الأصحاح ٢٣
التهم الموجهة إلى الملك
بينما جاء الرب يسوع، لا ليدين العالم بل ليخلّص الذين سيؤمنون به، فقد عبّر عن نفسه بجلال كبير إزاء أولئك، الذين يُعترف بهم حراسٌ للكتابات المقدسة، الذين نجدهم يعيشون في نفاق ورياء ويعارضون الحق الذي أعلنه، وهكذا يضللون أتباعهم الغافلين. ومع ذلك ورغم أنه من المفترض أن يكونوا قرّاء الناموس في المجمَع فقد جعل الناس ينتبهون إلى كلمة الله التي اعترفوا بأنهم يكرِّمونها, ولكن أن ينتبهوا وأن يكونوا حريصين لئلا يُحاكوا الحياة الفاسدة لأولئك الذين يبسطون ويفسرون كلمة الله تلك.
"حِينَئِذٍ خَاطَبَ يَسُوعُ الْجُمُوعَ وَتَلاَمِيذَهُ قَائِلاً: «عَلَى كُرْسِيِّ مُوسَى جَلَسَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ فَكُلُّ مَا قَالُوا لَكُمْ أَنْ تَحْفَظُوهُ فَاحْفَظُوهُ وَافْعَلُوهُ وَلَكِنْ حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ لاَ تَعْمَلُوا لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ وَلاَ يَفْعَلُونَ. فَإِنَّهُمْ يَحْزِمُونَ أَحْمَالاً ثَقِيلَةً عَسِرَةَ الْحَمْلِ وَيَضَعُونَهَا عَلَى أَكْتَافِ النَّاسِ وَهُمْ لاَ يُرِيدُونَ أَنْ يُحَرِّكُوهَا بِإِصْبِعِهِمْ وَكُلَّ أَعْمَالِهِمْ يَعْمَلُونَهَا لِكَيْ تَنْظُرَهُمُ النَّاسُ فَيُعَرِّضُونَ عَصَائِبَهُمْ وَيُعَظِّمُونَ أَهْدَابَ ثِيَابِهِمْ وَيُحِبُّونَ الْمُتَّكَأَ الأَوَّلَ فِي الْوَلاَئِمِ وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ وَﭐلتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ وَأَنْ يَدْعُوَهُمُ النَّاسُ: سَيِّدِي سَيِّدِي! وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تُدْعَوْا سَيِّدِي لأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ الْمَسِيحُ وَأَنْتُمْ جَمِيعاً إِخْوَةٌ. وَلاَ تَدْعُوا لَكُمْ أَباً عَلَى الأَرْضِ لأَنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. وَلاَ تُدْعَوْا مُعَلِّمِينَ لأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ الْمَسِيحُ. وَأَكْبَرُكُمْ يَكُونُ خَادِماً لَكُمْ. فَمَنْ يَرْفَعْ نَفْسَهُ يَتَّضِعْ وَمَنْ يَضَعْ نَفْسَهُ يَرْتَفِعْ" (الآيات ١- ١٢).
إن التعبير "كرسي موسى" يشير إلى المكان حيث كان الفريسيون والكتبة يشغلونه كمعلمين مميزين ومُعتَرَف بهم للناموس المُعطى بموسى. عندما كانوا يقرأون ويفسرون التعاليم الأخلاقية لمستمعيهم كانوا مسؤولين عن إطاعة الكلمة, ليس بسبب أية سلطة متأصلة منوطة بهم, بل بسبب الحق الذي جعلوه معروفاً. ولكن يسوع أوضح فارقاً وتمييزاً قائماً بين كلماتهم وطرق عيشهم. لقد كانوا يشرحون ويفسرون للآخرين ما لم يحاولوا هم أنفسهم أن يمارسوه. إنه أمرٌ مريع لأولئك الذين يشغَلون منصِب الوعاظ أو الكارزين أو المعلمين للكلمة الذين يتاجرون بالحقيقة ببساطة ولا تؤثر على حياتهم الذاتية.
قادةُ إسرائيل هؤلاء كانوا يشكلون طبقةً إكليريكيةً تشجبُ صراحةً وعلناً خطايا وذلات الناس عموماً, ولكنهم كانوا راضين قانعين بمجرد الانتباه الشكلي الحرفي إلى العلامات الخارجية الظاهرية للدين. ولكنهم ما كانوا يعرفون شيئاً عن التقوى الحقيقية والقداسة في القلب والحياة.
ما كانوا يهتمون بالحصول على تأييد الله لهم، الذي كانوا يُقرِّون بأنهم يكرِّمونه, بل كانوا على الدوام يسعون وراء استحسان الناس. إن هناك دائماً فخ عندما يشعر المرء بأن لديه شهرة معينة بالصلاح ليحافظ عليها أمام رفقائه وأقرانه. من السهل على المرء أن يستسلم أمام إغواء محاولة الظهور كمتديّن أكثر مما هو في الواقع. الأمر الوحيد الصحيح هو أن نعيش أمام الله وألا نكون مبالين أبداً بإطراء الناس أو بلومهم لنا.
لقد كان الفريسيون يسعون للفت انتباه الناس إلى تديُّنهم حتى من خلال ملابسهم. فإذ كانوا يرتدون تمائم واضحة بيّنة بدَوا وكأنهم أكثر توقيراً واحتراماً للكتابات المقدسة من غيرهم وإذ كانوا يجعلون أهداب ثيابهم كبيرة بشكل واضح بارز فإنهم كانوا يُسرَّون بتقديم الناس الوقار الملائم لهم؛ ولذلك فقد كانوا يُعطَون المجالس الأولى في الولائم المعينة وفي الخدمات في المجمع؛ بينما في الأماكن العامة كانوا يُحَيَّون ويُسلَّم عليهم باستخدام ألقاب جليلة للغاية أو بلقب "سيدي الرباي". مَن مِنا يُخفق في أن يرى في كل هذا صورة عما هو شائع اليوم في الكثير من الدوائر الكنسية؟
لقد حذَّر يسوع التلاميذ ضد كل هذه المظاهر الخارجية للتقوى: "وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تُدْعَوْا سَيِّدِي". ما كان عليهم أن يسعوا وراء اعتراف وتكريم من رفقائهم وأقرانهم بل كان عليهم أن يدركوا أن المسيح نفسه هو من كان معلّمهم أوسيدهم وأنهم ما كانوا إلا إخوة- جميعهم يشكلون عائلة كبيرة واحدة. وإذ كانوا مولودين من فوق كان عليهم ألا يدعوا إنساناً أباً على الأرض, لأن الله نفسه كان أباهم. فليس من المُستغرب أن هذا المطلب المحدد قد تجاهله بشكل فاضح أولئك الذين يُنادون كهنتهم بـ "أب"؟
بسبب الاستعداد الذي أبداه تلاميذه من حيث الميل إلى طلب التكريم من الآخرين، كرر يسوع التحذير أن: "وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تُدْعَوْا سَيِّدِي لأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ الْمَسِيحُ". إن الكلمة تعني فعلياً "قائد"، ولكن فُهمت أساساً كـ "معلم" أو "سيد".
بالطبع، لم يكن يسوع يقصد أن على أتباعه أن يحتقروا المواهب التي يعطيهم إياها- ومن بينها المعلمين, رغم اختلاف الكلمة المُستخدمة- والذين يعترف بهم ويقدِّرهم القديسون لأنهم قد وهِبوا لأجل تنويرهم. ولكن ليس علينا أن نكتفي بالاعجاب بشخص الناس بسبب الفائدة الدنيوية منهم.
من جهة أولئك الذين أُوكِلَت إليهم خدمة خاصة يجب ألا يكون لديهم سعي نحو تحقيق الذات وتعظيم الذات, بل الخدمة في محبة متتبّعين مثال يسوع. من رفع نفسه يُنـزل في الوقت المناسب, ومن يتضع سيرفعه الرب الذي يُقيّم كل خدمة قام بها أي إنسان بعين المساواة لمجده.
تلي ذلك ثماني ويلات, يفيضها الرب في إدانةٍ على أولئك القادة المتدينين الذين تتعارض روحهم وسلوكهم بشكل فظيع مع اعترافهم. الويل الأولى نجدها في الآية ١٣:
"لَكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تُغْلِقُونَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ قُدَّامَ النَّاسِ فَلاَ تَدْخُلُونَ أَنْتُمْ وَلاَ تَدَعُونَ الدَّاخِلِينَ يَدْخُلُونَ!".
هذه الدينونة تُطلَق بسبب المعارضة لكلمة الملكوت, التي ما كانوا يهتمون بها, وحاولوا أن يعيقوا الآخرين من أن يهتموا بها. إنه أمر خطير أن تقف حائلاً أمام أي شخص قد يكون مستعداً لدخول ملكوت السموات.
الويل الثانية كانت ضد أولئك الذين كانوا يستخدمون الاعتراف بالإيمان والمظهر الخارجي للتقوى كقناعٍ أو عباءةٍ.
"وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ ولِعِلَّةٍ تُطِيلُونَ صَلَوَاتِكُمْ. لِذَلِكَ تَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ".
يخبرنا سليمان أن صلاة الشرير أمر بغيض عند الرب (أمثال ٢٨: ٩). فكم بالحري عندما تُستخدم هذه الصلاة للإيحاء للناس بالقداسة بينما يكون المرء عائشاً في نفاق ورياء.
الويل الثالثة هي ضد إدخال أناس جدد في الدين بينما هم أنفسهم كاذبين منافقين.
"وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تَطُوفُونَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ لِتَكْسَبُوا دَخِيلاً وَاحِداً وَمَتَى حَصَلَ تَصْنَعُونَهُ ابْناً لِجَهَنَّمَ أَكْثَرَ مِنْكُمْ مُضَاعَفاً!".
إنها إحدى ميزات التعصب الديني عموماً أن يكونوا مهتمين جداً بالحصول على أتباع ومناصرين ومشيعين لاعتقاداتهم الخاصة أكثر من ربح النفوس الضالة إلى المسيح. أولئك الفاسدين هكذا يصبحون مناصرين متحمسين للمنظومة التي يطابقون أنفسهم معها, وكقاعدة فإنهم يثقون بارتباطهم بهم من أجل خلاص نهائي, وهكذا يدخلون إلى حالة أسوأ مما قبل اهتدائهم. إنه أمر صعب أن تصل إل المناصرين لبدعة زائفة وأن توقظهم أكثر من أن تأتي بأناس دنيويين آثمين ليروا حالتهم الخاطئة الضالة وحاجتهم إلى الخلاص.
الويل الرابعة هي ضد أولئك الذين يحلفون باطلاً وتجديفاً:
"وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ الْقَائِلُونَ: مَنْ حَلَفَ بِالْهَيْكَلِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَلَكِنْ مَنْ حَلَفَ بِذَهَبِ الْهَيْكَلِ يَلْتَزِمُ! أَيُّهَا الْجُهَّالُ وَالْعُمْيَانُ أَيُّمَا أَعْظَمُ: اَلذَّهَبُ أَمِ الْهَيْكَلُ الَّذِي يُقَدِّسُ الذَّهَبَ؟ وَمَنْ حَلَفَ بِالْمَذْبَحِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَلَكِنْ مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْبَانِ الَّذِي عَلَيْهِ يَلْتَزِمُ! أَيُّهَا الْجُهَّالُ وَالْعُمْيَانُ أَيُّمَا أَعْظَمُ: اَلْقُرْبَانُ أَمِ الْمَذْبَحُ الَّذِي يُقَدِّسُ الْقُرْبَانَ؟ فَإِنَّ مَنْ حَلَفَ بِالْمَذْبَحِ فَقَدْ حَلَفَ بِهِ وَبِكُلِّ مَا عَلَيْهِ وَمَنْ حَلَفَ بِالْهَيْكَلِ فَقَدْ حَلَفَ بِهِ وَبِالسَّاكِنِ فِيهِ وَمَنْ حَلَفَ بِالسَّمَاءِ فَقَدْ حَلَفَ بِعَرْشِ اللَّهِ وَبِالْجَالِسِ عَلَيْهِ!" (الآيات ١٦- ٢٢).
إحدى أهم الأدلة المذهلة الصادمة عن المحاكمة العقلية غير المنطقية التي يمارسها شخص هي عندما يضع ثقلاً أعظم على أشياء ثانوية أكثر من تلك الأشياء ذات الأهمية الأساسية. هؤلاء القادة العميان, كما دعاهم يسوع, يضعون ثِقلاً أكثر على الذهب الذي كان الهيكل مبنياً منه ليُزخرف ويُجمَّل به أكثر من المَقدِس نفسه؛ ولذلك، فبالنسبة لهم، أن يحلِفَ المرء بذهب الهيكل كان يعني أكثر من أن يحلِفَ بالمبنى المقدس نفسه الذي كان الله يسكن فيه في القديم.
وبنفس الروح كانوا يضعون ثقلاً وقداسةً على القربان أكثر من المذبح؛ في حين أن المذبح الذي كانت توضع عليه التقدمات هو الذي يقدّس القربان. ذلك المذبح كان يرمز إلى المسيح, والتقدمات والذبائح كانت تمثّل جوانب مختلفة من عمله. ولكن كان عليه أن يكون من كان, الابن الأزلي لابن الله الذي صار جسداً, لكي يقوم بما فعل. أن تحلف بالمذبح كان أن تحلف بكل ما كان يُوضع عليه, وأن تحلف بالهيكل كان يعني أنك تحلف بذاك الذي كان يسكن فيه, وكذلك الأمر أن تحلف بالسماء (الأمر الأكثر شيوعاً) هو بمثابة أن تحلف بعرش الله وبذاك الذي يجلس عليه. كل هكذا حلْف كان محظوراً قطعياً من قِبَل الرب في مناسبة سابقة (متى ٥: ٣٣- ٣٧).
الويل الخامسة تُطلق على أولئك الذين كانوا ميالين إلى التأكيد الزائد على التفاصيل التافهة للناموس بينما يتجاهلون كلياً المسائل الأهم المتعلقة به.
"!وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ النَّعْنَعَ وَالشِّبِثَّ وَالْكَمُّونَ وَتَرَكْتُمْ أَثْقَلَ النَّامُوسِ: الْحَقَّ وَالرَّحْمَةَ وَالإِيمَانَ. كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلُوا هَذِهِ وَلاَ تَتْرُكُوا تِلْكَ. أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ الَّذِينَ يُصَفُّونَ عَنِ الْبَعُوضَةِ وَيَبْلَعُونَ الْجَمَلَ!" (الآيات ٢٣- ٢٤).
إن العُشور المترتبة وحتى عن أرخص الأعشاب كانت شرعيةً تماماً بحسب الناموس نفسه, ولكن أن نضع ثِقَلاً على هذا وأن نُذيع ذلك وكأنه وسواس لافت, بينما نهمل الأمور ذات الأهمية الأعظم بكثير, إنما يشير إلى ضمير كان غير مروَّض وروح متمردة على الله. إن الله ليود من أولئك الذين يُقرّون بالطاعة لناموسه أن يكونوا حريصين على أن يمارسوا حُسن التمييز والرحمة والإيمان. من يمارس هذا سوف لن يهمل أشياء أقل ثقلاً وأقل أهمية.
الويل السادسة كانت ضد أولئك الذين يُعطون قيمة كبيرة للتطهيرات الشعائرية، بينما يُغفلون أهمية القلب النقي والحياة الطاهرة.
"وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تُنَقُّونَ خَارِجَ الْكَأْسِ وَالصَّحْفَةِ وَهُمَا مِنْ دَاخِلٍ مَمْلُوآنِ اخْتِطَافاً وَدَعَارَةً! أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّ الأَعْمَى نَقِّ أَوَّلاً دَاخِلَ الْكَأْسِ وَالصَّحْفَةِ لِكَيْ يَكُونَ خَارِجُهُمَا أَيْضاً نَقِيّاً" (الآيات ٢٥- ٢٦).
لقد كانوا يُشبَّهون برب بيت كان حريصاً على أن تكون كؤوسه وأوانيه الأخرى نظيفة من الخارج, بينما من الداخل هي قذِرة ونجِسة. إن الله يرغب أن تكون الحقيقة في الداخل. فحيث يتنقى القلب بالإيمان يكون السلوك الظاهري الخارجي في توافق معه.
الويل السابعة مشابهة نوعاً ما لما سبق، ولكن فيها إدانة أكبر للتساهل الذي يخفي فساداً بينما يدّعي التقوى والتكرّس.
"وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تُشْبِهُونَ قُبُوراً مُبَيَّضَةً تَظْهَرُ مِنْ خَارِجٍ جَمِيلَةً وَهِيَ مِنْ دَاخِلٍ مَمْلُوءَةٌ عِظَامَ أَمْوَاتٍ وَكُلَّ نَجَاسَةٍ. هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً: مِنْ خَارِجٍ تَظْهَرُونَ لِلنَّاسِ أَبْرَاراً وَلَكِنَّكُمْ مِنْ دَاخِلٍ مَشْحُونُونَ رِيَاءً وَإِثْماً!" (الآيات ٢٧- ٢٨).
هؤلاء المراؤون كانوا موضع إعجابٍ وتبجيلٍ كمِثل القبور المكلَّسة التي تظهر جميلةً وأحياناً فخمة في نظر الناس, ولكنها مملوءة بالجثث المتفسخة والنجاسة. هكذا أولئك الذين يبدون بارّين أمام الناس ولكنهم مليئون بالرياء والإثم.
الويل الأخيرة، التي تشكّل ثمانية كاملة من شجب النفاق، قد أُطلِقت على أولئك الذين كانوا يكرمون ذكرى الأنبياء السابقين بينما يأبون أن يطيعوا كلماتهم.
"وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تَبْنُونَ قُبُورَ الأَنْبِيَاءِ وَتُزَيِّنُونَ مَدَافِنَ الصِّدِّيقِينَ وَتَقُولُونَ: لَوْ كُنَّا فِي أَيَّامِ آبَائِنَا لَمَا شَارَكْنَاهُمْ فِي دَمِ الأَنْبِيَاءِ! فَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ أَبْنَاءُ قَتَلَةِ الأَنْبِيَاءِ. فَامْلأُوا أَنْتُمْ مِكْيَالَ آبَائِكُمْ. أَيُّهَا الْحَيَّاتُ أَوْلاَدَ الأَفَاعِي كَيْفَ تَهْرُبُونَ مِنْ دَيْنُونَةِ جَهَنَّمَ؟" (الآيات ٢٩- ٣٣).
كم كان خطأً فاضحاً مميزاً عند أولئك المرّائين المدَّعين بأنهم يقدّرون الشهادة الصادقة لرجال الله في القرون الماضية! فتماماً كما أن نسل هؤلاء الذين شوَّهوا سمعة مارتن لوثر في عصره وجيله يتنافسون الآن مع بعضهم في الثناء على عبقريَّته وعلى جُرأته, أو كمثل هؤلاء الأولاد الذين كانوا يمقتون الموقف الذي اتخذه أبراهام لينكولن هم الآن يُطرون عليه بكل ما استطاعوا, هكذا فإن هؤلاء الفريسيين كانوا يبجلون ذكرى أشعياء الذي كان آباءهم قد مزقوه إرباً, أو إرميا الذي كان قد سُجِن في زنـزانة نتِنة على يد القادة الدينيين في عصره, أو زكريا الذي قُتِلَ ذبحاً بين رواق الهيكل والمذبح على يد معارضين غيوريين كان النبي قد انتقدهم. ومع ذلك فلم يكن هناك أي برهان على أن هؤلاء الكتبة والفريسيين قد قَبِلوا وسلكوا بحسب التحذيرات التي قدَّمها هؤلاء الذين زخرفوا قبورهم, ولكنهم أظهروا بموقفهم نحو الملك الذي في وسطهم أنهم كانوا من نفس الروح كمِثل آبائهم الآثمين غير الأتقياء.
بينما يتبجّحون بأنهم لوكانوا أحياء في أيام الزمن القديم فإن تجاوبهم كان سيكون مختلفاً, فإن موقفهم الحالي برهن العكس. لقد وصلوا إلى ملء قامة آبائهم في رفضهم الأخير لرب المجد.
ولذلك فإن دينونة مستحقة في محلِّها كانت تنتظرهم. لقد كانت كلماتهم وسلوكهم تبرهن أنهم جيل من الأفاعي, نسلُ الحيّة- تلك الحيّة القديمة التي هي الشرير والشيطان- فأنّى لهم إذاً أن يهربوا من المشاركة في الدينونة المحكوم عليهم بها؟
ثم يُبرز الرب بإيجاز إثم ذلك الجيل غير المؤمن ويعلن مصيرهم المشؤوم.
"لِذَلِكَ هَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ أَنْبِيَاءَ وَحُكَمَاءَ وَكَتَبَةً فَمِنْهُمْ تَقْتُلُونَ وَتَصْلِبُونَ وَمِنْهُمْ تَجْلِدُونَ فِي مَجَامِعِكُمْ وَتَطْرُدُونَ مِنْ مَدِينَةٍ إِلَى مَدِينَةٍ لِكَيْ يَأْتِيَ عَلَيْكُمْ كُلُّ دَمٍ زَكِيٍّ سُفِكَ عَلَى الأَرْضِ مِنْ دَمِ هَابِيلَ الصِّدِّيقِ إِلَى دَمِ زَكَرِيَّا بْنِ بَرَخِيَّا الَّذِي قَتَلْتُمُوهُ بَيْنَ الْهَيْكَلِ وَالْمَذْبَحِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هَذَا كُلَّهُ يَأْتِي عَلَى هَذَا الْجِيلِ!" (الآيات ٣٤- ٣٦).
رسولٌ بعد رسولٍ أرسله الله إلى إسرائيل, ولكنهم كانوا يرفضونهم ويزدرون بهم جميعاً. وسيفعلون نفس الشيء بأولئك الذين يوبخونهم على خطاياهم وعلى نفاقهم وريائهم. أخلاقياً ما كانوا مختلفين عن أولئك الذين سفكوا دم كل الأبرار من هابيل إلى آخر الأنبياء. كانت قلوبُهم قد بقيت على حالها لم تتبدل، وضمائرهم تحجَّرت؛ ولذلك فإن غضب الله لا بدَّ أن ينصبَّ عليهم.
رغم أن الله ما كان ليفعل غير ذلك, بتناغمٍ مع شخصه المقدس, فكان لا بدَّ أن يتعامل معهم في دينونة بسبب شرورهم, التي أحزنت قلب الرب عليهم وكان يتوق إلى تحريرهم وإعتاقهم. إنه لأمر محزن هو ذلك الرثاء الذي ختم به حديثه الأكثر جلالاً ومهابةً.
"«يَا أُورُشَلِيمُ يَا أُورُشَلِيمُ يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا وَلَمْ تُرِيدُوا. هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَاباً! لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ لاَ تَرَوْنَنِي مِنَ الآنَ حَتَّى تَقُولُوا: مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ!»" (الآيات ٣٧- ٣٩).
إن أورشليم, مدينة الملك العظيم, لم تعرف زمن افتقادها. ذاك الذي كان سينقذها ويخلَّصها ويأتي بها إلى بركات الملك الموعود, كان بينهم ولم يعرفوه. لو أنهم انتبهوا إليه والتجأوا إليه في توبة لكان نجّاهم من الدينونة كدجاجة تحمي صغارها من الصقر الذي يسعى ليُهلِكَهم. ولكنهم ما كانوا ليقتبلونه. لقد كانوا مسؤولين, بالتالي, عن دينونتهم الذاتية.
لأنهم رفضوه, فقد رفضهم بدوره كشعب للوقت الحالي. سوف لن يروه من ذلك الآن فصاعداً إلى أن يكونوا مستعدين للاعتراف به كملك لهم, صارخين وقائلين بكلمات المزمور ١١٨ التي بها "الفقير في الخطيّة" قد حيَّاهُ وهو يمتطي جحشاً داخلاً إلى المدينة قبل بضعة أيام, قائلين "مباركٌ الآتي باسم الرب".
قبل ذلك اليوم، كل تدبير النعمة هذا- أي الفترة من الإعلان عن سر الكنيسة كجسد المسيح- كان سيأتي. في الوقت الحالي يجمع الله الأمم جميعاً إلى اسم ابنه؛ وإلى أن يتم انجاز ذلك العمل, فإن بني إسرائيل سينظرون إليه، ذاك الذي طعنوه، وينادون به فادياً وملكاً.