الأصحاح ٢٦

الملك يواجه الصليب

كان وقت موت يسوع يقترب- ليبذل حياتَه فديةً عن كثيرين. كل شيء كان متنبّأً به منذ الأزل، وجاء الرب إلى الأرض لأجل هذا الهدف المحدد ومع ذلك فمع دنو ساعته، تأثرتْ نفسُه بشدة.

"وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هَذِهِ الأَقْوَالَ كُلَّهَا قَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: «تَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَعْدَ يَوْمَيْنِ يَكُونُ الْفِصْحُ وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ لِيُصْلَبَ». حِينَئِذٍ اجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ وَشُيُوخُ الشَّعْبِ إِلَى دَارِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ الَّذِي يُدْعَى قَيَافَا وَتَشَاوَرُوا لِكَيْ يُمْسِكُوا يَسُوعَ بِمَكْرٍ وَيَقْتُلُوهُ. وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا: «لَيْسَ فِي الْعِيدِ لِئَلاَّ يَكُونَ شَغَبٌ فِي الشَّعْبِ»" (الآيات ١- ٥).

أما وقد أكمل خطبته الجهرية الأخيرة، خيّم ظل الصليب المعتم على روحه وهو يتحدث عن عيد الفصح المُقبِل، والذي سيُسلَّم بعده ويُصلب. لقد كان هو وحده العارف بالمعنى الحقيقي لذاك الفصح، إذ كان هو نفسه المرموز إليه بحمل الفصح، الذي سيكونُ دمه ملجأً يحمي من دينونة الله كُلَّ الذين يؤمنون به.

في خلال هذه الأثناء كان رؤساء الكهنة والكتبة وشيوخ الشعب يلتقون سراً في دار قيافا الماكر، الذي كان رئيس الكهنة في تلك السنة من خلال حصوله على استحسان الرومان. كانوا يتآمرون حول أفضل الطرق وأكثرها أمناً بالنسبة لهم ليمسكوا يسوع لكي يقتلوه. في غيرتهم على دين الله الذي كانوا يشعرون أنه كان مهدداً بتعاليمه (أي بتعاليم يسوع)، كانوا على استعداد لأن يذهبوا إلى أقصى حد لكي ينحّوه عن الطريق، بحيث لا يتورطون بأنفسهم في صراع مع الشعب. لقد كانوا يعتبرون أن أفضل طريقة هي ألا يحاولوا الإمساك به في يوم العيد لأن هذا سيكون أكثر ما يسبب شغباً في الشعب ضدّهم.

إنه لينعش القلبَ أن نحيد انتباهنا عن هؤلاء القتلة الشائنين الماكرين فنرى الرواية الجميلة عن محبة مريم المتفانية (نحو يسوع) التي تُروى لنا في الآيات ٦ إلى ١٣:

"وَفِيمَا كَانَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ عَنْيَا فِي بَيْتِ سِمْعَانَ الأَبْرَصِ تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ مَعَهَا قَارُورَةُ طِيبٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ فَسَكَبَتْهُ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ. فَلَمَّا رَأَى تَلاَمِيذُهُ ذَلِكَ اغْتَاظُوا قَائِلِينَ: «لِمَاذَا هَذَا الإِتْلاَفُ؟ لأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَاعَ هَذَا الطِّيبُ بِكَثِيرٍ وَيُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ». فَعَلِمَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تُزْعِجُونَ الْمَرْأَةَ؟ فَإِنَّهَا قَدْ عَمِلَتْ بِي عَمَلاً حَسَناً! لأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ. فَإِنَّهَا إِذْ سَكَبَتْ هَذَا الطِّيبَ عَلَى جَسَدِي إِنَّمَا فَعَلَتْ ذَلِكَ لأَجْلِ تَكْفِينِي. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: حَيْثُمَا يُكْرَزْ بِهَذَا الإِنْجِيلِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ يُخْبَرْ أَيْضاً بِمَا فَعَلَتْهُ هَذِهِ تَذْكَاراً لَهَا»" (الآيات ٦- ١٣).

لا نعلم شيئاً عن سمعان الأبرص. اسمه مدوّن هنا، مع الكلمة المُضافة التي تصف لنا مرضه والذي إما أن يكون لا يزال يعاني منه، أو على الأرجح أن هذا المرض كان قد شفاه الرب منه. هناك أيضاً إمكانية بأنه قد يكون توفّى سابقاً. رغم أن البيت كان يُعتَبر له، لكن رواية يوحنا تبدو وكأنه يجعل الحادثة تقع في بيت الأختين مرتا ومريم، وأخيهما لعازر. إن كان هذا صحيحاً فعندها يكون سمعان على الأرجح والد هؤلاء الأصدقاء الثلاثة المخلصين ليسوع، والذين لا يُذكَر اسم أيٍّ منهم في إنجيل متى.

نعلم أن المرأة التي أتت بقارورة الطيب الباهظة الثمن وعطَّرتْ به يسوع كانت مريم. يخبرنا يوحنا أنها سكبته على قدميه. متى ومرقس يذكران سكبه على رأسه. كلا الأمرين صحيح بالتأكيد. لقد كان هذا الفعل يدل على محبتها الصادقة نحو يسوع. بالنسبة لمريم، كان يسوع الملك. وإذ اتّكأ إلى المائدة، فإن عطر الناردين الذي سكبته ملأ الحجرة بعبيره (نشيد الأشاد ١: ١٢، أنظر أيضاً الآية ٣). لم يكن عند مريم أي شيءٍ غالٍ على يسوع. لقد جادت بكل ما لديها.

أما التلاميذ، وقد تأثروا بيهوذا في هذه الحادثة (يوحنا ١٢: ٤)، فقد ادّعوا الرزانة، وتذمّروا مما بدا لهم على أنه إتلاف. قالوا أن الطيب كان يمكن أن يُباع بثمن كبير، وأن يُعطى ثمنه للفقراء. لم يستطع يهوذا أن يفهم محبةً كهذه التي عند مريم، التي ستدفعها لتسكب أعظم كنـز على رأس وقدمي يسوع. بالنسبة له لقد كان هذا تبذيراً مُفرطاً.

وبّخ يسوعُ المتذمّرين وبرر المرأة، مُعلِناً أنها عملت له عملاً حسناً (وحرفياً: جميلاً). فقد كان لديهم دائماً الفقراء الذين كان يمكنهم أن يخدموهم. وكما قال الناموس, سوف لن يزول وجودهم من الأرض؛ أما هو فكان على وشك أن يغادر. إن مريم، التي على الأرجح أنها فهمت أكثر من البقية ما كان على وشك أن يحدث، سكبت الطيب على جسده لأجل تكفينه. لقد قدّر يسوع محبتها المتفانية بعمق حتى أنه أضاف قائلاً: "حَيْثُمَا يُكْرَزْ بِهَذَا الإِنْجِيلِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ يُخْبَرْ أَيْضاً بِمَا فَعَلَتْهُ هَذِهِ تَذْكَاراً لَهَا".

هل المسيح نفسه حقيقيٌّ بالنسبة لنا وثمينٌ إلى تلك الدرجة حتى أننا مستعدون لأن نقدم أية تضحية لكي نريه تكرّسنا ومحبتنا له؟

في تضادّ حيوي مع محبة مريم وصدقها وإخلاصها نجد خيانة يهوذا تأتي الآن أمام ناظرينا.

"حِينَئِذٍ ذَهَبَ وَاحِدٌ مِنَ الاِثْنَيْ عَشَرَ الَّذِي يُدْعَى يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَقَالَ: «مَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُعْطُونِي وَأَنَا أُسَلِّمُهُ إِلَيْكُمْ؟» فَجَعَلُوا لَهُ ثَلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ. وَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ يَطْلُبُ فُرْصَةً لِيُسَلِّمَهُ" (الآيات ١٤- ١٦).

الخائنُ البائسُ ترك مشهد العيد وسعى نحو عصبة الكهنة المتآمرين الذين كان على معرفة واتّفاقٍ معهم، كما هو واضح. وطلب مبلغاً معيناً ليُدفَع له بشرط أن يسلّم يسوع لهم. ورغم أنهم لم يتذكروا نبوءة زكريا فيما يتعلّق بهذا الأمر بالذات، أي خيانة راعي إسرائيل، فإنهم اتّفقوا معه على ثلاثين من الفضّة (زكريا ١١: ١٢). بكل معرفتهم المتبجّحة بالكتابة المقدسة كانوا يحققون ما جاء فيها عن غير قصد من خلال هذه الصفقة التي اتفقوا عليها.

عاد يهوذا إلى حيث كان يسوع وتلاميذه، وظل ملازماً له مُنتظراً الفرصة السانحة لينفّذ دوره في الاتفاقية- هذه التي كانت ميثاقاً مع الجحيم، والتي ستجعل ضميره يوماً ما يشعر بالإثم فيحتجّ عليه بشدة بسبب النهج المريع الذي اتّخذه.

القسم التالي يخبرنا عن عشاء الفصح الأخير.

"وَفِي أَوَّلِ أَيَّامِ الْفَطِيرِ تَقَدَّمَ التَّلاَمِيذُ إِلَى يَسُوعَ قَائِلِينَ لَهُ: «أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نُعِدَّ لَكَ لِتَأْكُلَ الْفِصْحَ؟» فَقَالَ: «ﭐذْهَبُوا إِلَى الْمَدِينَةِ إِلَى فُلاَنٍ وَقُولُوا لَهُ: الْمُعَلِّمُ يَقُولُ إِنَّ وَقْتِي قَرِيبٌ. عِنْدَكَ أَصْنَعُ الْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي». فَفَعَلَ التَّلاَمِيذُ كَمَا أَمَرَهُمْ يَسُوعُ وَأَعَدُّوا الْفِصْحَ. وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ اتَّكَأَ مَعَ الاِثْنَيْ عَشَرَ. وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ قَالَ: «ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي». فَحَزِنُوا جِدّاً وَابْتَدَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُولُ لَهُ: «هَلْ أَنَا هُوَ يَا رَبُّ؟» فَأَجَابَ وَقَال: «ﭐلَّذِي يَغْمِسُ يَدَهُ مَعِي فِي الصَّحْفَةِ هُوَ يُسَلِّمُنِي. إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ وَلَكِنْ وَيْلٌ لِذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ابْنُ الإِنْسَانِ. كَانَ خَيْراً لِذَلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ». فَأَجَابَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ وَقَال: «هَلْ أَنَا هُوَ يَا سَيِّدِي؟» قَالَ لَهُ: «أَنْتَ قُلْتَ»" (الآيات ١٧- ٢٥).

"فِي أَوَّلِ أَيَّامِ الْفَطِيرِ". هذا العيد كان يستمرُّ سبعة أيام. في اليوم الأول كان الحملُ يُذبَح وتُقام الوليمة المفروضة. خلال الأيام السبعة لم يكن يُسمَح بوجود خميرة في البيوت عند بني إسرائيل.

اليوم اليهودي كان يبدأ عند غروب الشمس؛ ولذلك فإن الفصح كان "من المساء إلى المساء" (خروج ١٢: ٦). لقد احتفل يسوع بالعيد بعد الشروق الأول الذي تلا يوم الفصح ومات كونه حمل الفصح الحقيقي قبل الغروب في اليوم التالي.

"عِنْدَكَ أَصْنَعُ الْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي". لقد كانت تُعتَبر عادة حميدة تقوية عند سكان أورشليم أن يحتفظوا بغرفة للضيوف، حيث كان الزوّار في المدينة يمكنهم أن يحتفلوا بالعيد. استفاد يسوع من هذه الإمكانية. يقول التقليد أن تلك الغرفة كانت في منـزل يوحنا مرقس حيث أقام المُخلِّص وتلاميذه الفصح الأخير.

"وَأَعَدُّوا الْفِصْحَ". لقد بسطوا المائدة بالحمل المشوي، والعشب المرّ، والخبز الفطير، كما أمرهم الله. كم كانت هذه تعني الكثير ليسوع، الذي كان يعرف أنه كان هو المرموز إليه في هذه الوليمة الرمزية! (١ كورنثوس ٥: ٧، ٨).

"اتَّكَأَ مَعَ الاِثْنَيْ عَشَرَ". لم يكن يهوذا قد خرج بعد في تلك الليلة. لقد كان قد اتّفق لتوّه على أن يُسلّم الرب ولذلك كان يجلس مع البقية.

"إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي". مَن كان يعرف كل الأشياء (أي يسوع) كان يدرك الخطة الماكرة الخبيثة التي كان يهوذا قد دخل فيها، ولكنه أعطاه فسحةً حتى للتوبة، لو أن ضميره كان فعّالاً حياً.

"هَلْ أَنَا هُوَ يَا رَبُّ؟". نعلم أن كل واحد منهم سأل هذا السؤال: إحدى عشر منهم كانوا في حالة حزن حقيقي وحيرة، وواحدٌ كان مُذنِباً ويعرف بذنبه وأنه كان طرفاً، عن عمد، في اتفاق ومؤامرة ليفعل هذا الأمر الشرير. كم تُقسّي الخطيئةُ القلبَ وتحجّر الضميرَ!

"ﭐلَّذِي يَغْمِسُ يَدَهُ مَعِي فِي الصَّحْفَةِ". حتى النهاية كان يهوذا مسموحاً له بأن يتمتع بأعظم اللحظات التي تعبّر عن محبة يسوع الحانية, بل حتى أن يشاركه نفس صحفة الأعشاب المريرة.

"كَانَ خَيْراً لِذَلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ". هذه الكلمات تدمّر الأمل العقيم عند الخلاصيين ١ ، لأنهم يقولون لنا أن إنساناً واحداً فقط كان خيراً له لو لم يَعِشْ. وهذا ما كان ليمكن أن يصحَّ لو أن يهوذا خلص.

"أَنْتَ قُلْتَ". من الواضح أنه كان يشعر أنه موقع ارتياب من قِبَل البقية, فسأل يهوذا من جديد وهو يشعر بالخوف والقلق ومع ذلك يُبدي وقاحة, فقال "هَلْ أَنَا هُوَ يَا رَبُّ؟". فأجاب يسوع بالإيجاب ومع ذلك بطريقة لم يسمعه الآخرون ولم يفهموه. بحسب إنجيل يوحنا, يبدو أن تلك كانت النقطة المفصلية حيث هبَّ يهوذا واقفاً على عجَل وغادر الحُجرة (يوحنا ١٣: ٣٠). إن كان هذا صحيحاً فهذا يعني أنه لم يكن حاضراً فعلياً عندما حدث الحدث التالي, بل خرج بعد الفصح. لقد كان هذا موضع جدال كثير, على كل حال.

بعد ذلك جاء تأسيس عشاء الرب, هذا الطقس المقدس الذي حلَّ في الكنيسة المسيحية محل عيد الفصح عند اليهود. إن الإثنين مرتبطان معاً, إذ بعد الاحتفال بعيد الفصح اليهودي قدَّم يسوع لتلاميذه الخبز ونتاج الكرمة, وطلب منهم في محبة وحنو أن يشاركوه فيها إذ أن جسده على وشك أن يُقدَّم على الصليب, ودمه سرعان ما سَيُسْفَك من أجل غفران الخطايا. وقد انقضت حوالي ألفيتين منذ تلك الليلة الجليلة, وخلالها ملايين لا تعد ولا تحصى من المؤمنين الممتنين قد شاركوا في هذه الذكرانيات ليتذكروا ذاك الذي أحبهم لدرجة الموت.

إن الشِركة (١ كورنثوس ١٠: ١٦) ليست بأي شكل من الأشكال التقدِمة. إنها تُحيي ذكرى تلك الذبيحة الكاملة التي قدَّمها ربنا مرة وعن الجميع عندما بذل نفسه من أجلنا على صليب الجلجثة. ولا يجب أن يُحتَفَل بها على اعتبارها ذات قوة خلاصية أو أهلية متأصلة. إنها التذكير بأننا عندما كنا ساقطين ضالين بشكل كامل وعاجزين ويائسين, مات المسيح ليفتدينا لله. صحيح أن ذبيحة التسبيح (عبرانيين ١٣: ١٥) يجب أن تصاحبها عندما نتأمل بالثمن الباهظ الذي به خلُصنا, ونبتهج بذاك الذي تحمَّل الحزن والألم والعار من أجلنا لأنه حيٌّ الآن وإلى الأبد, وسوف لن يخضع لألم الموت ثانيةً أبداً. ونتذكر أنه "رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، الَّذِي مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِيناً بِالْخِزْيِ، فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ اللهِ" (عبرانيين ١٢: ٢). والذي منه سيعود لِيُعلِن حقّه بما اشتراه بدمه. إلى أن يأتي ذلك الوقت يمكننا أن نحتفل بهذا العيد بقلوب متعبدة بينما نرجع بأبصارنا إلى الصليب وإلى المجد الآتي (١ كورنثوس ١١: ٢٦).

"وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ أَخَذَ يَسُوعُ الْخُبْزَ وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى التَّلاَمِيذَ وَقَالَ: «خُذُوا كُلُوا. هَذَا هُوَ جَسَدِي». وَأَخَذَ الْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: «ﭐشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُمْ لأَنَّ هَذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا. وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي مِنَ الآنَ لاَ أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ هَذَا إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ مَعَكُمْ جَدِيداً فِي مَلَكُوتِ أَبِي». ثُمَّ سَبَّحُوا وَخَرَجُوا إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ" (الآيات ٢٦- ٣٠).

"«خُذُوا كُلُوا. هَذَا هُوَ جَسَدِي»". لقد أخذ يسوع إحدى الأرغفة التي ليس فيها خمير في يده, وباركها وكسرها, وأعطاها للتلاميذ, طالباً منهم أن يأكلوها على أنها جسده. من الواضح أنه لم يكن هناك استحالة آنذاك, لأنه كان جالساً أمامه بجسده الحقيقي وكانوا يأكلون من الخبز. إن الأمر كمثل أن تُري صورة لآخر وتقول له "هذه هي أمي". فالأولى تمثّل الثانية.

"وَأَخَذَ الْكَأْسَ". لا نعلم بالضبط ما كان في الكأس. نعلم من الآية التالية أنه كان فيها "نتاج الكرمة", ولكن فيما إذا كان النبيذ مخمراً أم عصارة الزبيب المغلي, فإن الرواية لا تذكر, ولا يجب أن نرواغ ونماحك في ذلك (لقد كان الوقت باكراً جداً على العنب الطازج). إن المقصود هو المهم.

"هَذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ". ذلك الدم الثمين لم يكن قد سُفِكَ بعد, ولكن يسوع كان يتحدث عنه وكأن عمل الصليب قد أُنجِزَ للتو. لم يكن الكأس يحوي دمه, بل كان يحوي ما سيذكّرنا بعد سنين به عندما يُسفَك لأجل مغفرة الخطايا.

"حِينَمَا أَشْرَبُهُ مَعَكُمْ جَدِيداً فِي مَلَكُوتِ أَبِي". لم يشارك يسوع في تلك الوليمة التي جعلها لذكرى موته, بل كان يتطلع إلى الوقت الذي ستكون فيه من نتيجة تلك الذبيحة أنه سيجمع كل خاصته حوله في ملكوت الآب, ليحتفل معهم بثمر الفداء المجيد الكامل. وعندها سوف يرى مخاض روحه ويكون راضياً (أشعياء ٥٣: ١١).

"ثُمَّ سَبَّحُوا". يقول التقليد أن هذه التسبحة كانت المزمور ١٣٥, التي تُعرف بالنسبة لليهود الـ "هلِّل" الصُغرى أو التهليلة الصُغرى, والتي بها كانوا يحتفلون بانعتاق بني إسرائيل من عبودية مصر, أو كما يعتقد آخرون كانت المزامير ١١٥ إلى ١١٨.

إن وليمة المحبة التذكارية, ألا وهي الطقس المركزي الذي تلتزم به الكنيسة, قد وُضِعَ لاستحضار يسوع نفسه أمام النفس. إنها مناشدة للعواطف. لقد كان ذاهباً. لم يُرِد أن ينساه أولئك الذين أحبهم كل تلك المحبة الحانية. ولذلك أسسس هذا العشاء المقدس حتى يُحتفل به في أي مكان وفي أي زمان, وبذلك يتذكرونه بشكل حيوي في فكرهم. لقد كانت المحبة التي هي أقوى من الموت, هي ما لم تستطع مياه الدينونة الكثيرة أن تطفئها (نشيد الأنشاد ٨: ٦, ٧). ليس (الرب) في حاجة إلى رموز لكي يتذكرنا. ولكن محبتنا له قليلة جداً. لأننا سرعان ما ننسى. ومن هنا كانت الحاجة إلى تلك الوليمة التي تُثير مشاعرنا وتُنعِش أفكارنا به. وعندها، ومثل مريم, سوف نأتي بقارورة طيب فاخرة ونكسرها في حضوره, ونسكب عطر عبادتنا وتعبُّدِنا عليه إلى أن يمتلئ البيت برائحة ذلك الطيب. إنه لمن الملائم أن قصة تكرسها ومحبتها للمسيح قد سبقت العشاء الذي أسسه.

إن الخطيئة غير المُعترَف بها هي وحدها التي يمكن أن تشكّل عائقاً أمام المسيحي يمنعه من المشاركة في العشاء المقدس, وكلما أُدينت الخطيئة أسرع، على ضوء الصليب, كلما أمكَن أن يتجدد المرء إلى الشركة. قال داود: "فَيَلَذُّ لَهُ نَشِيدِي" (مز ١٠٤: ٣٤). هل نبتهج بالجلوس إلى مائدته وأن نفكر في محبته؟

إن العقيدة الرومية المتعلقة بالقداس والحضور الحقيقي ليسوع في السر تناقض تماماً هذه الحقيقة. إن التعليم بأنه، بهيئة الخبز والخمر، نفس جسد ودم يسوع يُقدَّم بشكل مستمر على المذبح كقربان عن الخطايا للأحياء والأموات, هو أن تنكر أن المسيح غائب شخصياً, وهذا الواقع الذي لأجله نتذكَّره, وأيضاً يطعن كمال ذبيحته الوحيدة على الصليب, التي كانت كافية وليس من حاجة إلى تكرارها. لاحظوا الصواب, إننا ندنو إلى مائدة الرب كمفديين لله بدم ابنه, ذاك الذي يرغب الآن أن يُذَّكرنا بشخصه المجيد وبمحبته السائدة بالتمام والتي تبدت في بذل نفسه ذبيحة على الصليب من أجل خطايانا. إن دم المسيح هو الذي يجعلنا مستحقين لأن نشارك في عشاء الرب. ولكن علينا أن نحذر لئلا نشارك بدون استحقاق: أي, بطريقة فيها استخفاف أو لا مبالاة.

لاحظوا كيف أن مجيئي الرب يسوع مرتبطان معاً بالوليمة التذكارية. إننا نتذكر موته إلى أن يأتي (١ كورنثوس ١١: ٢٦).

بينما كان يسوع والتلاميذ على الطريق ذاهبين من المكان الذي جرت فيه هذه الأمور, إلى جبل الزيتون, حيث كان يسوع يختلي غالباً بتلاميذه, بدأ يسوع يحذِّرهم مما سيحدث في القريب العاجل, ويؤكد لهم عدم موثوقية وصدق قلوبهم.

"حِينَئِذٍ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنِّي أَضْرِبُ الرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ خِرَافُ الرَّعِيَّةِ. وَلَكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ». فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: «وَإِنْ شَكَّ فِيكَ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ أَبَداً». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ دِيكٌ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «وَلَوِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ!» هَكَذَا قَالَ أَيْضاً جَمِيعُ التَّلاَمِيذِ" (الآيات ٣١- ٣٥).

لقد كانت هذه نبوءة أخرى من نبوءات زكريا أشار إليها يسوع أيضاً عندما أخبر تلاميذَه بأنهم جميعاً سيعثرون ويشكّون أو يُروَّعون بسببه تلك الليلة؛ فقبل زمن طويل قال هذا النبي متحدثاً بروح الله أن: "اضْرِبِ الرَّاعِيَ فَتَتَشَتَّتَ الْغَنَمُ" (زكريا ١٣: ٧). هذه الكلمات كانت على وشك أن تتحقق حرفياً, رغم أنهم في تلك اللحظة شعروا جميعاً أنه لا يمكن أن يتخلوا عنه، ذاك الذي أحبوه بشكل كبير للغاية. ولكن ما من إنسان يمكن أن يسبر أبداً أغوار الشر في قلبه, التي تستطيع النعمة وحدها فقط أن تتغلب عليه.

لقد أضاف يسوع وعداً مؤكِّداً ومُطمئِناً بأنه ولو كان الأمر ليس ذا مغزى بالنسبة لهم في تلك اللحظة, فعندما سينهض ثانيةً سوف يسبقهم إلى الجليل. وهناك سوف يُقيم لقاءً مقدساً معهم.

أما بطرس, وإذ كان غير مدركٍ لضعف جسده, فقد احتجَّ قائلاً أنه ولو شكَّ فيه الآخرون جميعاً فإنه سوف لن يفعل ذلك. ولكن يسوع أعلن بأنه قبل صياح الديك- أي قبل الفجر الباكر- سوف ينكر (أي بطرسُ) معلِّمَه ثلاث مرات. وإذ كان بطرس واثقاً من نفسه فإنه أكدَّ له بأن هذا لن يحدث. بل حتى ولو مات من أجل يسوع فإنه لن ينكره. وفي هذا الموقف كانوا جميعاً مشاركين. ولكن يا للأسف! كم كانت معرفتهم بأنفسهم ضئيلة! إن ثقتهم بأنفسهم قادتهم إلى أن يعلنوا تأكيدات ما كانوا بأنفسهم لقادرين على أن ينفذوها عندما تأتي ساعة التجربة. إن الجسد ميال إلى إعلان صلاحه (أمثال ٢٠: ٦).

وإذ وصلوا إلى جبل الزيتون جاؤوا إلى بستان على السفح الغربي حيث كان يسوع غالباً ما يصلي هناك ويتواصل مع أبيه.

"حِينَئِذٍ جَاءَ مَعَهُمْ يَسُوعُ إِلَى ضَيْعَةٍ يُقَالُ لَهَا جَثْسَيْمَانِي فَقَالَ لِلتَّلاَمِيذِ: «ﭐجْلِسُوا هَهُنَا حَتَّى أَمْضِيَ وَأُصَلِّيَ هُنَاكَ». ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ وَابْنَيْ زَبْدِي وَابْتَدَأَ يَحْزَنُ وَيَكْتَئِبُ. فَقَالَ لَهُمْ: «نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى الْمَوْتِ. امْكُثُوا هَهُنَا وَاسْهَرُوا مَعِي». ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلاً وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ وَكَانَ يُصَلِّي قَائِلاً: «يَا أَبَتَاهُ إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسُ وَلَكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ». ثُمَّ جَاءَ إِلَى التَّلاَمِيذِ فَوَجَدَهُمْ نِيَاماً فَقَالَ لِبُطْرُسَ: «أَهَكَذَا مَا قَدَرْتُمْ أَنْ تَسْهَرُوا مَعِي سَاعَةً وَاحِدَةً؟ ﭐِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. أَمَّا الرُّوحُ فَنَشِيطٌ وَأَمَّا الْجَسَدُ فَضَعِيفٌ». فَمَضَى أَيْضاً ثَانِيَةً وَصَلَّى قَائِلاً: «يَا أَبَتَاهُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسُ إِلاَّ أَنْ أَشْرَبَهَا فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ». ثُمَّ جَاءَ فَوَجَدَهُمْ أَيْضاً نِيَاماً إِذْ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ ثَقِيلَةً. فَتَرَكَهُمْ وَمَضَى أَيْضاً وَصَلَّى ثَالِثَةً قَائِلاً ذَلِكَ الْكَلاَمَ بِعَيْنِهِ. ثُمَّ جَاءَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمْ: «نَامُوا الآنَ وَاسْتَرِيحُوا. هُوَذَا السَّاعَةُ قَدِ اقْتَرَبَتْ وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي الْخُطَاةِ. قُومُوا نَنْطَلِقْ. هُوَذَا الَّذِي يُسَلِّمُنِي قَدِ اقْتَرَبَ»" (الآيات ٣٦- ٤٦).

جَثْسَيْمَانِي! يا لعمق المحنة، ويا لمرارة الحزن الذي توحي به هذه الكلمة! إنها خير ما يعبّر عن المعنى الحقيقي العميق لكلمات ربنا حين قال: "لِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ؟" (لوقا ١٢: ٥٠). هناك في ذلك البستان، حيث كان غالباً ما كان يختلي إلى تلاميذه (يوحنا ١٨: ٢٩، وحيث كان كثيراً ما كان بتواصل مع أبيه دون أن بقطع أحدٌ خلوته، هناك أيضاً دخل في حالة الكرب المؤلم لنفسه وهو يتأمل حقيقة أنه صار خطية لأجلنا، "لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ" (٢ كورنثوس ٥: ٢١). وإذ تطلع إلى ذلك مقدماً، صرخ قائلاً: "اَلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ؟ أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هَذِه السَّاعَةِ. وَلَكِنْ لأَجْلِ هَذَا أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ السَّاعَةِ" (يوحنا ١٢: ٢٧). إن المزمور ١٠٢ غالباً ما عُرف بـ "مزمور الجَثْسَيْمَانِي". إذ نقرأ ذلك, فإننا نسمع نبضات قلب مخلِّصنا وهو يدخل في ذلك الشعور من العزلة والوحدة ذاك الذي تركه الله واحتقره ورذله الناس أنفسهم الذين جاء ليخلِّصهم. لقد كان هذا هو الكأس الذي انكمشت منه طبيعته الإنسانية المقدسة. وذلك كان في أنه, وهو الكامل, الذي وجد الآبُ فيه مسرَّته (لوقا ٣: ٢٢؛ ٩: ٣٥), سوف يُعامل كمنبوذ, بسبب اتخاذه مكان الخاطئ, فهذا هو الموقف الذي كان مرعباً ومروِّعاً بشكل لا حد له بالنسبة له. نعم، صحيح أنه جاء من السماء من أجل هذا الهدف. لقد اتخذ ناسوتاً لكيما يموت بدلاً عنا. ولكن إذ اقتربت الساعة عندما كان على وشك أن يصطبغ فعلياً بصبغة الدينونة الإلهية ضد الخطيئة, فإنه ما كان ليكون القدوس الذي كان لو أنه لم ينكمش من هول المحنة. ومع ذلك فعلينا أن نتذكر أن آلامه التي احتملها في الجثسيماني لم تكن بحد ذاتها الكفارة عن الخطية. عند الجلجلة, على صليب العار, هي اللحظة التي كانت خطايانا قد أُلقيَت عليه, واحتمل كل القصاص الذي كان يجب أن ندفعه نحن لو أن الله لم يتدخَّل في النعمة و"أرسل ابنه كفارة عن خطايانا". لقد كانت جثسيماني تذوقاً استباقياً للجلجثة, حيث شرب (يسوع) حتى الثمالة كأس المرارة والمر الذي ملأته بها خطايانا وآثامنا.

"يُقَالُ لَه جَثْسَيْمَانِي". إن الاسم يعني "معصرة الزيت". لقد كانت عبارة عن بستان زيتون, قُبالة جدول قدرون مباشرة. لقد كان يمكن الوصول إليها بسهولة من مدينة أورشليم. كان يسوع قد ترك ثمانية من تلاميذه قرب المدخل, بينما أوغل في البستان لكي يصلي.

"ﭐجْلِسُوا هَهُنَا حَتَّى أَمْضِيَ وَأُصَلِّيَ هُنَاكَ". هذه الكلمات كانت موجهة إلى الثمانية الذين تُرِكوا قرب المدخل. من الواضح أن جميع تلاميذه لم يكن لديهم نفس المشاعر من المحبة والتعاطف.

"ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ وَابْنَيْ زَبْدِي". كانت علاقته مع هؤلاء الثلاثة أقوى من البقية, لأنهم بدوا متفهمين ومقدرين له أكثر. ولهم عبَّر عن اضطراب روحه تحت وطأة تلك الظروف التي كان يُعانيها. هؤلاء الثلاثة كانوا قد شاركوا في أكثر خبرات يسوع حميمية في مناسبات أخرى (انظر ١٧: ١؛ لوقا ٨: ٥١). لقد رأوا أن يسوع كان في ألم كثير رغم أنهم لم يفهموا السبب بالضبط.

"امْكُثُوا هَهُنَا وَاسْهَرُوا مَعِي". جاء الوقت عندما سيتوجب عليهم هم أيضاً (هؤلاء الثلاثة) أن يتركهم خلفه, ولكنه أوصاهم أن يسهروا ويصلّوا لئلا تكون التجربة الآتية كبيرة جداً على إيمانهم (لوقا ٢٢: ٤٠).

"نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى الْمَوْتِ". لا بد أن كلماته قد حيَّرتهم جداً, لأنهم كانوا لا يزالون غير مدركين لما كانت تعنيه تلك الكلمات التي كان قد قالها لهم منذ برهة- أي عن تسليمه, وموته وقيامته.

"ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلاً". لم يفهموا ما يجري وهو يسكب قلبه أمام أبيه قائلاً: "يَا أَبَتَاهُ إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسُ". استسلامه لمشيئة الآب كان كاملاً، ولكنه سأله، إن أمكن أن توجد طريقة أخرى لخلاص الخطأة، أن يعلنها له.

"أَهَكَذَا مَا قَدَرْتُمْ أَنْ تَسْهَرُوا مَعِي سَاعَةً وَاحِدَةً؟" إذ رجع إلى الثلاثة, وجدهم جميعاً نيام, فقد غلبهم حزنهم عليه. لقد وبَّخ بطرس بلطف بسبب عدم سهره, ذاك الذي كان قد تحدث عن محبته وإخلاصه بقوة (يوحنا ١٣: ٣٧).

"الرُّوحُ نَشِيطٌ وَأَمَّا الْجَسَدُ فَضَعِيفٌ". لقد أدرك يسوع إخلاص ومحبة أتباعه, ولكنه أيضاً أدرك ضعف القلب البشري, حتى عند أفضل القديسين؛ ولذلك فقد أمرهم أن "اسهروا وصلّوا" لئلا تأخذهم التجربة على حين غرّة. لقد التمس منهم أن يكونوا متيقظين ومحترسين وأن يطلبوا المعونة من الله لئلا يسقطوا في ساعة التجربة. لقد كان يعرف جيداً أنهم كانوا يرغبون في أنفسهم أن يكونوا صادقين مخلصين, ولكنه حذَّرهم أن ضعفهم كبشر سيبقى في الجسد.

"يَا أَبَتَاهُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسُ إِلاَّ أَنْ أَشْرَبَهَا فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ". لقد كان استسلامه كاملاً لإرادة الله, مهما كانت الآلام والكرب الذي يعنيه هذا الاستسلام. لقد جاء إلى العالم لأجل هذا الهدف (عبرانيين ١٠: ٧؛ يوحنا ٤: ٣٤). ولم يكن لديه صراع في الإرادات. لقد كان يسوع يُذعن لكل ما كان يرضي الآب. مهما تكن مرارة الكأس, فإنه كان سيشربه إذا ما كان خلاص الخطاة الضالين سيتم على ذلك النحو.

"ثُمَّ جَاءَ فَوَجَدَهُمْ أَيْضاً نِيَاماً". لم يدركوا ما كان يُعانيه من أجلهم, ولذلك أخفقوا في أن يسهروا معه في ساعة محنة نفسه. لقد كان ربنا إنساناً حقاً كما كان إلهاً حقاً, وكإنسان كان بحاجة ماسة إلى تعاطف البشر وتفهمهم. لقد كان يبحث عن بعض الإشفاق من قِبَل الناس (مزمور ٦٩: ٢٠). ولكن تلاميذه الأعزاء خيَّبوا ظنَّه, مُضيفين بذلك إلى حزنه وألمه.

دعونا نتمحَّصْ قلوبَنا حول مدى دخولنا إلى الشركة في آلام المسيح. هل نحن قادرون على أن نسهر وأن نصلي في هذا الوقت حيث يرذله العالم الشرير؟ ما من إنسان سيستطيع أن يصمد في لحظة التجربة الشديدة إن كان مُتكاسلاً وليس مُتيقظاً, أو إن كان مُتراخياً وليس مُصَلياً. لو أدركنا فقط أن عدم الصلاة هو خطيئة فعلية ضد الله كما اللعن أو الحلف, لأنها عصيان محض لكلمته, أفلن نكون في الحالة هذه منتبيهين أكثر لنستغل الفرص التي يُعطينا إياها لنستدرَّ من السماء النعمة التي نحتاج إليها في أوقات التجربة؟

"ثُمَّ جَاءَ فَوَجَدَهُمْ أَيْضاً نِيَاماً". لقد كان هذا تعقيباً محزناً على طبيعة الإنسان البائسة الضعيفة, حتى عند أفضلهم, كما رأينا في هؤلاء الذين أحبوا يسوع حقاً ولكن لم يرتقوا إلى مستوى جدية الحدث.

"وَصَلَّى ثَالِثَةً". من جديد انحنى يسوع لوحده في الصلاة إلى الآب, في خضوع كامل, رغم أنه كان في نفس المقدسة منكمشاً من المحنة المريعة التي تنتظره- محنةٌ لا تستطيع قلوبنا البائسة أن تفهمها بكامل امتلائها لأنها صماء جداً بفعل الخطيئة.

"قَائِلاً ذَلِكَ الْكَلاَمَ بِعَيْنِهِ". لقد كان سابقاً قد أدان التكرار الذي لا طائل تحته لأقوال لا فائدة منها (متى ٦: ٧). ولكنه بيَّن أن الصلاة الملحة يجب أن تكون وفق فكر الله (لوقا ١١: ٥- ١٠). وفي هذا هو مثال لنا وهو يعبِّر أمام الآب مراراً وتكراراً عن قلقه.

"نَامُوا الآنَ وَاسْتَرِيحُوا". في ترجمة أخرى ترد كلماته بجملة تعجبية: "نوم هنيء واستراحة!". وكانت هذه والخائن على مقربة. كم كان ضئيلاً فهمهم لجلال تلك الساعة من الاختبار! فبينما كانوا في غاية النعس، وغير مدركين للخطر المحدق بهم, دخل حراس الكهنة إلى البستان.

"هُوَذَا الَّذِي يُسَلِّمُنِي قَدِ اقْتَرَبَ»". لم يحاول أن يهرب أو ينجو. لقد أتت ساعته, وفي هدوء كامل انطلق يسوع ليقابل مُسَلِّمَهُ والحشدَ من الغوغاء الذين جاؤوا ليقبضوا عليه. لقد مرت المحنة والكرب. وغدا الآن رابط الجأش وهو يمضي طواعية, كشاةٍ تُساق إلى الذبح, ليلتقي بأولئك الذين كانوا يطلبونه ليهلكوه.

إن إذعان يسوع المطلَق لمشيئة الآب يظهر ساطعاً في كل هذه الخبرات الختامية, وبشكل خاص في الجثسيماني. بينما غمر نفسَه البشرية وروحَه الخوف لأنه سيصير ذبيحة الخطية العظيمة, وقد جُعِلَ خطيةً لأجلنا, إلا أنه, كما رأينا, كان في حالة خضوع كاملة للمشيئة الإلهية, وما كانت لديه أية فكرة في أن يتنحى أو يتراجع. هناك أغوار عميقة هنا لا تستطيع عقولنا أبداً أن تفهمها جيداً, ولكنها كلها تدل على كماله. لو لم يفكر جيداً بكل ما كانت تعنيه ذبيحة الصليب ويقبلها برباطة جأش لما كان إنساناً كاملاً. ولكنه عرف كل ذلك وأدرك أنه ما من طريق آخر يمكن أن يصير به رأس خلاصنا (عبرانيين ٢: ١٠), فواجه المحنة بدون وجع لكي يتمجد الله ويخلص البشر الخطاة من الدينونة.

معنى الكأس: إن الكأس لا تشير فقط إلى الموت أو الآلام الجسدية. فيسوع لم يُجفل من هذه. بل كان سخط الرب (يهوه) الشديد على الخطيئة, الذي ملأ تلك الكأس ليقدمها الآبُ إلى ابنه القدوس, هو الذي سبّب محنة نفسه المريرة تلك التي أثّرتْ على جسده حتى أن الدم كان يتصبب مع العرق مُرتشحاً من مسام جلده. قال البعض أن الكأس كان عبارة عن الخوف من أن يقتله الشيطان قبل أن يصل إلى الصليب, أو أن يُجنَّ بقدرة شيطانية فلا يستطيع أن يقدم نفسه طواعية ذبيحة عن الخطية؛ ولكن هذه اقتراحات تافهة, لا تأخذ بالحسبان حقيقة أن الشيطان ما كان ليمكن أن تكون له قدرة عليه إن لم يسمح الله بذلك, وما من شيء كان ليمكن أن يُنهي حياته ما لم يبذلها هو نفسه (يوحنا ١٠: ١٧, ١٨). لقد كان قد قيَّدَ القويَّ لتوه (متى ١٢: ٢٩), وما كان خائفاً منه في البستان.

كأس الغضب: يُذكر في العهد القديم. إنه محفوظ للأشرار (مزمور ١١: ٦)؛ إنه كأس الغضب الإلهي ضد الخطيئة (مز ٧٥: ٨)؛ إنه كأس الخوف (أشعياء ٥١: ١٧, ٢٢)؛ إنه كأس غضب يهوه (إرميا ٢٥: ١٥). كل ذلك, وغيره كثير, كان مشتملاً في الكأس التي كان على ربنا أن يشربه لكي ننال كأس الخلاص (مز ١١٦: ١٣).

"الموت واللعنة كانا في تلك الكأس,
أيها المسيح, لقد كان ممتلئاً لأجلك؛
ولكنك شربْتَه حتى القطرة الأخيرة,
فصار فارغاً الآن من أجلي".

      إن قداسة يسوع تُرى في انكماشه خوفاً من شرب كأس الدينونة, والذي يعني أن يأخذ مكان الخاطئ ويتحمل تبعة خطايانا وآثامنا (أشعياء ٥٣: ٥, ٦). بسبب طهارته اللا محدودة لم يستطع أن يفكر سوى في الخوف مما يعنيه أن يصير خطية لأجلنا- أي أن يصير المرموز إليه بذبيحة الخطية- لكي يقبل الله بسلام جميع أولئك الذين سينتفعون من حياته من خلال موته, والتبرير من خلال إدانته. وهذا ما يُسِّر محنته وحزنه, التي كانت دليلاً على كمال ناسوته بينما كان في خضوع تام لإرادة أبيه. لقد أظهرت الجثسيماني بشكل واضح أنه كان الحمل الصحيح الذي بلا عيب الذي كان دمُهُ ليُطهِّرَ من الخطيئة ويقي من الدينونة.

"إِنْ أَمْكَنَ". في الجثسيماني تمت تسوية مسألة الخطيئة مرة واحدة ونهائية إذ كان من المستحيل التكفير عن الخطية بأي شكل آخر سوى بذبيحة ابن الله تحديداً على الصليب. لو كان هناك أي طريقة أخرى يمكن حل القضية بها وإرضاء مطالب العدالة الإلهية، لكان ذلك قد كُشِف عندئذٍ، استجابةً لصلاة ربنا المبارك المثيرة للمشاعر. ولكن لم تكن هناك من وسيلة. لقد علَّق الرب كل البشر بالمسيح وعمله المنجز. ما من اسم آخر يُعطى (أعمال ٤: ١٢)، وما من طريقة أخرى معروفة (أعمال ١٣: ٣٨، ٣٩)، بها يمكن أن يتبرر الخطأة الآثمون أمام عرش الله.

دعوني أكرر: لم تتم تسوية مسألة الخطيئة وصنع الكفارة عن الإثم في الجثسيماني بل على الجلجثة. ولكن الألم والمحنة في البستان كانت إنما مقدمة للظلمة عند الصليب. من أجل كفارة بدلية استرضائية كافية ملائمة عن خطايانا، كان من الضروري أن يكون البديل إنساناً، بل أكثر من إنسان؛ وإلا فإن ذبيحته ما كانت لتكون ذات قيمة كافية كفدية عن الجميع. كان لا بد أن يكون إنساناً ليس للموت أو الدينونة مطالب أو تهم ضده؛ ومن هنا كان ذاك هو من تجرَّب وبرهن أنه بلا خطيئة على الإطلاق- ذاك الذي لم يخالف أبداً ناموس الله المقدس في الفكر أو القول أو الفعل. ولكن انعدام الخطيئة في يسوع نفسها تعلل المعاناة التي عاناها عند تفكّره في أن يصير خطيئة من أجلنا. لم تكن هناك صراع إرادات، على كل حال. لقد كان على استعداد لأن يحقق هدف الله مهما كلفه ذلك من ذاته.

إنه لأمر لافت للانتباه، ودليل على التصميم الإلهي في الكتاب المقدس، أنه يتم في الأناجيل الإزائية الثلاثة لفتُ انتباهنا إلى آلام المسيح في البستان، بينما لا يوجد أي ذكر لهذا في إنجيل يوحنا، كما وأنه لا يوجد في إنجيله أية كلمة حول تغير هيأته أو تمزق الحجاب عند موت يسوع. في الأناجيل الإزائية، نجد التركيز على إنسانية (ناسوت) ربنا. بينما في إنجيل يوحنا التركيز هو على جوهر لاهوته. المجد يُرى مشرقاً هناك، في كل حركة وعمل في حياته وفي كل كلمة نطق بها. كل شيء كامل، لأن الكتاب المقدس قد أُوحي به من الله (٢ تيموثاوس ٣: ١٦).

رواية القبض على يسوع في منتصف الليل تأتي بعد ذلك، حيث نسي جميع تلاميذه وعودهم ولاذوا بالفرار تاركينه لوحده.

"وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا يَهُوذَا أَحَدُ الاِثْنَيْ عَشَرَ قَدْ جَاءَ وَمَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ مِنْ عِنْدِ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَشُيُوخِ الشَّعْبِ. وَﭐلَّذِي أَسْلَمَهُ أَعْطَاهُمْ عَلاَمَةً قَائِلاً: «ﭐلَّذِي أُقَبِّلُهُ هُوَ هُوَ. أَمْسِكُوهُ». فَلِلْوَقْتِ تَقَدَّمَ إِلَى يَسُوعَ وَقَالَ: «ﭐلسَّلاَمُ يَا سَيِّدِي!» وَقَبَّلَهُ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «يَا صَاحِبُ لِمَاذَا جِئْتَ؟» حِينَئِذٍ تَقَدَّمُوا وَأَلْقَوُا الأَيَادِيَ عَلَى يَسُوعَ وَأَمْسَكُوهُ. وَإِذَا وَاحِدٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَ يَسُوعَ مَدَّ يَدَهُ وَاسْتَلَّ سَيْفَهُ وَضَرَبَ عَبْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ فَقَطَعَ أُذْنَهُ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ. لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ! أَتَظُنُّ أَنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ الآنَ أَنْ أَطْلُبَ إِلَى أَبِي فَيُقَدِّمَ لِي أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ جَيْشاً مِنَ الْمَلاَئِكَةِ؟ فَكَيْفَ تُكَمَّلُ الْكُتُبُ: أَنَّهُ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ؟». فِي تِلْكَ السَّاعَةِ قَالَ يَسُوعُ لِلْجُمُوعِ: «كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ لِتَأْخُذُونِي! كُلَّ يَوْمٍ كُنْتُ أَجْلِسُ مَعَكُمْ أُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ وَلَمْ تُمْسِكُونِي. وَأَمَّا هَذَا كُلُّهُ فَقَدْ كَانَ لِكَيْ تُكَمَّلَ كُتُبُ الأَنْبِيَاءِ». حِينَئِذٍ تَرَكَهُ التَّلاَمِيذُ كُلُّهُمْ وَهَرَبُوا" (الآيات ٤٧- ٥٦).

ما الذي كان يجول في فكر يهوذا وهو يقود خلسة رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب والحشد وهم يحملون سيوفاً وعصي (أي هراوات) إلى ما كان اللقاء حيث كان متأكداً أنه سيجد يسوع هناك وهو يصلي؟ لم يشعر بالقلق، إذ لم يكن لديه ضمير حي نشط، بل أظهر دليلاً واضحاً على عكس ذلك وهو يقود الجموع بصفاقة إلى حيث رأى يسوع واقفاً مع التلاميذ الثلاثة. كان قد أعطاهم علامةً قائلاً: "«ﭐلَّذِي أُقَبِّلُهُ هُوَ هُوَ. أَمْسِكُوهُ»". إن المرء يشعر بمدى رعب هذه اللحظة عندما يفكر بهذا العمل الشائن؛ ومع ذلك فإن هذا العمل يقدر عليه كل قلب مخادع بالطبيعة.

خطا يهوذا بوقاحة نحو يسوع، وهتف قائلاً: "«ﭐلسَّلاَمُ يَا سَيِّدِي!»". وقبَّله مراراً، كما يشير النص الأصلي. أما يسوع فنظر إليه بهدوء وسأله: "«يَا صَاحِبُ لِمَاذَا جِئْتَ؟»". ثم سمح لأعدائه بأن يضعوا أيديهم عليه ويعتقلوه.

وفجأةً، ومدفوعاً بمشاعره القوية، سحب أحد التلاميذ، والذي نعرف أنه بطرس سيفه وضرب عبد رئيس الكهنة، وقطع أذنه. كان بطرس نائماً عندما كان يجب أن يكون مستيقظاً وساهراً في الصلاة. والآن، وحين كان يجب أن يكون هادئاً ومتيقناً، غدا مستثاراً ونشطاً. ولكن كان ذلك نشاط وانفعال الجسد. وشَرَطَ بسيفه فقطع أذن مالخوس، هذا الشخص الضئيل المسؤولية، من ناحية مسألة القبض على يسوع. ما من شيء كان ليمكن أن يحدث لتجنب الكارثة التي كان بطرس قد ارتعب منها بشكل واضح.

وبَّخه يسوع على حماقته، وأمره أن يردَّ سيفه إلى غمده. ما كانت هناك حاجة إلى الأسلحة الدنيوية لحماية أو الدفاع عن المسيح الله. كان يكفي ان يطلب من الآب أن يرسل اثني عشر جيشاً من الملائكة ليخلصوه؛ ولكن أنَّى للكتابات المقدسة عندئذٍ أن تتحقق، تلك التي سبق فأنبأت عن موته كبديلٍ عن البشر الخاطئين؟

وملتفتاً إلى الحشد المحيط به، سأل يسوع: "كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ لِتَأْخُذُونِي". لقد ذكّرهم أنه كان موجوداً في كل يوم في الهيكل ويعلّم. فما كان هناك حاجة إلى هذه الغزوة الغريبة في منتصف الليل. ولكن في كل هذه الأشياء كانت تتحقق كلمة الله المعطاة عن طريق الأنبياء.

بينما سلّم نفسه بإذعان لهم غدا التلاميذ مصعوقين من الفزع وهرب الجميع من المكان. لو لم يكن قد سلّم نفسه طواعيةً لهذه المعاملة المهينة لكان أعداءه وقفوا عاجزين أمامه. ولكنه وضع نفسه في أيديهم لكيما تتم إرادة الله. لعلنا نرى في ذلك الخضوع تعبيراً عن محبته للآب ولأولئك الذين كان سيموت لأجلهم.

بدون اعتبار منهم، أو بتناسٍ لناموسهم نفسه، الذي كان يمنع محاكمة أي شخص متهم بأي جريمة بين ساعات الغروب والشروق، أولئك الذين اعتقلوا يسوع هرعوا به إلى بيت قيافا سريعاً قُبيلَ صياح الديك، التي تقابل الساعة الثالثة بعد منتصف الليل لدينا، حيث كانت مجموعة من قادة الشعب ينتظرون لكي يصدروا إدانة عاجلة بحقه. فتعليمه جعل الكثيرين يفقدون الثقة بسلطتهم ومصداقيتهم؛ وخافوا أن يكسب تبعية أكبر إن لم يُزاح من الطريق في العجل.

"وَﭐلَّذِينَ أَمْسَكُوا يَسُوعَ مَضَوْا بِهِ إِلَى قَيَافَا رَئِيسِ الْكَهَنَةِ حَيْثُ اجْتَمَعَ الْكَتَبَةُ وَالشُّيُوخُ. وَأَمَّا بُطْرُسُ فَتَبِعَهُ مِنْ بَعِيدٍ إِلَى دَارِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ فَدَخَلَ إِلَى دَاخِلٍ وَجَلَسَ بَيْنَ الْخُدَّامِ لِيَنْظُرَ النِّهَايَةَ. وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ يَطْلُبُونَ شَهَادَةَ زُورٍ عَلَى يَسُوعَ لِكَيْ يَقْتُلُوهُ فَلَمْ يَجِدُوا. وَمَعَ أَنَّهُ جَاءَ شُهُودُ زُورٍ كَثِيرُونَ لَمْ يَجِدُوا. وَلَكِنْ أَخِيراً تَقَدَّمَ شَاهِدَا زُورٍ وَقَالاَ: «هَذَا قَالَ إِنِّي أَقْدِرُ أَنْ أَنْقُضَ هَيْكَلَ اللَّهِ وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِيهِ». فَقَامَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: «أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هَذَانِ عَلَيْكَ؟» وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ سَاكِتاً. فَأجَابَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: «أَسْتَحْلِفُكَ بِاللَّهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا: هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ؟» قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنْتَ قُلْتَ! وَأَيْضاً أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ وَآتِياً عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ». فَمَزَّقَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ حِينَئِذٍ ثِيَابَهُ قَائِلاً: «قَدْ جَدَّفَ! مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ هَا قَدْ سَمِعْتُمْ تَجْدِيفَهُ! مَاذَا تَرَوْنَ؟» فَأَجَابُوا وَقَالُوا: «إِنَّهُ مُسْتَوْجِبُ الْمَوْتِ». حِينَئِذٍ بَصَقُوا فِي وَجْهِهِ وَلَكَمُوهُ وَآخَرُونَ لَطَمُوهُ قَائِلِينَ: «تَنَبَّأْ لَنَا أَيُّهَا الْمَسِيحُ مَنْ ضَرَبَكَ؟»" (الآيات ٥٧- ٦٨).

انضم بطرس، الذي كان قد تعافى من خوفه الأولي، إلى الجماعة، فتبع يسوع على مبعدة ليرى كيف ستكون نهاية كل هذه الأحداث والإجراءات غير القانونية. ودخل إلى رواق قصر رئيس الكهنة، وجلس مع الخدام في موضع يستطيع منه أن يرى ما يحدث في الداخل.

استُدعيَ الشهود على عجل ليشهدوا ضد يسوع، وكانوا جميعاً على استعداد لأن يحلفوا يميناً كاذباً لكي ينالوا حظوة عند القادة في هذه المؤامرة على يسوع. ومع ذلك، لم تتفق شهاداتهم. وأخيراً جيءَ برجلين شهدا بأن يسوع كان قد قال في إحدى المناسبات: "إِنِّي أَقْدِرُ أَنْ أَنْقُضَ هَيْكَلَ اللَّهِ وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِيهِ". إن نصف الحقيقة هو أكذوبة كاملة. كان يسوع قد قال شيئاً بدا مماثلاً لهذا، ولكنهم نقلوا كلماته بتحريف كامل للمعنى.

لم يحاول يسوع أن يدافع عن نفسه، فكان كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا، كما تنبأ أشعياء (أش ٥٣: ٧). لم يفتح فتهُ البتة. وهذا ما أغاظ قيافا حتى صرخ قائلاً: "«أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هَذَانِ عَلَيْكَ؟»". أما يسوع فلم يكلف نفسه عناء الرد إلى أن استحلفه رئيس الكهنة مناشداً إياه باسم الله الحي أن يقول فيما إذا كان هو المسيح ابن الله أم لا. عندئذ أعلن الرب بمهابة قائلاً: "أَنْتَ قُلْتَ!". أي، إن الحق هو ما تقول. "مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ وَآتِياً عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ". لقد كان هذا إعلاناً واضحاً وإيجابياً عن مسيانيته وألوهيته كونه الابن الأزلي الأبدي. بالنسبة لقيافا، كان هذا تجديفاً. ومتناسياً للتحذيرات التي وردت في الناموس والتي تمنع الكاهن من أن يمزق ثيابه (لاويين ٢١: ١٠) فقد شق رداءه إلى نصفين، دالاً بذلك على حقيقة لم يدركها بنفسه وهي أن كهنوته قد انتهى. فما عاد الله يعترف بكهنة النظام اللاوي. وبادعاء وقار عظيم وغيرة على الله اتهمَّ قيافا يسوع بالتجديف وقال أنه ما من حاجة إلى مزيد من الشهود. فاحتكم إلى بقية أعضاء المجلس قائلاً: "هَا قَدْ سَمِعْتُمْ تَجْدِيفَهُ! مَاذَا تَرَوْنَ؟". فأجابوا جميعاً: "«إِنَّهُ مُسْتَوْجِبُ الْمَوْتِ»". في الواقع، كانوا لتوهم قد درسوا القضية وأدانوا المتهم.

بعد ذلك، وبطريقة لا خجل فيها على الإطلاق، هؤلاء الرجال، الذين كان يُفترض فيهم أن يكونا حراساً على حقوق الفقراء والمستضعفين، بدأوا يبصقون في وجه يسوع ويضربونه بإهانة فظيعة ويصفعونه بأيديهم ساخرين وقائلين: "«تَنَبَّأْ لَنَا أَيُّهَا الْمَسِيحُ مَنْ ضَرَبَكَ؟»". ولم يجب بل كان يحتمل ذلك بصبر.

في هذه الأثناء، كان بطرس جالساً في باحة القصر، متحاشياً إبداء أية علامة على اهتمامه بهذا المتألم القدوس الذي كان يزدرون به.

"أَمَّا بُطْرُسُ فَكَانَ جَالِساً خَارِجاً فِي الدَّارِ فَجَاءَتْ إِلَيْهِ جَارِيَةٌ قَائِلَةً: «وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ الْجَلِيلِيِّ». فَأَنْكَرَ قُدَّامَ الْجَمِيعِ قَائِلاً: «لَسْتُ أَدْرِي مَا تَقُولِينَ!» ثُمَّ إِذْ خَرَجَ إِلَى الدِّهْلِيزِ رَأَتْهُ أُخْرَى فَقَالَتْ لِلَّذِينَ هُنَاكَ: «وَهَذَا كَانَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ!» فَأَنْكَرَ أَيْضاً بِقَسَمٍ: «إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ الرَّجُلَ!» وَبَعْدَ قَلِيلٍ جَاءَ الْقِيَامُ وَقَالُوا لِبُطْرُسَ: «حَقّاً أَنْتَ أَيْضاً مِنْهُمْ فَإِنَّ لُغَتَكَ تُظْهِرُكَ!» فَابْتَدَأَ حِينَئِذٍ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: «إِنِّي لاَ أَعْرِفُ الرَّجُلَ!» وَلِلْوَقْتِ صَاحَ الدِّيكُ. فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ كَلاَمَ يَسُوعَ الَّذِي قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». فَخَرَجَ إِلَى خَارِجٍ وَبَكَى بُكَاءً مُرّاً" (الآيات ٦٩- ٧٥).

جاءت جارية، كانت تراقبه، بوقاحة نحو بطرس واتهمته بأنه كان مع يسوع الجليلي. وإذ أُخِذَ على غفلة، لم تكن لديه الشجاعة بأن يعترف بأن هذا كان صحيحٌ حقاً. بل بالعكس، أنكر أمامهم جميعاً، مصراً على أنه لا يعرف شيئاً عما كانت المرأة تقوله.

وإذ خرج إلى الدهليز، اعترضته خادمة صرخت قائلةً: "«وَهَذَا كَانَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِيِّ!»". فأنكر أيضاً بأغلظ الأيمان بأنه يعرف الرجل الذي كان يتعرض لتلك المعاملة داخل القصر. وبعد ذلك زفع رجل صوته وقال: "«حَقّاً أَنْتَ أَيْضاً مِنْهُمْ فَإِنَّ لُغَتَكَ تُظْهِرُكَ!»". إن لهجة بطرس الجليلية كشفته أمامهم جميعاً على أنه رجل من شمال البلاد. وإذ اضطرب وخاف كلياً، فَقَدَ بطرس سيطرته على نفسه وراح يلعن ويحلف، ومن جديد يقسم بأنه لم يكن يعرف الرجل (يسوع). بل حتى لم يذكر اسمه.

إلى أي عمق يمكن لابن الله أن ينحدر عندما لا يكون في شركة مع سيده ومعلمه بل يكون تحت سطوة الجسد!

وما أن نطق التلميذ البائس الناكر حتى أُجفِلَ لسماع صياح الديك. فتذكر الكلمات التي قالها يسوع. وإذ أدرك إخفاقه الفظيع، ترك الجماعة المتجمهرة هناك وخرج إلى العتمة وبكى بكاءً مراً. لقد كانت تلك دموع الإقرار بالجميل، لأنها تدل على عمل التجديد الذي بدأ في نفسه، "لأَنَّ الْحُزْنَ الَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ يُنْشِئُ تَوْبَةً لِخَلاَصٍ بِلاَ نَدَامَةٍ" (٢ كورنثوس ٧: ١٠)، وكانت هذه بداية الندم الحقيقي الذي ينشأ عنه تجدد كامل للنفس بعد أن يقوم يسوع من بين الأموات.

هناك فرق بين الارتداد والنكران أو فتور الحماس. كان يهوذا مرتداً. لم يعرف أبداً حقيقة الولادة الجديدة. ورغم كونه قد اختير كرسول فإنه كان شيطاناً (يوحنا ٦: ٧٠، ٧١). بالنسبة له لم يكن هناك مجال للشفاء. أما بطرس فنرى فيه نموذجاً للشخص المتواني المتراخي. لقد كان ابناً حقيقياً لله وقد أخفق بسبب ثقة بالنفس ونقص روح الصلاة عنه؛ ولكنه تجدد فيما بعد وصار شاهداً مخلصاً للمسيح. الارتداد هو التخلي عن الحق الذي يكون الشخص قد آمن به سابقاً. أما الفتور فهو النكوص الروحي عن خبرة كان المرء قد تمتع بها سابقاً. إن الفرق شاسع بين الأمرين. وأن نرى هذا التمييز بشكل واضح سيجنبنا الكثير من الالتباس وتشوش الفكر.


١. الخلاصيون: (Universalists): أفراد كنيسة بروتستانتيّة تقول بأن جميع الناس سينْعمون آخر الأمر بالخلاص [فريق الترجمة].