الأصحاح ١١

نعمة الملك

مع استمرار ربنا في خدمته الكريمة السمحة صار واضحاً بشكل متزايد أن الغالبية العظمى الساحقة من إسرائيل، قادةً وشعباً عموماً، لم يكونوا على استعداد لتقبّل رسالته والإقرار به على أنه الممسوح المُرسَل من الله ليحررهم من العبودية، ليس فقط للسلطة الرومانية بل أيضاً للخطيئة والشيطان. في هذا الأصحاح نسمع يسوع يُعلن ويلات على نفس المدن التي أجرى فيها معظم أعماله المقتدرة. سيبدو من غير المعقول لنا، إن لم نعرف شيئاً عن قساوة قلوبنا إلى أن تُخضعها النعمة الإلهية، أن الناس أمكنهم أن يقاوموا هكذا دليل واضح بيِّن عن مسيانية الرب يسوع. فقط عندما يسجد الناس في توبة أمام الله ينكشف المسيح للنفس. غالباً ما يُقال أن نفس الشمس التي تُذيب الشمعَ تُقسِّي الصلصالَ. وكذلك الحال مع كرازة الإنجيل: البعض يتجاوبون معه بعرفان وامتنان ويتمتعون ببركاته؛ وآخرون يديرون ظهورهم له في عدم إيمان، وهكذا يتحجرون في خطاياهم. يقول بولس: "لِهَؤُلاَءِ رَائِحَةُ مَوْتٍ لِمَوْتٍ، وَلأُولَئِكَ رَائِحَةُ حَيَاةٍ لِحَيَاةٍ" (٢ كورنثوس ٢: ١٦). كانت هكذا هي الحال عندما كان رئيس كل الكارزين هنا. فكان هناك أولئك الذين هم في وسط الفقراء والمنحطين والخطاة خارجياً، قد تلقوا الرسالة بشغف ووجدوا الحياة والشفاء. ولكن المتدينين المتكبرين من ذوي البر الذاتي، الذين لم يشعروا بحاجة إلى نعمة الله، رفضوا الرسالة والرسول، بل حتى أعلنوا مجدفين أن الرب نفسه كان أداة في يد بعلزبول، رئيس الشياطين.

بعد تفويضه للإثني عشر وإرساله لهم ليكرزوا بإنجيل الملكوت، غادر يسوع ليمضي وحده كارزاً في مدن أخرى. فنقرأ:

"وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ أَمْرَهُ لِتَلاَمِيذِهِ الاِثْنَيْ عَشَرَ انْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ لِيُعَلِّمَ وَيَكْرِزَ فِي مُدُنِهِمْ" (الآية ١).

بعد أن غادر التلاميذ، جاء اثنان من تلاميذ يوحنا المعدمان ليسألوا الرب فيما إذا كان هو الآتي فعلاً أم أنهم سينتظرون آخر. فأجاب الرب يسوع بأن أظهر قدرته على المرض والشياطين، واستغل الفرصة ليطري على يوحنا ورسالته.

"أَمَّا يُوحَنَّا فَلَمَّا سَمِعَ فِي السِّجْنِ بِأَعْمَالِ الْمَسِيحِ أَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُ: «أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟» فَأَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهُمَا: «ﭐذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ: اَلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ وَالْعُرْجُ يَمْشُونَ وَالْبُرْصُ يُطَهَّرُونَ وَالصُّمُّ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ وَالْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ. وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ». وَبَيْنَمَا ذَهَبَ هَذَانِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَقُولُ لِلْجُمُوعِ عَنْ يُوحَنَّا: «مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ لِتَنْظُرُوا؟ أَقَصَبَةً تُحَرِّكُهَا الرِّيحُ؟ لَكِنْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَإِنْسَاناً لاَبِساً ثِيَاباً نَاعِمَةً؟ هُوَذَا الَّذِينَ يَلْبَسُونَ الثِّيَابَ النَّاعِمَةَ هُمْ فِي بُيُوتِ الْمُلُوكِ. لَكِنْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَنَبِيّاً؟ نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ وَأَفْضَلَ مِنْ نَبِيٍّ. فَإِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي كُتِبَ عَنْهُ: هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي الَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَمْ يَقُمْ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ وَلَكِنَّ الأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ أَعْظَمُ مِنْهُ. وَمِنْ أَيَّامِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ إِلَى الآنَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ يُغْصَبُ وَالْغَاصِبُونَ يَخْتَطِفُونَهُ. لأَنَّ جَمِيعَ الأَنْبِيَاءِ وَالنَّامُوسَ إِلَى يُوحَنَّا تَنَبَّأُوا. وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَقْبَلُوا فَهَذَا هُوَ إِيلِيَّا الْمُزْمِعُ أَنْ يَأْتِيَ. مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ" (الآيات ٢- ١٥).

لسنا في حاجة لأن نتحزر فيما إذا كانت الشكوك قد دخلت إلى ذهن سابقه يوحنا، أو فيما إذا كان أرسل تلاميذه ببساطة إلى الرب يسوع المسيح سائلين إياه فيما إذا كان هو المُزمَع أن يأتي لكيما يتعزز إيمانهم. كان يوحنا في السجن في هذا الوقت بسبب إخلاصه (لله) بتوبيخه هيرودس على شرِّه إذ أخذ خليلة له هيروديا، زوجة أخيه فيلبس. لقد انتهت أيام شهرة يوحنا. بينما كان قد أصابه الوهن والضعف في قلعة مكاريوس المظلمة الكئيبة (إذا صحَّ ما جاء في التقليد) فلعله تساءل نوعاً ما إذا ما كان قد أساء فهم الشهادة المتعلقة بيسوع. وربما بسبب الحاجة إلى طمأنة بعض تلاميذه القلقين، أرسل اثنين من تلاميذه إلى يسوع إذا ما كان هو حقاً "المُزمَع أن يأتي" أو أن يوحنا كان يجب أن ينادي بآخر.

إجابة على هذه الأسئلة ذكَّرهم يسوع بأن كل أوراق اعتماده كملك قد أُظهِرت بقوة واقتدار. إن المعجزات العظيمة التي قام بها صادقت على أقواله: فالعمي كانوا يبصرون، والعرج يسيرون، والبرص يطهرون، والصم يسمعون؛ وحتى الأموات كانوا يُقامون. فهل من علامات أعظم يجب البحث عنها؟ للفقراء أُعلِنَ خبر الملكوت السار. ولكن كان ذاك وقت امتحان. لم يكن هناك موكب أبهة عظيم في الظاهر أو استعراض كمثل ذاك الذي يرافق بشكل طبيعي مجيء ملك. ولذلك فإن الإيمان بالله وبكلمته كان أمراً مهماً. "طُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ". لقد كان الأمر يتطلب إيماناً حقيقياً لترى في يسوع الناصري الوديع والمتواضع الابن الملكي لداود الذي قُدِّر له أن يحكم كل الشعوب بعصا برٍّ من حديد.

بعد رحيل تلاميذ يوحنا، استغل يسوع الفرصة ليتحدث بمديح عن المعمدان وشهادته. ما الذي شدَّ الجموع إليه؟ لم يكن ذلك بسبب أي استعراض أو فخامة أو عظمة خارجية. فيوحنا لم يظهر في ثياب جميلة فخمة أو أية ملابس أخرى باهظة الثمن كما نجد عند الحاشية الملكي في القصور. لقد جاء، على شِبه إيليا، في ثياب فقيرة، ويقتات على أبسط الأطعمة. ومع ذلك فما من إنسان ولدته امرأة حتى ذلك الوقت كان أعظم منه لأنه أُعطِيَ له أن يعرِّفَ عن مسيا إسرائيل. ولكن، ورغم عظمته، فإن أصغر وأفقر عضو في ملكوت السموات أعظم منه بكثير. إذ رغم أن يوحنا قد أشار إلى الباب المفتوح، فإنه لم يُعطَ له أن يدخل إلى الحالة الجديدة للأشياء التي يفترضها الملكوت. لقد ختم عهداً؛ وافتتح يسوع عهداً آخر. "جَمِيعَ الأَنْبِيَاءِ وَالنَّامُوسَ إِلَى يُوحَنَّا". بفضل الإيمان حقق نبوءة ملاخي بأن إيليا كان سيأتي قبل يوم الرب العظيم والمخيف.

إذ قال ذلك, استأنف يسوع مُعلِناً: "مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ". إنه ليسهل جداً أن نسمع بأذننا الخارجية ولكن أن نُخفق في اقتبال الحقيقة في القلب.

بعد ذلك يورد الرب وفي تغاير حيوي الفارق بين خدمة يوحنا وخدمته، ولكن يُظهِر أن التجاوب كان ضئيلاً جداً على كليهما.

"«وَبِمَنْ أُشَبِّهُ هَذَا الْجِيلَ؟ يُشْبِهُ أَوْلاَداً جَالِسِينَ فِي الأَسْوَاقِ يُنَادُونَ إِلَى أَصْحَابِهِمْ وَيَقُولُونَ: زَمَّرْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَرْقُصُوا! نُحْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَلْطِمُوا! لأَنَّهُ جَاءَ يُوحَنَّا لاَ يَأْكُلُ وَلاَ يَشْرَبُ فَيَقُولُونَ: فِيهِ شَيْطَانٌ. جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ فَيَقُولُونَ: هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ. وَالْحِكْمَةُ تَبَرَّرَتْ مِنْ بَنِيهَا»" (الآيات ١٦- ١٩).

"أَوْلاَداً جَالِسِينَ فِي الأَسْوَاقِ". يشبِّه يسوع الناس الذين أتت إليهم الرسالة بأطفال غير مسؤولين لم يختبروا أسعد أو أتعس لحظات في الحياة، بل كان لديهم مجرد إدراك بسيط لكليهما.

"زَمَّرْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَرْقُصُوا! نُحْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَلْطِمُوا!". كان الأمر سيان سواء كانت المناسبةُ زفافاً أم جنازةً. فلم يؤثر صوت الإنجيل السعيد ولا الدعوة المهيبة في حث الغالبية العظمى من الناس إلى التوبة.

"جَاءَ يُوحَنَّا لاَ يَأْكُلُ وَلاَ يَشْرَبُ". كان يوحنا زاهداً، رجل البرية، الذي أنكر على نفسه كل وسائل الراحة العادية. ولكنهم قالوا أنه كان فيه شيطان.

"هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ". كان يسوع رجل الشعب. كان يتحرك بحرية وسطهم ويشاركهم في ولائمهم. ولكن أُنسه ولطفه نفسه أُسيءَ تفسيره. فاتهمومه بأنه يشبع رغباته وشهواته.

في المقطع المؤلف من الآيات ٢٠ إلى ٢٤ يوبّخ يسوع المدن التي استمتعت بالامتيازات العظيمة بينما كانت الغالبية الساحقة من شعبها مُصرَّة على الجحود والنكران. ولعلنا نندهش من مدى جحود ورفض التوبة وقسوة قلب المقيمين في تلك المدن التي كان يسوع قد قام فيها بالكثير من الأعمال المقتدرة، ولكن هل كان قدومنا أبداً أكثر استعداداً منهم لاقتبال الحق؟

"حِينَئِذٍ ابْتَدَأَ يُوَبِّخُ الْمُدُنَ الَّتِي صُنِعَتْ فِيهَا أَكْثَرُ قُوَّاتِهِ لأَنَّهَا لَمْ تَتُبْ: «وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ! وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا! لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي صُورَ وَصَيْدَاءَ الْقُوَّاتُ الْمَصْنُوعَةُ فِيكُمَا لَتَابَتَا قَدِيماً فِي الْمُسُوحِ وَالرَّمَادِ. وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ صُورَ وَصَيْدَاءَ تَكُونُ لَهُمَا حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً يَوْمَ الدِّينِ مِمَّا لَكُمَا. وَأَنْتِ يَا كَفْرَنَاحُومَ الْمُرْتَفِعَةَ إِلَى السَّمَاءِ سَتُهْبَطِينَ إِلَى الْهَاوِيَةِ. لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي سَدُومَ الْقُوَّاتُ الْمَصْنُوعَةُ فِيكِ لَبَقِيَتْ إِلَى الْيَوْمِ. وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَرْضَ سَدُومَ تَكُونُ لَهَا حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً يَوْمَ الدِّينِ مِمَّا لَكِ" (الآيات ٢٠- ٢٤).

"لأَنَّهَا لَمْ تَتُبْ". إن المدن نفسها التي كان لها أعظم امتياز بأن سمعت كلمته ورأت أعمال قدرته، رفضت أن تغير موقفها اللامبالي، واستمرت هكذا في خطاياها.

"وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ! وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا". هذه المدن كانت متموضعة قرب الطرف الشمالي من بحر الجليل، الأولى إلى الغرب قليلاً، والأخرى على الشاطئ. بالكاد يمكن التعرف على كُورَزِينُ اليوم؛ وإن بَيْتَ صَيْدَا قرية صغيرة فقيرة جداً.

"إِنَّ صُورَ وَصَيْدَاءَ تَكُونُ لَهُمَا حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً". هذه كانت مدن فينيقية، مشهورة بفسادها وشرها، وكانت قد دُمِّرت قبل قرون. ولكن شعوبها كانت لا تزال تنتظر يوم الدينونة. لاحظ أنه ستكون هناك درجات من القصاص بحسب مقياس النور الذي تم تلقّيه أو رفضه.

"وَأَنْتِ يَا كَفْرَنَاحُومَ الْمُرْتَفِعَةَ إِلَى السَّمَاءِ سَتُهْبَطِينَ إِلَى الْهَاوِيَةِ". من حيث الامتياز، كانت كَفْرَنَاحُومَ مباركة أكثر من أي مدينة أخرى في الجليل، لأن الرب اختارها "مدينة له" وفيها أجرى أعمالاً معجزية أكثر من أي مكان آخر. وبهذا المعنى فإنها ارتفعت وتمجدت. إلا أنه حُكِم عليها بالدمار الكامل، لأنها لم تعرف زمن افتقادها.

"إِنَّ أَرْضَ سَدُومَ تَكُونُ لَهَا حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً يَوْمَ الدِّينِ مِمَّا لَكِ". كانت صيدون قد صارت مرادفاً للخطايا الأشد شراً وفساداً وشذوذاً. ولكن شعب كفرناحوم كانوا أكثر ذنباً، لأنه جاءهم نورٌ أعظم وكانت لهم امتيازات أفضل، ومع ذلك فقد ثابروا بعناد على خطاياهم.

يا لها من راحة للفكر نشعر بها عندما نأتي إلى الآيات الختامية من هذا الأصحاح! رغم رفض الكثيرين ممن تعطف قلبه عليهم في إشفاق وحنوّ، فإن ربنا لم "ينـزعج"، كما لو كان في محلّنا، بسبب البرودة بل وحتى المعاملة السيئة التي رفض بها الشعب العاق محبته ونعمته. لقد قبل كل شيء من يد أبيه، وتابع تقديم الانعتاق والبركة لكل الذين يأتون إليه.

"فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ: «أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هَذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ. نَعَمْ أَيُّهَا الآبُ لأَنْ هَكَذَا صَارَتِ الْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ. كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الاِبْنَ إِلاَّ الآبُ وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الاِبْنُ وَمَنْ أَرَادَ الاِبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ. تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ وَأَنَا أُرِيحُكُمْ. اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ» (الآيات ٢٥- ٣٠).

"أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ". في نفس الوقت الذي كان فيه ربنا يعاني مرارة لا مبالاة الإنسان ومقاومته له، فإنه يلتفت إلى الله الآب في عبادة وتسبيح، مُبتهجاً بأنه رغم أن العظماء في إسرائيل قد رفضوه، فإن المتواضعين قد اقتبلوا كلماته.

"نَعَمْ أَيُّهَا الآبُ". إنها لغة تدل على إذعان كامل لإرادة الآب. فمثل الإنسان التابع على الأرض، كان مُعيَّناً بالكلية لكل ما كان الآب قد تنبأ به.

"لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الاِبْنَ إِلاَّ الآبُ". إن سر التجسد، الله والإنسان في شخص واحد، أمر لا يُفسَّر وهو يفوق الفهم البشري. ولكن الآب سيكون معروفاً عند "مَنْ أَرَادَ الاِبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ". إن أبوة الله، التي لا تعرفها الحكمة البشرية، قد كشفها الابن. لقد جعل الله معروفاً بالنسبة لأولئك الذي يقتبلون كلماته، كآب لكل المفتدين.

"تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ وَأَنَا أُرِيحُكُمْ". بالتأكيد ما من أحد سوى الله نفسه متجلّياً بالجسد يحق له أن يستخدم هكذا لغة. ما كان لأفضل إنسان عرفته الأرض أن يستطيع القيام بهكذا تصريح. كل الآخرين الذين ينطقون كما يوجههم روح الله يحولون  انتباه الناس عنهم ويوجهونه إلى المسيح لأجل راحة الضمير وسلام الفكر. يسوع وحده أمكنه أن يقول: "تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ وَأَنَا أُرِيحُكُمْ". لقد برهن ألوهيته مرات لا تُحصى من خلال قدرته على تحقيق هذا الوعد.

"اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ". كل الذين يخضعون له بحق يجدون راحة القلب وسط هموم الحياة وهم يتعلمون منه، ذاك الوديع والمتواضع. النير مخصص ليكبح الإرادة وليُخضع الإنسان ويجعله في حالة إذعان. إن من يستبدل عبء الخطيئة الثقيل بنير الخضوع للرب المجيد يجد أنها لبركة أن يخدم هكذا معلّم عظيم صالح.

"لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ". الكثيرون ينكمشون ويتراجعون عن الخضوع لنيره، خوفاً من أن يتطلب هذا تضحيات أعظم مما هم مستعدون للقيام به. ولكن جميع الذين يعترفون بسلطان ويدمجون إرادتهم بإرادته يجدون أنهم يدخلون إلى راحة لم يعرفها المُتعَبون والثقيلوا الأحمال في هذا العالم أبداً.

الراحتان: إن الراحة التي يقدمها الرب يسوع مجاناً لكل الذين يأتون إليه هي راحة الضمير فيما يتعلق بمسألة الخطية. إن النفس المحزونة، المحترقة بالإحساس بالذنب، تأتي إليه وتجد سلاماً عندما تؤمن به كحامل عظيم للخطايا. الراحة الثانية هي راحة القلب، إن الظروف المعاكسة قد تنشأ لتُنذِر وتملأ القلب بالخوف والقلق، ولكن من يحمل نير المسيح ويتعلّم منه يستطيع أن يكون هادئاً وسط العاصفة. إنه يجد راحة تامة إذ يأتمنه على كل الأشياء واثقاً بأنه هو الذي يُسكِّن الأمواج العاتية وهو رب كل العناصر. هاتان الراحتان هما نفسهما جانبا السلام اللذان يتم الحديث عنهما في الرسائل. راحة الضمير مرادفةٌ لذلك السلام مع الله الذي هو نصيب جميع الذين يتبررون بالإيمان (رومية ٥: ١). راحة النفس هي نفسها سَلاَمُ اللهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْلٍ (فيلمون ٤: ٦، ٧)، ويستمتع بها كل الذين يتعلمون أن يسلموا كل شيء للرب.