الأصحاح ١٦
الكنيسة والملكوت
نأتي الآن إلى نقطة انعطاف كبيرة أخرى في إنجيل متى. حتى الآن كان الرب يتعامل إجمالاً مع قضايا تتعلّق بملكوت السموات. والآن لأول مرة يتكلم عن الكنيسة, رغم أنها ليست منفصلة كلياً عن الملكوت، بل بالحري مرتبطة به في المظهر الجديد الذي ستتخذه بعد الرفض الذي سيتعرض له الرب والصعود إلى السماء. في اعتراف بطرس العظيم نجد الأساس الأكيد الذي كانت ستُبنى عليه الكنيسة. إن ملكوت الأرض، أو بالأحرى الملكوت السماوي الذي سيُبنى على الأرض، سيتأسس على حقيقة أن المسيح هو ابن داود (٢ صموئيل ٧: ١٢، ١٣). إن أمم الأرض ستتشارك في البركات التي لذلك الملكوت لأن المسيح هو ابن إبراهيم، النسل الذي ستتبارك به كل الشعوب (تكوين ٢٢: ١٨). ولكن كنيسة ربنا يسوع المسيح مبنية على الحقيقة الثمينة بأنه ابن الله الحي.
أن نقول أن بطرس بأي شكل من الأشكال هو الصخرة التي سيقوم عليها هذا الصرح الإلهي، المبني من الحجارة الحية، يعني إنكار ما كان هو نفسه يعلّمهُ في الأصحاح الثاني من رسالته الأولى (الآيات ٤- ٧). ويضيف بولس أيضاً شهادته أنه لا يمكن أن يكون هناك أي أساس آخر سوى يسوع المسيح نفسه (١ كورنثوس ٣: ١١). وهذا هو ذاك الأساس من الرسل والأنبياء الذي تشير إليه الآية في أفسس ٢: ٢٠.
قبل أن نأتي إلى التمعّن في الوحي المُعطى بالنسبة إلى هذه الأشياء، هناك مقطعان في هذا الأصحاح يتطلبان منا الانتباه: الأول، توبيخ ربنا للفريسيين والصدوقيين الذين جاءوا يطلبون آية من السماء.
"وَجَاءَ إِلَيْهِ الْفَرِّيسِيُّونَ وَالصَّدُّوقِيُّونَ لِيُجَرِّبُوهُ فَسَأَلُوهُ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً مِنَ السَّمَاءِ. فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُم: «إِذَا كَانَ الْمَسَاءُ قُلْتُمْ: صَحْوٌ لأَنَّ السَّمَاءَ مُحْمَرَّةٌ. وَفِي الصَّبَاحِ: الْيَوْمَ شِتَاءٌ لأَنَّ السَّمَاءَ مُحْمَرَّةٌ بِعُبُوسَةٍ. يَا مُرَاؤُونَ! تَعْرِفُونَ أَنْ تُمَيِّزُوا وَجْهَ السَّمَاءِ وَأَمَّا عَلاَمَاتُ الأَزْمِنَةِ فَلاَ تَسْتَطِيعُونَ! جِيلٌ شِرِّيرٌ فَاسِقٌ يَلْتَمِسُ آيَةً وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ». ثُمَّ تَرَكَهُمْ وَمَضَى" (الآيات ١- ٤).
هؤلاء الفريسيون والصدوقيون كانوا يعارضون بعضهم البعض بشدة فيما يخص كل عقيدة تقريباً من عقائد الكتاب المقدس، ولكنهم كانوا متحدين في رفضهم المتعمّد للرب يسوع، ملك الله الموعود. إذ كانوا على معرفة بالأنبياء فقد عرفوا أن آيات معينة كانت تشير إلى أشياء ستحدث قبل استعلان المسيا؛ ولذلك جاءوا إلى يسوع، بدون رغبة في معرفة الحقيقة، بل فقط لكي يجرّبوه ويمتحنوه، طالبين منه أن يريهم آيةً من السماء. لقد كانوا يقصدون آيةً تشير إلى أن الدهر المسياني كان وشيكاً. فوبّخهم يسوع على عدم إيمانهم. لقد كانوا قادرين تماماً على أن يقرأوا آيات السماء المتعلّقة بأمور الطقس والمناخ، ولكن كانوا عاجزين تماماً على أن يتبينوا آيات الأزمنة. لو أن أعينهم كانت مفتوحة لكانوا أدركوا أن كل الأعمال المعجزية ليسوع كانت بحد نفسها آيات عن الدهر الآتي وتخبر عن حضور الملك. لقد كان المسيا في وسطهم. ما من آية أخرى كانت لتُعطى لهم حتى آية النبي يونان. لا يشرح هنا ما قصدَ بتلك الآية، ولكنه يخبرنا في ١٢: ٤٠: "لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ هَكَذَا يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي قَلْبِ الأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ". وهكذا ستكون آية النبي يونان قيامة الرب يسوع. للأسف ، عندما جاء ذلك اليوم، حتى تلك الآية العجائبية لم تُفلح في إقناع هؤلاء الناموسيين التشريعيين المرائين المقاومين المعاندين؛ لقد أصرّوا على البقاء في عدم الإيمان وقسوة القلب.
"وَلَمَّا جَاءَ تَلاَمِيذُهُ إِلَى الْعَبْرِ نَسُوا أَنْ يَأْخُذُوا خُبْزاً. وَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ﭐنْظُرُوا وَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ». فَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ قَائِلِينَ: «إِنَّنَا لَمْ نَأْخُذْ خُبْزاً». فَعَلِمَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ أَنَّكُمْ لَمْ تَأْخُذُوا خُبْزاً؟ أَحَتَّى الآنَ لاَ تَفْهَمُونَ وَلاَ تَذْكُرُونَ خَمْسَ خُبْزَاتِ الْخَمْسَةِ الآلاَفِ وَكَمْ قُفَّةً أَخَذْتُمْ وَلاَ سَبْعَ خُبْزَاتِ الأَرْبَعَةِ الآلاَفِ وَكَمْ سَلاًّ أَخَذْتُمْ؟ كَيْفَ لاَ تَفْهَمُونَ أَنِّي لَيْسَ عَنِ الْخُبْزِ قُلْتُ لَكُمْ أَنْ تَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ؟» حِينَئِذٍ فَهِمُوا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَنْ يَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ الْخُبْزِ بَلْ مِنْ تَعْلِيمِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ" (الآيات ٥- ١٢).
بعد حديث الرب مع هؤلاء القادة الدينيين، جاء التلاميذ إلى يسوع وقالوا بأنهم قد نسيوا أن يأتوا بخبز. في جوابه لهم أوردَ تحذيراً ليس مهماً بحد ذاته فقط، بل أيضاً يساعد في تقديم مفتاح لفهم معنى الخمير في الكتاب المقدس، كما رأينا في دراستنا للأصحاح ١٣.
عندما قال التلاميذ بأنهم نسيوا أن يحضروا الخبز معهم، قال لهم يسوع: "«ﭐنْظُرُوا وَتَحَرَّزُوا مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ»". لم يفهم أتباعه ما قصد بهذا القول، وظنّوا أنه كان يحذّرهم من قبول الخبز من أولئك المعلِّمين الكذبة. قالوا في أنفسهم: "«إِنَّنَا لَمْ نَأْخُذْ خُبْزاً»". عندما أدرك يسوع كيف كانوا يفكّرون وبّخهم قائلاً: "لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ أَنَّكُمْ لَمْ تَأْخُذُوا خُبْزاً؟". ثم ذكّرهم كيف كان للتو قد أمّن الخبز لخمسة آلاف وأيضاً لأربعة آلاف، وكم تبقى في كل حادثةٍ. من هنا، كان يجب أن يدركوا أنه ما كان يتحدث عن خبزٍ مادي كان يمكنه أن يؤمّنه بوفرة كبيرة، بل كان يحذّرهم من الخمير، الذي يُفسَّر في الآية ١٢ على أنه "تَعْلِيمِ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ". إن خمير الفريسيين يُشرَح في لوقا ١٢: ١ على أنه الرياء. وفي هذا كان برٌّ ذاتي متفاقم. وخمير الصدوقيون كان التعليم الكاذب: فقد كانوا ينكرون سلطة كل العهد القديم ما عدا أسفار موسى، وما كانوا يؤمنون بالحقائق الروحية. هكذا تعاليم شريرة تعمل كالخمير، فتنتشر خلال أي جماعة مُدخِلة التساهل والتراخي إليها؛ ومن هنا حذَّر الرب منها.
والآن نأتي إلى اعتراف بطرس العظيم بالمسيح بأنه ابن الله الحي.
"وَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى نَوَاحِي قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّسَ سَأَلَ تَلاَمِيذَهُ قَائِلاً: «مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟» فَقَالُوا: «قَوْمٌ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ وَآخَرُونَ إِيلِيَّا وَآخَرُونَ إِرْمِيَا أَوْ وَاحِدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ». قَالَ لَهُمْ: «وَأَنْتُمْ مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟» فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَقَال: «أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الْحَيِّ». فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا إِنَّ لَحْماً وَدَماً لَمْ يُعْلِنْ لَكَ لَكِنَّ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. وَأَنَا أَقُولُ لَكَ أَيْضاً: أَنْتَ بُطْرُسُ وَعَلَى هَذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْنِي كَنِيسَتِي وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا. وَأُعْطِيكَ مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ فَكُلُّ مَا تَرْبِطُهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطاً فِي السَّمَاوَاتِ. وَكُلُّ مَا تَحُلُّهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي السَّمَاوَاتِ». حِينَئِذٍ أَوْصَى تَلاَمِيذَهُ أَنْ لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ إِنَّهُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ" (الآيات ١٣- ٢٠).
"«مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟»". كانت هناك تخميناتٌ كثيرةٌ حول هوية يسوع الحقيقية، وفيما إذا كان كما بدا وحسب أم أنه كان من المحتمل أنه تجسُّدٌ جديد لآخر. أراد الرب أن يعرف حقيقةَ فهمهم لسرِّ شخصه (١ تيموثاوس ٣: ١٦). لم يكن السؤال بدافع رغبته في الاستعلام، بل لأنه كان يرغب أن ينتزع منه أتباعه اعترافاً واضحاً محدداً، إذ كان سيمضي معهم عاجلاً إلى أورشليم، حيثُ كان سيُصلب. لقد كان أمراً في غاية الأهمية أن يعرفوه في حقيقته بطبيعتيه الإلهية والبشرية.
" قَوْمٌ يقولون أنك.....". فبدأوا في الحال يُخبرونه كيف أن هناك عدة أناس يفترضون أنه يوحنا المعمدان، وقد قام من بين الأموات، كما كان هيرودس يعتقد، أو إيليا، الذي كان سيُعلِن " مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ وَالْمَخُوفِ" (ملاخي ٤: ٥، ٦)؛ أو إرميا، الذي افترضَ كثيرون أنه كان سيظهر من جديد وسيحقق النبوءة العظيمة الواردة في أشعياء ٥٣، بالاستناد في ذلك إلى إرميا ١١: ١٩ كما تشرحها أشعياء ٥٣: ٧؛ أو "واحدٌ من الأنبياء"، "ذلك النبي" الذي كان موسى قد سبقَ وتنبَّأ عنه في تثنية ١٨: ١٨.
"«وَأَنْتُمْ مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟»". هل عرفوا، من خلال الملاحظة وتنوير الروح القدس، مَن كان هو حقاً؟ هذا السؤال المحدد كان يتطلب اعترافاً إيجابياً واضحاً، وهذا ما كان يرغب في أن يحصل عليه منهم.
"«أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الْحَيِّ»". تكلَّمَ بطرس بالنيابة عنهم جميعاً، رغمَ أنه ما من أحدٍ من البقيّة قد بدت لديه الجرأة بأن يصرّح بإيمانه علانيّةً. إن المسيح والمسيا اسمان مترادفان. وكلاهما يعني "الممسوح". كان ذلك هو اللقب الذي أُعطي نبوياً للمخلِّص الآتي (أشعياء ٦١: ١). في القديم، كان الأنبياء والكهنة والملوك جميعهم ممسوحين. وشغلَ يسوع المناصب الثلاثة، التي كان ممسوحاً لها جميعاً بروح قُدْسِ الله (أعمال ١٠: ٣٨). بطبيعته البشرية هو ابن داود، المسيا، المسيح. وبالنسبة لطبيعته الإلهية فهو ابن الله الحي.
من المهم جداً أن يكون لدى جميع الناس فهمٌ صحيح لطبيعة وشخص ربنا يسوع المسيح. وفقط إن تعرَّفَ عليه المرء بالإيمان على أنه ابن الله المساوي للآب الأزلي السرمديّ، فعليه عندها أن يتجرَّأ فيسلّم نفسه له كمخلِّص. ثمة فجوة كبيرة لا يمكن سدّها بين أسمى الكائنات المخلوقة والخالق نفسهُ. إن كنيسة المسيح ليست مؤسسة على مجرَّد إنسان، مهما كان قدوساً أو مستنيراً أو مُكرَّساً. إنها تستند بأمان إلى إعلان الحق الذي أقرَّ به سمعان بطرس بوضوح. وكما أن الكنيسة مبنيَّة على هذه الحقيقة المباركة، فهكذا تماماً خلاص كل نفسٍ منفردة يستند إلى حقيقة أن الله صار إنساناً ليُقدِّمَ نفسه كفّارة عن خطايانا.
"إِنَّ لَحْماً وَدَماً لَمْ يُعْلِنْ لَكَ". ليس بالحدس البديهي فقط، أو بالمحاكمة المنطقية توصَّل سمعان بطرس إلى هذا الاستنتاج. إن الله الآب هو الذي أنار فهمه وكشفَ له الحقيقة المتعلِّقة بشخص الرب وبنوَّته الإلهية (متى ١١: ٢٧).
"أَنْتَ بُطْرُسُ وَعَلَى هَذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْنِي كَنِيسَتِي". "هذه الصخرة" هي المسيح (١ كورنثوس ١٠: ٤). فعليه هو الكنيسة مبنيَّةٌ. إن كلمة بطرس تعني الصخرة، أو جزءٌ من صخرة. لقد كان ينبغي أن يُبنَى في الكنيسة. والكنيسة ما كانت لتُبنَى عليه. إزاء حقيقة أن الكنيسة الحقيقية مبنية على المسيح ابن الله الحي، "فإن أبواب الجحيم لن تقوى عليها". ما من محاولة للشيطان وزبانيته لتفيد في دمار الكنيسة أو تُؤخِّر تقدّم شهادتها. العائق الحقيقي الوحيد يأتي من داخل الكنيسة نفسها كما تُظهِر نصوصٌ كتابية. لاحظ أنه لا يقول "كنتُ أبني"، أو "أنا أبني"؛ بل قال "سأبني". إن الجماعة، التي يسمّيها "كنيستي"، هي شيءٌ من المستقبل. بناءُ هذا الهيكل الروحي لم يبدأ إلا بعد صعوده إلى السماء ومجيء روح قدس الله المُعزِّي الموعود. في هذا البيت كان بطرس حجراً حياً. الاسم الذي أعطاه له يسوع يعني صخرة أو جزءٌ من صخرة. ولكن على "هذه الصخرة"، أي هذه الحقيقة العظيمة التي أُعلِنت للتو، ستُبنى كنيستهُ.
"مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ". أما وقد تحدثَ عن الكنيسة، انتقل يسوع إلى موضوع الملكوت، الذي كان قد وضعَ خطوات تأسيسه سابقاً في الأمثال في الأصحاح ١٣. مفاتيح هذا الملكوت قد ائتُمِنَ بطرس عليها. لاحظوا، لم يُعطِ بطرسَ مفاتيح السماء. هذه الفكرة هي خرافة عظيمة. المفتاح مخصص لفتح الباب. في العنصرة فتحَ بطرس باب الملكوت لليهود؛ وفي بيت كورنيليوس فتحَ الباب للأمميين.
"لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ". قد يبدو هذا غريباً. ولكن بما أنه قد صار واضحاً الآن رفضُ إسرائيل له، لم يكن الوقت مناسباً بعد لإعلان مسيانيته والتصريح بأنه المسيح. عندما أُقيمَ يسوع من بين الأموات، أعلنَ بطرس هذه الحقيقة بقوةٍ (أعمال ٢: ٣٦).
من ذلك الوقت فصاعداً بدأ الرب بالحديث أكثر فأكثر حول رفض اليهود النهائي له، وآلامه وموته، وقيامته التالية. ولكن تلاميذه كانوا بطيئي الفهم جداً لإدراك ما كان يقصدهُ؛ كانت أذهانهم لا تزال متركّزة على الملكوت الآتي، وما كانوا ليتخيلون الملك يموت.
"مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يُظْهِرُ لِتَلاَمِيذِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيراً مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ وَيُقْتَلَ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومَ. فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَابْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ قَائِلاً: «حَاشَاكَ يَا رَبُّ! لاَ يَكُونُ لَكَ هَذَا!» فَالْتَفَتَ وَقَالَ لِبُطْرُسَ: «ﭐذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ. أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا لِلَّهِ لَكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ». حِينَئِذٍ قَالَ يَسُوعُ لِتَلاَمِيذِهِ: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا. لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟ فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يَأْتِي فِي مَجْدِ أَبِيهِ مَعَ مَلاَئِكَتِهِ وَحِينَئِذٍ يُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ عَمَلِهِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ هَهُنَا قَوْماً لاَ يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوُا ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً فِي مَلَكُوتِهِ" (الآيات ٢١- ٢٧).
"مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ابْتَدَأَ". لقد بدأت فتر جديدة من خدمة ربنا. من الآن فصاعداً سيؤكّد رفضهُ واقتراب الموت إليه، والذي ستليه قيامته.
"«حَاشَاكَ يَا رَبُّ! لاَ يَكُونُ لَكَ هَذَا!»". والآن لدينا مثال جديد عن مدى سهولة سقوط مَن استنار إلهياً في خطأ قاتل إن تصرَّفَ بحسب المبادئ البشرية وحسب.
"ﭐذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ". يا لها من صخرةٍ يائسة سيكون عليها بطرس والتي عليها ستُبنى الكنيسة! لقد صار، وبدون قصدٍ أو معرفة، المُتحدِّث بلسان الشيطان عندما نصح يسوع ألا يذهب إلى الصليب. إنه لغريبٌ أن يُعلِّمَ أحدٌ لوهلةٍ بأن بطرس كان أول بابا، وفي الوهلة التالية أن البابا معصومٌ من الخطأ؛ فبينما كان من أكثر الناس جديةً وتكرُّساً وإخلاصاً، تخبَّطَ بطرس كمثل جميع إخوته الرسل، ليس فقط في أيام إذلال ربنا، بل أيضاً بعد قيامته وصعوده إلى السماء. يخبرنا بولس كيف اضطر إلى أن يقاوم بطرس وجهاً لوجه لأنه كان ملوماً في ريائه وخوفه من الناس، مُساوماً بذلك على حرية النعمة (غلاطية ٢: ١١- ١٦).
"فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ". إن طريق التلمذة هو طريق نكران ذاتٍ مطّرد مستمر. لقد كان الرب يُعدُّ أتباعه لمسؤولياتهم التي سيحملونها عندما تتحقق كلماته النبوية المتعلِّقة به. فسوف يُدعَون لتجاهل الاهتمامات الدنيوية وحمل الصليب، الذي كان يعني قبول أن يكونوا في موضع الرفض معه، وهكذا كان عليهم أن يسيروا في إثر خطواته.
إن مَن يفكر بتحسن وضعه من خلال تجنّب الاضطهاد لأجل المسيح، وليُنقذ حياته هكذا، إنما سيفقدها. أما ذاك الذي كان على استعدادٍ لأن يبذل حياته من أجل المسيح فسيحفظها إلى الحياة الأبدية. الموت في هذا العالم سيكون مدخلاً وحسب إلى المجد الأبدي. سيكون بلا قيمة أن يربح المرء كل العالم ويخسر نفسه. إن النفس هي الحياة حقاً، الذات. أن تخسر نفسك، يعني أن تخسر الهدف الذي خُلِقَ لأجله الإنسان. لقد خُلِقَ الإنسان، كما يقول كتاب التعليم المسيحي المُختَصر، ليُمجِّد الله ويتمتع به إلى الأبد. مَن يجعل هدفاً لهُ أن يجمع الثروة، أو استحسان العالم الذي بلا مسيح، سوف يخسر، ويجد نفسه في النهاية محروماً من كل ما لهُ أية قيمة. لاحظوا السؤال: "مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟" إنه لا يقول، كما يتخيّل المرء، "ما الذي يأخذه الإنسان مقابل نفسه؟" بل "ما الذي سيعطيه الإنسان مقابل نفسه؟" إن نفس الإنسان عُرضة للخسارة. ما الذي يستطيع الإنسان أن يُقدّمه ليفتديها؟ ليس له ما يقدّمهُ. إن استمرَّ في خطيئته سيفقد نفسه إلى الأبد، ولكن إن تحوَّلَ إلى المسيح فسيجد الفداء فيه. عندما سيأتي للمرة الثانية كابن الإنسان في مجد أبيه مع ملائكته فعندها سيُكافئُ كل واحدٍ بحسب أعمالهِ.
الآية الختامية (في الأصحاح ١٦) يجب أن تكون فعلياً أول آية في الأصحاح ١٧. إن من حرر السفر وقسمه إلى أصحاحات وآيات جعل انقطاعاً في المكان الخطأ. عندما قال يسوع: "اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ هَهُنَا قَوْماً لاَ يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوُا ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً فِي مَلَكُوتِهِ"، فإنه كان يشير إلى الحدث العظيم الذي سيحدث "بعد ستة أيام"، ألا وهو التجلّي، الذي نعرفُ من كلمات بطرس الرسول أنهُ الملكوت مُصوَّراً في حالةٍ جنينيّة لتصديق الآب للتلاميذ على ذلك.