الأصحاح ٢١
الملك في أورشليم
إن ما يُسمّى الدخول الظافر لربنا إلى أورشليم- في بداية الأسبوع الأخير من خدمته الأرضية، التي ستبلغ ذروتها بموته ودفنه يليهما قيامته المجيدة- كان تحقيقاً جزئياً للمزمور ١١٨، حيث يُصوَّر على أنه الحجر الذي رُفِض، والذي صار في نهاية الأمر رأس الزاوية؛ والذي قُبِل مع ذلك في بداية الأمر من قِبَل بضعة من الناس الذين هتفوا: "أُوصَنَّا" ("خلّص الآن")، و"مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ" (مز ١١٨: ٢٥، ٢٦). ولكن بدلاً من تأسيس الملكوت عندئذ، نجد أن الأمر التالي هو صلبه، عندما قُيِّدَ كمثل حيوانات الذبائح، إلى قرون المذبح (مز ١١٨: ٢٧).
مما لا ريب فيه أن أولئك الذين رحّبوا فيه داخلاً إلى أورشليم، راكباً على أتان نازلاً على منحدرات جبل الزيتون وإلى المدينة المقدسة، قد فكّروا أتن ساعة انتصاره قد أتت، واعتقدوا أنه كان على وشك أن يفرض سلطته الملكية ويبدأ حكمه السعيد الكريم على إسرائيل والأمم الخاضعة له، جاعلاً من أورشليم مركز عالم متجدّد. كل شيء يحدث في الوقت الذي يحدّده الله، ولكن عليه عملاً آخر لينجزه أولاً. وهكذا فإن دخول المدينة وسط هتاف التصفيق والاستحسان الذي قابله به عامة الناس كان تمهيداً لموته على الصليب الروماني، حيث كان عليه أن يصير كفّارة استرضائية (وليس فقط مصالحة) عن خطايا الشعب (عبرانيين ٢: ١٧). وكما رأينا، بالنسبة له، ما كان ليمكن أن يكون هناك ملكوت بدون الصليب.
لا شكَّ أن الترحيب الذي تلقّاه كان صادقاً. وكلماته التي قالها رداً على انتقاد رؤساء الكهنة والكتبة تجعل ذلك واضحاً (متى ٢١: ١٦). ولكن أولئك الذين ابتهجوا هكذا بمجيئه إليهم كانوا قليلي الإدراك ليعرفوا حقيقة الأمور، وما كانوا يفهمون نبوءات الأنبياء: كيف كان لا بدّ للمسيح أولاً أن يُرفَض وأن يعاني أشياء كثيرة قبل أن يمكنه أن يدخل إلى مجده (لوقا ٢٤: ٢٥- ٢٧).
"وَلَمَّا قَرُبُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ وَجَاءُوا إِلَى بَيْتِ فَاجِي عِنْدَ جَبَلِ الزَّيْتُونِ حِينَئِذٍ أَرْسَلَ يَسُوعُ تِلْمِيذَيْنِ قَائِلاً لَهُمَا: «ﭐِذْهَبَا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أَمَامَكُمَا فَلِلْوَقْتِ تَجِدَانِ أَتَاناً مَرْبُوطَةً وَجَحْشاً مَعَهَا فَحُلاَّهُمَا وَأْتِيَانِي بِهِمَا. وَإِنْ قَالَ لَكُمَا أَحَدٌ شَيْئاً فَقُولاَ: الرَّبُّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِمَا. فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُهُمَا». فَكَانَ هَذَا كُلُّهُ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ القَائِل: «قُولُوا لاِبْنَةِ صِهْيَوْنَ: هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِيكِ وَدِيعاً رَاكِباً عَلَى أَتَانٍ وَجَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ». فَذَهَبَ التِّلْمِيذَانِ وَفَعَلاَ كَمَا أَمَرَهُمَا يَسُوعُ وَأَتَيَا بِالأَتَانِ وَالْجَحْشِ وَوَضَعَا عَلَيْهِمَا ثِيَابَهُمَا فَجَلَسَ عَلَيْهِمَا. وَﭐلْجَمْعُ الأَكْثَرُ فَرَشُوا ثِيَابَهُمْ فِي الطَّرِيقِ. وَآخَرُونَ قَطَعُوا أَغْصَاناً مِنَ الشَّجَرِ وَفَرَشُوهَا فِي الطَّرِيقِ. وَﭐلْجُمُوعُ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا وَالَّذِينَ تَبِعُوا كَانُوا يَصْرَخُونَ قَائِلِين: «أُوصَنَّا لاِبْنِ دَاوُدَ! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! أُوصَنَّا فِي الأَعَالِي!». وَلَمَّا دَخَلَ أُورُشَلِيمَ ارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا قَائِلَةً: «مَنْ هَذَا؟» فَقَالَتِ الْجُمُوعُ: «هَذَا يَسُوعُ النَّبِيُّ الَّذِي مِنْ نَاصِرَةِ الْجَلِيلِ»" (الآيات ١- ١١).
كل خطوة قام بها الرب يسوع المسيح، وهو يسير عبر هذا العالم، كانت في توافق كامل تام مع الكلمة النبوية ولذلك ففي إطاعةٍ لإرادة الآب. إذ دخل أورشليم، كان يعرف أن الصلب، وليس الملكوت هو الذي سيكون نصيبه في المستقبل القريب المباشر. ولكن ما من شيء كان يمكن أن ينحّيه عن طريق الخضوع الكامل لذاك الذي أرسله. لقد حلَّى كل حالة اتّخذها. كمالاته التي لا نظير لها كانت متجلّية في كل ما فعله. لقد قبل إطراء الأطفال والكبار، الذين هتفوا له كابن داود، بنفس الرحمة والنعمة التي مكّنته من أن يحتمل النقد البارد واللاذع من قِبَل أعدائه. بالنسبة له، كان الهدف الأسمى لحياته هو أن يمجّد الآب.
كم كان قلبه متأثراً وهو يدنو من المدينة- التي كانت تُدعى مقدسة يوماً، والتي أصبحت الآن مُلوّثة بالخطيئة ومتميّزة بشكل من التقوى الذي ليس له فاعلية. لقد أتت الساعة التي سيُظهر نفسه كملك، واستعداداً لذلك أرسل اثنين من تلاميذه إلى قرية قريبة ليجلبوا أتاناً وابنها.
من الواضح أن مالكي تلك البهائم كانوا من بين أولئك الذين كانوا يعرفون يسوع ويؤمنون بما كان يقوله، لأنهم أقرّوا في الحال بحقّه في أن يأخذ الحيوانين ليستخدمهما في هذا الوقت.
كان زكريا قد تنبأ بأن الملك سيأتي إلى مدينته الملكية وهو "رَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ" (زكريا ٩: ٩). كل ذلك تحقق حرفياً إذ أن يسوع انحدر إلى جبل الزيتون وإلى أورشليم راكباً على ابن الأتان غير المُروّض. وكان التلاميذ قد نشروا بعضاً من ثيابهم عليه كسرج، وأجلسوا الرب يسوع المسيح عليه. إنه أمر ذو مغزى أن هذا المخلوق المتواضع كان خاضعاً له- لخالقه- أكثر من أولئك الناس الذين جاء ليخلّصهم.
"وَﭐلْجَمْعُ الأَكْثَرُ فَرَشُوا ثِيَابَهُمْ فِي الطَّرِيقِ". لقد كان مشهداً مشرقياً حقّاً. بعض من الحشد فرشوا الطريق أمامه بثيابهم، وآخرون قطعوا أغصان نخيل وفرشوها في الطريق التي كان سيسلك فيها، مُعلنين بذلك أنه الملك الشرعيّ الحق عليهم.
"أُوصَنَّا لاِبْنِ دَاوُدَ!" هذا الهتاف والكلمات التي تلته، كما أشرنا لتوّنا، كانت اقتباسات من مزمور الانتصار، أي المزمور ١١٨، والذي يُعلن فيها رعيّته الملكيّون أنه ملكهم "الابن العظيم لداود العظيم". وإن التطبيق الكامل للمزمور ينتظر مجيئه الثاني، كما كان هو نفس قد تنبأ لاحقاً (متى ٢٣: ٣٩).
"ارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا قَائِلَةً: مَنْ هَذَا؟". إن الغناء والابتهاج كانا قد سُمِعا في كل أرجاء أورشليم، وعامة الشعب، التي تملّكها العجب، كانوا يتساءلون عمن يكون ذاك الداخل إلى مدينتهم والذي لاقى كل هذا الاحتفاء والترحيب. لقد كان هذا الحادث تكرار لذاك الذي حدث قبل قرون مضت، عندما رحّبت المدينة بسليمان ملكاً (الملوك الأول ١: ٣٨- ٤٠). ذاك الذي لم يكن سليمان سوى مجرّد رمز له قد صار الآن في وسطهم؛ ومع ذلك فكثيرون لم يعرفوه.
"«هَذَا يَسُوعُ النَّبِيُّ الَّذِي مِنْ نَاصِرَةِ الْجَلِيلِ»". بإيمان مُتَّقد، أعلنت الحشود المُبتهجة يسوع نبياً. لا بدّ أن معظمهم كانوا جليليين وقد جاؤوا وهم مقتنعين أنه كان فعلاً كما كان يزعم تماماً.
إن الأولاد والآخرين الذين رحّبوا بيسوع بصخب شديد كانوا يسلكون بتوافق كامل مع كلمة الله عندما اعترفوا به الابن الحقيقي لداود الذي سيملك في صهيون. وكما في مناسبات أخرى كثيرة جداً، برهن رؤساء الكهنة والكتبة، رغم أنهم على معرفة بحرفية الكلمة، برهنوا على أنهم أنفسهم بعيدين عن الواجهة كلياً في هذا الاحتفال الخطير.
نبوءة زكريا: من الشيّق أن تُلاحظوا كيف يرتبط مجيئا ربنا معاً في هذا المقطع (زكريا ٩: ٩، ١٠). في الآية ٩ نرى الملك راكباً الأتان داخلاً مبنى البرلمان الأرضيّ، مُقدِّماً نفسه للناس كحاكم حقٍّ شرعي عليهم. ولكن رغم أن الآية ١٠ تتبع ذلك على نفس النحو تقريباً، إلا أن الأحداث الموصوفة فيها لن تتحقق بشكل كامل إلى أن يأتي ثانية. فعندها سيصنع سلاماً بين الأمم، وسلطانه سيسود على كل الأرض.
المزمور ١٨: هذا المزمور يتناول بشكل كبير ما سيحدث في الوقت الذي سيظهر فيه الرب لخلاص بني إسرائيل، عندما ستكون كل محنهم قد انتهت، وسيدخلون إلى البركة والغبطة في ذلك الابتهاج والخلاص الذي سيُوجد عندئذ في خيام الصدّيقين (الآية ١٥). ولكن كل هذه البركة تعتمد على ذاك الذي رُبِط أولاً إلى قرون المذبح. لقد كان قد تقرَّرَ في هدف الله من الأزل ألا يكون هناك ملكوت قبل إنجاز عمل الصلب. وبينما كان الترحيب بيسوع يدخل ضمن سياق مخططات الله، إلا أن أولئك الذين كانوا سيُتوجونه ملكاً في ذلك الوقت كان عليهم أن يتعلّموا أنه يجب أن يعاني أولاً من عدّة أشياء، ويُصلب، ويقوم من بين الأموات. في الزمن المناسب الذي يحدده الله، ستتحقق بقيّة النبوءة على نحوٍ مجيد.
لدى دخول المدينة شرع يسوع بزيارة مركز العبادة اليهودية ليمارس سلطته هناك كما فعل في مناسبة سابقة، كما يروي لنا يوحنا (٢: ١٣- ١٧).
إن تطهير الهيكل يعني، بالنسبة ليسوع، فرض سلطانه كابن الله، الذي تدنَّس بيته على نحو جسيم كبير.
"وَدَخَلَ يَسُوعُ إِلَى هَيْكَلِ اللَّهِ وَأَخْرَجَ جَمِيعَ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِي الْهَيْكَلِ وَقَلَبَ مَوَائِدَ الصَّيَارِفَةِ وَكَرَاسِيَّ بَاعَةِ الْحَمَامِ وَقَالَ لَهُمْ: «مَكْتُوبٌ: بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ!» وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ عُمْيٌ وَعُرْجٌ فِي الْهَيْكَلِ فَشَفَاهُمْ. فَلَمَّا رَأَى رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ الْعَجَائِبَ الَّتِي صَنَعَ وَالأَوْلاَدَ يَصْرَخُونَ فِي الْهَيْكَلِ وَيَقُولُونَ: «أُوصَنَّا لاِبْنِ دَاوُدَ» غَضِبُوا وَقَالُوا لَهُ: «أَتَسْمَعُ مَا يَقُولُ هَؤُلاَءِ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «نَعَمْ! أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ: مِنْ أَفْوَاهِ الأَطْفَالِ وَالرُّضَّعِ هَيَّأْتَ تَسْبِيحاً؟»" (الآيات ١٢- ١٦).
"وَدَخَلَ يَسُوعُ إِلَى هَيْكَلِ اللَّهِ". بالنسبة له، ذلك الهيكل كان بيت أبيه. لقد كان المكان الذي وضع عليه الرب اسمه في القديم. ولكنه قد صار دنساً وملوّثاً وتحول إلى مكان للتجارة تحت مظهر أو ادعاء مساعدة الحجّاج الكثيرين الذين كانوا يأتون من كل أنحاء العالم ليحفظوا الأعياد السنوية أو ليخصّصوا أوقات عبادة للرب (أنظر لاويين ٢٣).
"بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى". لقد كان هذا هو الهدف الإلهي، كما أُعلِن بأشعياء النبي (أشعياء ٥٦: ٧). في ذلك اليوم من المستقبل الذي سيحلّ فيه الملكوت، عندما ستصبح فيه أورشليم في الحقيقة مركز العبادة في الدنيا، فإن هيكلاً جديداً سيظهر، وإليه ستلتجئ كل الأمم. فذاك الهيكل الذي كان مُشيَّداً على جبل موريا قد صار "مغارة لصوص" مُخزياً لله وحجر عثرة للناس.
"وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ عُمْيٌ وَعُرْجٌ فِي الْهَيْكَلِ". ذاك الذي كان ربّ الهيكل كان هناك ليُظهر قوّته الإعتاقية التحريرية. فأولئك الذين كانوا يعانون من ضعفات جسدية متنوّعة كانوا يطلبونه، "وكان يشفيهم" بنعمته ومحبته وحنوّه.
"فَلَمَّا رَأَى رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ الْعَجَائِبَ الَّتِي صَنَعَ وَالأَوْلاَدَ يَصْرَخُونَ فِي الْهَيْكَلِ وَيَقُولُونَ: «أُوصَنَّا لاِبْنِ دَاوُدَ» غَضِبُوا". هؤلاء التشريعيون الناموسيون المتكبرون المتعجرفون كانت قد فَضَحَتْهم طيبةُ وصلاح ولطف يسوع المحِب. لقد كان تصفيق الاستحسان والترحيب الذي أبداه عامة الناس له مثل المر والعلقم لهم. عندما سمعوا الناس يصرخون: "أوصنّا لابن داود"، لم تكن لديهم فكرة في الانضمام إلى هذا الإقرار السعيد به، ذاك الذي كانت أعمال قدرته تشهد للألوهية والسلطان الذي في رسالته (يوحنا ٥: ٣٠)، بل بالحري كانوا ساخطين ناقمين لأن ذاك الإكرام قد قُدِّم له.
"«أَتَسْمَعُ مَا يَقُولُ هَؤُلاَءِ؟»". لقد لاموا يسوع لأنه سمح للناس بأن تخاطبه كابن داود، إذ أن هذا كان مُرادفاً للإقرار به على أنه المسيّا المُنتَظر، ولذلك طلبوا منه أن يوبّخ وينتهر الجموع. ولكن يسوع أبى أن يبالي بانتقاداتهم الغاضبة وأشار إلى مقطع في المزامير كان يلائم تلك الحالة تماماً: "مِنْ أَفْوَاهِ الأَطْفَالِ وَالرُّضَّعِ هَيَّأْتَ تَسْبِيحاً" (مز ٨: ٢). في صدقهم وبساطتهم، برهن الأطفال وعامة الناس، الذين كان القادة ذوي البر الذاتي يحتقرونهم، أنهم قد عرفوا الله، ولذلك كرّموا يسوع المسيح لأنه المُرسَل من قِبَل الآب، الذي جاء إلى العالم ليكون فادياً لإسرائيل.
ومع اقتراب المساء غادر يسوع المدينة وخرج إلى بيت عنيا. حتى الآن لا نجد تدويناً على أنه أمضى ليلة في أورشليم إلى أن أُلقي القبض عليه وأُخِذ إلى بيت قيافا. لعلّه وجد مسكناً مع أصدقائه لعازر ومرتا ومريم، أو في مكان ملائم آخر.
"ثُمَّ تَرَكَهُمْ وَخَرَجَ خَارِجَ الْمَدِينَةِ إِلَى بَيْتِ عَنْيَا وَبَاتَ هُنَاكَ. وَفِي الصُّبْحِ إِذْ كَانَ رَاجِعاً إِلَى الْمَدِينَةِ جَاعَ فَنَظَرَ شَجَرَةَ تِينٍ عَلَى الطَّرِيقِ وَجَاءَ إِلَيْهَا فَلَمْ يَجِدْ فِيهَا شَيْئاً إِلاَّ وَرَقاً فَقَطْ. فَقَالَ لَهَا: «لاَ يَكُنْ مِنْكِ ثَمَرٌ بَعْدُ إِلَى الأَبَدِ». فَيَبِسَتِ التِّينَةُ فِي الْحَالِ. فَلَمَّا رَأَى التَّلاَمِيذُ ذَلِكَ تَعَجَّبُوا قَائِلِينَ: «كَيْفَ يَبِسَتِ التِّينَةُ فِي الْحَالِ؟» فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُم: «اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ وَلاَ تَشُكُّونَ فَلاَ تَفْعَلُونَ أَمْرَ التِّينَةِ فَقَطْ بَلْ إِنْ قُلْتُمْ أَيْضاً لِهَذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ وَانْطَرِحْ فِي الْبَحْرِ فَيَكُونُ. وَكُلُّ مَا تَطْلُبُونَهُ فِي الصَّلاَةِ مُؤْمِنِينَ تَنَالُونَهُ»" (الآيات ١٧- ٢٢).
لقد كانت عائلة بيت عنيا عزيزة على قلب يسوع. ويمكننا أن نتخيّل كيف كان على علاقة قوية مع هذه العائلة الصغيرة هناك خلال هذه الأيام القليلة الباقية له على الأرض.
لقد كان يمضي كل صباح مع تلاميذه إلى المدينة. وفيما كانوا قادمين في إحدى الأيام رأى يسوع شجرة تين غير مثمرة، وأطلق لعنة مهيبة عليها. لقد كان معروفاً أن شجرة التين هي رمز لإسرائيل (أو بالحري يهوذا): شجرة تين مغروسة في كرم. عندما جاء يسوع إلى هناك وجد فيها أوراق الشعائر الدينية وليس ثماراً لله. ولذلك فقد حُكِم عليهم قضائياً بعدم الإثمار طوال هذا الدهر الحالي.
إن حقيقة كون هذه الشجرة مغطّاة بالأوراق سيدل بشكل طبيعي على وجود ثمر، لأن التين يظهر قبل الأوراق في معظم أنواع هذه الأشجار. لقد كان يسوع يعرف جيداً حقائق الأمر، ولكنه اختار أن يذهب إلى الشجرة بحثاً عن الثمر لكي يجعل من ذلك عِبرة يقدّمها في مثل. هناك ثلاثة مقاطع فيها أشجار تين لا بد أنها مرتبطة معاً وتعطينا صورة تدبيرية عن معاملات الله مع اليهود: لوقا ١٣: ٦- ٩؛ متى ٢١: ١٧- ٢٠؛ متى ٢٤: ٣٢، ٣٣.
عندما كان الرب في طريق العودة إلى بيت عنيا في مساء ذلك اليوم، لاحظ التلاميذ بانذهال أن تلك الشجرة التي كانت مُخضوضرة وجميلة المنظر، رغم أنها كانت بلا ثمر في الصباح، لاحظوا أنه قد يبست وذَوَتْ. وإذ عبّروا عن تعجّبهم، استغلّ يسوع هذه المناسبة من جديد ليُؤكّد لهم على أهمية الإيمان. ومن جديد يستخدم نفس المثال التوضيحي كما في السابق (١٧: ٢٠)، عن الجبل وقد أُعطي إلى البحر تجاوباً مع الإيمان الذي كمِثل حبّة خرذل، مُضيفاً الإعلان المحدد والذي من القلب أن "كُلُّ مَا تَطْلُبُونَهُ فِي الصَّلاَةِ مُؤْمِنِينَ تَنَالُونَهُ".
هذا لا يُفهَم منه على أنه تأكيد من الله بأنه سيمنحنا كل ما نطلبه، أو يعطينا كل ما نسأله. أن نصلي بإيمان يعني أن نصلي بانسجام مع مشيئة الله المُعلَنة، وأنه ليس لدينا إثم في قلوبنا. ولكن حيث يكون المرء باراً مع الله نفسه، وصلاته تكون بإيمان وفي توافق مع مشيئة الله المعروفة، فإن التجاوب الإلهي أمر أكيد.
عندما كان يسوع يعلّم في الهيكل في مناسبة أخرى، تحدّاه قادة الدين وسألوه بأي سلطان كان يفعل ما يفعل. فنقرأ:
"وَلَمَّا جَاءَ إِلَى الْهَيْكَلِ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَشُيُوخُ الشَّعْبِ وَهُوَ يُعَلِّمُ قَائِلِينَ: «بِأَيِّ سُلْطَانٍ تَفْعَلُ هَذَا وَمَنْ أَعْطَاكَ هَذَا السُّلْطَانَ؟» فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُم: «وَأَنَا أَيْضاً أَسْأَلُكُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً فَإِنْ قُلْتُمْ لِي عَنْهَا أَقُولُ لَكُمْ أَنَا أَيْضاً بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هَذَا: مَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا مِنْ أَيْنَ كَانَتْ؟ مِنَ السَّمَاءِ أَمْ مِنَ النَّاسِ؟» فَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ قَائِلِينَ: «إِنْ قُلْنَا مِنَ السَّمَاءِ يَقُولُ لَنَا: فَلِمَاذَا لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ؟ وَإِنْ قُلْنَا: مِنَ النَّاسِ نَخَافُ مِنَ الشَّعْبِ لأَنَّ يُوحَنَّا عِنْدَ الْجَمِيعِ مِثْلُ نَبِيٍّ». فَأَجَابُوا يَسُوعَ وَقَالُوا: «لاَ نَعْلَمُ». فَقَالَ لَهُمْ هُوَ أَيْضاً: «وَلاَ أَنَا أَقُولُ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هَذَا»" (الآيات ٢٣- ٢٧).
هؤلاء الكهنة والشيوخ كانوا يتصرّفون غالباً استناداً إلى سلطة مشكوك فيها جداً، ولكنهم شكّكوا بحق يسوع في تطهير الهيكل من أولئك الذين جعلوه "مغارة لصوص"، وأن يعلّم الناس كما كان يفعل.
بحسب عادته في معظم الأحوال لدى تعامله مع المعتَرضين كمثل هؤلاء، أجاب يسوع بأن طرح عليهم سؤالاً بارزاً. ماذا عن معمودية يوحنا؟ هل كانت من أصل إلهي أم أن يوحنا كان يتصرف من موقف بشري صرف؟
وإذ أدركوا أنهم وقعوا في فخ أعمالهم وأكاذيبهم، أجابوا بالقول: "لا نعلم". لقد كانوا يعرفون أنهم إذا ما أقرّوا أن يوحنا قد أرسله الله فإنهم سيعجزون عن تفسير سبب عدم إيمانه به، وبالتالي عدم اقتبالهم لذاك الذي كان يوحنا قد أعلن أنه المسيّا الموعود. من جهة أخرى، إن تجرّأوا على إنكار تفويض يوحنا الإلهي فإنهم سيثيرون غضب عامة الشعب عليهم، وسيفقدون تأثيرهم على الناس، لأن هؤلاء كانوا يؤمنون عموماً أن يوحنا كان نبي الرب.
عندما أقرّوا بجهلهم أو عجزهم عن الإجابة، أجاب يسوع بهدوء قائلاً: "«وَلاَ أَنَا أَقُولُ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هَذَا»". فأن يحاول إقناعهم هو مضيعة للوقت فقط، إذ كما نقول غالباً: "ما من أحد أعمى أكثر من أولئك الذين لا يريدون أن يروا".
يُختَتم الأصحاح بمثلين، كلاهما قُصِدَ به إظهار خطورة رفض الإذعان المباشر لشهادة ومطالب الرب.
إنه لأمر في غاية الخطورة أن تستهين أو تسخر برحمة الله. ما كان قادة اليهود يُدركون كثيراً أنهم كانوا يقرّرون بأنفسهم مصيرهم المشؤوم برفضهم ليسوع، ذاك الذي أرسله الله ليُغدق عليهم كامل بركته إذا ما اقتبلوه. لقد أضاعوا الفرصة بأنهم كانوا عُميان باهتمامهم بذاتهم، وهكذا أخفقوا بمعرفة المسيا الذي كانوا ينتظرونه عندما جاء بما يتوافق تماماً مع الكتابات المقدسة للأنبياء الذين كانوا يدّعون أنهم يوقّرونهم. إن مجرّد المعرفة بالحرف في الكلمة لا تُخلّص أحداً. إن كتاب الله يتحدث عن أولئك الذين يؤمنون بالمسيح الذي يُحكّم للخلاص (٢ تيموثاوس ٣: ١٥). فرفضه أمرٌ مميتٌ مُهلك.
إنه موضوع جليل بالفعل ذاك الذي سنتناوله الآن. مَن يستطيع أن يصوّر على نحوٍ كافٍ مخاطر رفض المسيح؟ لقد استخدم الله بضعة صور في غاية الإذهال والتي يمكن تخيّلها، لكي يُحذّرنا من المصير الرهيب الذي ينتظر مَن يرفض نعمته ويرفض المُخلِّص.
إن شجرة التين غير المثمرة، التي لعنها يسوع، كانت تمثل الشعب المتديّن الذي لم يكن يحمل أية ثمار لله، ولذلك فقد رُفِضَ، وجفَّ ويَبس منذ ذلك الوقت، من جذوره. إن مثل الابنين يُظهر التعارض بين قادة اليهود الناموسيين ذوي البرّ الذاتي، الذين كانوا يدَّعون الطاعة بالكلام وليس بالفعل، والخُطاة البؤساء، يهوداً وأمميين على حدٍّ سواء، الذين كانوا يسمعون كلمة الحقّ التي في الإنجيل ويطيعونها. فمثل الكرم يشير إلى عناية الله وصبره مع شعبه الأرضي إلى أن يُحققوا ما في كتابهم المقدس الذي يكشف رفضهم لابنه. وإن قصة وليمة العرس تؤكّد على نفس الحقيقة وتبين كيف أن باب الإيمان كان يجب أن يُفتَح للأمميين، ولكنه يحذّر من الاكتفاء بالاعتراف، الذي يمكن أن يصبح دينونة وحسب في النهاية، كما في حالة الرجل الذي رفض رداء العرس.
"«مَاذَا تَظُنُّونَ؟ كَانَ لإِنْسَانٍ ابْنَانِ فَجَاءَ إِلَى الأَوَّلِ وَقَالَ: يَا ابْنِي اذْهَبِ الْيَوْمَ اعْمَلْ فِي كَرْمِي. فَأَجَابَ وَقَال: مَا أُرِيدُ. وَلَكِنَّهُ نَدِمَ أَخِيراً وَمَضَى. وَجَاءَ إِلَى الثَّانِي وَقَالَ كَذَلِكَ. فَأَجَابَ وَقَال: هَا أَنَا يَا سَيِّدُ. وَلَمْ يَمْضِ. فَأَيُّ الاِثْنَيْنِ عَمِلَ إِرَادَةَ الأَبِ؟» قَالُوا لَهُ: «ﭐلأَوَّلُ». قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ الْعَشَّارِينَ وَالزَّوَانِيَ يَسْبِقُونَكُمْ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ لأَنَّ يُوحَنَّا جَاءَكُمْ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ فَلَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ وَأَمَّا الْعَشَّارُونَ وَالزَّوَانِي فَآمَنُوا بِهِ. وَأَنْتُمْ إِذْ رَأَيْتُمْ لَمْ تَنْدَمُوا أَخِيراً لِتُؤْمِنُوا بِهِ»" (الآيات ٢٨- ٣٢).
"كَانَ لإِنْسَانٍ ابْنَانِ". هذه تصف نمطين من الناس: أولئك الذين يقدّمون خدمة بالكلام فقط، وأولئك الذين لديهم اهتمام حقيقي جدّي بالروحيات.
"قَال: مَا أُرِيدُ. وَلَكِنَّهُ نَدِمَ أَخِيراً وَمَضَى". في هذا الفتى نرى الابن العنيد المتصلّب، الذي يُصرّ على البقاء في حالة تمرّد إلى أن يخضع ويأتي إلى التوبة بنعمة إلهية.
"فَأَجَابَ وَقَال: هَا أَنَا يَا سَيِّدُ. وَلَمْ يَمْضِ". كان هذا هو تاريخ التشريعيين الناموسيين في بني إسرائيل منذ ذلك اليوم عندما قالوا في نقطة الانطلاق في سيناء: "كُلُّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ نَفْعَلُ وَنَسْمَعُ لَهُ" (خروج ٢٤: ٧)، ولكن سلوكهم اللاحق كان ينمّ على عدم خضوع لله طوال الوقت (رومية ٢: ٢٤).
"إِنَّ الْعَشَّارِينَ وَالزَّوَانِيَ يَسْبِقُونَكُمْ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ". إنها حالة الخطاة الذين يقرّون بإيمانهم في ذواتهم ويشعرون بالحاجة إلى النعمة والرحمة، والذين بالتجائهم إلى الله بتوبة، يدخلون من خلال الولادة الجديدة إلى الملكوت (يوحنا ٣: ٣، ٥).
"يُوحَنَّا جَاءَكُمْ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ". لقد جاء يُعلن مطالب الله المُحِقَّة من مخلوقاته ويدعو إلى التوبة أولئك الذين أخفقوا في بلوغ هذا المقياس. لقد كان التشريعيون الناموسيون قد أداروا ظهرهم بلا مبالاة، بينما الخطاة المحتاجون أطاعوا.
إن مثل الكرم له تطبيق رجعي إلى الوراء وتطبيق إلى الأمام. إنه يعبّر عن تعامل الله مع إسرائيل في الماضي ورفضهم لرسله، وينظر نبويّاً إلى ما سيحدث في الأيام القليلة القادمة حيث أن شعب يسوع نفسه الخاص سوف ينكره ويتبرّأ منه ويسلّمونه إلى الموت.
"«ﭐِسْمَعُوا مَثَلاً آخَرَ: كَانَ إِنْسَانٌ رَبُّ بَيْتٍ غَرَسَ كَرْماً وَأَحَاطَهُ بِسِيَاجٍ وَحَفَرَ فِيهِ مَعْصَرَةً وَبَنَى بُرْجاً وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ. وَلَمَّا قَرُبَ وَقْتُ الأَثْمَارِ أَرْسَلَ عَبِيدَهُ إِلَى الْكَرَّامِينَ لِيَأْخُذَ أَثْمَارَهُ. فَأَخَذَ الْكَرَّامُونَ عَبِيدَهُ وَجَلَدُوا بَعْضاً وَقَتَلُوا بَعْضاً وَرَجَمُوا بَعْضاً. ثُمَّ أَرْسَلَ أَيْضاً عَبِيداً آخَرِينَ أَكْثَرَ مِنَ الأَوَّلِينَ فَفَعَلُوا بِهِمْ كَذَلِكَ. فَأَخِيراً أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ ابْنَهُ قَائِلاً: يَهَابُونَ ابْنِي! وَأَمَّا الْكَرَّامُونَ فَلَمَّا رَأَوْا الاِبْنَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: هَذَا هُوَ الْوَارِثُ. هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ وَنَأْخُذْ مِيرَاثَهُ! فَأَخَذُوهُ وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْكَرْمِ وَقَتَلُوهُ. فَمَتَى جَاءَ صَاحِبُ الْكَرْمِ مَاذَا يَفْعَلُ بِأُولَئِكَ الْكَرَّامِينَ؟» قَالُوا لَهُ: «أُولَئِكَ الأَرْدِيَاءُ يُهْلِكُهُمْ هَلاَكاً رَدِيّاً وَيُسَلِّمُ الْكَرْمَ إِلَى كَرَّامِينَ آخَرِينَ يُعْطُونَهُ الأَثْمَارَ فِي أَوْقَاتِهَا». قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ فِي الْكُتُبِ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ. مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَ هَذَا وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا؟ لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَلَكُوتَ اللَّهِ يُنـزعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لأُمَّةٍ تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ. وَمَنْ سَقَطَ عَلَى هَذَا الْحَجَرِ يَتَرَضَّضُ وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ»" (الآيات ٣٣- ٤٤).
"كَانَ إِنْسَانٌ رَبُّ بَيْتٍ غَرَسَ كَرْماً". ربّ البيت هو الله نفس. والكرم هم شعب إسرائيل (أشعياء ٥: ١- ٧). والكرّامون كانوا القادة في يهوذا الذين كانوا مسؤولين عن قيادة الشعب في الطريق القويم.
"أَرْسَلَ عَبِيدَهُ". أولئك كانوا الأنبياء الذين كانوا يأتون من وقت إلى آخر كممثلين عن الله لينقلوا كلمته للشعب.
"جَلَدُوا بَعْضاً وَقَتَلُوا بَعْضاً وَرَجَمُوا بَعْضاً". هكذا عامل إسرائيل ويهوذا أولئك الذين جاؤوا إليهم باسم الرب (أعمال ٧: ٥٢).
"أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ ابْنَهُ". كم هي مليئة بالحياة هذه الكلمات التي تصوّر نعمة الله ورحمته في إرساله للرب يسوع! لقد كان في فلسطين كممثل عن الآب (يوحنا ٦: ٣٨؛ ٧: ٢٨، ٢٩)، ولكنه كان يعرف جيداً أنهم سيقاومونه بازدراء كما فعلوا مع الأنبياء الذين أتوا من قبله.
"هَذَا هُوَ الْوَارِثُ. هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ". إن رفض المسيح من قِبَل شعبه هو أكمل تعبير ممكن عن البغض في القلب الطبيعي، الذي تُحرّكه العداوة الشيطانية، نحو إله كل نعمة (أعمال ٢: ٢٣).
"فَأَخَذُوهُ وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْكَرْمِ وَقَتَلُوهُ". عبثاً نحاول أن نحلَّ قادة اليهودية من جريمة تسليم ربنا للموت (١ تسالونيكي ٢: ٢، ١٤، ١٥). عملياً كان الأمميون هم الذي صلبوه، ولكن من حيث الاحتمالية كان اليهود هم الذين قتلوه. إن كلا الفريقين كان متورّطاً في أفظع جريمة في التاريخ, قتل مسيح الله (أعمال ٤: ٢٦, ٢٧).
"مَاذَا يَفْعَلُ بِأُولَئِكَ الْكَرَّامِينَ؟". إذ رأى مُسبَقاً المعاملة التي سيعاملونه إياها، طرح يسوع السؤال مباشرة على أولئك الذين كانوا يسمعون المثل. لقد أراد لهم أن يعلنوا دينونة ذاتهم بأنفسهم.
"أُولَئِكَ الأَرْدِيَاءُ يُهْلِكُهُمْ هَلاَكاً رَدِيّاً". وبدون إدراك منهم، أعلنوا ما كان الله سيفعله. وتحققت كلماتهم في دمار أورشليم وتنحية اليهود لصالح الأمميين.
"الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ". لقد لفتَ يسوع انتباههم إلى النبوءة المحددة الواردة في المزمور ١٨٨: ٢٢. فهو نفس كان "الحجر" المرفوض. ولكن بقيامته كان الله سيجعله رأس الزاوية في الهيكل الجديد من الحجارة الحية التي كان على وشك أن يبنيه.
أوضحت أسطورة يهودية هذه الآية بالقول أنه عند بناء هيكل سليمان أُرسِلَ حجرٌ من مقالع الحجارة عند بدء العمل في البناء وهذا الحجر لم يجد له البناؤون مكاناً, ولذلك فقد ألقوا به في الوادي أسفل جبل موريّا- "الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ". وفيما بعد أرسلوا خبراً أنهم كانوا مستعدين لوضع حجر الزاوية، ولكن البنائين قالوا أنهم سبق وأرسلوه لهم. وتذكّر أحدهم أخيراً ذلك الحجر المرفوض, وقاموا بالبحث عنه في ذلك الوادي واستعادوه، وصعدوا به إلى أعلى الجبل من جديد، وجعلوه رأس الزاوية.
"إِنَّ مَلَكُوتَ اللَّهِ يُنـزعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لأُمَّةٍ تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ". لقد تقرّرَ أن يُنحَّى شعب إسرائيل بحسب الجسد. وقد خسروا إلى الأبد الملكوت الذي طالما كانوا ينتظرونه. فشعبٌ جديدٌ مُختار, إسرائيلٌ مُتجدّدٌ, سيمتلك الملكوت في نهاية الأمر. خلال هذا الوقت ستخرج نعمة الله إلى الأمميين.
إن المسيح هو حجرُ خلاصنا؛ هو أيضاً حجر الدينونة. تعثَّرَ اليهود به وتحطّموا (أشعياء ٨: ١٤). ويوماً ما سيأتي المسيح ثانيةً, كما الحجر الساقط على تمثال قوة الأمم ليُهشّمه (دانيال ٢: ٣٤, ٣٥).
لم يكن هناك أي شك في ذهن المستمعين إلى ربنا آنذاك حول تطبيق هذا المثل.
"وَلَمَّا سَمِعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ أَمْثَالَهُ عَرَفُوا أَنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَيْهِمْ. وَإِذْ كَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يُمْسِكُوهُ خَافُوا مِنَ الْجُمُوعِ لأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ مِثْلَ نَبِيٍّ" (الآيات ٤٥- ٤٦).
إذ رأوا صورة عن أنفسهم في الكرّامين غير المخلصين, لم يُبدِ الفرّيسيون أي دليل على التوبة, ولم يُظهروا أية رغبة بإطاعة كلمة الله. بدلاً من ذلك, بدوا أكثر تصميماً وعناداً في مقاومتهم ليسوع، الممسوح من الله، الوريث الذي أرسله الآب ليدعوهم إلى طريق الطاعة وإلى إدراك مسؤولياتهم الذاتية كقادة في إسرائيل. لقد كانوا يودّون لو كانت لديهم الجرأة لأن "يلقوا القبض عليه" وأن يحاولوا فوراً إزاحته من طريقه، ولكن خوفهم من الجموع الذين كانوا يؤمنون به أيضاً كنبيّ حال دون ذلك. هكذا هو حالُ الشرّ الراسخ في القلب الطبيعي ما لم تُخضعه النعمة الإلهية.