٩: ١٦). ولكن بعد ما يُقال ويُفعَل تبقى الحقيقة هي "طَلَبُ النَّاسِ مَجْدَ أَنْفُسِهِمْ ثَقِيلٌ" (أمثال ٢٥: ٢٧).
إن ربنا, وبسبب طبيعته ذاتها, كان له كل الحق لأن يؤكّد نفسه وأن يسعى لكي ينال الاعتراف والإكرام من البشر الذين خلقهم, ولكنه أخذ مكانة العبد الخادم للجميع. لقد اتّضعَ فصار إنساناً, ولكن هذا ما كان كافياً. فكإنسان, اتّخذ مكانة الخادم, وأخيراً بذل نفسه إلى الموت من أجلنا بذبيحته الكفارية على الصليب, لكيما يفتدينا لله. لقد عظَّمَ كرامة الخدمة وأعطى مثلاً عنها وعن نكران الذات بطريقة تقدم معياراً جديداً كليّةً للعظمة. لقد انتقدَ غرور وكبرياء كل المجد الأرضي (أشعياء ٢٣: ٩) وأظهرَ أنه مجرّد أنانية, ولذلك فإنه كان يُعارض الله. أن تخدِمَ, ليس بدافع كسب حالي حاضر, بل لتبارك وتساعد الآخرين, وهكذا لتُعبّرَ عن امتنانك لله لأجل نعمته ورحمته ومحبته التي منحنا إياها مجاناً في المسيح يسوع, يجب أن يكون الطموح الجدير بالثناء لكل الذين يعرفونه كمُخلِّص وربّ.
إن الأشياء التي يُقدّرها الناس عالياً غالباً ما تكون ضد فكر الله كلياً (لوقا ١٦: ٥). إن الإنسان الطموح النشيط المُثابر, الذي يتقدم دافعاً الجميع, ويسعى ليتفوّق على زملائه, والذي لديه الإعجاب بأناس هذا العالم, يَفترضُ أن الكسب المادي الحالي هو أعظم شيء يجب أن يسعى إليه الإنسان. ولكن يسوع عَلَّمنا أن الودعاء هم الذين يرثون الأرض (متى ٥: ٥). إن "الودعاء جداً", كما سمّاهم أحدهم, الذين يرضون بأن يُتَجاهلون وألا يلاحظهم الناس, بل أن ينالوا رضا الله هم أعظم شأناً من الجميع في نظر الرب؛ وأولئك هم الذين يتغلبون على العالم بإيمانهم (١ يوحنا ٥: ٤). إنهم يستطيعون أن يتجاوزوا المنافع المادية الحالية, لأنهم يعرفون أنهم سيجدون مكافأة أكيدة مضمونة عند كرسي دينونة المسيح.
إن الرب وتلاميذه كانوا الآن في طريقهم نحو أورشليم. لقد دخلوا مدينة أريحا. وهناك, كما يخبرنا لوقا, التقى يسوع بزكّا, الذي كانت كل حياته قد تغيَّرتْ إذ جاء إلى معرفة المسيح؛ وهناك حصل الأعميان على الإبصار.
"وَفِيمَا هُمْ خَارِجُونَ مِنْ أَرِيحَا تَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ وَإِذَا أَعْمَيَانِ جَالِسَانِ عَلَى الطَّرِيقِ. فَلَمَّا سَمِعَا أَنَّ يَسُوعَ مُجْتَازٌ صَرَخَا قَائِلَيْنِ: «ﭐرْحَمْنَا يَا سَيِّدُ يَا ابْنَ دَاوُدَ». فَانْتَهَرَهُمَا الْجَمْعُ لِيَسْكُتَا فَكَانَا يَصْرَخَانِ أَكْثَرَ قَائِلَيْنِ: «ﭐرْحَمْنَا يَا سَيِّدُ يَا ابْنَ دَاوُدَ». فَوَقَفَ يَسُوعُ وَنَادَاهُمَا وَقَالَ: «مَاذَا تُرِيدَانِ أَنْ أَفْعَلَ بِكُمَا؟» قَالاَ لَهُ: «يَا سَيِّدُ أَنْ تَنْفَتِحَ أَعْيُنُنَا!» فَتَحَنَّنَ يَسُوعُ وَلَمَسَ أَعْيُنَهُمَا فَلِلْوَقْتِ أَبْصَرَتْ أَعْيُنُهُمَا فَتَبِعَاهُ" (الآيات ٢٩- ٣٤).
إن القارئ العادي قد يرى تعارضاً بين الروايات الواردة هنا والتي عند مرقس وتلك التي عند لوقا. يخبرنا الأخير أنه "لَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ أَرِيحَا كَانَ أَعْمَى جَالِساً علَى الطَّرِيقِ يَسْتَعْطِي" (لوقا ١٨: ٣٥), بينما نجد أن متى ومرقس يخبراننا بأن هذه الحادثة قد جرَتْ وهم يغادرون أريحا. ليس من تشويش, على كل حال , إذا ما فهمنا أن لوقا كان يخبرنا أن برتيماوس كان على الطريق يستعطي عندما اقترب يسوع من أريحا, ولكن الإنجيليَّين الآخرين يعلماننا أن الشفاء الحقيقي قد حدث وهو يغادر تلك المدينة, بعد أن زار منـزل زكّا.
ما يبدو ظاهرياً على أنها تناقضات في روايات الإنجيل تجعلنا نُؤكِّد أنه ليس هناك من تنسيق أو تأثُّر بين مُختَلَف الكُتّاب (الإنجيليين), بل إن كلاً منهم قد روى الحادثة بحسب المعلومات التي كان قد حصل عليها وكما أرشده الروح القدس. إنه مبدأٌ معروف تستخدمه المحاكم في أخذ شهادات الشهود عندما يكون هناك عدة شهود فإن رأت المحكمة أن الشهود المختلفين يستخدمون تماماً نفس اللغة ونفس الكلمات فهذا دليلٌ واضح على أن كان هناك تشاور واتفاق بينهم أو أن محامٍ ما أعطاهم تعليمات بما يجب أن يقولوه. نفس القصة قد تُسرَد بفروقات بسيطة فيما بينها, وعند التحرّي الكامل عن الموضوع, فإننا نجد أنها لا تتناقض مع بعضها البعض على الإطلاق بل تؤكد وجهة نظر الشخص الذي يقدّم الشهادة.
يخبرنا متى هنا أن هناك رجلان أعميان يجلسان على قارعة الطريق؛ بينما مرقس ولوقا يتحدثان عن أعمى واحد فقط, وذلك الشخص يُدعى برتيماوس. لقد كان هناك اثنان. لقد أرشد الروح القدس مرقس بدون أن يكون هناك مجال للخطأ في ذلك, ولكن من الواضح جداً أن برتيماوس كان الشخص الأقوى من بين الاثنين, وهو الذي يسترعي الانتباه ويتم التركيز عليه في روايتي مرقس ولوقا.
إذ نعلم أن يسوع كان ماراً, فإن هذين الأعميين صرخا قائِلَين: "«ﭐرْحَمْنَا يَا سَيِّدُ يَا ابْنَ دَاوُدَ»". لقد كان هذا اعتراف منهما بمسيانيّته. لقد كانوا يعتقدون أنه بالحقيقة ابن داود الموعود الذي سيعطي البصر للعميان ويقوم بأعمال معجزيّة أخرى.
ونعلم من الإنجيل أن الجموع قد وبَّخَتْهُما, طالبة منهما السكوت والهدوء, لئلا ينـزعج يسوع بهكذا شخصين بائسَين مشرَّدَين تعيسَين. ولكنهما رفضا أن يسكتا وارتفع صوتهما أكثر وهما يطلبان من يسوع العون الذي هما في أمس الحاجة إليه. فوقف ودعاهما إليه وسألهما بحنوّ: "«مَاذَا تُرِيدَانِ أَنْ أَفْعَلَ بِكُمَا؟»". لقد كان يعرف تماماً ما كانا يريدان, ولكنه كان دائماً يرغب أن يخبره الناس بما في قلوبهم. وبدون أي تردد فقد أجابا: "«يَا سَيِّدُ أَنْ تَنْفَتِحَ أَعْيُنُنَا!»". وبمحبته غير المحدودة منحهما يسوع ما يسألان: فَلمسَ أعينهما, كما نرى من القصة, وفي الحال حصلا على الإبصار, وتبعاه في الطريق. بينما العظماء والمُبَجَّلين في إسرائيل رفضوه, نجد أن هذين الاثنين, اللذين كانا أعميين منذ سنين ويتسوّلان قد عرفاه على أنه الملك الحقّ لإسرائيل وأقرّا به هكذا بكل سرور.