الأصحاح ٣
السابق، ومسح الملك
قال ربنا أنه ما من امرأة على وجه الأرض قد أنجبت من هو أعظم من يوحنا المعمدان. وكانت عظمته تتجلّى, ليس فقط في طباعه الشخصية- رغم أنه يبرز كشخص متميز في تكرّسه لله, وإخلاصه للمبادئ وموقفه الثابت الذي لا يتزعزع ضد الإثم وفاعليه حتى عند ذوي المناصب العالية (متى ١٤: ٤)- بل في الواقع في أن الله قد اختاره ليذيع نبأ مجيء المسيح, مسيّا إسرائيل وفادي العالم (يوحنا ١: ٢٩- ٣١), ورسميّاً ليفتح له باب الحظيرة (يوحنا ١٠: ٢-٣) بتعميده والاعتراف به ممسوحاً من الله. إن الزمن لا يمكن أبداً أن يُعتّم أو يُخفت لمعانه كسابقٍ للمسيح, الذي سُمِح له أن يرى ويعرف ذاك الذي تنبأ عنه- هذا الامتياز الذي لم يحظَ به جميع الأنبياء السابقين.
إن لوقا يعطي تاريخ بدء خدمة يوحنا على أنه كان في السنة الخامسة عشر من سلطة طيباريوس قيصر, الذي تؤكد معظم المصادر الموثوقة أنه كان في عام ٢٦ م. لقد كرز في وادي الأردن, وفي أرض اليهودية. وكانت رسالته الخاصة هي أن يدعو شعب إسرائيل إلى التوبة. لقد "جاء... في طريق البرّ", ليؤكد مطالب الله القدوس والعادل من مخلوقاته وليؤكد أيضاً على أن الخاطئ الذي يدين نفسه فقط هو المؤهل لحضور الرب. هكذا خدمة نحن في حاجة ماسّة إليها اليوم حيث أن الناس قد فقدوا, ولدرجة كبيرة, الحس بإثمية الخطيئة. فعبثاً نكرز بإنجيل نعمة الله لأناس ليس لديهم إدراك لحاجتهم إلى تلك النعمة. ففقط عندما تستيقظ النفس لترى نجاستها ودنسها في عيني الله القدوس, عندها تصرخ قائلة: "اللهم ارحمني أنا الخاطئ".
"وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ جَاءَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ يَكْرِزُ فِي بَرِّيَّةِ الْيَهُودِيَّةِ قَائِلاً: «تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ". إن برية اليهودية هي المنطقة الواقعة في شرق وجنوب أورشليم, وتشتمل على وادي الأردن الأدنى, والجانب الغربي من البحر الميت.
رسالة يوحنا كانت دعوة إلى إدانة الذات. لقد حثّ الناس على أن يقفوا إلى جانب الله ضد أنفسهم. "فَإِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي قِيلَ عَنْهُ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ القَائِل: صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً». وَيُوحَنَّا هَذَا كَانَ لِبَاسُهُ مِنْ وَبَرِ الإِبِلِ وَعَلَى حَقْوَيْهِ مِنْطَقَةٌ مِنْ جِلْدٍ. وَكَانَ طَعَامُهُ جَرَاداً وَعَسَلاً بَرِّيّاً. حِينَئِذٍ خَرَجَ إِلَيْهِ أُورُشَلِيمُ وَكُلُّ الْيَهُودِيَّةِ وَجَمِيعُ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ بِالأُرْدُنّ وَﭐعْتَمَدُوا مِنْهُ فِي الأُرْدُنِّ مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ".
في أشعياء ٤٠، نجد النبوءة التي تحققت في يوحنا المعمدان. لقد كانت رسالته: "أعدوا طريق الرب". لقد كان إسرائيل ينتظر بترقب، ولقرون، المسيا، ولكنهم ما كانوا مستعدين لاقتباله: فكانوا في حاجة إلى ذلك الإعداد للقلب الذي يأتي من مواجهة المرأة بصدق لخطاياه أمام الله.
إن ملابس يوحنا وطعامه يُذكران هنا. فعلى مثال إيليا, ظهر بملابس البرية وكان يعيش على طعام البرية. لقد كان رجل الأماكن المفتوحة الواسعة, والذي أضاف أسلوب حياته إلى قوة كلماته. يدور نقاش عند البعض فيما إذا كان يقتات فعلاً على الجراد أم أن هذه الكلمة قد استُخدمت للإشارة إلى قرون الخرنوب التي في شجرة الجراد. ولكن نظراً إلى أن الجراد يُؤكل اليوم وكان يُستَخدم كطعام (مثل القريدس المُجفَّف) منذ زمن سحيق, فيبدو أن يوحنا كان على الأرجح يستخدمه في طعامه. وفي إحدى المناسبات لفت يسوع الانتباه إلى اعتدال وتقشّف يوحنا المعمدان (متى ١١: ١٨؛ لوقا ٧: ٣٣).
وإذ كان يوحنا يعلن الحاجة إلى التوبة, جاء مستمعوه إليه من كل أرجاء الأرض, "وَﭐعْتَمَدُوا مِنْهُ فِي الأُرْدُنِّ مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ". المعمودية بحدّ ذاتها لم تكن عملية استحقاق. لقد كان المقصود بها أن تدلّ على أن الشخص المُعتَمِد أقرّ بصحرائه الذاتية على أنها دينونة بسبب خطاياه. وبذلك فإنهم كانوا يدينون أنفسهم ويسوّغون لله (لوقا ٧: ٢٩). من الواضح أن يوحنا لم يقل أن معموديته كانت تحرّرهم من خطاياهم, وهذا نراه من كرازته المدوَّنة في يوحنا ١: ٢٩. لقد دلَّ الناس إلى يسوع على أنه الوحيد الذي به يمكنهم أن ينالوا الصفح عن الخطايا.
عندما جاء معلّموا الدين المتعجرفون, الذين لم يُبدوا أية دلالة على التوبة, مع البقيّة, يطلبون المعمودية, وبّخهم يوحنا بصرامة قائلاً: "يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَبِ الآتِي؟". لقد استخدم هذه اللغة القوية بسبب نفاق أولئك الشكليين المتدينين, الذين, بِشَرِّهم المخفي, كانوا يعلنون أنفسهم أولاداً للشيطان. كان الفريسيون يُعتَبرون الفريق المتزمّت في إسرائيل بينما الصدوقيين كانوا يُعتَبرون الجماعة الهرطوقية (أعمال ٢٣: ٨)؛ ولكنهما كلاهما كانا يستندان على برّهم المُتَخيَّل المزعوم ولذلك فما كانوا يرون حاجة للتوبة (رومية ١٠: ٣). لقد كان يوحنا يطالب هؤلاء بأن يقدموا ثماراً تليق بالتوبة قبل أن يمنحهم طقس المعمودية. في حين أن الأعمال الصالحة ليست لها قيمة في الحصول على الخلاص بمشَقَّة, فإن التائب الحقيقي يُبدي من خلال حياة جديدة صدق اعترافه وذلك بالتحوّل إلى الله والابتعاد عن خطاياه.
معلّموا الدين هؤلاء كانوا على استعداد لأن يجيبوا بسخط بأنهم كانوا أبناء إبراهيم, ولذلك ما كانوا يحتاجون إلى التوبة. وكان يوحنا يعرف ما يدور في خلدِهم فقال: "لاَ تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْراهِيمُ أَباً. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هَذِهِ الْحِجَارَةِ أَوْلاَداً لإِبْراهِيمَ". لقد كان أمراً شائعاً عند المغالين في الدين غير الروحانيين أن يستندوا إلى تقوى آبائهم وأجدادهم وأن يفتخروا بها. ولكن ما لم يكن لدينا نفس الإيمان الذي كان لديهم, فإن افتخارنا يكون فارغاً بلا طائل. فالله الذي خلق الإنسان من تراب الأرض كان ليستطيع أن يقيم أولاداً مؤمنين من الحجارة لو شاء ذلك. وأضاف: "وَﭐلآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ". كثيراً ما تُوضَع الفأس على ثمار الشجرة في أيامنا. ولكن المشكلة هي في الجذر. يجب أن يكون هناك إنسان جديد إن أردنا ثماراً لله. أن نضع الفأس على أصل الشجرة يدل على الدينونة الكاملة للإنسان الطبيعي ويُوحي بالحاجة الماسّة للولادة الجديدة.
"أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ وَلَكِنِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ". إن الرمز الخارجي الظاهري كان فقط لأولئك الذين يعترفون بتوبة صادقة نحو الله, والذين يلتجئون إليه طالبين رحمته لأنهم خُطاة بائسين عاجزين. عندما سيأتي المسيح سيُعمِّد بـ (أو في) الروح القدس والنار.
"ﭐلَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخْزَنِ وَأَمَّا التبن فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ". القمح هم أبناء الملكوت (متى ١٣: ٣٨). إنهم أولئك الذين سيعتمدون بالروح القدس. والتبن هم فاعلي الإثم الذين سيعتمدون بنار الدينونة. ما من شيء يمكن أن يؤكد ألوهية ربنا أكثر من إعلان يوحنا المتعلّق به وبمعموديته المضاعفة الجوانب. تخيّلوا مخلوقاً يعمِّد بالروح القدس. وحده القدوس هو الوحيد الذي يستطيع أن يفعل ذلك. وفي العنصرة يُعلن بطرس بدون تردد أنه (أي المسيح) هو الذي أرسل الروح (أعمال ٢: ٣٣). فهو الذي سيرسل الخُطاة غير التائبين إلى نار العقاب الأبدي (متى ٢٥: ٤١). لا يجب أن نخلط هذا مع الكفاية التطهيرية للروح القدس, ولا مع الألسنة التي "كأنها لهيب نار" التي ظهرت في يوم الخمسين. "وَأَمَّا التبن فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ". هذه وُضعت في تضادّ مباشر مع "يَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخْزَنِ" (الآية ١٢).
"حِينَئِذٍ جَاءَ يَسُوعُ مِنَ الْجَلِيلِ إِلَى الأُرْدُنِّ إِلَى يُوحَنَّا لِيَعْتَمِدَ مِنْهُ". لقد آن الأوان أخيراً لإعلان الملك؛ وظهر يسوع وسط الحشد وخطا مُتقدِّماً لينال الطقس الذي خضع له الكثيرون من الخُطاة المعترفين. ذاك الذي كان سيأخذ مكان الخاطئ جاء ليعتمد على يد يوحنا, لكي يتطابق بذلك مع الخطاة الذين كان سيبذل حياته من أجلهم. "وَلَكِن يُوحَنَّا مَنَعَهُ قَائِلاً: «أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!»". فبالنسبة للمعمدان, بدا من غير المعقول أن مَن كان بلا خطيئة سيخضع لمعمودية التوبة لغفران الخطايا. لقد شعر أنه هو بنفسه من كان بحاجة بالأحرى لأن يعتمد على يد يسوع. "فأجاب يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «ﭐسْمَحِ الآنَ لأَنَّهُ هَكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرٍّ». حِينَئِذٍ سَمَحَ لَهُ". لكأن يسوع كان يقول: "أرغبُ أن أخضع لهذه كعربون ودلالة على أني أتيت لأحقق كل مطالب عرش الله المُحقَّة بالنيابة عن الخطاة". لقد كان تكرُّس الرب العالمي لعمل الصليب الذي لأجله جاء إلى هذا العالم. إنه لتفسير ضحل بالفعل أن تُعتبر عملية المعمودية تحقيق للبرّ. بمعنى آخر, لم يعتمد يسوع لأنه أراد أن يعطينا مثالاً صالحاً, بل بالحري لكي يطابق نفسه مع الخطاة على أنه الذي سيحمل المسؤولية بنفسه لإرضاء كل مَطلب عادل عن أولئك الذين أقرّوا بأنهم استحقوا اللعنة بعدل لأنهم انتهكوا الناموس, وهكذا لا يكون لهم بر في أنفسهم. لقد كانوا كمثل المدينين الذين يقدّمون الكمبيالات لله. ويسوع ظهَّر تلك الكمبيالات ضامناً الدفع بالكامل- تلك التسوية قد تمَّت على الصليب.
في الآيتين التاليتين نعلم كيف أن الله عبّر عن تأييده للابن بطريقة لافتة: "فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ وَإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ فَرَأَى رُوحَ اللَّهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِياً عَلَيْهِ وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ قَائِلاً: «هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ»". وفي الحال بعد تكريس الرب نفسه علنياً, "انفتحت السماء" فوقه, وظهر تجلٍّ مرئيٍّ منظور على مسح الروح القدس له لأجل العمل العظيم الذي جاء ليتعهَّد بالقيام به لمجد الله وخلاص العالم الضالّ الساقط. إلى هذا يشير بطرس, كما يُدوِّن لنا سفر الأعمال ١٠: ٣٨, والذي يتحدث عنه يسوع في يوحنا ٦: ٢٧. لقد مُسِح كنبيّ, وكاهن, وملك, ومسحه نفس الروح لأنه قدّوس الله, الذي يستطيع وحده أن يسدّ حاجة عالم محتضر.
هنا, في إنجيل متى, يُلفَت انتباهنا بشكل خاص إلى مسحه كملك. وبينما مرقس يؤكد على منصبه النبويّ, ويوحنا يصوره على أنه رئيس كهنتنا العظيم, ولكن هذا كان بعد إنجاز العمل الذي أوكله الآب له.
"وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ قَائِلاً: «هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ»". لقد أعلن الآب بالصوت رضاه عن ابنه. فذاك الذي قدَّم نفسه لله بالمعمودية ليصير ذبيحة خطيئة كان بذلك قد شُهِد له على أنه ذاك الذي بلا خطيئة, لأن ذبيحة الخطيّة يجب أن تكون قُدس أقداس (لاويين ٦: ٢٥). فلم تكن فيه لطخة خطيئة, ولا شرٌّ فطريّ كما لدى جميع أبناء آدم الساقطين. لقد أمكنه أن يقول: "لأَنِّي فِي كُلِّ حِينٍ أَفْعَلُ مَا يُرْضِيهِ" (يوحنا ٨: ٢٩). لقد وجد الآب مسرّته أبداً في التأمل بكمال ابنه. وإنه ليريدنا أن نُسرَّ به أيضاً.